الحوار المنطقي لا السّب
من كتاب خواطري عن القرآن
الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي
2019-06-02 04:42
(ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله، فيسبوا الله عدواً بغير علم).
سورة الأنعام: الآية 108
يا أيها المؤمنون!
(لا تسبوا) الآلهة المزعومة (الذين يدعون من دون الله)، رغم أن الإسلام جاء لتحرير الإنسان من أساطير الآلهة المزعومة، وتوجيهه إلى الإله الواحد. ولا تسبوا الأصنام، رغم أن أسمى جهاد المسلم هو تحطيم الأصنام.
فأنتم مدعوون إلى: تسفيه الآلهة، وتحطيم الأصنام. ولكن لا تسبوها، لأن:
1ـ السب تنفيس عاطفي، وليس عملاً يحقق هدفاً. والإسلام لا يريد المسلم عاطفياً، يجيش، فيبحث عن منفس يفرغ به عاطفة الكراهة التي تغلي في صدره، ثم يتصور أنه قد أدّى رسالته، دون أن يكون قد عمل شيئاً. بل على العكس، أسفّ إلى مستوى الرعاع.
وإليك – بهذا الصدد – الرواية التالية:
((خرج (حجر بن عدي) و (عمرو بن الحمق) يظهران البراءة من (أهل الشام)، فأرسل علي (ع) إليهما أن: (كفّا عما يبلغني عنكما). فأتياه، فقالا: (يا أمير المؤمنين! ألسنا محقّين)؟! قال: (بلى). قالا: (فلم منعتنا من شتمهم)؟ قال: (كرهت – لكم – أن تكونوا لعّانين شتامين، تشتمون وتبرأون. ولكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم فقلتم: من سيرتهم كذا.. وكذا.. ومن أعمالهم كذا.. وكذا..، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر. و[لو] قلتم – مكان لعنكم إياهم، وبراءتكم منهم –: اللهم! احقن دماءهم ودماءنا، وأصلح ذات بينهم وبيننا، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق – منهم – من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان – منهم – من لجّ به، لكان أحب إليّ، وخيراً لكم). فقالا: (يا أمير المؤمنين! نقبل عظتك، ونتأدب بأدبك)). (بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج32 /399).
فالإسلام يكره للمسلم، ويكره الإمام لأصحابه، أن يكونوا سبابين يلخصون رسالاتهم في ألفاظ نابية يقذفونها في الفراغ، وهم يحسبون أنهم أنجزوا كثيراً، لأنهم قالوا ما لم يقله غيرهم، أو ما لا يجرؤ عليه غيرهم.
2ـ السب، بطبيعة كونه تنفيساً عاطفياً، يخفف من زخم الاندفاع: فالذي لا يسب، يندفع بدافع العاطفة وبدافع الفكر في اتجاه هدفه. والذي يسب، يفرغ بالسباب طاقته العاطفية، فلا يبقى لديه من وقود يحركه نحو هدفه سوى الفكر، والفكر بدون العاطفة أضعف من الفكر مع العاطفة، فالسباب يستهلك من وقوده دون أن ينجز شيئاً.
3ـ السب وإن وجه إلى الأصنام – التي تستحق أكثر من السب -، إلا أن عدواه يسريه إلى غيره. فإن الإنسان إذا اعتاد عملاً مكرساً في ا تجاه، فسرعان ما يحل الغضب رباط تكريسه، فيعدو به إلى غير ذلك. ومع تواتر الأحداث المثيرة، يصبح سبّاباً، يسب كل شيء.. وكل أحد.. والإسلام يربأ بالمسلم عنه.
4ـ السب – بطبيعة كونه تنفيساً عاطفياً – يؤدي إلى رد فعل معاكس من الطرف الآخر، من باب المقابلة بالمثل. وهذا.. غير صحيح لسببين:
الأول: أن تعريض المؤمن مقدساته لإهانات الكفار، من أجل التنفيس عن غيظه، إسفاف بها. وعلى المؤمن أن يبرر كظم غيظه بصيانة مقدساته، لا أن يبرر تعريضها للإهانة بالتنفيس عن غيظه:
(فيسبوا لله عدواً) بمرض العدوى، (بغير علم) بما يجرون على أنفسهم من سب الله.
الثاني: أن المعارك الكلامية تهدر النشاطات التي لا بد من استثمارها في معارك عملية، لأنها الفاصلة، وأما المعارك الكلامية فملهاة – أو منساة – تجهض المعارك العملية الهادفة.
وإذا كان القرآن ينهى عن المعركة ضد الآلهة المزعومة، حتى عن أقل المعركة الكلامية الذي هو السب، اتقاء أن يؤدي – بأسلوب رد الفعل – إلى تطاول الكفار على الله، فكيف يمكن القضاء على الآلهة ا لمزعومة؟
إن محاربة الآلهة المزعومة، أو أي هدف آخر، تكون بطريقتين:
الطريقة الأولى: طريقة المجابهة. وهذه.. طريقة تقليدية، قد تستخدم حتى في المعارك الساخنة. حيث يصطف الجانبان المتحاربان، ويتلاحمان وجهاً، ويقدمان الضحايا بسخاء، حتى ينتصر جانب على جانب.
الطريقة الثانية: طريقة الالتفاف. وهذه.. طريقة أحدث من تلك، وكثيراً ما تستخدم في المعارك الساخنة أيضاً. حيث يخلي جانب موقعه، ويتحول إلى موقع مجهول، حتى إذا زحف الجانب الآخر زاعماً أن خصمه اندحر، طلع ا لجانب الأول من موقعه المجهول، والتلف حول خصمه، وأحكم عليه الحصار بحيث لا يجد إلا الاستسلام.
وكما في المعارك العسكرية، كذلك في المعارك الفكرية: فقد يبدأ المناقش بنقطة ارتكاز الطرف الآخر، فيسخفها بحيث يثير عناده، ثم يظل يبادله الحجة حتى تنفذ حججهما، فيتراشقان بألفاظ حادة تعمق الشقة بينهما، وهذا.. أسلوب يؤدي إلى تعنيد الطرف الآخر.
وربما يتجاهل المناقش نقطة ارتكاز الطرف الآخر، ويبدأ الحديث من موقع يجهل الطرف هدفه فيتجاوب معه، ويسير معه خطوة.. خطوة.. نحو نقطة ارتكازه، ويرتب المقدمات التي تنتج بطلان نقطة ارتكازه، ويقف المناقش عند هذا الحد ليقول الطرف الآخر خلاف نقطة ارتكازه.
وهذا الأسلوب هو أسلوب التوجيه غير المباشر، الذي ينتج وبلا شجار.
وإلى هذا.. يوجه القرآن حيث يمنع عن سب الآلهة المزعومة، فيريد من المسلمين أن يرتبوا – في حوارهم مع الكفار – كل المقدمات التي تنتهي بإثبات زيف الآلهة المصنوعة، وتركهم يستنتجون زيفها، بل وتركهم يحاربونها ويحطمونها.