الفحشاء والمنكر والبغي كظواهر اجتماعية
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) (15)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2022-02-13 06:47
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(1).
البحث في مقاطع هذه الآية الكريمة تارةً يدور على المستوى الكلامي وأخرى على المستوى الفقهي وثالثة على المستوى الأخلاقي، ومن المقاطع التي يجب الحديث عنها على ضوء المستويات الثلاثة كلها قوله تعالى: (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ).
المستوى الكلامي والفقهي
ولكي يتضح كلا الوجهين الكلامي والفقهي للآية الشريفة، لا بد أن نتدبر في هذا المقطع وما هو المراد به:
أ- فهل المراد به (ما هو فحشاء ومنكر وبغي فهو منهي عنه)؟ أو بعبارة أخرى: (كل فحشاء ومنكر وبغي منهي عنه).
ب- أو المراد به عكسه وهو (كل منهي عنه فهو فحشاء ومنكر وبغي)؟ أو بعبارة أخرى: (ما هو منهي عنه فهو فحشاء ومنكر وبغي)؟
والاختلاف بينهما كبير، ويتضح ذلك بملاحظة الفرق بين قولك (من زارك علّمه) وبين (من علّمك زُرْه) أو قولك (كل بيضي بيضة) وقولك (كل بيضة بيضية) فالجملة الأخيرة صحيحة والتي قبلها غلط، والحاصل: ان (من زارك) يجعل المنطلق والمرتكز (من زارك) فعلّمه أو أكرمه أما (من علّمك) فيجعل المرتكز والمنطلق (من علّمك) فزره أو أكرمه.
فهل المرتكز والمنطلق في الآية الكريمة هو (المنكر والفحشاء...) والحكم عليه أو الإخبار عنه بانه منهي عنه، أو المرتكز والمنطلق هو (المنهي عنه...) والحكم عليه أو الإخبار عنه بانه منكر وفحشاء.. الخ.
أقول: من الظاهر لدى التدبر أن التفسير الأول هو الأصح وذلك لأن (ينهى) حُكمٌ صُبّ على (الفحشاء والمنكر والبغي) فالفحشاء والمنكر والبغي هي المتعلق وهي واقعاً الموضوع فتكون الجملة هكذا (الفحشاء والمنكر والبغي ينهى الله عنها) لا العكس، ويتضح ذلك بالمثال فان قوله تعالى: (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)(2) يعني (البيع أحله الله) لا العكس وهو (كل ما أحله الله فهو بيع) ويشهد له بداهة ان ما أحله الله قد يكون بيعاً أو إجارة أو صلحاً أو مزارعة أو غير ذلك.
وتظهر الثمرة في انه على التفسير الأول (الفحشاء والمنكر والبغي منهى عنها) فان الموضوع ينبغي ان يؤخذ من العرف العام باعتباره مرآة للواقع(3) أو فقل: عرف العقلاء بما هم عقلاء، فننتفع بذلك كقاعدة عامة على المستوى الفقهي إذ الموضوعات ملقاة إلى العرف فكلما ما رآه العرف العام (عرف العقلاء بما هم عقلاء) فحشاء أو منكراً أو بغياً فهو مردوع عنه شرعاً سواء أورد ردع عنه بعنوانه أم لا.
عكس ما لو كانت الجملة (كل منهي عنه فهو منكر وفحشاء وبغي) وذلك لأن النهي يؤخذ من الشارع وعلينا طرق بابه لنعلم ما هو المنهي عنه ولا يجوز لنا القياس وتعدية الحكم إلى أي شيء لم يرد فيه من الشارع النهي لأن الموضوع على هذا الأخير هو (المنهي عنه) فالمرجع فيه الشارع خاصة.
بعبارة أخرى: إن (كل منهي عنه فهو فحشاء أو منكر أو بغي) لا ينتج قضية كلية على مستوى العكس المستوي إذ الموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية لاحتمال كون التالي أعم من المقدم والمحمول أعم من الموضوع فلا تنتج هذه القضية كلية في العكس أي لا تنتج (كل فحشاء ومنكر وبغي فهو منهي عنه) إلا بدليل آخر، فتدبّر.
إضافة إلى ذلك: فان الجملة لو كان معناها المعنى الأول لأفادت كلامياً أيضاً، إذ لو كانت (كل فحشاء ومنكر وبغي فهو منهي عنه) أفادت تبعية الأحكام لمفاسد في المتعلقات أي ان النهي عنها تابع لكونها فحشاء أو منكراً أو بغياً؛ لأن تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعِلّية بل هو مفيد لكون الوصف هو وجه الحكمة في التشريع، بل نقول: انه يفيد كونه العِلّة بسبب ما احتف به من قرينة مقامية وذلك لأن قبح الفحشاء، وهو تجاوز الحد الإلهي أو حد حقوق الآخرين(4)، والمنكر الواقعي أو العرفي كمرآة للواقع، والبغي أي الفساد والظلم والعدوان، من المستقلات العقلية، بل حرمتها مما يحكم به العقل فيحكم به الشرع لقاعدة الملازمة الأولى (كلما حكم به العقل حكم به الشرع) بل ان الشرع قد حَكَمَ هنا فيكشف منه حكم العقل لقاعدة الملازمة الثانية (كلما حكم به الشرع حكم به العقل). فتأمل(5).
وأخيراً: قد يقال ان الجملة لو كان معناها المعنى الثاني لأفادت كلامياً أيضاً. فتدبّر وتأمل.
المستوى الفقهي – الأخلاقي التطبيقي
وأما على مستوى التطبيقات الفقهية فان هذا المقطع من الآية الشريفة يصلح دليلاً آخر (ربما جديداً) على حرمة المحرمات المعهودة كما يصلح دليلاً على حرمة بعض العناوين المشكوكة التي لم تجعل بعنوانها الخاص موضوعاً للحرمة.
الغيبة والكذب
أما الأول: فأمثلته كثيرة ومنها: (الغيبة) فانها بغي وظلم وفساد فتصلح الآية الكريمة دليلاً آخر على حرمتها إضافة إلى أدلتها الخاصة، و(الكذب) إذ قيل إنّ الآيات الكريمة لا تدل على حرمته على إطلاقه لكونها واردة في افتراء الكذب على الله تعالى، وقد فصّلنا الأدلة على حرمته مطلقاً في كتاب (الكذب ومستثنياته) والشاهد هنا: انّ هذا المقطع من الآية (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) يصلح شاهداً على حرمة الكذب مطلقاً لأنه منكر ولأنه فحشاء بناء على تفسيرها بـ(كل مستقبح من القول والفعل) كما في مجمع البحرين، دون ما إذا فسرت بـ(كل ما يشتد قبحه من الذنوب والمعاصي).
وأما الثاني: (صلاحية هذه الجملة من الآية الكريمة للاستدلال بها على حرمة بعض ما لم يرد في حرمته بعنوانه دليل خاص) فتفصيل الكلام فيه من الناحية الفقهية انه:
أولاً: يمكن ان يستدل بالنهي عن الفحشاء والمنكر الوارد صريحاً في الآية الشريفة على حرمة الأمور التالية:
لباس الشهرة
أ- لباس الشهرة كلما عدّ منكراً أو فحشاء، وقد يمثل له بما لو لبس أحد علماء الدين فرضاً ملابس بعض الرياضيين مما يعد منكراً عرفاً بالنظر إلى حاله كعالم دين والمنطقة التي تزّيى فيها بهذا الزي، كأن يأتي إلى المسجد فرضاً بملابس لاعبي كرة القدم، والمثال فرضي كما هو واضح، وكذلك لو لبس أحد التجار والوجهاء ملابس بعض الطباخين، لو كانت لهم أزياء خاصة وقت الطبخ، وجاء إلى السوق أو المتجر بهذا الزي من دون ضرورة داعية إلى ذلك، ولذا سمي بملابس الشهرة.
ب- لبس الملابس اللاصقة على الجسد بحيث تكشف تقاطيع جسد المرأة أو حجم العورة في الرجل، فانه حتى لو فرض صدق الستر والساتر عليه فرضاً، إلا انه لا شك في كونه منكراً بل وفحشاء، فيكون محرماً استناداً إلى هذه الآية الكريمة.
التقديس اللامحدود لغير المعصومين (عليهم السلام)
ج- التقديس اللامحدود لغير المعصومين عليهم صلوات المصلين والقول بعصمة العلماء أو الزهاد أو غيرهم(6)، فانه على مستوى العقل النظري منكر، وعلى مستوى العقل العملي منكر كذلك، فانه إذا منع ذلك عن النهي عن المنكر، فانه منكر، ونقصد بمنعه عن النهي عن المنكر ان المرء إذا شهد صدور محرم من أي شخصٍ كان فانه عليه، بحسب ضوابط وشروط النهي عن المنكر المذكورة في كتب الفقه، أن ينهاه عن المنكر، ولا يجوز له ان لا ينهى متذرعاً بان هذا الشخص قديس أو معصوم أو أعلى رتبةً مني فانه إذا ثبت ارتكابه، فرضاً، للمعصية وجب النهي عن المنكر، فإذا بنى الشخص على عصمة بعض من تسنّموا الصدارة في المجتمع واعتقد بذلك كان ذلك منكراً عقدياً، وإذا بنى على حرمة نهيه عن المنكر أو عدم وجوبه كان منكراً فقهياً، وإذا بنى عملياً على عدم نهيه كان منكراً عملياً.
ومن الواضح ان بحثنا بنحو القضية الحقيقية وانه خاص بصورة ثبوت إجتراحِ شخصٍ ما لمعصية ما، وأما ما يقوم به بعض المتطرفين من رشق هذا أو ذاك بالتهم أو سب هذا أو ذاك أو اغتياب هذا وذاك، فانه منكر في حد ذاته لجهات عديدة منها: انه يَحمِل على اسوأ المحامل مع اننا قد أُمرنا بالحمل على أحسن المعامل فقد ورد في الحديث ((ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ حَتَّى يَأْتِيَكَ مَا يَغْلِبُكَ مِنْهُ وَلَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ سُوءاً وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمِلًا))(7) ومن الثابت ان فعل المسلم يحمل على الصحة، إضافة إلى ان بعض الفقهاء كالشهيد الثاني ذهب إلى حرمة إساءة الظن بالناس، وعلى أي فانه لا شك في كونه، أي سوء الظن، رذيلة أخلاقية.
والحاصل: انه إذا ثبت صدور معصيةٍ ما من شخصٍ ما وجب نهيه عن المنكر حسب الضوابط الشرعية والتي منها انه لا يجوز التشهير به إذ انه نوع إشاعة للفاحشة، فهو منكر في حد ذاته بل هو فاحشة وبغي أيضاً، والغريب ان دأب بعض المتطرفين قد جرى على ذلك، وقد قال تعالى: (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) فإذا كذب أحدهم أو اغتاب فرضاً، وجب ردعه عن المنكر في الخلأ دون الملأ وإذا توقف على ردعه أمام شخص أو عدة أشخاص فرضاً جاز بهذا المقدار لا أكثر، وأما النهي والنقد والردع على مستوى الجرائد والمجلات والفضائيات فلا يجوز ان يقتحم فيه هذا وذاك بل انه متوقف على إجازة المرجع الجامع للشرائط وتشخيص أهل الحل والعقد والعقل والـحِجى لأنه شأن من الشؤون العامة كما فصّلنا إشتراط كلا الشرطين في كتاب (قولوا للناس حسناً ولا تسبّوا).
ثانياً: يمكن أن يستدل بالنهي عن (البغي) على حرمة الأمور التالية:
معاداة الرجال وتجاوز الحد
أ- معاداة الرجال بما يتجاوز الحد فانه بغي دون شك، إذ ((إِنَّمَا هُوَ سَبٌّ بِسَبٍّ أَوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ))(8) فإذا سبّك شخص جاز لك ان تسبه كما سبك ولا يجوز لك ان تزيد على ذلك كيفياً ولا كمّياً، فإذا سب سبة واحدة (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)(9) فلك الجواب بمسبة واحدة لا بمسبتين أو أكثر كما ان الجواب يتقدّر بنفس المستوى من الكيفية ولا تجوز الزيادة بتوجيه سباب أفظع وأشنع، عكس ما جرت عليه سيرة بعض الجاهلين إذ يقول:
أَلاَ لاَ يَجْهَلَـنَّ أَحَـدٌ عَلَيْنَـا-----فَنَجْهَـلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَـا
وإذا صفعك جاز لك ان تصفعه صفعة واحدة فقط وبنفس القوة أو الشدة، لا أكثر فإذا أوجبت صفعته الإحمرار لم يجز لك ان تصفعه بما يستلزم إحمراراً أشد أو يوجب زرقةً أو شبه ذلك، هذا مع قطع النظر عن رجحان العفو شرعاً لقوله تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)(10).
إغراء التجار بالجهل
ب- إغراء التاجر بالجهل، عبر إيصال معلومات كاذبة مضللة إليه عن رواج بضاعة في المستقبل القريب أو كساد أخرى، على عكس المعلومات المتوفرة لدى المخادع، وذلك بهدف أن يشتري التاجر البضاعة الكاسدة فيخسر، كأن يصور له ان قيمة الأجهزة الكهربائية سترتفع لأن الحكومة ستمنع استيرادها من الخارج فيقل العرض فترتفع الأسعار مع انه يعلم ان الأمر على العكس وان الحكومة ستفتح أبواب الاستيراد على مصراعيه فتنخفض قيمة الأجهزة، مما يدفع التاجر لاستنزاف رأسماله كله أو نصفه مثلاً في شراء تلك الأجهزة بغية الربح فيفاجأ بإنخفاض قيمتها بشدة موجهة له ضربة قاصمة، فان هذا بغي وفساد وظلم كما هو منكر دون شك وفحشاء وتجاوز عن الحد والحق العرفي وهو إغراء بالجهل فتشمله (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) كما تشمله أدلة الإضرار بالغير وإيذائه وغير ذلك فهو محرم دون ريب إلا أن الكلام في الحكم الوضعي وانه ضامن أو لا، وقد ذهب السيد الوالد (قدس سره) صناعياً إلى الضمان لأنه غارَّ ومُضارٌّ ولغير ذلك، أما الفتوى فأمر آخر.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين