الاهتداء إلى سُبُل السَّلام والصراط المستقيم

وَيَهْديهِمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقيمٍ (11)

آية الله السيد مرتضى الشيرازي

2019-05-07 08:30

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبينٌ * يَهْدي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْديهِمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقيمٍ)(1)

هذه الآية الكريمة يجب ان يعدّها كل كسلم إمامه كما عليه ان يجعلها أمامه، وان يتخذها منهجاً لحياته ومرشداً له ودليلاً بل وقائداً في شتى الميادين والحقول ومختلف الأبعاد والجهات، ذلك انها سبيل الفلاح ومفتاح النجاح وطريق السعادة في الدنيا قبل الآخرة.

وسيقع البحث في فصلين:

الفصل الأول: إضاءات وبصائر في الآية القرآنية الكريمة، والفصل الثاني: كيف نتّبع رضوان الله تعالى لنكون من المهتدين إلى سُبُل السَّلام وإلى صراط مستقيم؟

الفصل الأول: بصائر في آية (سُبُلَ السَّلامِ)

وفي هذه الآية الكريمة الكثير جداً مما يستدعي التوقف عنده والتدبر والتبصر والتفكير والتزود والاستضائة، وسنشير ههنا إلى بعضها إشارة فقط، وعلى الطلبة الكرام التفكير الجاد المتواصل في كل بندٍ بندٍ، وكل سؤال سؤال:

كيف نهتدي إلى الصراط الإلهي المستقيم؟

الأولى: ان هذه الآية الكريمة تشكل إجابة على شبهة معروفة في الجبر، كما تشكل إيضاحاً لآية قرآنية كريمة يجب على كل مسلم ان يقرأها يومياً عشر مرات على الأقل: اما الآية الشريفة فهي قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقيمَ)(2) فكيف نهتدي إلى الصراط المستقيم؟ ان آية (سُبُلَ السَّلامِ) تمنحنا الإجابة الشافية الوافية فاننا إذا أردنا الاهتداء إلى الصراط المستقيم فما علينا إلا إتباع النور والكتاب المبين الذي أنزله الله تعالى على النبي المصطفى محمد صلى الله عليه واله وسلم إذ (يَهْدي بِهِ اللَّهُ) أي بذلك الكتاب المبين وبذلك النور يهدي الله تعالى (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) و(إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقيمٍ) فهنا شرطان لكي يهدينا الله إلى الصراط المستقيم: الأول على صعيد العقل النظري وهو الاستضاءة والاسترشاد بالنور والكتاب المبين، والثاني على صعيد العقل العملي وهو الإتباع الفعلي لما يرضي الله سبحانه وتعالى.

الجواب عن شبهة الجبر

واما الشبهة فهي: انه جل اسمه يقول في آية أخرى (إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدي مَنْ تَشاءُ...)(3) فإذا كان الله يهدي من يشاء ويُضِلُّ من يشاء فنحن مجبورون؟ ولا يستحق حينئذٍ المهتدي والمطيع الثناء والثواب ولا العاصي والطاغي اللوم والعقاب، وانه لذلك نطلب منه ان يتدخل غيبياً – تكوينياً – قسرياً لكي نهتدي إلى الصراط المستقيم إذ ندعوه قائلين (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقيمَ)؟.

ان آية (سُبُلَ السَّلامِ) تمنح الإجابة الشافية على هذا السؤال والإشكال، وهو ان تعلق مشيئة الله بهداية هذا أو ذاك مشروطة بإرادة العبد واختياره لطريق الهداية وسيره فيه إذ يقول تعالى (يَهْدي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) فإذا اتبعت رضوان الله وتحريت مرضاته فانه تعالى يشاء حينئذٍ هدايتك إلى سبل السلام ويخرجك من الظلمات إلى النور ويهديك إلى صراط مستقيم، فيكون جل اسمه بسعيك من جهة وبدعائك (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقيمَ) من جهة أخرى، متكفلاً بهدايتك حينئذٍ مستجيباً لدعائك، ولكن بعد ان تكون قد اخترت(4) بنفسك ان تسير في الطريق الذي أحبّ وأراد وأمر وحكم.

ما هو النور؟ وما فرقه عن القرآن الكريم؟

الثانية: ان الكتاب المبين هو غير النور في الآية (وإن كان نوراً في حد ذاته) إذ الأصل في العطف هو عطف المباين على المباين لا عطف البيان فما هو النور الذي جاء من الله تعالى مع الكتاب المبين؟ انه بصريح بعض الروايات (أسد الله الغالب علي بن أبي طالب) وبوجه أجمع هو النبي صلى الله عليه واله وسلم والأئمة عليهم السلام.

فقد جاء في تفسير القمي حسبما نقل عنه تفسير الصافي (والقمي قال: يعني بالنور أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام)(5) ولقد جاء الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم وبيده هذان الثقلان، ولو شك عامي أو خاصي في ذلك فان أوضح دليل يؤكد هذا التفسير هو حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين ((إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ وَ عِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي))(6) فانه مطابق لمضمون الآية الشريفة!

معنى الهداية والرضوان

الثالثة: ان الهداية في قوله تعالى (يَهْدي بِهِ اللَّهُ) قد يراد بها الهداية التكوينية بإفاضة الألطاف الخفية والجلية، وقد يراد بها الهداية التشريعية بالموعظة والإرشاد والتذكير والبيان والأمر والنهي وما إلى ذلك.

الرابعة: ان (الرضوان) غير (الرضا) وقد استعمل القرآن الكريم هذا تارة، وذاك تارة أخرى، فقد قال تعالى: (وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ)(7) وقال: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)(8) والمطلوب هو تحري رضوان الله وإتباعه، والرضوان درجة فوق الرضا فتدبر!

وكيف نتّبع رضوانه تعالى وما آثاره؟

الخامسة: ان إتباع رضوان الله تعالى يكون باجتناب المعاصي كافة وفعل الطاعات كافة وبالتحلي بمكارم الأخلاق كافة واجتناب رذائلها كافة، وبالعدل والإحسان وبقضاء حوائج الإخوان، وبالهداية والإرشاد ونشر علوم القرآن والرسول وأهل البيت عليهم السلام بين العباد.

السادسة: ان الآثار التي تترتب على ذلك حسب الآية الشريفة هي ثلاثة فان الله تعالى يهدي من أتبع رضوانه إلى سبل السلام أولاً ويخرجهم من الظلمات إلى النور ثانياً ويهديهم إلى صراط مستقيم ثالثاً، واما البحث عن الفوارق بين هذه الثلاثة فسيأتي في بحث آخر بإذن الله تعالى.

السابعة: ان (السبل) جمع، والغريب ان (الصراط) جاء في القرآن بصيغة المفرد دائماً كما قوله تعالى (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقيمَ) و(يَهْديهِمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقيمٍ) ولكن السبيل تارة جاءت جمعاً كهذه الآية وأخرى جاءت مفردة كـ(وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبيلِ الْمُؤْمِنينَ)(9) فما هو السبب؟

معنى السلام

الثامنة: ان (السَّلام) يحتمل ان يراد به الله تعالى إذ ان من أسمائه السلام (هُوَ اللَّهُ الَّذي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ)(10) فـ(سُبُلَ السَّلامِ) تعني سبل الله تعالى، ويحتمل ان يراد به (السلامة) من الآفات والعيوب والنواقص والأخطار الدنيوية والاخروية، والمستظهر انه لا مانعة جمع بين المعنيين إما لإرادة الجامع العنواني، أو لأن أحدهما يستلزم الآخر فأريد أحدهما مطابقة والآخر التزاماً، أو لصحة استعمال اللفظ في أكثر من معنى – على ما اخترناه – والأوسط هو الأقوى. فتأمل وتدبّر.

النور والإخراج والإذن

التاسعة: ان (النُّورِ) واحد اما الظلمات فكثيرة قال تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فيها خالِدُونَ)(11).

العاشرة: ان (الاخراج) في (يُخْرِجُهُمْ) كـ(يَهْديهِمْ) تكويني وتشريعي، كما انه على درجات بحسب درجات إتباع الرضوان، وهذه الدرجات لا متناهية بنحو اللاتناهي اللايقفي.

الحادية عشرة: ان المراد من (بِإِذْنِهِ) هو: بلطفه التكويني.

المراد بـ(صِراطٍ مُسْتَقيمٍ)

الثانية عشرة: ان (صِراطٍ مُسْتَقيمٍ) قد يراد بها المرتبة العالية جداً من الهداية وقد يؤيده قوله تعالى عن النبي إبراهيم علیه السلام (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقيمٍ)(12) فقد جاءت (هَداهُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقيمٍ) بعد (اجْتَباهُ) مع ان الاجتباء الإلهي مرتبة عظيمة جداً لا يصل إليها إلا قمّةُ قمّةِ القمّةِ من البشرية، ونحن عندما ندعو في كل صلاة وغيرها بـ(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقيمَ) فان طلبنا ينبغي ان ينصبّ على المرتبة العالية من الهداية بل أعلى درجاتها التي يمكننا حسب سعتنا الوجودية ان نصل إليها! كما ينبغي ان ينصبّ طلبنا على جهات أخرى ذكرناها في كتاب (أهدنا الصراط المستقيم).

الثالثة عشرة: ان الإخبار قد يراد به الإنشاء، وقد يستلزمه، وقد يكون بقوته أو أقوى، ولعل قوله تعالى (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) من الثالث أو الثاني بل والأول، فتأمل وتدبر(13) والله الهادي العالم الناصر المعين الولي الحميد السميع الدعاء.

الرابعة عشر: ان (الصراط) صراطان: صراط في الدنيا وصراط في الآخرة، وكلاهما مما نحتاج فيه إلى هداية الله تعالى وكلاهما مما يهدينا الله تعالى إليه لو اتبعنا رضوانه(14).

مثلث السعادة الأعظم

الفصل الثاني: انه كما سبق فان الذين يتبعون رضوان الله تعالى هم الذين يهديهم الله تعالى سبل السلام وهم الذين يخرجهم الله تعالى من الظلمات إلى النور وهم الذين يهديهم إلى الصراط المستقيم، ولكن يبقى السؤال المصيري – المفتاحي – الأكبر وهو انه كيف نتبع رضوان الله تعالى؟

والإجابة على هذا السؤال الكبير هي ان إتباع رضوان الله يكون عبر مثلث السعادة الأعظم: تهذيب الأنفس وتزكيتها، تعلم علوم الكتاب والعترة وتعليمها، العطاء بلا حدود والعمل الصالح بدون قيود:

1- تهذيب الأنفس وتزكيتها

أولاً: تهذيب الأنفس، فان النفس هي أخطر الأعداء على منجزات الإنسان وأعماله الصالحة، فان الحقد والحسد والغرور والعجب والرياء والتكبر تفسد أكبر الإنجازات وتحبط أعظم الأعمال الصالحة وتهبط بالإنسان من قمم الإنسانية إلى حضيض البهيمية، وهي التي تحوِّل العلم من (قيمة عليا) إلى (ضد القيمة) ذلك ان العلم سلاح ذو حدين فانه وسام شرف للصالحين وفخر ومجد للأولياء، وهو في مقابل ذلك قنبلة ذرية وصواريخ نووية وأسلحة كيمياوية بيد أولئك الذين غلبت عليهم شقوتهم واستحكمت فيهم شهواتهم وجمحت بهم أنفسهم (وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوينَ * وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(15).

ورجل الدين خاصة، كسائر الناس عامة، عليه ان يولي تزكية النفس وتهذيبها من الرذائل الخلقية، كالحسد والكبر والعجب والرياء والسمعة، وحبّ الشهوة والمال والجمال والرياسة، الأولوية القصوى كي تكون لعلومه القيمة عند الله تعالى وكي يبلغ به سبل السلام (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ)(16).

التقوى والأخلاق الفاضلة فرّارة

ولكن المشكلة في الأخلاق الفاضلة والفضيلة والتقوى مشكلتان: الأولى انها (فرّارة) لذلك تجد ان البعض قد يدخل الحوزة العلمية بصفاء نفسي كبير وبروح إيمانية خاشعة، لكنه بمرور الزمن وبمعاشرة بعض الناس ممن يتخذون الغيبة منهجاً (وقد ورد انه علیه السلام: ((قَالَ لِرَجُلٍ اغْتَابَ عِنْدَهُ رَجُلًا: يَا هَذَا كُفَّ عَنِ الْغِيبَةِ فَإِنَّهَا إِدَامُ كِلَابِ النَّارِ))(17) وممن يتخذون النميمة والتهمة سبيلاً والتباغض والتحاسد والتفاخر والتعالي ديدنا، تراهم يتحولون – لا سمح الله شيئاً فشيئاً، وإذا بإيمانه – لا سمح الله مرة أخرى – يذوب شيئاً فشيئاً، بل يتحوّل قلبه إلى قطعة من الحجر، فبعد ان كان يستشعر لذة العبادة في منتصف الليل ويذهب إلى الحرم الشريف أو إلى المساجد بكل خشوع وخضوع وبخلوص نية وصفاء طوية، تراه يفتقد لذة العبادة حتى في صلاة الصبح، بل قد تراه يتهاون في صلاته فلا يصليها في أول أقواتها بل قد ترى بعضهم يصلي كما قال الرسول صلى الله عليه واله وسلم ((عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَقَامَ يُصَلِّي فَلَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهُ وَلَا سُجُودَهُ فَقَالَ صلى الله عليه واله وسلم نَقَرَ كَنَقْرِ الْغُرَابِ لَئِنْ مَاتَ هَذَا وَهَكَذَا صَلَاتُهُ لَيَمُوتَنَّ عَلَى غَيْرِ دِينِي))(18) أو تراه في صلاته يشرّق ذهنه ويغرّب منقاداً لإغواء الشيطان المسمى بـ(خنزب) الموكل بخصوص الصلاة ليفسد على المؤمن حضور قلبه!.

ولا يوجد ترمومتر ظاهري لقياس التقوى والفضائل!

والمشكلة الثانية: ان المعنويات والروحانيات، لا تمتلك (ترمو متراً) حسّياً ظاهراً لقياس مدى التطور الذي حظيت به أو التدهور الذي مُنيت به، كي يقيس الإنسان كل يوم (درجة تقواه وأخلاقه) كي يعرف أين هو بالضبط في مسيرة سبل السلام الإلهية؟، وذلك عكس الدراسة فان لها مقياساً واضحاً وهو عدد الصفحات التي دُرِست أمس ثم اليوم وبعدها غداً فبذلك يعرف بوضوح مدى تقدم الإنسان على امتداد الأيام.

والبديل ترمومتر البرهان الإنّي

ولكن التقوى والفضائل ليست – عادة – كذلك، وعليه فلا بد من البحث عن بديل أي عن ترمومتر ظاهر، والذي يمكن ان نطرحه كبديل عن الترموتر الكاشف لحقيقة الشيء نفسه، هو الترمومتر الذي يعتمد على معادلة البرهان الإني والآثار أو الكواشف، فمثلاً كان السيد الوالد يقول: ان الإنسان إذا تذكر الموت والقبر كل يوم خمس مرات، بعد كل صلاة مرة، فانه سيزهد في الدنيا أيّ زهد وسيبتعد عن معصية الله تعالى أيّ ابتعاد!، فكيف لو استحضر الموت أمامه دائماً! فهذا مقياس واضح كميّ فانه نوع من ترمومتر التقوى والفضائل: هل تفكر في الموت كل يوم مرة؟ أو خمس مرات بعد كل صلاة؟ أو عند كل كلمة تريد ان تقولها إذ (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقيبٌ عَتيدٌ)(19) أو عند كل نظرة في الشارع أو السوق أو التلفاز أو الانستغرام أو غير ذلك؟

لنتذكر الموت يومياً خمس مرات بعد كل صلاة

ولكي يتجسد الإنسان (الموت) وهو المصير الحتمي لكل واحد منا، فان من الضروري ان يزور الإنسان المقابر كل يوم أو كل جمعة على الأقل، وأيضاً من المجربات ان الحضور عند دفن الميت ومشاهدته وهو يوضع في لحده ثم إهالة التراب عليه شيئاً فشيئاً ثم إغلاق القبر بإحكام عليه، كل ذلك مما يهز ضمير الإنسان بقوة، وسيطبع في ذهن الإنسان صورة قوية لا تفارقه أصلاً لو قلّب النظر إليها بإتقان واعتبار، وستكون الحاجز من المعصية كلما وسوس إليه الشيطان ليكذب أو يغتاب أو يرتشي أو يسرق أو ينظر نظرة محرمة أو شبه ذلك.

ولنحضر حين دفن الأموات في ظلمات اللحد

وقد حضرتُ شخصياً دفن أحد الأرحام وأطلتُ النظر في عملية الدفن وإهالة التراب عليه ثم بناء اللحد والقبر بإحكام فوقه، وتخيّلت لو انني كنت مكانه، وانني فرضاً لم أكن ميتاً حقاً بل كانت جلطةً وموتاً ظاهرياً لساعات كما حدث للطبرسي مثلاً، ثم دفنوني في هذا القبر الضيق الموحش المظلم، تخيّلت نفسي وانا استيقظ في القبر وإذا بي أرى الكفن يعتصرني بقوة وأفاجئ بالظلام الرهيب وبضيق المكان المظلم.. ثم أحاول دفع سقف القبر فلا يتزحزح قيد أنملة (وكنت قبلها لبساطتي أتصور انه لعله يمكن زحزحة سقف القبر والخروج ولكنني فوجئت إذ رأيتهم يضعون ألواحاً سميكة صخرية – أو مرمرية – محكمة قوية فوق القبر ويضعون فوقها وتحتها جدائل حديدية ملوية تدخل في جانبي القبر – المعدّ سلفاً لذلك – بعمق وقوة، ثم يصبون الاسمنت المسلح القوي على ذلك كله بحيث يستحيل للبطل العملاق ان يزحزحه بعد جفافه وصلابته فكيف بالإنسان الضعيف! فكرت في نفسي انني لو كنت في هذا الموقع الموحش الرهيب فأية وحشة كانت ستتملكني حينئذٍ؟ وكم كنت سأبقى في حالة الرعب هذه إلى أن أموت من الخوف واليأس والجوع والعطش؟

ان تخيل أمثال هذه الحقيقة بل ومشاهدتها لمما يعين طالب العلم وكل إنسان على هذه النفس الامارة بالسوء ومما يسهل للإنسان إتباع رضوان الله والوصول ثمت إلى سبل السلام بإذن الله تعالى.

وكذلك حال الصفات النفسية من تواضع وحسن خلق وصبر وسعة صدر وبرّ وإحسان فان الإنسان لو وضع لنفسه مقياساً يقيس به صفاته النفسية كل يوم، لأحرز حينئذٍ تطوراً كبيراً إلى أبعد الحدود في أبعاد تهذيب النفس.. فمثلاً: يراقب عدد ابتساماته التي وزعها على زملائه وتلامذته وأساتذته كلما ازداد علماً أو مالاً أو جاهاً أو غير ذلك.

لماذا تجنّب المرجع الشيرازي صلاة الجماعة؟

وفي القضية التالية أكبر عبرة فقد نقل عن المرجع الورع التقي آية الله العظمى الميرزا عبد الهادي الشيرازي قدس الله نفسه انه عندما سمع بنبأ وفاة السيد آية الله العظمى الميرزا مهدي الشيرازي، قرّر الذهاب من النجف إلى كربلاء للمشاركة في تشييعه، وفي منتصف الطريق بين النجف وكربلاء نزل في بعض المضايف، وعندما حان وقت الصلاة اجتمع خلق كثير، من أهل المنطقة ومن الزوار، خارج المضيف للصلاة خلف المرجع الكبير، وعندما طلبوا منه ان يصلي جماعة قال سأصلي هنا داخل المضيف لكنهم أصروا عليه قائلين ان الناس بأجمعهم ينتظرونكم.. ولما أصروا عليه وافق، ولكنه عندما خرج فوجئ بالجموع الكبيرة التي كانت تنتظره بكل تشوق وحب ولهفة، نَظَر السيد إلى الجموع وتأمل قليلاً ثم رجع وقال لا أصلي جماعة بالناس! اختاروا أحداً غيري! وكلما اصروا عليه رفض! وبعد ذلك عندما ألحوا عليه بالسؤال عن السبب قال انني عندما خرجت وشاهدت الجموع الكبيرة أحسست في نفسي ببعض الاضطراب وحدثت لدي شبهة السمعة والرياء حينئذٍ.. فرجعت إلى المضيف هرباً من كيد إبليس!.. نعم هكذا العلماء الأبرار يخافون حتى من شبهة الرياء أو السمعة أو العجب! ولذلك حظي برضوان الله جل اسمه وجعلهم الله تعالى منائر نور في الحوزات العلمية.. أفلا يجدر بكل واحد منا ان يكون كذلك؟

من طرق تهذيب الأنفس المواظبة على صلاة الجماعة

ومن أهم طرق تهذيب الأنفس المواظبة على صلاة الجماعة خاصة في المساجد وقد ورد في فضلها العجب العجاب فقد ورد انه ((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم أَتَانِي جَبْرَئِيلُ مَعَ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَبِّكَ يُقْرِؤُكَ السَّلَامَ وَأَهْدَى إِلَيْكَ هَدِيَّتَيْنِ لَمْ يُهْدِهِمَا إِلَى نَبِيٍّ قَبْلَكَ!

قُلْتُ: مَا الْهَدِيَّتَانِ؟

قَالَ: الْوَتْرُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ وَالصَّلَاةُ الْخَمْسُ فِي جَمَاعَةٍ

قُلْتُ: يَا جَبْرَئِيلُ وَمَا لِأُمَّتِي فِي الْجَمَاعَةِ؟

قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِذَا كَانَا اثْنَيْنِ كَتَبَ اللَّهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِكُلِّ رَكْعَةٍ مِائَةً وَخَمْسِينَ صَلَاةً

وَإِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً كَتَبَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ بِكُلِّ رَكْعَةٍ سِتَّمِائَةِ صَلَاةٍ

وَإِذَا كَانُوا أَرْبَعَةً كَتَبَ اللَّهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِكُلِّ رَكْعَةٍ أَلْفاً وَمِائَتَيْ صَلَاةٍ

وَإِذَا كَانُوا خَمْسَةً كَتَبَ اللَّهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِكُلِّ رَكْعَةٍ أَلْفَيْنِ وَأَرْبَعَمِائَةِ صَلَاةٍ

وَإِذَا كَانُوا سِتَّةً كَتَبَ اللَّهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِكُلِّ رَكْعَةٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَثَمَانَمِائَةِ صَلَاةٍ

وَإِذَا كَانُوا سَبْعَةً كَتَبَ اللَّهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِكُلِّ رَكْعَةٍ تِسْعَةَ آلَافٍ وَسِتَّمِائَةِ صَلَاةٍ

وَإِذَا كَانُوا ثَمَانِيَةً كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ أَلْفاً وَمِائَتَيْ صَلَاةٍ

وَإِذَا كَانُوا تِسْعَةً كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِكُلِّ رَكْعَةٍ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ أَلْفاً وَأَرْبَعَمِائَةِ صَلَاةٍ

وَإِذَا كَانُوا عَشَرَةً كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى لِكُلِّ وَاحِدٍ بِكُلِّ رَكْعَةٍ سَبْعِينَ أَلْفاً وَأَلْفَيْنِ وَثَمَانَمِائَةِ صَلَاة

فَإِنْ زَادُوا عَلَى الْعَشَرَةِ فَلَوْ صَارَتْ بِحَارُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلُّهَا مِدَاداً وَالْأَشْجَارُ أَقْلَاماً وَالثَّقَلَانِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ كُتَّاباً لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَكْتُبُوا ثَوَابَ رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ!

يَا مُحَمَّدُ تَكْبِيرَةٌ يُدْرِكُهَا الْمُؤْمِنُ مَعَ الْإِمَامِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ سِتِّينَ أَلْفَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَخَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا سَبْعِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ...))(20).

بل ان فضل الجماعة بلغ درجة ان فاق ثواب الصلاة حتى في مثل مسجد الكوفة فقد ورد (((عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَارَةَ قَالَ: أَرْسَلْتُ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا علیه السلام أَسْأَلُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ وَحْدَهُ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ أَفْضَلُ أَوْ صَلَاتُهُ فِي جَمَاعَةٍ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ" الصَّلَاةُ فِي جَمَاعَةٍ أَفْضَلُ))(21) (مع أنه ورد أن الصلاة في مسجد الكوفة تعدل ألف صلاة، وفي بعض الأخبار ألفين)(22).

2- تعلم علوم القرآن والعترة وتعليمهما

ثانياً: تعلم علوم القرآن والعترة الطاهرة؛ فان ذلك إلى جوار تهذيب النفس والعمل الصالح، أهم أركان إتباع رضوان الله تعالى، وفي هذا الحقل فان على رجال الدين مطالعة أهم التفاسير وكتب الحديث وفقهه، فمن التفاسير: تفسير الصافي ثم التبيان والبرهان وتقريب القرآن، وإذا اراد الموجز فـ(تبيين القرآن)

والذي أراه ان على الطالب قبل أي شيء عندما يمرّ بآية كريمة ان يراجع تفسير الصافي والتبيان والبرهان ثم يعمل ملكة اجتهاده لو كان في ذلك المستوى.

واما الروايات فان اللازم مراجعة الكتب التالية لأهميتها الفائقة جداً: الكافي بشرح العلامة المجلسي (مرآة العقول) وتحف العقول، بصائر الدرجات، الاحتجاج، ومكيال المكارم.

كما ان من الواجب على طالب العلم التمرن المتواصل على فقه الآيات وفقه الروايات وتنمية ملكته في استنباط الأحكام الشرعية والقواعد الفقهية والمسائل الأصولية منها إضافة إلى المسائل الكلامية ثم المسائل الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية ونظائرها.

استنباط 80 مسألة أصولية وفقهية من رواية ابن طاب!

وعلى الطالب ان يتخذ منهج السيد بحر العلوم دليلاً وقائداً له إذ انه استنبط من رواية واحدة تسعة وثلاثين مسألة في الفقه وواحد وأربعين مسألة في الأصول!، والرواية هي التي ضمنها البيت التالي:

ومشي خير الخلق بابن طاب****يفتح منه أكثر الابواب

وأصل الحديث هو: (مشى النبي صلى الله عليه واله وسلم في الصلاة بعرجون ابن طاب إلى نخامة في المسجد حكّها به)

قال الشارح: إن الكثرة في لسان الاخبار يطلق علي الثمانين، ولذلك فإنه استخرج منه ثمانين بابا، أربعين إلا واحدا، منها في الفقه وواحد وأربعين منها في الأصول. وفرغ منه صبيحة الاثنين 10 محرم 1268. أوله: (الحمد الله الذي فتح أبواب الهداية إلى الرشاد...). وابن طاب نوع من تمر المدينة ورطبه ينسب إلى رجل كنيته ابن طاب فيقال تمر ابن طاب وعرجون ابن طاب. توجد قطعة منه في مكتبة علي محمد النجف آبادي بخطه. ونسخة منه مع بعض رسائله ملكها تلميذ الشارح السيد محمد تقي الطالقاني م‍ 1325 عند ولده السيد احمد في طهران) انتهى.

كما ان الشهيد كتب رسالة الألفية والنفلية انطلاقاً من الحديث القائل بان ((لِلصَّلَاةِ أَرْبَعَةُ آلَافِ حَدٍّ))(23)، فأي واحد منّا يعرف حتى ألف حدّ منها؟

3- العطاء بلا حدود والعمل الصالح دون توقف

ثالثاً: العطاء بلا حدود والعمل الصالح دون توقف، ذلك ان ((الْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا ارْتَحَلَ عَنْهُ))(24) وقيمة رجل العلم هي بان يترجم علومه إلى أعمال صالحة فقد ورد ((وَخَيْرُ النَّاسِ مَنِ انْتَفَعَ بِهِ النَّاسُ))(25) وقال تعالى (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)(26) و((علم بلا عمل كشجر بلا ثمر))(27).

ماذا قال الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف للشيخ الكافي؟

وتكفي الحادثة التالية عبرة وإماماً لنا جميعاً: فلقد كان الشيخ أحمد الكافي رضوان الله عليه خطيباً شهيراً وقد اهتدى على يديه أو ثبت على إيمانه ببركته، الألوف بل عشرات الألوف من الشباب وغيرهم، وكان يمتلك تأثيراً مذهلاً على الجماهير، ولذلك امتدت يد السافاك الآثمة فاغتالته وهو في قمة العطاء والمجد. هذا.

ولكن الشيخ الكافي كان يعلم بان المنبر وهداية الناس وإن كانت ضرورية وواجبة ووظيفة كبرى أساسية إلا انها لا تغني عن العمل الصالح فان لكل منهما ثمرة وأثراً، بل ان تأثير الخطيب في الجمهور ينبع بالأساس من اجتماع هذه الثلاثة: 1- كونه عاملاً بما يقول 2- وخلوص نيته وسلامة سريرته 3- إضافة إلى التميّز في الخطابة مضموناً وأسلوباً، لذلك قرّر الشيخ الكافي ان يخصص قسماً من أوقاته لقضاء حوائج الناس فقد ورد ((مَنْ قَضَى لِمُؤْمِنٍ حَاجَةً قَضَى اللَّهُ لَهُ حَوَائِجَ كَثِيرَةً أَدْنَاهُنَّ الْجَنَّةُ))(28) وورد: ((وَمَنْ قَضَى لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ حَاجَةً قَضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِائَةَ أَلْفِ حَاجَةٍ مِنْ ذَلِكَ أَوَّلُهَا الْجَنَّةُ وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُدْخِلَ قَرَابَتَهُ وَمَعَارِفَهُ وَإِخْوَانَهُ الْجَنَّةَ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونُوا نُصَّاباً، وَكَانَ الْمُفَضَّلُ إِذَا سَأَلَ الْحَاجَةَ أَخاً مِنْ إِخْوَانِهِ قَالَ لَهُ أَمَا تَشْتَهِي أَنْ تَكُونَ مِنْ عِلْيَةِ الْإِخْوَانِ))(29).

ومن الواضح ان الإنسان إذا قرر ان يقضي حوائج الناس فان الحاجات ستنهال عليه من كل مكان خاصة إذا كان مثل الكافي خطيباً جماهيرياً يعيش بين ظهراني الناس ولا يستعلي عليهم.. وهكذا كان الكافي ((مَكْدُوداً فِي ذَاتِ اللَّهِ))(30) بين المنابر والتحضير لها وبين حاجات الناس وتلبيتها.. وذات ليلة رجع إلى داره متعباً بعد يوم حافل بالمنابر والعطاء الخدمات.. ولأنه كان مرهقاً جداً لذلك استغرق في نوم عميق في حجرته في الطابق الثاني المشرفة على الزقاق.. ولكن لم تمض فترة وجيزة على استغراقه في النوم إلا والباب تطرق في ذلك الوقت المتأخر من الليل.. واستيقظ الشيخ الكافي متأذياً (كما هو شأن المتعب الذي استغرق في النوم منذ دقائق فقط) وعندما نظر من النافذة رأى أحدهم يطرق الباب فعرف انه جاءه في ذلك الوقت المتأخر لحاجة ما.. نزل الكافي من الدرج وهو يفكر مع نفسه قائلاً (يا حاج أحمد! غريب أمرك! انك لم تترك لنفسك ليلاً ولا نهاراً! جعلت نفسك في معرض حوائج الناس والناس لا يقدرون انك بشر تحتاج إلى راحة بعد يوم حافل مجهد فها هو أحدهم يطرق الباب في هذا الوقت المتأخر جداً)! لكن الشيخ الكافي – مع ذلك – سيطر على أعصابه وانطلق وفتح الباب واستقبل الطارق بالترحاب وسأله عن حاجته فقال بانه مديون بمبلغ كبير وان غداً هو موعد سداد الدين وانه لو لم يسدده لأريق ماء وجهه! وعندما سأله الكافي عن المبلغ ذكر مبلغاً ضخماً لا يملكه الكافي! لكن الكافي كان يعرف قيمة قضاء حوائج الإخوان لدى الله تعالى فقال له حسناً أنا أمتلك بعض المبلغ وسأتصل غداً بعدد من التجار ليتكفلوا بالباقي أول الوقت..

وهكذا أبدع الشيخ الكافي مرتين: مرة إذ استقبل الطارق بحفاوة لا بامتعاض وعبوس كما هو شأن أمثالنا عندما نواجه بمثل هذا الموقف، ومرة أخرى عندما قضى حاجته رغم صعوبتها!

ولكن حساب الله دقيق إذ يؤاخذ الأولياء حتى على خطرات الأفكار.. وهكذا كان.. فبمجرد ان عاد الكافي إلى حجرته ونام من جديد رأى في المنام سيد الكائنات الإمام الحجة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف فقال له الإمام ما مضمونه (يا كافي! إذا كنت منزعجاً من قضاء حواج الناس فاننا سوف لا نحوّلهم عليك بعد ذلك)! قام الكافي مرعوباً من دقة الحساب.. فحتى خطرات الأفكار يحاسب عليها الأولياء! وكان كلام الإمام يتضمن تذكيراً بأنهم عليهم السلام وسائل الفيض وان من ألقى في ذهن هذا الشخص – وسائر المحتاجين – ليراجعونه هو الإمام علیه السلام.. فكل مسألة هي حوالة منه عجل الله تعالى فرجه الشريف! بل ان ذلك لطف كبير إذ وجدوه أهلاً، ولكنه إذا كان منزعجاً فسيحرمونهم من هذا اللطف الكبير!

وتصورا: لو ان العالم والطبيب والمهندس وأستاذ الجامعة والرجل والمرأة، نظروا إلى حوائج الناس بهذا المنظار الإلهي، ألم تكن الأرض تتحول إلى جنة؟ وهل كانت تبقى مع هذه الحالة حاجة معطلة؟ أو فقير أو مسكين دون مال؟ أو مريض دون علاج؟ أو يتيم دون ملجأ؟ أو شبه ذلك؟

مرة أخرى نؤكد: ان علينا ان نجعل هذه الآية الشريفة أمامنا وإمامنا: (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبينٌ * يَهْدي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْديهِمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقيمٍ)

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com

.........................................
(1) سورة المائدة: آية 15-16.
(2) سورة الفاتحة: آية 6.
(3) سورة الأعراف: آية 155.
(4) (اخترت) في هذا العالم، في مرتبة، وفي عوالم سابقة في مرتبة أخرى.
(5) الفيض الكاشاني، التفسير الصافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج7 ص209.
(6) أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، نشر المرتضى – مشهد المقدسة، 1403هـ، ج1 ص262.
(7) سورة التوبة: آية 72.
(8) سورة المائدة: آية 119.
(9) سورة النساء: آية 115.
(10) سورة الحشر: آية 23.
(11) سورة البقرة: آية 275.
(12) سورة النحل: آية 121.
(13) وقد فصّلنا الكلام عن مجموعة من الوجوه في نظير هذه الآية الكريمة – أي نظيرها من جهة الاخبار والإنشاء – في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) بمناسبة قوله تعالى (وَأَمْرُهُمْ شُورى‏ بَيْنَهُمْ).
(14) راجع (أهدنا الصراط المسقتيم).
(15) سورة الأعراف: آية 175- 176.
(16) سورة الأعراف: آية 127.
(17) الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1404هـ، ص245.
(18) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج3 ص 268.
(19) سورة ق: آية 18.
(20) زين الدين بن علي العاملي (الشهيد الثاني)، روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان، مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي، ج2 ص504.
(21) الشيخ الطوسي، التهذيب، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج3 ص25.
(22) السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، العروة الوثقى، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات – بيروت، م 1 ص543-544.
(23) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج3 ص272.
(24) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج1 ص44.
(25) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1413هـ، ج4 ص394.
(26) سورة التوبة: آية 105.
(27) عبد الواحد بن محمد التميمي، غرر الحكم ودرر الكلم، مكتب الإعلام الإسلامي – قم، ص152.
(28) عبد الله بن جعفر الحميري، قرب الإسناد، مكتبة نينوى – طهران، ص56.
(29) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج2 ص192.
(30) أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، نشر المرتضى – مشهد المقدسة، 1403هـ، ج1 ص100.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي