حبّ الشهوات وسيلة لاستمرار نظام الحياة
السيد جعفر الشيرازي
2024-04-08 02:19
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ {آل عمران/14} قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ {آل عمران/15} الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {آل عمران/16} الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ) {آل عمران/17}
14- إن سبب الزيغ وصرف الكفار عن الحق هو حب الدنيا فـ {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ} المشتهيات التي تصرف عن الحق، وهذا يكون من فعل الشيطان، وإلاّ فأصل تقديرها من الله سبحانه وتعالی لمصلحة النظام العام {مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ} الأولاد الذكور {وَٱلۡقَنَٰطِيرِ} المال الكثير بحيث يملأ جلد ثور {ٱلۡمُقَنطَرَةِ} المكدسة {مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ} مُعلّمة بعلامة الجودة أو المرسلة إلی الرعي {وَٱلۡأَنۡعَٰمِ} الإبل والبقر والغنم {وَٱلۡحَرۡثِۗ} الزرع.
لكن اعلموا أن {ذَٰلِكَ} الذي ذُكر {مَتَٰعُ} ما يستمتع به الإنسان في {ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ} قدّره الله لنظام حياته لا لكي يصرفه عن الحق، {وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمََٔابِ} المرجع فاللازم علی الإنسان أن يحاول الوصول إلی ذلك المرجع عبر الاستفادة من متاع الدنيا بالنحو المرضي لله تعالی.
15- ثم فصّل الله تعالی حسن المأب بقوله: {قُلۡ أَؤُنَبِّئُكُم} هل أ ُخبركم {بِخَيۡرٖ} أفضل {مِّن ذَٰلِكُمۡۖ} المذكورات من الشهوات الدنيوية؟ {لِلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ} المعاصي فلم يصرفوا أنفسهم في الشهوات المحرمة واقتصروا علی المُحللَّة منها {عِندَ رَبِّهِمۡ} في الآخرة {جَنَّٰتٞ} بساتين كثيفة الشجر بحيث غطت فوقها {تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ} فالجنة كالمركب الواحد فوقه أغصان وتحته أنهار {خَٰلِدِينَ فِيهَا وَأَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞ} من القذارات المادية والنفسية {وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِۗ} وهذا أكبر النعم، ولا تتوهموا أن الله لا يری أعمالكم ولا يعلم بنياتكم {وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ} خبير {بِٱلۡعِبَادِ}.
16- وصفات الذين اتقوا هي أنهم {ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ ءَامَنَّا} بك وبرُسلك وأوصيائهم {فَٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا} لنستحق الجنة {وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ} احفظنا منه، وهذا في مجال العقيدة، فهم اعتقدوا بأصول الدين كلها.
17- وأما صفاتهم العملية فهم من {ٱلصَّٰبِرِينَ} بدينهم فلا ينكصون علی أعقابهم بسبب المشاكل التي يبتلی بها أهل الإيمان، {وَٱلصَّٰدِقِينَ} في أقوالهم فإيمانهم إيمان صدق لانفاق فيه، {وَٱلۡقَٰنِتِينَ} الخاضعين لله تعالی ولأوامره، {وَٱلۡمُنفِقِينَ} لأموالهم في الزكاة ونحوها، {وَٱلۡمُسۡتَغۡفِرِينَ بِٱلۡأَسۡحَارِ} قُبيل طلوع الفجر.
بحوث
الأول: قوله تعالی: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ...} الآية.
لمّا ذكر الله سبحانه زيغ قلوب البعض وكفر آخرين، بيّن سبب ذلك في هذه الآية الشريفة، فإعراض الإنسان عن ما يقتضيه عقله وفطرته يحتاج إلی سبب قوي يحجب عن رؤية المصلحة الواقعية أو يسبب إيثار غيرها عليها رغم معرفته بها، قال تعالی: {وَقَالُواْ لَوۡ كُنَّا نَسۡمَعُ أَوۡ نَعۡقِلُ مَا كُنَّا فِيٓ أَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ}(1)، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: {تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادٗاۚ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ}(2)، بلی والله سمعوها ووعوها، ولكن حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها»(3) وليس ذلك السبب إلاّ حبّ الشهوات، فإن الله تعالی قدّر المشتهيات في الإنسان كوسيلة لاستمرار نظام الحياة ولتكون قنطرة لنيل الدرجات الرفيعة في الآخرة، ولكن ليتم الامتحان وتظهر جواهر النفوس ومكنوناتها خلق الإنسان مختاراً في حسن الاستفادة من تلك المشتهيات أو سوء الاستفادة منها.
فلولا شهوة النكاح لعزف غالب الناس عن الزواج لكثرة مشاكله ومسؤولياته وفي ذلك انقطاع النسل، ولولا شهوة الأبوة لما انجب غالب الناس لئلا يقعوا في صعوبات تربية الأولاد ورزقهم، ولولا حب المال وشهوة الأكل ونحوه لما عملوا ومازرعوا وما ربّوا الأنعام، وذلك فساد للحياة الدنيا، ولو لم يكن الإنسان مختاراً لما تمكن من الطاعة أو المعصية فيبطل الامتحان ولم يكن مجال لسمو النفس ورقيّها إلی الكمالات، وذلك خلاف الحكمة، فلذلك كله ولغيره من الأسباب كان تقدير المشتهيات مع تشريع ضوابط لها لتكون في طريق نظم الحياة ومقدمة للدرجات العليا في الآخرة، وكان أيضاً اختيار الإنسان، فلذا يزيّن الشيطان حب الشهوات ليتجاوز الإنسان الحدود المشروعة.
فاتضح من ذلك أن المزيّن في قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ} هو الشيطان، لأن الآية في سياق التحذير عن الزيغ والكفر وبيان سببهما، وليست الآية في سياق بيان ما قدّره الله تكويناً حتی يكون المزيّن هو الله، كما أنها ليست في سياق بيان الحكم الشرعي في الاستفادة من هذه المشتهيات كي يُفصّل ويقال: إن المزيّن بقدر ولمصالح هو الله، والمزين للمحرّم منها هو الشيطان، هذا فيما يرتبط بهذه الآية.
وأما أصل التزيين فإن كان لمصلحة حفظ النظام أو لأجل كونه قنطرة للآخرة فهو من الله تعالی، قال: {قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ قُلۡ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا خَالِصَةٗ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ}(4)، وقال: {إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِينَةٗ لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَيُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗا}(5).
وإن كان صداً عن سبيل الله وغفلة عن الآخرة فهو من عمل الشيطان، وينسب إلی الأفعال عادة، قال تعالی: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُۥ سُوٓءُ عَمَلِهِۦ فَرَءَاهُ حَسَنٗاۖ}(6)، وقال: {وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ}(7).
وقوله: {مِنَ ٱلنِّسَآءِ} «من» إما ابتدائية نشوية، فالشهوات أريد بها المعنی المصدري أي الشهوات الناشئة عن النساء والبنين... الخ، وإما بيانية فالشهوات مصدر أ ُريد به اسم المفعول أي المشتهيات، وإقامة المصدر مقام الصفة للمبالغة، وللإيماء بأنهم انغمسوا فيها حتی أحبّوا شهوتها، فكأنها صارت الغاية والمقصد مع أنها طريق ووسيلة.
وفي قوله: {حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ} إشعار بأن الحب تعلّق بالشهوة بما هي شهوة لا بما أنها طريق، وذلك أمر مذموم، فيتأكد أن المزيّن هو الشيطان دون الله سبحانه وتعالی.
الثاني: قوله تعالی: {مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ...} الآية.
بيان لأظهر مصاديق المشتهيات، والمراد من (حب النساء) حب نكاحهن، فالذي ينغمس في الاستمتاع بهن ومقدماته يقع في المحرمات كثيراً وتصرفه عن الطاعة والعبادة، وأما حبّهن لابمعنی حب شهوتهن فهذا أمر محمود مطلقاً، عكس الجاهليين الذين كانوا يكرهون البنات كما قال سبحانه: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِٱلۡأُنثَىٰ ظَلَّ وَجۡهُهُۥ مُسۡوَدّٗا وَهُوَ كَظِيمٞ ٥٨ يَتَوَٰرَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ مِن سُوٓءِ مَا بُشِّرَ بِهِۦٓۚ أَيُمۡسِكُهُۥ عَلَىٰ هُونٍ أَمۡ يَدُسُّهُۥ فِي ٱلتُّرَابِۗ أَلَا سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ}(8)، ولذا أكد الرسول| علی حبّ البنات والنساء معارضةً للعادة الجاهلية، فعنه| أنه قال: «أحب من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وقرة عيني الصلاة»(9).
وأما (حب البنين) دون البنات فأيضاً من عادات الجاهلية، كما أن حبهم مذموم إن ألهی عن ذكر الله تعالی كما قال تعالی: {لَا تُلۡهِكُمۡ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ}(10)، وقال: {وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمۡ يَزِدۡهُ مَالُهُۥ وَوَلَدُهُۥٓ إِلَّا خَسَارٗا}(11).
وأما {وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ} فهي الأموال الكثيرة، والمذموم منه ما عُصِي الله في جمعه ولم يُؤدَّ حقه، وروي أن القناطير هي ملأ جلد الثور(12) و{ٱلۡمُقَنطَرَةِ} أي المكدّسة المجموعة، وهي مشتقة من القناطير فإن من دأب العرب تأكيد الكلمة بلفظة مشتقّة منها وعلی وزن إسم المفعول غالباً، حتی لو كانت الكلمة جامدة، كقولهم: دراهم مدرهمة، وحجاب محجوب، وستر مستور وأمثالها.
وأما {وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ} فهي المُعلّمَة بعلامة الجودة، إذ لا تُعَلّم إلا الجيدة منها، أو السائمة التي ترسل إلی الرعي فإنها أجود من التی تُعَلّف، وأما {وَٱلۡأَنۡعَٰمِ} فهي الإبل والبقر والغنم، وقد تطلق علی الإبل وحدها، وأما {وَٱلۡحَرۡثِۗ} فهي الزراعة حيث تُحرث الأرض لأجلها.
وما ذكر في هذه الآية أمثلة ظاهرة للمشتهيات التي تُلهي عن ذكر الله وعن الآخرة، وهناك مشتهيات أخری لم تذكر كحب الجاه والسلطة، لأنها أمور معنوية غير ملموسة مادياً، والآية في تعداد المشتهيات الملموسة المحسوسة، مضافاً إلی أن المشتهيات غير المادية إنما تُراد عادة لكونها وسيلة للوصول إلی الرغبات الجسدية والتي أصول تلك الرغبات مذكورة في هذه الآية.
كما أن الترتيب روعي فيه ذكر الرغبات الأقوی أولاً، فأوّل، كما أن هذه الرغبات قد تجتمع في بعض الناس، وقد يكون بعضها دون بعض في آخرين.
الثالث: قوله تعالی: {ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ...} الآية.
أي إنما قدّر الله هذه الأمور لكونها وسيلة للاستمتاع في الدنيا، لتوقف النظام الأتم عليها، لكن علی الإنسان أن لايغفل عن الآخرة فعليه أن يجعل هذه الأمور قنطرة لها، فيستمتع بها بمقدار حاجته الجسدية، فينكح من غير إفراط ولا تفريط، ويأكل لابمقدار التخمة ولا أقل من حاجة جسده بحيث يضعف عن أداء المسؤوليات، ويجمع المال من حلال بأداء حقوقه والإنفاق منه في سبيل الله، وهكذا سائر الأمور المالية، وأما مدح الأنبياء بكثرة الطروقة كما في بعض الأحاديث(13) فليس المراد به الإفراط في الوقاع، بل المراد تعدد الزوجات، لأن الطَروقه بفتح الطاء هي الأنثی، والطُروقة بضمها مصدر بمعنی الوقاع، والظاهر أنّ المراد الأول دون الثاني.
و(المتاع) إذا كان حسناً فهو لا بأس به بل ضروري، قال تعالی: {فََٔامَنُواْ فَمَتَّعۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ حِينٖ}(14)، وقال: {وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ}(15)، والمذموم منه ما كان سبباً للغفلة عن الآخرة قال تعالی: {وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوٗى لَّهُمۡ}(16).
وقوله: {وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمََٔابِ} أي المرجع الحسن إنما هو عند الله تعالی، ولايتيسر ذلك إلاّ للمتقي الذي لايتناول الحرام من هذه الشهوات، ولذا فصّل تعالی في {حُسۡنُ ٱلۡمََٔابِ} في الآية التالية التي هي كالتفسير له، ففي الآية تقابل بين {مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ} وبين {حُسۡنُ ٱلۡمََٔابِ} أي في الأخرة، ولما ذكر في الآية تفصيل متاع الحياة الدنيا، اتبعه في الآية التالية بتفصيل حسن المئاب، ومن ذلك يتبين أن {ٱلۡمََٔابِ} إسم مكان أو مصدر بمعنی المفعول فيتم المقابلة بين المتاع والمئاب.
الرابع: قوله تعالی: {قُلۡ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيۡرٖ مِّن ذَٰلِكُمۡۖ...} الآية.
لما ذكر تعالی تفصيل متاع الحياة الدنيا وصنوف شهواتها، أراد بيان ما يقابلها من نعيم الجنة لمن اتقی الشهوات المحرّمة، فبيّن تعالی ثلاثة أصناف من نعيم الجنة، وهي:
1- الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، فكأنّ الجنة مركبّة، ففوقها غصون الأشجار المتشابكة ـ لأن الجنة هي البستان التي لايری السماء منه لتداخل الأغصان ـ وتحتها أنهار جارية، فجمال من فوق وتحت، وعلی هذا البيان لاحاجة إلی تقدير تحت أشجارها، بل نفس الجنة لها فوق هي الأغصان، وتحت هي الأنهار، وهذا يقابل القناطير والخيل والأنعام والحرث، مع فرق جوهري هو أنه لابقاء لشهوات الدنيا مع خلود نعيم الجنة، فلذا أتم نعمة الجنة بقوله: {خَٰلِدِينَ فِيهَا}.
2- الأزواج المطهرة عن القذارات المادية كالحيض والمعنوية كالحسد ونحوه، وهي تقابل النساء في شهوات الدنيا.
3- رضوان من الله تعالی، وهذا لايقابله شيء من متاع الحياة الدنيا لقصور متاعه عن ذلك، ولذا كان الرضوان هو الثواب الأكبر، قال تعالی: {وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةٗ فِي جَنَّٰتِ عَدۡنٖۚ وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ}(17).
وأما ما يقابل البنين، فهو إلحاق الذرية، إذ لاتناسل في الآخرة، قال تعالی: {وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَمَآ أَلَتۡنَٰهُم مِّنۡ عَمَلِهِم مِّن شَيۡءٖۚ}(18)، فيكمل سرورهم بإلحاق ذريتهم بهم.
وقوله: {وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِۗ} أي رضا الله تعالی عن عباده المؤمنين، وهذا أكبر النعم التي يتنعمون بها، فشعورهم بأن خالقهم راضٍ عنهم فيه أكبر السرور، كما لو شعر المرؤوس بأنّ رئيسه الدنيوي الذي يحبه راضٍ عنه، فإن ذلك أعظم عنده من المكافئات المادية.
ولا يخفی أن رضا الله تعالی يختلف عن الرضا في الناس، فإنه تعالی منزّه عن الكيفيات النفسانية وعن التغير، بل المراد، إمّا رضی الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) كما يظهر من بعض الأحاديث، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) في قول الله عز وجل: {فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا ٱنتَقَمۡنَا مِنۡهُمۡ}(19)، فقال: «إن الله عز وجل لايأسف كأسفنا، ولكنه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون، وهم مخلوقون مربوبون، فجعل رضاهم رضا نفسه، وسخطهم سخط نفسه»(20).
وإمّا سنخ ثواب فوق الجنة ونعيمها، وقد يكون ذلك هو تنعمهم بعبادته تعالی، كما قال: {وَءَاخِرُ دَعۡوَىٰهُمۡ أَنِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ}(21)، أو غير ذلك.
وقوله: {وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِٱلۡعِبَادِ} بيان علمه تعالی بكلا الصنفين ـ أي المحبّين للشهوات والذين اتقوا ـ فيجازي كلاً بحسب نيته وعمله، وفي كثير من الأحيان يتشابه العمل الظاهري أو القول فلا تمييز إلاّ بخبرة وبصيرة، والله سبحانه بصير خبير بكل شيء.
الخامس: قوله تعالی: {ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ ءَامَنَّا...} الآية.
ثم بعد أن ذكر الله سبحانه مصير الذين اتقوا إلی الجنة ونعيمها، فصّل في صفاتهم الإيجابية عقيدة وعملاً، إذ الدين يتركب من منع النفس وكفّها عن المحرمات وهو ما دلّ عليه قوله: {لِلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ}، ومن عقيدة ومن عمل، أما العقيدة فدلت عليه هذه الآية.
{ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ ءَامَنَّا} هو قول بلسان لكنه يكشف عن إيمانهم القلبي، لأن المنافق يخاطب المؤمنين بالإيمان لكنه إذا خلا إلی شياطينه يجاهر بالكفر، لكن هؤلاء خطابهم مع ربّهم لامع سائر الناس، ومن المعلوم أن الإنسان في خطابه مع ربّه ـ وخاصة في خلواته ـ لايقول إلاّ بما يعتقد، فهؤلاء يصرحون بإيمانهم، وهو إيمان بالله تعالی وبما أنزله من عقائد وكتب ورسل وأئمة، كما يصرحون باعتقادهم بالجزاء، وهذا وإن كان داخلاً في الايمان أيضاً إلاّ أن إفراده بالذكر لأجل دعائهم بغفران الذنوب والنجاة من النار، أو هو دعاء بتنجيز الوعد، فيقولون إنا قد عملنا بما أمرتنا به من الايمان، فانجز لنا ما وعدتنا من غفران الذنب والوقاية من النار، حيث وعدهم الله بذلك، فقال تعالی: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدٗا ٧٠ يُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ}(22).
ثم إن غفران الذنب لايلازم الوقاية من عذاب النار، ولذلك يتضرّعون إلی الله تعالی بغفران الذنب وبالوقاية عن عذاب النار، لأنه قد يغفر الله الذنب بعد عذاب المذنب لفترة، فإن بعض الذنوب لها اقتضاء خلود مرتكبها في نار جهنم، لكن الله بفضله ومَنِّه لا يُخلِّد المؤمن في نار جهنم فيعفو عنه، وقد يعذّب في البرزخ أو في القيامة لفترة قبل أن تناله الشفاعة والعفو، فهؤلاء يدعون بالغفران والوقاية، بأن يكون غفراناً تاماً ومن كل الجهات لئلا يعذبوا في النار بذنوبهم ولو لفترة وجيزة، قال تعالی: {وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ يُدۡخِلۡهُ نَارًا خَٰلِدٗا فِيهَا وَلَهُۥ عَذَابٞ مُّهِينٞ}(23)، وقال: {وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا}(24)، وقال في الربا: {وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(25)، ولكن الله يغفر لمن يشاء منهم قال تعالی: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ}(26)، وقد تكون المغفرة بعد العذاب لفترة ـ طويلة أو قصيرة ـ قال تعالی: {فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ لَهُمۡ فِيهَا زَفِيرٞ وَشَهِيقٌ ١٠٦ خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَۚ}(27).
فهو استثناء عن الخلود بأن يخرجهم الله تعالی من النار بعد أن يعذبوا فيها فترة، وهذا ما يظهر من الأخبار أيضاً.
السادس: قوله تعالی: {ٱلصَّٰبِرِينَ وَٱلصَّٰدِقِينَ...} الآية.
وهذا في أوصاف المتقين العملية، فقولهم بأنهم آمنوا يصاحب إلتزامهم العملی، فهم (صابرون) لأن الإيمان بحاجة إلی استقامة عليه، فكم من إنسان دخل في الإيمان طوعاً ثم لمّا رأی صعوبةً ارتدّ أو نافق.
وهم (صادقون) في قولهم هذا، بل صادقون في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم كلّها، ويتطابق قولهم مع قلوبهم.
وهم (قانتون) أي خاضعون لله فيطيعون أوامره وزواجره بلا تمرّد.
وهم (منفقون) لما أوجب الله عليهم من الحقوق المالية.
وهم يعبدون الله بعيداً عن الرياء ومن أجلی مصاديقه (الاستغفار في الأسحار)، حيث العبادة أشق وأبعد عن الرياء وأجمع للروع.
والحاصل أن هذه الصفات الخمس جامعة لصفات المتقين أجمع:
1- فالصبر نسبتهم مع الآخرين من الكفار والمنافقين والشياطين.
2- والصدق نسبتهم مع أنفسهم، فيتطابق قولهم مع نياتهم وأعمالهم.
3- والقنوت ـ أي الخضوع ـ نسبتهم مع ربّهم.
4- والإنفاق نسبتهم مع الفقراء والمحتاجين.
5- والمستغفرين بالأسحار نسبتهم مع ذنوبهم التي يطلبون الله تعالی بأن يتجاوز عنها.