الهلع والاكتئاب السوداوي سر الشقاء الإنساني

ان الانسان لفي خسر (2)

آية الله السيد مرتضى الشيرازي

2022-04-03 06:59

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)(1).

وقال جل اسمه: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ)(2).

والحديث يدور ضمن محورين: المحور الأخلاقي – التربوي والاجتماعي، والمحور الكلامي - الفلسفي:

الهلع: الخطر الذي يهدد الفرد والمجتمع

المحور الأول: المحور الأخلاقي - الاجتماعي على ضوء ما نستفيده من مفردة (هَلُوعاً) ذلك ان مفردة (الهلع) عميقة الغور متعددة الأبعاد لكن الذي يهمنا في هذا المقال الآن هو انها تسلط لنا الأضواء على أعظم خطر يتهدد سعادة الفرد وسعادة المجتمع.

أ- أما أعظم خطر يتهدد سعادة الفرد وسلامته النفسية والعقلية فهو (ان يكون في الملمّات جَزوعاً).

ب- وأما أعظم خطر يتهدد سعادة المجتمع فهو (ان يكون لدى الخيرات مَنوعاً).

وتجمع مفهومي كلتا هاتين المفردتين، مفردةُ (هَلُوعاً) ففيها نضع اليد على أهم سر يكمن وراء الشقاء الشخصي وأهم سبب يقبع خلف الداء الاجتماعي، فهما، بعبارة أخرى، أعظم مصدرين للخطر يتهددان حياة كل إنسان سواء أكان مسلماً أم مسيحياً أم بوذياً أم علمانياً أم كافراً، وهما: ان يكون المرء في الشدة ولدى الإعسار جزوعاً وفي الرخاء ولدى الوفرة منوعاً.

ولنتوقف قليلاً عند مفردة الجزوع في هذا المقال مرجئين البحث عن مفردة المنوع إلى المقال القادم بإذن الله تعالى، فنقول:

الجزع والاكتئاب السوداوي

إن الجزع يعني، بمصطلحات علم النفس، الاكتئاب السوداوي أو هو، وجه من وجوهه وثمرة من ثماره البشعة المرة، وقد عرّف بعض علماء النفس الاكتئاب السوداوي بانه (الاكتئاب الذي يصيب الفرد في حالة تعرضه إلى ظروف نفسية قاسية، مما تجعل الأفكار السلبية البائسة تسيطر على تفكيره، وفي هذه الحالة يشكّل هذا الشخص خطرا على نفسه وعلى أفراد أسرته أو من يعيش معه، وتظهر الكثير من العلامات على هذا الشخص التي يجب على من يعيش معه الانتباه لها وسرعة التوجه إلى طبيب نفسي لبدء العلاج الذي يبدأ في بعض الحالات بجلسات الكهرباء أو المهدئات بناء على حالة المريض).

والهلع في أحد وجهيه وهو الجزع يعني: نفاذ الصبر والقلق(3) والمعاناة من الاضطراب النفسي نتيجة الأفكار السوداء التي تهيمن على تفكير الإنسان والتي تنتج سلب قدرته على التكيّف مع مصاعب الحياة ومشاقها ورزاياها وبلاياها، ومن المعلوم ان الاكتئاب أصبح مرض العصر وان الاكتئاب هو المصدر الأول للكثير من أهم ظواهر العصر السلبية كالإدمان والانتحار وغير ذلك.

الإدمان كناتج عن الهلع والجزع

أولاً: الإدمان.. ان الدراسات العلمية والملاحظات الميدانية تكشف لنا عن ان الكثير جداً من الناس يلجأ إلى الإدمان كطريقة للتخلص من التوتر والقلق وكطريقة للهروب من مواجهة ضغوط الحياة والفشل الذي قد يمنى به المرء طوال مسيرة حياته المرهقة.. فقد يسقط في الامتحان في الجامعة فيلجأ، بتحريض من أصدقاء السوء خاصة، إلى الإدمان ليفرّ من مرارة الفشل.. وقد يفشل في حياته / حياتها الزوجية، أو يخسر ثروته في سوق الاسهم أو سوق العملات أو في تجارته العادية، وقد يبتلى بمرض عضال أو بعدو غاشم ومعتد ظالم فيلجأ إلى الإدمان كوسيلة للتخلص من الهلع الذي أصابه والجزع الذي أحدق به والألم الذي اعتصر قلبه وفؤاده.

أعداد المدمنين في العالم

والغريب، وليس بغريب، ان أعداد المدمنين على المخدرات بدأت ترتفع في العالم بشكل مضطرد، رغم مكافحة الحكومات لشبكات المهربين وتجريهما للمدمنين.. ففي 24 يونيو 2021 - ذكر تقرير المخدرات العالمي لعام 2021، الصادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، (أن حوالي 275 مليون شخص تعاطوا المخدرات في جميع أنحاء العالم في العام الماضي، في حين عانى أكثر من 36 مليون شخص من اضطرابات تعاطي المخدرات) وذلك كله رغم الأضرار الفادحة التي تنجم عن الإدمان على المخدرات والتي يكفي ان نستعرض منها الآن انه (على الصعيد العالمي، يقدر أن أكثر من 11 مليون شخص يتعاطون المخدرات بالحقن، نصفهم مصابون بالتهاب الكبد C. كما ولا يزال الأفيون مسؤولا عن أكبر عدد من الأمراض التي يؤدى إليها تعاطي المخدرات).

الانتحار كناتج عن الهلع والجزع

والانتحار هو الآخر يشكل ظاهرة خطيرة ومؤشراً بالغ الدلالة على عمق مشكلة الإنسان المعاصر الذي لخصته الآية الكريمة في كلمة واحدة (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً) فان السبب الأكبر والأساس الذي يدفع الناس إلى الانتحار هو الإحباط واليأس والجزع ونفاذ الصبر على مكاره الدهر وضعف النفس عن مواجهة تحديات الحياة.. وحسب الإحصاءات الرسمية فان أعداد المنتحرين في العالم تجاوزت عام 2021 سقف الثمانمائة ألف شخص! وهو رقم خطير حقاً إذ يعني معدل انتحار واحد يسجل في كل 40 ثانية!.

وإذا عرفنا الباعث الأساس الذي لـخّصته الآية الكريمة في كلمة واحدة (هَلُوعاً) والتي تعني (جزوعاً ومنوعاً) عرفنا من أين يجب ان تبدأ رحلة العلاج وذلك عبر إعادة تأهيل الإنسان ليعرف طبيعة الحياة التي يعيش فيها وكيفية مواجهتها.. فانها كما يقول الشاعر:

طُبِعَت عَلى كدرٍ وَأَنتَ تُريدُها-----صَفواً مِنَ الأَقذاءِ وَالأَكدارِ

وَمُكَلِّف الأَيامِ ضِدَّ طِباعِها-----مُتَطَّلِب في الماءِ جَذوة نارِ

فالحياة هي، في المنظور الواقعي، عبارة عن معسكر كبير، والمعسكر بطبيعته يعني تلك المنطقة المنعزلة المحاطة بالأسلاك الشائكة والتي تبتني على أنواع التمارين الشاقة والزحف على الصدر واليدين لمسافات طويلة وتسلق الصخور المدببة أو الملساء، عبور الأسلاك الشائكة، اختراق الأحراش الكثيفة، النوم في العراء والصحراء والتعايش القلِق مع الحر والبرد ومع الأجواء القاسية والنوم المتقطع والطعام الزهيد الخشن...

الحياة الدنيا معسكر مؤقت

ولو ان جندياً تطلع إلى حياة مرفهة في المعسكر، لكان مخطئاً مرتين: مرة حيث لم يفهم معنى معسكرات التدريب وأخرى حيث لم يؤهل نفسه ليتكيف مع التدريبات القاسية لذا تجده يصاب بالهلع والجزع كلما مر به تدريب شاق مرهق أو واجه موقفاً صعباً.. ولا شك ان نصيبه سيكون الفشل، عكس الجندي الآخر الذي عرف فلسفة المعسكرات فحاول أن يتكيف معها وان يتقبلها لا كأمر واقع فحسب بل كشرط ضروري للتطور والتكامل الجسدي والنفسي والعقلي. وليترقى من جندي إلى عريف ليصل إلى ملازم، ملازم أول، نقيب، رائد، مقدم، عقيد، عميد، لواء، فريق، ركن...

وهل يعقل بعد ذلك كله، فيمن نظر إلى الحياة بهذا المنظار الواقعي والحضاري في الوقت نفسه، ان يصاب بالهلع والجزع؟ أو ان يلجأ إلى المخدرات كمسكن لجراحاته أو إلى الانتحار كملجأ أخير يتخلص به من قساوة الحياة؟

المناهج الدراسية

ولقد كان من المفروض ان تتضمن المناهج الدراسية من الابتدائية حتى الجامعة، والدراسات الحوزوية أيضاً، بحوثاً مستفيضة عن الهلع بكلا جناحيه: الجزع والمنع، باعتباره أخطر ظاهرة تتهدد سعادة البشرية، وأن تنطلق من تشخيص هذه الظاهرة كأخطر مصدر مسؤول عن جرائم الانتحار والإدمان والأمراض النفسية والجلطة القلبية وغيرها، وان تضطلع على ضوء ذلك بتثقيف الأطفال والشباب والنساء والرجال على كيفية مكافحة (الهلع) ومعالجة الجزع منذ أولى لحظات بزوغه قبل ان يستحكم في النفوس ويتجذر في العقول إلى حدٍّ يستصعب معه إلى أبعد الحدود اقتلاعه.

كما كان من اللازم أيضاً ان يكون الحديث عن هذه الآية الكريمة والعلاج الذي استبطنته، محور أحاديث الخطباء والمربين والأساتذة وأولياء الأمور وغيرهم.

دلالات التوزيع القرآني لمفردتي الإنسان والبشر

المحور الثاني: المستوى الكلامي: فان التدبر في الآيات القرآنية يقودنا، وكما سبق، إلى ان العديد من الآيات الكريمة عندما تتحدث عن (الْإِنْسَانَ) فانها تتحدث عنه من زاوية نقاط ضعفه وتقوم بتحديد مكامن الخطر والضرر في شخصيته، قال تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) و(إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)(4) وأمثالها كثيرة.

ولكن، وفي المقابل، فان الكثير من الآيات الكريمة عندما تتحدث عن (البشر) فانها تتحدث عن الفرص الكبرى المتاحة أمام هذا الكائن وعن إيجابياته ونقاط قوته، فلاحظ مثلاً قوله تعالى: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ)(5) فقد عبّرت الآية الكريمة بالبشر ههنا ولم تعبّر بالإنسان؛ إذ كان الكلام عن ذلك الكائن المؤهل لأن تسجد له الملائكة وهو مقام سامٍ، راق ومتعال.

وفي آية أخرى نجده تعالى يقول: (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏ إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكينَ)(6) فهو (بشر) لكنه (يوحى إليه) ومناسبات الحكم والموضوع تقتضي ان تكون هناك علاقة بين انتخاب مفردة الإنسان إذا كان الحديث، غالباً، عن الخسران وعن كونه جزوعاً منوعاً كنوداً ظلوماً وجهولاً وأشباه ذلك، كما تقتضي ان تكون هناك علاقة بين انتخاب مفردة البشر ووصفه بانه يوحى إليه وأمر الملائكة بالسجود له، وفي آية كريمة أخرى (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكيمٌ)(7) فهذا البشر هو الذي يترقى إلى مرتبة يؤهل فيها إلى ان يكلمه الله تعالى وحياً، ولم يستخدم تعالى في هذا المقام مفردة الإنسان.. فلماذا ذلك كله؟

فقه اللغة في المفردتين

والجواب الذي سنطرحه مبتنٍ على استخدام منهجية فقه اللغة في تحليل مفردتي الإنسان والبشر، وعلى التدبر في هذه الآيات الكريمة ونظائرها، مما سنلقي عليه بعض الأضواء الآن على ان نكمل البحث في المقال القادم إضافة إلى اننا سنقوم لاحقاً بدراسة بعض الآيات الأخرى التي لم تتماش، في ظاهر النظر، مع القاعدة التي سنطرحها، والتي سنذكر وجه خروجها الظاهري عن القاعدة.. فتحلّ، أيها القارئ الكريم، بالصبر والتروّي وترقب تمام الكلام كي يتضح به مجمل المرام.. فنقول:

مادة البشر تستبطن الجوانب المشرقة في الإنسان

لعل السرّ في اختيار مفردة البشر في الآيات التي سلطت الأضواء على صفات الإنسان الإيجابية وفرص التكامل الكبرى المتاحة أمامه، هو ان مادة ب ـ ش ـ ر تتميز بخصوصية ذاتية تجعلها تمتلك السنخية الطبيعية لكي تكون محوراً ومادة وموضوعاً للفضائل والصفات والفرص الإيجابية دون غيرها.. ولنستعن لإدراك ذلك والإذعان به ببعض ما قاله أئمة اللغة:

ففي معجم مقاييس اللغة: (بشر، الباء والشين والراء أصلٌ واحد: ظهور الشَّيء مع حُسْنٍ وجمال فالبَشَرة ظاهِرُ جِلْد الإنسان، ومنه بَاشَرَ الرّجُلُ المرأةَ، وذلك إفضاؤه بِبَشَرتِه إلى بَشَرتها. وسُمِّىَ البَشَرُ بَشَرًا لظُهورِهمْ. والبَشِير الحَسَنُ الوَجْه.

والبَشَارة، الجَمَال. قال الأعشى:

ورَأتْ بأنَّ الشَّيْبَ جا-----نَبَهُ البَشَاشَةُ والبشَارَهْ(8)

ويقال بَشَّرْتُ فُلاناً أُبَشِّرُهُ تَبشيراً، وذلك يكون بالخَيْر، وربما حُمِل عليه غيرُه من الشّرّ، وأظن ذلك جنساً من التَّبكيت. فأمّا إذا أُطلِقَ الكلامُ إطلاقاً فالبِشارة بالخير والنِّذارةُ بغَيرهِ. يقال أبْشَرَتِ الأرضُ إذا أخرَجَت نَبَاتَها.

ويقال ما أَحسَنَ بَشَرَةَ الأرض...

وتَبَاشِير الصُّبحِ أَوَائلُهِ؛ وكذلك أوائِلُ كلِّ شيءٍ. ولا يكونُ منه فِعْل. والـمُبَشِّرَات الرِّياح التي تُبَشِّرُ بالغَيْثِ)(9).

وفي معجم الفروق اللغوية: (400 - الفرق بين البشر والناس: أنّ قولنا البشر يقتضي حسن الهيئة وذلك أنّه مشتق من البشارة وهي حسن الهيئة يقال رجل بشير وامرأة بشيرة إذا كان حسن الهيئة فسمّي الناس بشراً لأنّهم أحسن الحيوان هيئة)(10).

فقد استبطنت مفردة البشر الحسن والجمال ولذا ناسب ان يحمل عليه كل خير وان يوصف بكل فضيلة وان يُتحدث عن الجانب المشرق للإنسان الذي ترمز إليه مفردة البشر.

ومادة الإنسان تنمّ عن نسيان وذهول

وذلك كله على العكس من مفردة الإنسان التي اختلف في أصل اشتقاقها على قولين فقيل انه مشتق من نسي والنسيان وقيل انه مشتق من انس، فلنتحدث على ضوء كلا الرأيين:

أما الرأي الأول فهو ان الإنسان مشتق من مادة النسيان، قال أبو هلال العسكري في معجم الفروق اللغوية (والإنسان يقتضي مخالفته البهيمة فيذكرون أحدهما في مضادة الآخر ويدل على ذلك أن اشتقاق الإنسان من النسيان وأصله إنسيان فلهذا يصغّر فيقال أُنَيسان، والنسيان لا يكون إلا بعد العلم فسمي الإنسان إنساناً لأنه ينسى ما علمه، وسمّيت البهيمة بهيمة لأنها أبهمت على العلم والفهم ولا تعلم ولا تفهم فهي خلاف الإنسان)(11).

واشتقاق الإنسان من مادة النسيان والذي قد يبلغ أحياناً درجة الذهول يناسب ان يوصف بانه (لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) لأنه ينسى نِعم الله عليه وتواترها لديه وإحاطتها به إحاطة السوار بالمعصم، بمجرد ان يبتلى بسلب نعمة واحدة من بين الملايين من النعم التي تملأ عليه كيانه كله.. ولذا تجده بمجرد ان يصاب بالعمى مثلاً ينسى كافة نِعم الله تعالى من انه لا يزال عاقلاً، وهي أهم من كل النعم، شاعراً مدركاً، وانه لا يزال يمتلك ملايين النعم الأخرى في كافة أعضاء جسده ومفاصله وعظامه وعضلاته وأعصابه وخلاياه، وفي مجلسه ومقامه، وفي مأكله ومشربه وملبسه ومركبه، وفي نومه ويقظته، وفي مدخله ومخرجه، وفي نفسه وأهله وماله، وفي ليله ونهاره.. وهكذا (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحيمٌ)(12).

وحيث انه ينسى العقوبات الكبرى على المعاصي والآثام ناسب ان يخاطب بـ(وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)(13) كما تشهد به آيات أخرى أيضاً (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ)(14) وهو صريح قوله تعالى (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَليلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ)(15) وقوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)(16).

ولأنه ينسى ان الدهر بالإنسان دوّاري وان الشدة لا تدوم كما ان الرخاء لا يدوم لذا ناسب ان يخاطب بـ(إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) فهو يمنع الخير لأنه ينسى ان الله هو الذي منحه الخيرات كلها وانه الذي يطلب منه إرجاع بعضها، على ان ذلك البعض يعود إليه أيضاً! وهو يمنع الخير لأنه ينسى ان هذا العمر قصير وان هذه النعمة ستسلب منه وينسى ان (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(17).

وهو هلوع جزوع لأنه ينسى هذا الشر لا يدوم كذلك ولأنه ينسى انه كان لأجل الامتحان والابتلاء (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)(18) وهو ينسى (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) لذا وجب التنبيه عليه بـ(وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)

ولقد وصلنا إلى نهاية الدرس هذا اليوم ولـمّا يكتمل البحث.. وسنواصل الكلام في المقالات القادمة بإذن الله تعالى.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com

......................................
(1) سورة العصر: الآيات 1-3.
(2) سورة المعارج: الآيات 19-22.
(3) وقد يكون مقترناً بالحزن أو الضجر أو فعل غير الحق.
(4) سورة العاديات: الآية 6.
(5) سورة ص: الآيات 71-74.
(6) سورة فصلت: الآية 6.
(7) سورة الشورى: الآية 51.
(8) البيت فى ديوان الأعشى 113 واللسان (5: 128).
(9) ابن فارس، معجم مقائيس اللغة، منشورات مكتب التبليغ الإسلامي التابع للحوزة العلمية في قم المقدسة: ج1 ص251-252.
(10) أبو هلال العسكري، معجم الفروق اللغوية، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم المقدسة: ص101.
(11) المصدر: ص79-80.
(12) سورة النحل: الآية 18.
(13) سورة الأحزاب: الآية 72.
(14) سورة هود: الآية 9-10.
(15) سورة الزمر: الآية 8.
(16) سورة يس: الآية 77-79.
(17) سورة المؤمنون: الآية 100.
(18) سورة العنكبوت: الآية 1-3.

ذات صلة

مسؤولية الأمة تجاه النازحين واللاجئين اللبنانيينمسائل في مفهوم النقود وتوليدها وتنظيم البنك المركزي للسيولةالتربية في العصر الرقمي: واقع وليس خياراحيرة أميركا الآناعادة هندرة الهيئات المستقلّة في العراق