القيمة المعرفية للقرآن
محمد عبد الجبار الشبوط
2025-07-19 05:38
1. تمهيد: القرآن بوصفه كتاب هداية ومعرفة
يعتقد كثيرون أن القرآن كتاب موعظة فقط، أو كتاب شعائر وأحكام فقهية، بينما يغيب عنهم بعدٌ جوهري من أبعاده، وهو البعد المعرفي.
فالقرآن – وإن لم يكن كتاب علوم تجريبية – إلا أنه يحمل رؤية معرفية كونية شاملة تتعلق بالإنسان، والكون، والحياة، والتاريخ، والسنن الإلهية. إنه كتاب هداية ومعرفة معًا؛ هداية تتجه بالقلب، ومعرفة تُضيء العقل.
2. المفهوم القرآني للمعرفة
المعرفة في القرآن ليست تكديسًا للمعلومات، بل هي عملية وعي وارتباط بالحق.
وتستند المعرفة القرآنية إلى ثلاثة مصادر رئيسية:
• الحواس: أداة الإدراك الأولي للعالم.
• العقل: أداة الفهم والتحليل والتأمل.
• الوحي: المصدر الأعلى الذي يُنير ما تعجز الحواس والعقول عن إدراكه من حقائق الغيب والوجود.
وقد رفض القرآن الجهل والتقليد، وذمّ من يعطّل أدوات المعرفة. قال تعالى:
“ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولًا” (الإسراء: 36).
3. المعرفة في خدمة الاستخلاف
الإنسان في القرآن ليس مخلوقًا عابرًا، بل هو كائن عارف مسؤول، خُلق ليكون خليفةً في الأرض.
قال تعالى: “وعلم آدم الأسماء كلها…” (البقرة: 31)، في إشارة إلى أن العلم هو المقوّم الأساسي للخلافة.
والمعرفة في هذا السياق ليست ترفًا ذهنيًا، بل ركيزة من ركائز المركب الحضاري، إلى جانب الأرض، والزمن، والعمل، والإنسان. فبالعلم يوجّه الإنسان عمله، ويعمّر أرضه، ويستثمر زمانه، ويحقق تكامله.
4. القرآن والعلم الحديث: لقاء العقل والوحي
القرآن لا ينافس العلم الحديث، ولا يحلّ محله، لكنه يقدم إطارًا معرفيًا توحيديًا يربط الظواهر بأسبابها، والسنن الكونية بخالقها.
السنن التي يكشفها العلم التجريبي ليست سوى تفصيلات ضمن شبكة المعنى الكلي الذي يقدمه القرآن.
ومع ذلك، لا يتناول القرآن جميع تفاصيل الكون، بل يركّز على ما يخدم غايته الأساسية: الهداية وإقامة القسط. وما سكت عنه من تفاصيل فلكية أو طبية أو بيولوجية، فذلك متروك للبشر ليبحثوا فيه بعقولهم وتجاربهم.
5. القيمة المعرفية للقصص القرآني
القصص في القرآن ليس ترفًا أدبيًا أو سردًا للتاريخ، بل يحمل قيمة معرفية عميقة.
فهو يكشف السنن التاريخية، ويقدّم نماذج بشرية تمثل الخير والشر، الإيمان والطغيان، العقل والهوى.
قال تعالى: “لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب” (يوسف: 111)، أي أن القصص وسيلة لاستخلاص قوانين التاريخ والاجتماع والنفس.
6. المفاتيح القيمية للمعرفة القرآنية
المعرفة في القرآن ليست محايدة، بل مشروطة بالقيم:
• الحق: معيار التمييز بين المعرفة النافعة والزائفة.
• العدل: غاية العلم ومحرّكه.
• الرحمة: إطار إنساني لاستخدام المعرفة.
• المسؤولية: المعرفة تكليف، لا ترف.
فالمعرفة المنفصلة عن القيمة قد تقود إلى الظلم أو الفساد، كما تفعل بعض تطبيقات العلم المعاصر.
7. القيمة الموثوقة للمعرفة القرآنية
القرآن مصدر موثوق للمعرفة في الحقول التي يتناولها، كمعرفة الخلق، والسنن، والنفس، والمصير، والمفاهيم الكبرى كالحق والباطل، والعدل والظلم، والخير والشر.
وهذه الموثوقية نابعة من أنه كلام الله، لا كلام البشر.
فما يخبر به القرآن عن الواقع أو الغيب، عن النفس أو المجتمع، عن الماضي أو المصير، هو حقٌّ يقيني، لأنه صادر عن العليم الخبير.
أما ما لم يتناوله القرآن، فقد تُرك للبشر ليكتشفوه بأنفسهم، في ضوء سنن الله في الخلق والتفكير والتجريب.
8. الفهم الحضاري للقرآن والمعرفة الإنسانية
يتكامل الفهم الحضاري للقرآن مع الجهد المعرفي الإنساني.
فهو لا يلغيه، بل يرشّده ويوجهه، ويمنحه بوصلة قيمية تربط بين العقل والوحي، بين الاكتشاف والمسؤولية.
ومن هنا يمكن تطوير نظرية قرآنية في المعرفة، تقوم على:
• التكامل بين الوحي والعقل.
• إعلاء القيم فوق المصلحة.
• توجيه المعرفة نحو خدمة الإنسان لا استعباده.
9. خاتمة: نحو مشروع معرفي قرآني حضاري
إن استعادة القيمة المعرفية للقرآن ضرورة حضارية كبرى.
فهي تمكّننا من تجاوز القراءة الشعائرية السطحية، وتُطلق طاقات الأمة نحو بناء مشروع حضاري معرفي يستقي من الوحي، ويستنير بالعقل، ويتفاعل مع الواقع.
إن القرآن ليس بديلًا عن العقل والعلم، بل هو إطار مرجعي موثوق يساعدنا على رؤية الكون والحياة والإنسان رؤية متكاملة ومعنوية وقيمية.