كيف تفوز في جميع المسابقات.. وكيف تنجح في الحياة؟
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2025-10-11 04:47
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)[1].
الحياة سلسلة من السباقات
إنّ الحياة كلّها ما هي إلّا سلسلة من المسابقات والسباقات والتكاثر والمنافسات، في مختلف نواحيها ومناحيها، سواء أكان ذلك شعوريًّا أم لا شعوريًّا، وسواء في ذلك المدى القصير، والمتوسّط، والطويل، وسواء في ذلك الرجل والمرأة، بل والطفل، والشاب، والشيخ.
فإنّ الطفل، منذ أن يدرج، بل وقبل ذلك، يكون في سباق مع الزمن، كي يتعلّم الوقوف والمشي والكلام والآداب، وكي يفهم ويدرك معاني ما يحيط به، ومشاعر من يراه أو يلتقي به.
وفي المدرسة، من ابتدائيّة إلى متوسّطة وثانويّة، ثمّ الجامعة... تجد كلّ إنسان في سباق لإكمال المرحلة بنجاح والتخرّج، حتى إذا تمّ له ذلك، كان في سباق نحو الحصول على وظيفة جيّدة، ثمّ في سباق نحو الحصول على زوجة تروقه، ثمّ في سباق نحو تأمين مستقبل الأولاد وتربيتهم... وهكذا.
وكثير من الناس تجدهم في سباق ليحصل على هذا المنصب أو ذاك، أو ليصل إلى هذه المرتبة أو تلك، سواء أكان يريد أن يصبح أستاذًا في الجامعة، أم أستاذًا في الحوزة، أم خطيبًا شهيرًا، أم مديرًا، أم وزيرًا... فهو في كلّ مرحلة في سباق مع الآخرين، وفي سباق مع الزمن، ومع نفسه.
هذا كلّه إلى جوار السابقات المحدودة، والمرحليّة، والقصيرة، كمسابقة قراءة كتاب، أو كتابة مقال، أو دراسة، أو حتّى في ألوانٍ أخرى، ككرة القدم، أو الطائرة، أو ركوب الخيل، والسباحة، ونظائر ذلك.
والسباق إذا كان في المناحي الإيجابيّة، وكان نحو الغايات النبيلة، كان مشمولًا لقوله تعالى: (اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ)[2]، و(وَفي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُون)[3]، وإن كان سلبيًّا، ونحو الغايات غير المستحبّة، كان مشمولًا لقوله تعالى: (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ)[4].
ومن الطريف أنّني كلّمتُ أحدهم ليأتي للزيارة، بعد انقطاع سنين طويلة، فأجاب: إنّني ابتليت بـ (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ)! إذ إنّ طبيعة العمل، صناعةً كان أم تجارةً أم غيرهما، أن المرء، بضغطٍ من الحرص والطمع، وبضغطٍ من جوّ التنافس، وبضغطٍ من بعض الأقرباء أو الأصدقاء، تدفع الإنسان —إلا الحكيم الملتفت الحذر— نحو الاستزادة والتكاثر من المال، والثراء، والجاه، والقوّة، والنفوذ.
مفرّطًا، في هذا الطريق الطويل الذي لا يتوقّف عند حدّ، بكثيرٍ من الواجبات والضروريّات، فكثيرًا ما تجده يهمل أرحامه وصِلتهم لانشغاله الشديد بالتجارة، أو الطّبابة، أو الصحافة، أو بالدراسة، وشبه ذلك.
كيف يمكننا أن نحقق الفوز في جميع السباقات؟
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاحٍ وبإصرارٍ، وعلى مدار الأيّام، هو: كيف يمكننا أن نحقّق الفوز في كلّ المسابقات والامتحانات؟ وكيف ننجح في جميع مراحل الحياة؟
ذلك أنّ الناس، بالنسبة إلى الامتحانات والسباقات، على خمسة أصناف:
أ- فائز دائمًا.
ب- خاسر دائمًا.
ج- ناجح غالبًا.
د- خاسر غالبًا.
هـ- متعادل النسبة.
ومن الواضح أنّه لا يوجد الصنف الأوّل، الفائز دائمًا، إلّا متجسّدًا في الأنبياء والأوصياء المعصومين عليهم صلوات المصلّين، في جميع الامتحانات الإلهيّة.
ولكنّ المطلوب والممكن أن ينجح الإنسان ويفوز غالبًا، 90% أو حتّى أكثر من ذلك سواء أكان في شؤون الدنيا والعمل أم في شؤون الآخرة، فكيف يمكن ذلك؟
الجواب: بعد الدعاء والتضرّع إلى الله تعالى، والتوسّل بالرسول الكريم الأمين وآله الغرّ الميامين، فإنّ هنالك آليّاتٍ، ووسائل، وأساليب مفتاحيّة، تكفل —فيما إذا تمسّك بها الإنسان بقوّة— له النجاح، والفوز، والفلاح، في مختلف سباقات الحياة!
1- ابتعد لكي تقترب
أولًا: ابتعد لكي تقترب، والذي يعبّر عنه المثل الصيني بـ (خطوة إلى الوراء، خطوتان إلى الأمام)، إذ قد يكون الطريق للوصول إلى القمّة، وإلى شتّى المقاصد، قريبًا قصيرًا مباشرًا، لكنّه يحتضن الخطر، والمهالك، والمعاطب، ولكن في المقابل يكون الطريق البعيد، الذي يلتفّ حول الجبل مثلًا، هو الطريق الآمن الموصل دون جدال.
ولنمثّل لذلك بثلاثة أمثلة، على ثلاثة مستويات:
كيف تعالج اضطراب النوم؟
المثال الأوّل: الذي يُعانون من اضطراب النوم، وعدم انتظامه؛ إذ ما أكثر الذين يسهرون الليل كلّه، ثمّ ينهض بعضهم —وقد لا ينهض— ليذهب إلى المدرسة، أو الحوزة، واهنًا مُتبلّد الفهم، غير مستجمع لقواه، أو يصل إلى العمل ناعسًا، ويجلس خلف المكتب نصف نائم.
ومشكلة هؤلاء أنّهم يعجزون عن مكافحة هذا الداء، داء عدم انتظام النوم، لذا تستمرّ حياتهم متأرجحة، قلقة، مضطربة، على امتداد السنين، فيفقدون فاعليّتهم، وإنجازاتهم، وكثيرًا ما يخسرون اعتبارهم الاجتماعي، ومكانتهم، ووظائفهم أيضًا.
وقد يكون الحلّ في اتخاذ قرارٍ قويٍّ لا رجعة فيه، بتنظيم النوم بشكلٍ صارم، لكن قد يتعسّر ذلك على أكثر، أو كثيرٍ من الناس، وهنا يكمن الحلّ في الابتعاد عن المشكلة إلى مشكلةٍ أخرى أدنى وأهون، والانشغال بمعالجتها، وحيث إنها أسهل، فإنّ نجاح الإنسان في معالجتها يمنحه طاقةً روحيةً، وإرادةً أقوى لحلِّ المشكلة الأعظم، ذلك أنَّ الروح، كالبدن، تقوى بممارسة أنواع الرياضة: الخفيفة، فالشديدة، فالأشدّ، والإرادة كذلك تتقوّى كلما تحدّى الإنسان عقبةً – مهما صغُرت – فتخطّاها وفاز، فإنّه يكون أكثر تأهيلاً حينئذٍ لتخطّي العقبة الأكبر.
وفي مثالِ النوم، عليه (بدل أن يكافحَ اضطراب النوم من دون جدوى، فرضاً) أن ينطلق إلى تحدٍّ أخفَّ وأصغر، وهو مشكلة اضطراب المواعيد، وعدم التزامه بالجداول الزمنية؛ إذ تراه يتأخر عن الدرس، أو عن الاجتماعات، عشر دقائق، أو خمسة، أو أكثر، أو أقلّ... باستمرار.
فإذا تفرّغ الآن لضبط جداول مواعيده والالتزام بها بدقة، وضغط على نفسه ليلتزم بالحضور أول الوقت تماماً، أمكنه أن ينتقل بعدها إلى اضطراب النوم، فيسيطر عليه أيضاً.
ومن آليات السيطرة على التأخّر في المواعيد أن يفترض دوماً أن الموعد سابق على الوقت المحدد؛ فإذا كان الموعد الثامنة صباحاً، وكان يتأخّر عادةً ربع ساعة مثلاً، فعليه أن يفترض دوماً أن الموعد هو الثامنة إلا ربعاً، وعلى هذا الأساس يهندس حياته وجدوله، وسيجد أنّه وصل إلى الموعد في الثامنة تماماً! وقد جرّب هذه الآلية العديد من الناس، فكان نجاحهم كبيراً.
كيفية مكافحة وباء الجريمة: تجربة نيويورك مثالاً
المثال الثاني: كيفية مكافحة وباء الجريمة عبر الابتعاد ثم الاقتراب ومن أبرز الأمثلة والشواهد على ذلك ما استعرضه كتاب (نقطة التحول) إذ يقدم مالكولم مثالاً على ذلك وهو مدينة نيويورك في منتصف التسعينيات. كانت الجريمة قد أصبحت حديث العامة في نيويورك في الثمانينيات. فقد أطلق رجل أبيض، برنارد غوتز، النار على أربعة شبان سود في مترو أنفاق مدينة نيويورك في عام 1984. ووصفت وسائل الإعلام هذا الحدث بأنه ذروة وباء الجريمة في المدينة. بعد هذا الحدث، كان برنارد شخصية مثيرة للانقسام. فالبعض اعتبره مجرمًا لكن معظمهم أشاد به لإيقافه ما اعتقد البعض أنه عملية سطو محتملة. وفي كلتا الحالتين، كانت الجريمة تتزايد بمعدل مقلق خلال هذه الفترة.
نظرت الشرطة إلى الصورة الأكبر وسعت إلى النظر في سياق الزيادة في الجرائم. واعتقدت أ- أنّ الكتابة على الجدران في مترو الأنفاق، ب- وتهرب الناس من دفع أجرة المترو هما السبب. وجادلوا بأن ترك الناس يفلتون من العقاب على هذه الجرائم الصغيرة أدى إلى أن يصبح الناس أكثر ثقة في إمكانية إفلاتهم من العقاب على الجرائم الخطيرة.
تفاعلت السلطات مع هذه الأفكار فقامت بإزالة الكتابة على الجدران كما جعلت التهرب من دفع الأجرة جريمة يعاقب عليها القانون. على الرغم من أن هذا الأمر قد يبدو بعيداً عن معالجة المشكلة الأصلية أو تافهًا، إلا أنه كان له تأثير كبير. فقد انخفض معدل الجريمة بسرعة في السنوات التالية.
يوضح المؤلف أن الوباء المحتمل للجريمة قد انعكس بسبب التدخلات الصغيرة التي أخذت في الاعتبار سياق الوباء. إذ يمكن لبيئة المجرم أن تحدد طريقة تفكيره وسلوكه، وقد غيّرت هذه التغييرات بيئة المجرمين إلى الأفضل. ويصف مالكولم البشر بأنهم "حساسون بشكل رائع" للتغيرات في الظروف. كما طبق هذه الحساسية على الأوبئة[5].
وبعبارة أخرى: إنَّ معاقبة المجرمين على الجرائم الصغيرة، تبعث رسائل قوية إلى المجرمين الذين يفكرون في التورط في جرائمَ أكبر، ذلك أنَّ الجرائم الكبيرة، كجريمة القتل والاغتصاب، تكون عقوباتها كبيرة جداً، كالإعدام أو السجن المؤبّد، وكلاهما مكلف جداً من عدّة جهات.
ولكن المعاقبة على الجرائم الصغيرة، كالتهرب من دفع ثمن التذكرة، وكالرسم على الجدران، سهلة عبر فرض غرامة مالية، ويمكن تنفيذها على نطاق واسع.
وبذلك يعرف المجرم أنَّ هناك رصداً دقيقاً، وعقاباً لا يتزحزح، ممّا يجعله يفكّر ألف مرة قبل اتخاذ القرار بارتكابه أية جريمة كبرى.
كيف يكتسب الداعية والعالِم قلوب الناس؟
المثال الثالث: إنَّ رجل الدين الذي استقرَّ في منطقةٍ، كوكيلٍ للمرجعية الدينية، أو كإمامٍ للمسجد، أو مديرٍ لمدرسةٍ أو مؤسسة، أو كخطيبٍ مترحّل، تارةً يدعو الناسَ إلى الهدى وطريق الرشاد بطريق مباشر، وهو أمرٌ حسنٌ دون شك، بل هو لازمٌ حتماً، إلا أنه كثيراً ما لا يُجدي، أو لا يُجدي بمفرده، ولذا ورد (كُونُوا دُعَاةً لِلنَّاسِ بِغَيْرِ أَلْسِنَتِكُمْ)[6] أي بأعمالكم.
فإذا ركّز العالِم، ومطلق الداعية، نظراته إلى ما هو أبعد، وشاهد حاجات الناس واحتياجاتهم، فقضاها لهم، فإنَّ ذلك سيشكّل أكبر دعوةٍ عملية لهم، وأقوى محرّض للحضور في المسجد، أو المشاركة في أنشطة المؤسسة، أو الدفاع عن المرجعية؛ ذلك أنَّ الناس قطعةٌ من الحاجات، والإنسان عبد الإحسان. وقد ورد عنه (صلوات الله عليه): (أَحْسِنْ إِلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَمِيرَهُ)[7].
وعليه: فإذا شكّل العالِم أو الداعية لجنة للإقراض الخيري، وأخرى لتزويج العزّاب والعازبات، وثالثة لتشغيل العاطلين، ورابعة لتدريب من يحتاج إلى تدريب على المهارات والحِرَف، وخامسة لإطلاق سراح المظلومين من السجناء، فإنَّه – وإن بدا أنّه أبعد عن الدعوة المباشرة إلى الالتزام بتعاليم الدين المبين، والحضور في صلاة الجماعة، والالتزام بدفع الخُمس والزكاة، والامتثال لأوامر المرجعية، إلا أنّه في الواقع، هو الطريق الأمثل، والأكثر تأثيراً، وإن كان أطول مدّة وأصعب، إلا أنه أعمق، وأكثر رسوخاً، وأكثر إثماراً، ذلك أنَّ إصلاح السياق والبيئة، وتوفير الأرضية الصالحة، والأرض الخصبة، هو الذي يهيّئ الناس للاستماع إلى الكلمة الطيبة، والانقياد نحو العمل الصالح؛ فهو، إذاً، الطريق الأكثر استراتيجية.
ولعلّ من أسرار التأكيدِ الكبيرِ في الروايات على قضاء حوائج الناس، إضافة إلى موضوعيته، هو ذلك.
وقد ورد: (مَنْ قَضَى لِمُؤْمِنٍ حَاجَةً قَضَى اللَّهُ لَهُ حَوَائِجَ كَثِيرَةً، أَدْنَاهُنَّ الْجَنَّةُ)[8]، وفي رواية أخرى: (وَمَنْ قَضَى لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ حَاجَةً قَضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِائَةَ أَلْفِ حَاجَةٍ، مِنْ ذَلِكَ أَوَّلُهَا الْجَنَّةُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُدْخِلَ قَرَابَتَهُ وَمَعَارِفَهُ وَإِخْوَانَهُ الْجَنَّةَ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونُوا نُصَّاباً، وَكَانَ الْمُفَضَّلُ إِذَا سَأَلَ الْحَاجَةَ أَخاً مِنْ إِخْوَانِهِ قَالَ لَهُ: أَمَا تَشْتَهِي أَنْ تَكُونَ مِنْ عِلْيَةِ الْإِخْوَانِ)[9].
بل وكذلك زيارة العالِمِ، والروحاني، والداعية، والمبلِّغ للناس، والمأمومين، والمرضى، والعجَزة... فإنّها تترك أكبر الأثر في استماعهم إلى القول الحسن.
صندوق خيري يزوّج الألوف!
ومن التجاربِ الناجحة في هذا الحقل: تجربة صندوق الإمام الحسن المجتبى الخيري للزواج، والذي أسّسه السيّد الوالد (قدس سره) في قمّ المقدّسة قبل أكثر من ثلاثين سنة، والذي كان يستهدف تحصين الشباب والشابات عبر تسهيل أمر الزواج عليهم.
وكنت قد توهّمت أنّه أغلق، أو ضعف جداً بعد وفاته (عام 1422هـ)، ولكنّني سألت قبل فترة بعض المتواصلين معهم[10]، فقالوا: لا يزال الصندوق الخيري مستمرّاً وفاعلاً بشكل مؤثّر جداً، حيث إنّهم يقدّمون معونة كبيرة جداً سنوياً للمئات من المقبلين على الزواج، بل لما يزيد على الألف، بل في بعض السنين للأُلوف.
وعندما أبديت استغرابي، نظراً لأنّ ذلك يشكّل تكلفة كبيرة جداً، فأجابوا: إنّهم يتّبعون آلية متطوّرة فعّالة تمكّنهم من مدّ يد العون إلى هذا العدد الكبير، بدون معاناة كثيرة، وهي تتركّب من بنود:
الآلية العملية السهلة لذلك:
أ – إنّهم يتّفقون مع مصانع، ومعامل، أو شركات، تبيع لهم بالجملة سنوياً: ألفاً، أو ألفين، أو ثلاثة آلاف (حسب تخمينهم لحاجتهم تلك السنة المقبلة) من: غسالات، وطباخات، وأسرّة، وأخشاب، وسجاد...
فيبيعونها للمتزوجين بنفس السعر المنخفض (لا بسعر المفرد – أو المفرّق) والمعروف أنّه كثيراً ما تبلغ قيمة المفرّق نصف سعر الجملة أو أقل أو أكثر. فهكذا يُخفّفون على المتزوجين حوالي نصف مجموع الأسعار، وهو مبلغ ضخم جداً، وقد حصلوه عبر آلية سهلة معروفة وبحُسن الإدارة لا غير.
ب – بل إنّهم كثيراً ما يشترون من صاحب المعمل أو المصنع بأقلَّ من سعر الجملة بكثير، لكونهم يحملون إجازةً من عددٍ من المراجع الكرام، بصرف سهم الإمام والسادة[11] في هذا الشأن، وكثيراً ما يخفّض صاحب المعمل أو المصنع السعر عن التكلفة بكثير، مُحتسباً ذلك من أحد السهمين.
ج – كما أنّ الكثير من الناس يتبرّعون لهم، حيث حصلوا على مصداقية كبيرة، بثلاجة أو غسالة أو غيرهما، فيهبون للزوجين إحدى تلك الأغراض.
د – وقد أودعهم عدد من التجّار، وفي إدارة الصندوق أيضاً بعض التجار، مبالغ كبيرة، ليقرضوها للمتزوجين، قرضاً غير ربوي، بأقساط طويلة المدّة.
وبهذا المجموع، يتيسّر الزواج إلى درجة كبيرة جداً للكثير ممّن لم يكن يمكنه الزواج لولا ذلك. وقد ورد (مَنْ تَزَوَّجَ فَقَدْ أَحْرَزَ نِصْفَ دِينِهِ، فَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي)[12].
كيف قضى الإمام علي (عليه السلام) على ظاهرة الزنا؟
وفي شاهدٍ أقوى، عن توفير البيئة الصالحة، والابتعاد كطريق للاقتراب من حلّ المشكلة، ما نقله التاريخ من أنّ الإمام عليّاً (عليه السلام)، عندما وصل إلى الخلافة الظاهرية (إذ الخلافة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثابتة بأمر السماء، بنصّ الغدير، ويوم الإنذار، والطائر المشوي، وغيرها)، وتسلّم الحكومة، وجد مشاكل وظواهر سلبية كثيرة منتشرة في المجتمع.
وكان منها ظاهرة الزنا المنتشرة في مختلف المجتمعات عادة، خاصة أنّ الكوفة كانت خليطاً من المسلمين، والنصارى، واليهود، ومن العرب، والفرس، وسائر القوميات، ومن كلّ الألوان والأشكال، والزنا ظاهرة منتشرة في كلّ المجتمعات.
ولكن بدل أن يواجه الإمام (عليه السلام) هذه الظاهرة بالعنف، والحدّ، والجلد، والسجن، وما أشبه، وهو حلّ مباشر يبدو سهلاً(!)، لكنّه لا يحلّ المشكلة من جذورها، لجأ الإمام (عليه السلام) إلى حلّ المشكلة من جوهرها، ذلك أنّ معظم النساء يزنين نتيجة الفقر والفاقة، أو نتيجة عدم الزواج رغم ضغط الحاجة، أو نتيجة فقدان أبيها ووليّها، أو لشبه ذلك، وقلّ مَن تزني لخبثٍ ذاتي.
لذلك، حلّ الإمام المشكلة بوضع مخطط سهل وفاعل جداً، حيث زوّج عبره جميع الزانيات، كلٌّ بمن رغبت فيه ورغب فيها، وبذلك اقتلعت ظاهرة الزنا، بشكل عام، من المجتمع الكوفي...
ومن هنا يظهر الخطأ الكبير الذي وقعت فيه تلك الحكومة التي فرضت الحجاب الإجباري، فلم تزدد كثير من النساء إلا عناداً.
والخطأ الكبير الذي وقعت فيه حكومة أخرى، ففرضت فِرَق النهي عن المنكر العنيفة، بل وفرضت إغلاق المحلّات جبراً وقت الصلوات...
وكان الأصحّ الابتعاد عن المواجهة المباشرة، إلى معالجة الجذور والبيئة، إذ لماذا تخلع النساء الحجاب؟
إنّ الكثير جداً منهنّ يخلعن الحجاب، إمّا لأسباب ثقافية، (والجهل بحكمة الحجاب وكيف يكون صوناً لها وللمجتمع)، أو نظراً للفقر (كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْراً)[13]، أو لضغط البطالة بعد أن تخرّجت ولم تحصل على فرصة عمل، أو لأسباب سياسية، إذ الاستبداد أُمّ الفساد، و(مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ)[14]، وأهلك أمّته وناسه (يراجع كتاب طبائع الاستبداد للكواكبي).
فبدل أن تحلَّ هذه المشاكل، التي مع حلّها ستهرع المرأة ويهرع الرجال نحو الدين والالتزام بأحكامه بأسرع من لمح البصر، تنتقل الحكومة إلى الضغط، والضغط كما هو معروف يولّد الانفجار.
2- اتبع سياسة الخطوة خطوة
ثانياً: اتّبع سياسة (الخطوة خطوة)، أو طريقة التحسينات الجزئية المستمرّة، المسمّاة في اليابانية بـ (الكايزن).
وهذه الطريقة فاعلةٌ جداً، ومؤثّرةٌ جداً، ذلك أنّ كثيراً من الناس يعجزون أو يتعاجزون عن التغييرِ الدفعي – الفُجائي من الكسل إلى النشاط، ومن بلادة الذهن إلى الذكاء، ومن الفوضويّة إلى النظام، ومن سيطرة القوّة الغضبيّة أو الشهوية، إلى التحكّم النافذ الأكيد على القوّتين وعلى جميع ردود الأفعال المنفلتة.
هؤلاء يمكنهم، إذا أرادوا الفوز والنجاح في سباقات الحياة المختلفة، السابقة المشار إليها وغيرها، اللجوء إلى الطريق العمليّ السهل وهو: اتّباع سياسة (الخطوة خطوة).
ولنضرب لذلك أمثلة:
كيف تقوي ذاكرتك خطوة خطوة؟
الذاكرة، إذ أنّ كثيراً من الناس يعاني من ضعف الذاكرة، مع أنّ الذاكرة هي أغلى رأسمال يمتلكه الطالب، والأستاذ، والعالِم، والطبيب، و... بل كلّ إنسان، بل حتى أصحاب الذاكرة المتوسطة، فإنّ ذاكرتهم تخذلهم في كثير من الأحيان.
بل قال بعض الخبراء إنّ أفضل الناس ذاكرة، لا يبقى في ذهنه من الكتاب الذي طالعه، إلا اثنان بالمائة بعد سنة أو أقل! وهذا يعني ضياع 98٪ من المجهود، وهي نسبة مرتفعة جداً.
ولكنّ الحلَّ في تقوية الذاكرة يكمن في الخطوات الصغيرة التدريجية:
1- فالزبيبُ الأحمر، والتين، وزيتُ الزيتون، والتمر، والعسل، ونظائرُها، تغذِّي تحفّز المخَّ والذاكرة.
2- وقال بعض الخبراء –بعد تجارب سريرية مكثّفة– إنّ المشي إلى الوراء، أي المشي القهقري، يُحفّز المخَّ والذاكرة، وذلك لأنّه يشكّل تحدّياً للمخ، إذ يضطرّ كي يسيطر على حركات الجسد وكي لا يسقط أو يتعثّر بشيء، أن يبذل جهداً كبيراً غير مألوف. والمخ شأنه شأن عضلات البدن، يقوى وينشط بمختلف أنواع الترويض والرياضة.
3- وقال بعض الخبراء إنّ تمريخ الجبهة والرأس مؤثرٌ جداً، وأنّ الطرق على أنحاء الرأس برؤوس الأصابع، لمدّة دقيقتين مثلاً، مؤثّرٌ جداً، إذ إنّ أيّ تحرك وتحريك يسبّب تنشيط حركة الدم في أيّة منطقة في البدن، فإنّه يمنحها أوكسيجيناً أكثر، ويسبّب تدفّق الدم بشكل أسرع، وأنّ السموم، والمواد الكيماوية الراسبة والعالقة، تبدأ بالتفكك والتصريف بالتدريج.
4- وهناك طريقة وجدت السيّد الأخ (قدّس سرّه) يستخدمها لأجل تكريس المعلومات في الذهن، وهي: الاستعانة بالقوة المتخيّلة، إذ وجدته مرات عديدة، عندما يطالع العروة أو موسوعة الفقه أو غيرهما، يقرأ المسألة أو البحث، ثم يغمض عينيه، ويبقى في حالة تركيز شديد، لفترة قصيرة أو أكثر، والطريقة هي: إنك إذا قرأت مسألةً معقّدة، كمسألة إرث الأجداد الثمانية، أو بعض فروع العِلم الإجمالي، أو بعض مسائل الحيض المتشابكة، فهنا عليك أن تُغمض عينيك، وتستعيد المعلومة بتركيز.
والأفضل أن تتخيّلها كصورة متحرّكة: فتتخيّل الأجداد الثمانية، وتتصوّر إرث كلٍّ منهم، لو قسّمت التركة إلى 108 سهماً، وهي أبسط طريقة للحفظ[15]... وهكذا.
كيف تقتلع المعاصي اليومية خطوة خطوة؟
وهذه تجربة موثّقة، تفتح أمامنا بوابةً رائعةً من بوابات التغيير العمليّ الفعّال.
فقد نقل عن الشيخ كرباسجيان، وكان قد تتلمذ لمدة خمسة عشر عاماً على يد المرجع الأكبر السيد البروجردي (قدّس سرّهما)، أنّه قرّر أن يعيد صياغة الرسالة العملية للسيد البروجردي، إلى اللغة الفارسية الدارجة المعاصرة، بدل اللغة القديمة التي كُتبت بها رسالة الشيخ الأنصاري مثلاً، فانشغل بذلك وعندما أكمل إعادة الصياغة، وحظيت بموافقة السيد البروجردي، أعطاها للمنضّد. ولكنه كان يعلم بأنّ الأخطاء المطبعية – من نحوية وصرفية وإملائية و... – تكون عادةً كثيرة في الكتب. (أقول: وقد طُبع كتاب مهم من 600 صفحة، فقال لي بعض العلماء، ممّن كان من المقرّر أن يترجم ذلك الكتاب، إنّه أحصى أخطاءه الإملائية والنحوية... إلخ، فقاربت الستة آلاف غلطة! أي بمعدل عشرة أخطاء في كل صفحة!)
لذلك، وحيث أنّ الرسالة العملية تُمثّل المرجعية الدينية، قرّر أن تكون بدون أخطاء تماماً.
لكنّ صاحب المطبعة قال: إنّ ذلك غير ممكن عادة، إذ لا يخلو كتاب من أخطاء كثيرة أو قليلة.
فسأله الشيخ: قل لي، هل يمكن أن أدقّق في صفحة واحدة مراراً حتى تكون الصفحة الواحدة دون أخطاء؟
قال: نعم، هذا ممكن!
فقال الشيخ: (حكم الأمثال، فيما يجوز وفيما لا يجوز، واحد)، فإذا أمكن أن تكون صفحةٌ بلا أخطاء، أمكن – لو أعملنا الدقّة نفسها وكرّرنا المراجعة – أن تكون كل صفحات الكتاب الـ500 كذلك.
وهكذا كان... فقط طُبعت الرسالة دون غلطة واحدة!
أقول: وكذلك أيام الإنسان وساعاته بالنسبة إلى المعاصي، إذ قد يتصوّر أحدنا أنّه لا يمكن أن يتجنّب المعاصي كلّها طوال عمره: من غيبة، ونميمة، وتُهمة، ونظرة إلى أجنبية... إلخ.
فأقول: ألا يمكن لك أن تتجنّب المعاصي كلّها لمدة ساعة واحدة؟
والجواب: إنّه طبعاً ممكن، فإذا أمكنت الساعة، أمكنت الساعتان والثلاث... وهكذا.
غاية الأمر: أن يقرّر أن لا يقع في معصية من الساعة 8 إلى 9، ثم يتمرّن على ذلك فترة، ثم يُمدّدها إلى ساعتين، فأربع، فعشر... وذلك طبعاً إن عجز أو تعاجز عن الانقطاع عن المعصية دفعةً واحدة، في مستقبل أيامه جميعاً.
الذنوب التي تغيّر النعم
ولنتوقف قبل النهاية عند قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ).
وقد فسرت (ما بِقَوْمٍ): أي من نعمة وعافية. والظاهر أن ذلك من التفسير بالمصداق، إذ إنّ الله تعالى لا يُغيّر أيّ شيء من الإنسان: صحةً، وأمناً، وأخلاقاً، ومالاً، وثراءً، وأُسرةً سعيدة... إلخ، حتى يُغيّر ما بنفسه.
وقد ورد في الحديث، كما رواه تفسير الصافي وغيره:
عن جميل بن صالح، عن سدير، قال: سَأَلَ رَجُلٌ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)[16].
فَقَالَ (عليه السلام): هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَانَتْ لَهُمْ قُرًى مُتَّصِلَةٌ، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَأَنْهَارٌ جَارِيَةٌ وَأَمْوَالٌ ظَاهِرَةٌ فَكَفَرُوا نِعَمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَغَيَّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ عَافِيَةِ اللَّهِ، فَغَيَّرَ اللَّهُ مَا بِهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ، وَ(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ، فَغَرَّقَ قُرَاهُمْ وَخَرَّبَ دِيَارَهُمْ، وَأَذْهَبَ أَمْوَالَهُمْ، وَأَبْدَلَهُمْ مَكَانَ جَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ، ثُمَّ قَالَ: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا، وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ)[17].
(إن الله لا يغير ما بقوم من العافية والنعمة حتى يغيروا ما بأنفسهم من الأحوال الجميلة بالأحوال القبيحة.
العياشي عن الباقر (عليه السلام) إن الله قضى قضاءً حتما لا ينعم على عبده نعمة فيسلبها إياه قبل أن يحدث العبد ذنبا يستوجب بذلك الذنب سلب تلك النعمة وذلك قول الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
وفي المعاني عن السجاد (عليه السلام) الذنوب التي تغير النعم البغي على الناس والزوال عن العادة في الخير واصطناع المعروف وكفران النعم وترك الشكر ثم تلا الآية وإذا أراد الله بقوم سوءً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال من يلي أمرهم فيدفع عنهم السوء)[18].
ومن الأمثلة اللافتة على ذلك: أنّ طالب العلم، عندما يبدأ دراسته، يكون متواضعاً ترابياً، ولا يحتجب عن الناس طبعاً، لكنه إذا صار أستاذاً، أو تسنّم موقعاً مهمّاً، فهل يستمرّ كذلك؟
إذا استمرّ: فقد شكر النعمة وأدّى حقّها.
وإلّا: كان كافراً بالنعمة، جاحداً لها.
إذ إنّ الله تعالى منحك العلم والمكانة لتتواضع للناس، لا لتتكبّر عليهم، ولتفتح بابك لهم ولحاجاتهم، لا لكي تتعالى عليهم وتحتجب عنهم لا سمح الله.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين.