التدبر في القرآن الكريم.. نظرية تأسيسية عند السيد محمد رضا الشيرازي

د. خالد عبد النبي عيدان الأسدي

2025-12-09 04:55

يُعدّ التدبر في القرآن الكريم مفتاح للولوج إلى خزائن المعرفة الإلهية، متجاوزاً حدود التفسير اللفظي أو التلاوة السطحية إلى آفاق استنطاق النص واستخراج كنوزه المخبوءة. وفي هذا السياق، تستعرض هذه الورقة البحثية المنهج الفكري للفقيه آية الله السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) بوصفه رؤيةً تجديديةً لا تقف عند حدود الدلالة المعجمية للكلمة، بل تغوص في عمق السياق القرآني، وضرورة ربط الكلمة بالنسق العام للسورة.

المقدمة

يفتح الله أبواب العلم لعباده الذين يتدبَّرون في كلامه الكريم المحاط بالقداسة، وقد جعل له الرئاسة على جميع الكتب السماوية، فهيَّأ إليه الذوات النقية، والأسارير التقية لسبر أغواره، والولوج إلى أسراره، فأعطاهم منه ما أنفقوا عليه من أوقاتهم، فأجرى على لسانهم ما تكنُّه ذواتهم، إذ وفَّق بعضهم للوصول إلى بيان جزء من أسراره وتقفِّي آثاره، والاهتداء في أنواره، فكان لهم عَلَمَاً هاديا، وكانوا له سدنة مطيعين، وقد أرشدهم إلى سبيل المعرفة في قوله: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا)(النساء/82).

 فمن العلماء مَن ذهب إلى أنَّ التدبُّر: " هو أخْذ الشيء بعد الشيء وهو الوقوف عند الآيات والتعمّق بها وأخذ العبرة للعمل بها، فهو في الواقع ناتج عن التفسير والتأويل الصحيحين."(1)، ومنهم مَن ذهب إلى أنَّ معناه الاصطلاحي: هو " نظر في عواقب الأمور، والتفكر في أدبارها، ثم استعمل في كل تفكر وتأمل، ويقال "تدبرت الشيء" أي: نظرت في عاقبته، ومعنى تدبر القرآن تأمل معانيه، والتفكر في حكمه، وتبصر ما فيه من الآيات."(2)، وغيرها من التعريفات التي أوردها علماء التفسير، وهذا يدل على أن التدبُّر عندهم يُرادف التفسير والتأويل من جهة، وتمسكه بالدلالة المركزية (اللغوية) من جهة أخرى.

مفهوم التدبر عند السيد محمد رضا الشيرازي

يرى السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) أنَّ التدبر لا يقتصر على بيان المعاني الظاهرية للكلمات القرآنية أو المعنى الثانوي الذي يُضفيه السياق عند القراءة، وإنَّما معناه أوسع وأشمل مما ذهب إليه المفسرون، فتحجيم التعامل مع القرآن يؤدي إلى النظر فيه بقدر الاستفادة منه، وهذه طريقة التجَّار مع القرآن الكريم، وكذلك التلاوة السطحية؛ إذ هي تأدية أصوات بلا بيان للمعاني وكلمات بلا مفهوم، ومن هنا فإنَّها لا تعمل بالقرآن كما يُراد منها؛ لأنَّها لا تفهم القرآن والفهم هو المقدِّمة الطبيعية والعتبة الأولى للوصول إلى مرادات القران الكريم(3).

 بالإضافة إلى أنَّ قلَّة الاهتمام بهذا السفر الخالد بعمق، والتشبُّث بالقشور من المعاني تماشياً مع المصلحة المرجوَّة منه؛ وقد انصبَّ الاهتمام بشكل كبير على الفهم التجزيئي والفهم المصطلحي للقرآن الكريم مما جعل هذا الفهم فهماً ميِّتاً لا يُسمن ولا يُغني من جوع، فالتدبُّر عند السيد الشيرازي (قدس رسره): "هو التأمُّل في القرآن الكريم، من أجل استخراج معارفه وكنوزه"(4)، وهذا يعني التمعُّن في آيات الله تعالى وإجالة النظر فيها باستقراء تام وقراءة فاحصة لاستكشاف ما تكتنزه خزائنه المباركة، وهذا التعريف هو الأقرب لما تدعو له الآيات المباركة التي تحثُّ على التدبر في القرآن الكريم.

والتدبر في القرآن الكريم هو مفهوم أساس في نظرية السيد محمد رضا الشيرازي؛ حيث يعد التدبر عملية تأمل عميقة لفهم رسائله وتطبيقها في الحياة اليومية، ويركز السيد الشيرازي على أهمية فهم معاني الآيات وأبعادها الروحية والاجتماعية، وهو الطريق إلى تحقيق التغيير الإيجابي في حياة الفرد والمجتمع.

منهج التدبر في فكر السيد محمد رضا الشيرازي

انتهج السيد الشيرازي منهجاً خاصَّاً لنظرية التدبر في القرآن الكريم مبنيَّاً على أسس خاصَّة يجب اتباعها في فهم النص القرآني المبارك، فهو يبدأ من الوحدة الأصغر (الكلمة) وتمثلاتها في السياق، وكيف ينتقل المعنى من المركزية المعجمية إلى الاصطلاحية السياقية، إذ يرى أنَّ الكلمة لها معنى في ذاتها يُسمَّى (المعنى المركزي) أو (الدلالة المركزية)، وهذا ما يكشفه أصل الكلمة في المعجم، ولكنَّها إذا ما سِيقت في سياقٍ ما؛ سوف يُضاف إلى معناها المركزي معنى سياقي يُكسبها قوَّة وتماسكاً بين وشائج السياق في العبارات.

وليس هذا فحسب؛ يذهب السيد الشيرازي إلى تخيُّر الكلمة القرآنية تخيُّراً مقصوداً في الآيات المباركات، ولم يكن تخيُّر الكلمة وحده ينماز بالقصديَّة؛ وإنَّما اختيار الموقع لها مقصوداً أيضاً، وكل ذلك يحتاج إلى التأمُّل لاستكناه المعنى المراد.

وكذلك ارتباط الكلمة بالشكل الخارجي للسياق في الآية من جهة، والكلمة بالنسبة للنصٍّ -على جهة الوحدة الكبرى- ومنها إلى موقع الكلمة بالنسبة للسورة كلها، ومدى ارتباطها التسلسلي اللفظي في التركيب العبائري، فإذا ما راعى المتدبر في هذا المنهج وفق هذه الملاحظ؛ سوف يصل إلى وجه حقيقي من الوجوه السبعين للقرآن الكريم، فالسيد الشيرازي -وفق هذا المنهج- نجده يؤمن بالفهم النسبي للنص القرآني لأنَّ القرآن الكريم ذو وجوه كما قال الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): "أن للقرآن ظهراً وبطناً، ولبطنه بطناً إلى سبعة أبطن، وفي رواية إلى سبعين بطناً."(5)، فيشير سماحته للوصول إلى أحد هذه الوجوه بوساطة هذا المنهج.

الفهم الشمولي للقرآن الكريم

يُقدِّم السيد الشيرازي منهجاً نقديَّاً لتمحيص المنهج التفسيري السائد عبر تحديد مواطن الضعف لهذا المنهج، وقد يزهق روح المعنى للكلمة والجملة والعبارة، لأنَّ المنهج التفسيري القديم؛ قائم على فصل الكلمة عن الجملة ليعطيها المعنى الوضعي أو الاصطلاحي الخاص بها، وكذلك يفصل الجملة من السياق الذي وردت فيه عبر المجالين العملي -على مستوى اللغة- والعقائدي -على مستوى استنباط العقيدة والشريعة-، وهذا ما نجده في بيان قوله تعالى: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِهِم)، وقد ابتنت العقائد على مفهوم التجسيم ونفي التجسيم في هذه الجملة القرآنية، والسبب في ذلك هو فصل هذه الجملة من سياقها، ولو أُعيدت إلى سياقها، وصار التدبر في السياق كله؛ لاتضح معناها، فهي تقع في سياق قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)(الفتح/10)، مما تؤكد أن اليد ههنا هي يد رسول الله (صلى الله عليه وآله) والله تعالى جعلها يده لأنَّ النبي الأكرم كله مملوك لله تعالى؛ فيده يد الله؛ ولسانه لسان الله؛ وسمعه سمع الله؛ وطاعته طاعة الله؛ وولايته ولاية الله...؛ لذا جاءت يد الله على سبيل التمليك لا على سبيل التجسيم، والسبب في الاختلاف هو انتهاج المنهج التجزيئي أو الموضوعي المتبعان، فتنبَّه السيد الشيرازي إلى هذا المنهج وبيَّن ضعفه، والآية المذكورة على سبيل المثال لا الحصر. 

الفهم الحيوي للقرآن الكريم

أدى الفهم السائد -لآيات الذكر الحكيم- إلى موت الألفاظ القرآنية أو حصرها في تاريخ معيَّن بوساطة جعله في إطارٍ ضيِّق لا يتجاوز العقد الأوَّل للهجرة، وسبب ذلك هو الفهم التجريدي: الذي قام بتجريد الكلمات القرآنية من سياقاتها وإرجاعها إلى أصولها في بيان المعاني وترك كل ما يربطها في سياقها، وقد ركز هذا الفهم على جانبين رئيسين؛ "الأول: ربط المفاهيم القرآنية بعالم الغيب، والثاني: فصل هذه المفاهيم عن الواقع القائم"(6)، وقد أشار السيد الشيرازي إلى أنَّ هذين العنصرين يؤديان إلى جانبين: فالعنصر الأوَّل المتمثل بربط المفاهيم القرآنية بعالم الغيب: يؤدي إلى الجانب الإيجابي، في حين العنصر الثاني المتمثل بفصل المفاهيم القرآنية عن الواقع القائم: يؤدي إلى الجانب السلبي، وعلى الرغم من تأييده إلى الجانب الأوَّل؛ فهو يرفض الجانب الثاني لأنَّ مآله يُوصل إلى تجزئة الدين.

أمَّا الفهم التاريخي لدى السيد الشيرازي؛ فهو فهم سطحي يجب سبر أغواره وتوجيه بوصلته توجيهاً ينسجم مع المراد الإلهي، فمن الدارسين مَن نظر إلى القصص القرآنية أنَّها مجرد قصص تاريخية الهدف منها سردها بذاتها ولأجل ذاتها من دون الوصول إلى سبب ذكرها والعبرة منها، وهذا أدَّى إلى فهم القصص القرآنية على أنها تاريخ مضى، ولا يرجع إلى (الفهم العبروي) كما اصطلح عليه السيد الشيرازي.

ومن جانب آخر دُرست القصَّة القرآنية على أنَّها مرتبطة بأشخاص معينين وذوات معيَّنة من دون جعل القصَّة رمزاً ومفهوماً عامَّاً تتجدد مصاديقها وأشخاصها وفقاً لقوله تعالى: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ )(آل عمران/140)، فالقصص تتكرر والأحداث تتجدد بتغيير الزمن وتجديد الأشخاص، فالقصَّة القرآنية رمز حيٌّ يتكرر في كل زمان ومكان.

فِهْمُ الأبعاد الحقيقية

 أشار السيد الشيرازي إلى وجوب الإحاطة التامَّة بجميع النص القرآني المراد بيانه - من الأحداث والأشخاص والمكان والزمان والاضطرابات السياسية أو استقرارها، بيان مواقع المفردات، والإحاطة بالتقديم والتأخير والالتفات أو الإيجاز فيها أو الاطناب، التشبيهات الواردة ومدى انطباقها على الواقع، وفهم الحالة النفسية والاجتماعية للأشخاص، وفلسفة إيراد الحدث... إلى آخره -، لأنَّ الانسلاخ عن الإحاطة بالمتعلقات سيذهب بمعانٍ كثيرة، ففهم الأبعاد الحقيقية للنص يؤدي للوصول إلى المبتغى المراد والابتعاد عن الظنيّة والتضنين.

الاستنتاجات 

يدعو السيد محمد رضا الشيرازي بوساطة هذه الأسس المنهجية التي يراها ناهضة في نظرية التدبر في القرآن الكريم إلى:

1- فهم القرآن الكريم بشكل أعمق للوصول إلى الدلالة المرادة من النص القرآني.

2- تطبيق مبادئ القرآن في الحياة اليومية، لأنَّه دستور الحياة، فلا ينقطع بانقطاع تاريخ نزوله.

3- تحقيق التغيير الإيجابي في الفرد والمجتمع، لأنَّ القرآن الكريم هو كتاب إلهي يتم من خلاله بناء مجتمع راقٍ متطور إذا ما وصلنا إلى التدبر الحقيقي فيه.

4- والغاية المرجوَّة من ذلك بناء مجتمع أكثر عدلاً ورحمة لإشاعة المحبَّة والسلام والوئام، لأنَّ التدبر يؤدي إلى بيان المفاهيم القرآنية المراد منها بناء الإنسان والمجتمع.

5-أساليب التدبر في القرآن: وضع السيد الشيرازي أساليب لهذا المنهج التدبري، أبرزها على سبيل المثال لا الحصر:

أ- التفسير العميق للألفاظ وارتباطاتها بالسياق العام.

ب- دراسة القصص القرآنية وأهميتها في فهم الرسائل القرآنية.

ج- تطبيق مبادئ القرآن في الحياة اليومية.

ان مشروع التدبر القرآني وفق رؤية السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) هو ضرورة ملحّة ومنهجية علمية دقيقة تهدف إلى إحياء النص الديني في الواقع المعاصر. فمن خلال تجاوز القراءات السطحية والتجزيئية، والارتقاء إلى فهمٍ شمولي يربط دلالات الألفاظ بمقاصد السياق، حتى يتحول إلى دستورٍ حيّ ومتحرك يعالج قضايا الإنسان الراهنة. وعليه، فإن هذا المنهج التدبري يمثل حجر الزاوية في عملية الإصلاح، إذ يجعل من القرآن منطلقاً لتصحيح المفاهيم، وبناء الشخصية المتزنة، وتأسيس مجتمعٍ تسوده القيم الإنسانية والعدالة.

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2025

http://shrsc.com

.........................................................

[1) الإتقان في علوم القرآن: 1/127.

[2) لباب التأويل في معاني التنزيل: 1/ 402.

[3) يُنظر: التدبر في القرآن: 1/16-17.

[4) المصدر نفسه: 1/30.

[5) يُنظر: مصباح الهداية في إثبات الولاية، للسيد علي البهبهاني (ت: ـ1350هـ): 83، ومصباح الهدى في شرح عروة الوثقى، للشيخ محمد تقي الآملي (ت:1391هـ): 3/148-340.

[6) التدبر في القرآن: 1/146.

ذات صلة

صناعة الاهداف النبيلة‏بغداد بين نفوذ الداخل وحسابات الخارجما تقييمك للمشهد السوري بعد عامٍ على سقوط الأسد؟هل قرارات الهيئة القضائية للانتخابات باتة؟الأمن القومي العربي: هدف مشترك وتحديات المستقبل