عصر الظهور: بين عالم الإعجاز وعالم الأسباب والمسببات

آية الله السيد مرتضى الشيرازي

2019-04-18 07:51

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين سيما خليفة الله في الأرضين واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولاحول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (1)

في هذه الآية الشريفة هناك مواطن كثيرة للتوقف والتدبر والإستضائة، وفي كلمة (أشرقت) هناك إضاءات عديدية، نذكر إحدى تلك الإضاءات في هذه المحاضرة ثم ننطلق إلى متن البحث إن شاء الله.

لماذا (أشرقت) بصيغة الماضي؟

ان (أشرقت) كما هو واضح فعل ماضٍ وكذلك (وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) وفي كافة هذه الأفعال نجد ان الحديث كله بصيغة الماضي، وهناك بحث عام في فلسفة أو سر أو علة استخدام الفعل الماضي فيما يرتبط بالمستقبل فان الآية الشريفة تتحدث في ظاهرها وفي التنزيل عن القيامة، لكنها تتحدث في باطنها وفي التأويل عن زمن الظهور المبارك. (وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا) أي في يوم القيامة كظاهر، وفي يوم الظهور المبارك كباطن، وكلاهما من المستقبل.

وهنالك وجهان لتعليل هذا الامر أحدهما بلاغي، والآخر فلسفي.

أ- لأن المجرد من الزمان محيط بالأزمنة الثلاثة

أما الوجه الفلسفي لتوجيه استخدام الله سبحانه وتعالى لما يقع في المستقبل بصيغة الماضي كما في هذه الآية الشريفة، وكما في (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ)، وكما في (غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ)، فانه يشير إلى أن الله سبحانه وتعالى حيث أنه مجرد عن الماضي والحاضر والمضارع، أي هو مجرد من الزمان، فهو المحيط بالأزمنة الثلاثة، فهو المهيمن عليها بأجمعها، إنما الزماني هو الذي تقيّده تصاريف الأفعال.

فانا كممكن مادي حيث أنني محدود الآن في هذا الزمن، أي ان وجودي متحدد الآن في اللحظة الحاضرة، فلست موجودا الآن في الزمن الماضي، لذا الماضي بالنسبة لي ماض، وكذلك لست موجودا في الزمن الآتي ولذا المستقبل بالنسبة لي مستقبل، ولذا فإن الأفعال بالقياس إليّ ستكون متحكمة في عالم الإثبات ايضا فكما أن الماضي والحاضر أطّرني وحددني ثبوتا، فإنه يحدد تعبيري ايضا إثباتا، فـأقول: جاء، يجيء، أو هو جاءٍ.

أما لو فرض أن وجودي ممتد، يعني كان وجودي – وكذلك وجود آحادكم - ممتداً، يعني كنت أنا الآن في الماضي موجودا فرضا وفرض المحال-المحال بالنسبة للمادي، وإلا فان المجرد مجرد - ليس بمحال، فان الأمر يختلف

فلو فرض وجودي الآن في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل، بان كان وجوداً ممتداً، كما أنه في بُعد المكان نجد ان وجوداتنا ممتدة حسب الرقعة التي حزناها، كذلك الزماني لو كنا كذلك، فان استخدامات الفعل ايضا كانت بأيدينا تماما.

والله سبحانه وتعالى حيث أنه محيط بالأزمنة كلها، فالمستقبل له كالحاضر وكالماضي، بوزان واحد، فمن الممكن أن يستخدم فعل الماضي للمستقبل، وفعل المستقبل للماضي، إذ كلها حاضرة لديه، وكلها مهيمن عليها، إذ كلها بوزان واحد في شأنه.

والحاصل: أن الله لأنه مجرد عن الزمان فله – وهذه لفتة قرآنية بديعة، فانه عادة الإنسان لا يستخدم هذه الطريقة لأنه متأطر بالزمان، فكيف يستطيع أن يتخلص من هذه العقدة ولو تخلص فبتعمل وتمعن ـ ان يعبر باي زمن شاء

لكن هذا الوجه ترد عليه مناقشات عديدة، ومنها: ان المستقبل لا شك انه معدوم فكيف يكون حاضراً بنفسه قبل وجوده، لدى الله تعالى؟ كما يلزم منه تحصيل الحاصل عند وجوده في المستقبل. وتفصيل هذا النقاش وغيره يترك للمباحث الكلامية التخصصية.

2- لأنه مستقبل محقق الوقوع

الوجه الثاني وجه بلاغي معروف وواضح، وهو أن المستقبل المحقق الوقوع لأنه محقق الوقوع يُنزّل منزلة الماضي، ولذلك فائدتان مزدوجتان:

الفائدة الأولى: وهي للمتكلم؛ حيث أنه يريد أن يؤكد كلامه بأعلى درجات التأكيد بل بما يفوق قوله انه متيقن من وقوع هذا الحدث.

الفائدة الثانية: وهي للسامع؛ لكي تطمئن نفسه وتستقر.

اذ تارة تعد الشخص بأن تبذل له شيئا، وهو وعد مستقبلي قد لا تفي به، لكنك لو صغته ملتفتا بصيغة ماضية، فكأنه قد وقع، والماضي لا ينقلب عن ما وقع عليه فهل يمكن أن ينقلب الماضي عن ما وقع عليه؟ كلا. وكذلك ما نُزّل منزلته..

فلو كان المتكلم حكيما ملتفتا لما أمكن أن يتوهم الطرف في ذلك الخُلف، كما لا يمكن أن يتوهم في الماضي الانقلاب.

وهنا تتمات لهذا البحث نتركها للمستقبل إن شاء الله.

نظريتان حول عصر الظهور المبارك:

في مبحث عصر الظهور هناك جوانب عديدة يمكن أن تدرس وتحلّل، إلا ان من الزوايا التي قلّ ما تطرق هذه القضية التي سوف نطرحها الآن والتي لها بعدان: بعد علمي معرفي، ثم بعد تربوي عملي. فنقول:

هناك نظريتان حول عصر الظهور:

النظرية الأولى: ولعلها هي المرتكزة في الأذهان أكثر أن عصر الظهور: أي ما بعد الظهور، هو زمن الإعجاز الإلهي بكل المقاييس، فهو عالم الإعجاز.

هذه هي النظرية الأولى المركوزة والمتركزة في الأذهان ايضا. عالم الإعجاز، فهو عالم من نمط آخر، ليس هذا العالم الذي نراه؛ بل هو عالم مختلف بكل المقاييس: نفسيا، روحيا، عقليا، فكريا، ماديا، فيزيائيا، كمياويا، وغير ذلك، كل شيء يختلف.

النظرية الثانية: ترى بأن ما بعد الظهور سيبقى عالم الأسباب والمسببات على حاله، والإعجاز إنما هو ظاهرة استثنائية في هذا العالم وليست هي الأصل.

وبكلمة موجزة:

هل الأصل في زمن الغيبة، في زمن ما بعد الغيبة هو الإعجاز؟ أم ان الأصل هو الاسباب والمسببات وقد طعّمت أحيانا بلفتات إعجازية؟ أم الأمر غير ذلك أي أن الأمر غير هاتين النظريتين، اذ هناك نظرية ثالثة، أو رأي ثالث إن شئت فعبر.

وكلتا النظريتين لها أدلة ولها شواهد، وسوف نرى ما الذي يمكن أن ينصر به هذا الرأي أو ذاك الرأي او غيرهما، وبعد ذلك نبحث الأثر التربوي لهذه النظريات.

النظرية الأولى: عصر الظهور هو عصر الأسباب والمسببات، كأصل عام

النظرية الأولى: تقول بأن كل ما يحدث في عصر الظهور فإنه مفسَّر ومبرَّر ومعلَّل علميا وان كل قضية يمكن أن تدرس من زاوية علمية وتبرهن وتوضح بحسب ادلتها ومعطياتها، فلماذا نلجأ للإعجاز؟ وإن كان الإعجاز ممكنا أي من غير إنكار للإعجاز، لكن هذه القضايا التي أشير لها مما سيحدث في عصر الظهور سيصل لها التطور العلمي الطبيعي، إنما الإعجاز استثناء، كما كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله، إذ كان الإعجاز موجودا لكن القاعدة العامة هي الاسباب والمسببات.

مثلا: قول الإمام الباقر عليه الصلاة وأزكى السلام: ((إذا قام قائمنا وضع الله يده(2) على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت به أحلامهم)).

هذه الرواية يمكن ان تفسر على حسب التحليل الأول بالتفسير الطبيعي، لأن اليد كناية عن يد القدرة وليست هذه اليد المادية كما هو واضح، وقدرة الله سبحانه وتعالى في مخلوقاته عادة تجلت عبر الأسباب والمسببات، فهناك تطور طبيعي تدريجي، وتكامل معرفي تدريجي، وتكامل عقلي، ولا شك ان الله سبحانه وتعالى يبارك في هذا التطور. لكن سنة التطور جارية سيالة.

الرواية الثانية عن الإمام عليه السلام: ((إذا قام قائمنا مد الله لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم حتى لايكون بينهم وبين الإمام بريد(3) يكلمهم، فيسمعونه وينظرون إليه وهو في مكانه)).

هذه الرواية يمكن أيضاً أن تفسر علمياً والعلم الحديث وصل الآن إلى ذلك، فان الإنسان ينظر في جهاز بسيط فيرى صاحبه وهو في الغرب أو في الشرق ويسمع كلامه أيضاً.

إذن هذه الروايات يمكن أن تفسر وتحلل بتفسير علمي، فهذه الروايات – حسب هذه النظرية - إشارة إلى أن عصر الظهور هو قمة في العلم والمعرفة، والإمام سوف يظهر في هذا الزمان ويكون المهيمن عليه والقائد والإمام بقول مطلق، كما أن النبي صلى الله عليه وآله ظهر في زمن كان العرب فيه القمة في البلاغة فأكمل المسيرة وأضاف إليها ما أضاف، كما هو أشهر من ان يسطر.

النظرية الثانية: عصر الظهور هو عصر الإعجاز، كأصل عام

الرأي الآخر يرى بأن هذه جوانب إعجازية كبقية الجوانب، كل ما في الكون سيكون بإعجاز كقاعدة عامة.

وهذه النظرية الثانية تفسر مثل هذه الروايات كما هو واضح بتفسير غيبي، وتستدل على ذلك بروايات أخرى لا يمكن أن تفسر علميا، ونحن عند استعراضنا لبعض الروايات فان من الحسن جداً أن نجعل أنفسنا في تلك الأجواء أي اجواء جنة الأرض فنزداد إليها شوقا لنحصل على فائدة زائدة على فائدة البحث العلمي والتربوي.

فمن الروايات الشريفة، وما أكثرها والتي يعسر بل لا يمكن أن تُفسر تفسيرا علميا الرواية التالية:

يقول الإمام الصادق عليه السلام: ((إذا قام قائمنا استنزل المؤمنُ الطير من الهواء، فيذبحه فيشويه ويأكل لحمه ولايكسر عظمه ثم يقول له: إحيَ بإذن الله فيحيى ويطير وكذلك الضباء من الصحاري،

ويكون ضوءَ البلاد ونورَهَا (أي الامام عليه السلام) ولا يحتاجون إلى شمس ولا قمر، ولا يكون على وجه الأرض مؤذٍ ولا شر ولا فساد أصلا، فإن الدعوة سماوية وليست بأرضية، ولا يكون للشيطان فيها وسوسة ولا عمل ولا حسد ولا شيء من الفساد)).

ثم يقول الإمام عليه السلام: ((وإن الرجل ليكسو ابنه الثوب فيطول معه كلما طال ويتلون بأي لون أحب وشاء)).

إذن هذا إعجاز دون شك فان قوله (وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ)، ليس تطورا علميا حتى يفسر البعض مثل هذه الرواية أيضا بأنه نتيجة تطور علم الاستنساخ وعلم الهندسة الوراثية فهما وان كانا يتطوران في تسريع حركة الجينات فيحتمل ان يكون الشيء ينمو دفعة واحدة، فيقطع مسافة سنة في دقيقة واحدة مثلاً الا ان الرواية صريحة في نهايتها: ((ثم يقول له احيَ بإذن الله فيحيى ويطير)).

وقوله ( عليه السلام ) ((ولا يحتاجون إلى شمس ولا قمر...)) فان هذه المنظومة ليست منظومة الأسباب الطبيعية التي نعهدها، لأن الكرة الأرضية قائمة بالشمس والقمر، في ضيائها، في حرارتها، في جاذبيتها وانجذابها وكونها في المدار الطبيعي، في مدها وجزرها، وغير ذلك.

وقوله ( عليه السلام ) ((فإن الدعوة سماوية وليست بأرضية)) فان هذا التعليل أيضا واضح في ان هذا العالم استثنائي وانه عالم آخر، وليس العالم المعهود الذي نعرفه من عالم الأسباب والمسببات.

نعم قوله عليه السلام: ((فيطول معه كلما طال ويتلون بأي لون أحب وشاء)) هذه قد تفسر علميا لأن العلم الحديث اقترب لهذه النقطة الأخيرة بصناعة ملابس تتلون طبيعيا (آلياً – أتوماتيكياً) وتطول وتقصر طبيعيا ولعله الآن موجود مثل هذا الثوب.

حسنا فلنفترض ذلك، لكن هناك مقاطع اخرى لا يمكن أن تفسر علميا أبداً فان الإمام يقول:

((فيصافح المؤمنون الملائكة، ويوحى إليهم، ويحيون الموتى بإذن الله....))

وهذا عالم غيبي، وعالم آخر بلا شك، فانه عالم يتداخل فيه عالم الغيب وعالم الشهود، وهذا العلم البشري لا يستطيع أن يصل إليه مهما حلَّق.

إذن النظرية الأولى تقول بأن عالم الظهور هو عالم الإعجاز المطلق، الرأي الثاني يرى بأن عالم الظهور هو عالم الأسباب والمسببات في البعد العملي وفي البعد المعرفي.

وهذه النظرية الثانية قد تشهد لها سنة الله في الكون؛ لأن الله سبحانه وتعالى سنتَّه جرت على التكامل الطبيعي التدريجي، ثم على ضوء الكمال البشري كانت تحدث ألطاف إلهية كبرى، وكان كل لطف إلهي كبير بإرسال نبي أو نصب إمام، مرتهناً بالوضع العام للبشرية في ذلك الزمن.

مثلا: نبي الله موسى عليه السلام، بعث بالعصى وغيرها، أي ان إعجازه كان العصى التي تأكل وتلقف ما يافكون؛ لأن التطور العملي في ذلك الوقت أو التقدم كان في حقل السحر فكانت العصى هي المعجزة المناسبة لهذا الجو.

وفي زمن نبي الله عيسى عليه السلام كان الطب في قمته، فبعث عيسى عليه السلام بإعجاز أنه يبرء الأكمه والأبرص بإذن الله ويحيي الموتى.

وفي زمن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله كان العرب الذين بعث النبي بلغتهم وفيهم كانوا قمة في البلاغة والفصاحة، وحتى الآن ورغم تطور العلم الحديث اللغوي، يعني تطور اللغة الانجليزية وغيرها، وإمتلائها بالكلمات والمفردات، لاتزال اللغة العربية أقوى اللغات على الإطلاق في إعجازها البلاغي، وهذا له تفصيل في محله بإذعان كثير منهم ايضا.

والحاصل: ان اللغة العربية كانت ولا زالت وستبقى اللغة الوحيدة المؤهلة لكي تحمل رسالة السماء، لذا نزلت الآيات القرآنية بهذه اللغة.

إذن التطور كان تطوراً بلاغياً، لكن زمان الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف سيكون القمة في التطور العلمي وفي التطور المعرفي، فيسكون ظهور الإمام عليه الصلاة وأزكى السلام في هذا الجو ويطعّم ذلك بالمعاجز، بدون كلام إلا ان الأصل سيبقى عالم الأسباب والمسببات حسب هذه النظرية.

ثم ان هذه النظرية الثانية، ترى أن عالم الأسباب والمسببات يقود إلى عهد الظهور ويسوق إليه، إنما الأمر في التقديم والتأخير منوط بمقدمات أخرى سنشير لها لاحقا بان الله تعالى.

الأثر التربوي لنظرية الأسباب والمسببات

اما الأثر التربوي للنظرية الثانية فواضح، لكن ماذا عن النظرية الأولى؟ ثم ما هو المستظهر في المقام؟ ان الأثر التربوي للنظرية الثانية جدا واضح، إذا كان العالم عالم الأسباب والمسببات فكل خطوة تقوم بها، معرفيا أو علميا، فإنها تمهد للظهور سواء أقصدها الإنسان أم لم يقصد(4).

فعلى ضوء هذه النظرية فإن كل تطور علمي يحدث في الكون ويحدث في الأرض أو في السماء سواء أقام به مسيحي أم مسلم أم يهودي، فإنه شاء أم أبى، قصد أم لم يقصد، يقع في عجلة تسريع الظهور المبارك، بنحو الاقتضاء لا العِلّية.

وهذه ستكون لغة خطاب جديدة مع علماء العصر الحديث، اذ اننا عادة ننطلق في قضية الظهور ـ وهذه نقطة مهمة ـ من منطلق ديني أو مذهبي، وقد يوجد ذلك حاجزاً نفسياً بيننا وبين المسيحيين أو بعضهم وكذا البوذيين وغيرهم، اذ يرى ان هذا الشخص مسلم من دين آخر ولغته لغة أخرى، إلا لو هداه الله سبحانه وتعالى للجادة وللطريق الصحيح، لكن لو سلكنا هذا الطريق في خطاب الطرف الآخر واستطعنا أن ننضجه ونبرهنه لحققّ ذلك مكسباً جديداً وطريقاً للهداية جديداً والبراهين موجودة في بطون الروايات، بمعنى أن هذه المؤشرات ـ لو قبلنا هذه النظرية ـ كلها تكشف عن أن المتكلم بها يعرف المستقبل كما نعرفه نحن، وكما نعرف الحاضر نحن بل أفضل مما نعرفه ذلك ان كل اكتشاف علمي غريب تجده موجوداً في الروايات، بل الأغرب منه موجود فيها مما لعله سيصل له العلم، فإذا نحن امتلكنا هذه اللغة من الخطاب، فانه خطاب علمي ايضا مع العلماء، أن الإمام المهدي صلوات الله وسلامه عليه سيأتي في مثل هذا العصر وسيكون قمة القمة في التطور العلمي والمعرفي الذي أنت ـ ايها العالم الغربي او الشرقي ـ ايضا من الممهدين(5) له وان كان من حيث لا تدري، فلمَ لا تكون من المنتفعين به؟ فانه قد يمهد شخص لظهور شخص آخر أو لمجيئه، لكنه يقع بعد ذلك في الجبهة المقابلة، لكن قد يكون من الممهدين ثم من المنتفعين أيضا، وهذا البحث يحتاج إلى مزيد من البحث والتأمل والنقاش وسيأتي لاحقاً بإذن الله تعالى.

والامر شبيه بمسألة التوحيد: حيث ان أدلتنا على توحيد الله سبحانه وتعالى، تارة نسلك فيها مسلك الفطرة، وتارة نسلك مسلك العلم فنستند إلى برهان النظم، وأن النظم الحاكم على الذرة والقوانين هي الحاكمة على المجرة، وهذا طريق علمي ولغة خطاب أخرى.

والحاصل: اننا عندما نخاطب الطرف الآخر، كيف نخاطبة؟ فتارة نخاطبه بمصطلحات دينية وتارة نخاطبه بمصطلحات علمية.

إذن هذا مدخل للحديث مع الآخرين في قضية عصر الظهور المبارك، هذا هو الرأي الثاني.

الرأي الثالث يرى أمرا وسطا بين الأمرين إذ يجمع بين سنة الله في الكون من جهة، فإن سنة الله في الكون على التطور التدريجي المعرفي والعلمي، ثم بعد ذلك يأتي فيض إلهي ولطف إلهي إعجازي بمستوى تطور البشرية.

النظرية الثالثة: كلاهما الأصل والقاعدة: الأسباب والمسببات وأنواع الإعجاز

فهذه النظرية الثالثة تجمع بين ملاحظة سنة الله في الكون وبين ملاحظة الروايات الكثيرة التي لا شك في أنها تشير إلى اعجازات استثنائية.

وذلك يعني انها ليست قضية تطعيم ببعض مظاهر الإعجاز، وإنما ستكون البشرية في القمة العلمية والمعرفية بما يؤهلها لحدوث قفزات إعجازية لا تتصور.

ففي الواقع سيكون عصر الظهور هو مجمع الاثنين معا، فمن جهة فان البشر سيكونون قمة القمة في العلم وقمة القمة في المعرفة، إما كلهم او النخبة منهم (وهذا بحث سنشير له لاحقاً بإذن الله تعالى) هل ان كل البشر سيكونون القمة المعرفية والعلمية والعملية، أم أن نخبة النخـــــــبة - يعني 313 ـ سيكونون هم قمة القمة؟ ايهما ؟

سنذكر لاحقاً أنه لا شك في أن القمة ونخبة النخبة سيكونون هم القمة، لكن هناك إشارات عديدة من الروايات قد تفيد أن البشر ايضا بشكل عام سيكونون كأشد ما يكونون من التهيؤ ومن النمو لاستقبال هذا الحدث العظيم.

ولعل الأظهر – والله العالم - على حسب ملاحظة سنة الله سبحانه وتعالى ومجموعة الروايات أن كلا الأمرين سيكون في أعلى درجاته، يعني: عالم الاسباب والمسببات سيبلغ أقصى مدياته، وعالم الاعجاز ايضا متناسبا مع عالم الاسباب والمسببات سيبلغ أقصى مدياته ايضا.

وإذا كان الأمر كذلك فإن المعادلة التربوية ستتجلى بشكل شامل عميق أيضاً، وسنستنتج من ذلك أن أي واحد منا – وسنفصله في البحث القادم أكثر إن شاء الله - لو أسس حسينية واحدة فإن هذه الحسينية يحتمل ان تكون خطوة من مليار أو ترليون – أو أكثر أو أقل - خطوة يحتمل ان تكون مما يقرب عصر الظهور بنحو الاقتضاء(6)

وإذا أسس الإنسان مسجدا واحدا، فإن هذا المسجد قد يكون خطوة من مليار خطوة تقرب عصر الظهور، ولو أسس جامعة أيضا على الطريق الصحيح فإن هذه الجامعة العلمية التي تسهم في رقي البشرية علميا أو معرفيا فإنها ايضا يحتمل ان تكون خطوة من خطوات تقريب عصر الظهور.

فليست إذن تصفية الانفس وتهذيبها هي العامل الوحيد المقرب لعصر الظهور، وإن كان عاملا أساسياً جوهرياً أكيدا حقيقيا لا شك فيه، إنما ايضا أي إنجاز علمي او معرفي فإنه يحتمل ان يكون مما يقدم(7) عصر الظهور أكثر أيضا، وكذلك أي إنجاز صناعي، يعني لو أن البشرية صناعيا تطورت، لو أننا في العراق زراعيا تطورنا، فلننظر للقضية إذاً من هذه الزاوية أيضاً:

أن هذا التطوير الصناعي، الزراعي، الفكري، العلمي، على مستوى هذا البلد أو أي بلد آخر مثلا: النظافة، النظام، الأمن، الاستقرار، الازدهار، وكل خطوة أخرى فهي يحتمل ان تكون علة معدة من سلسلة مليار، من سلسلة ترليون خطوة مقربة من عصر الظهور.

إذا نظرنا للقضية من هذه الزاوية فإن أَجْرَنا على أي عمل نقوم به علمياً كان أو معرفياً أو صناعيا أو زراعيا أو تربوياً، سيكون عندئذ متلونا بلون السماء، سيكون عندئذ مباركا، سيكون عندئذ الأجر فيه أعظم، وسنكون نحن المبادرين والسباقّين في كلا الحقلين بدل أن يكون الآخرون السباقين في أحد الحقلين.

إذن كل خطوة علمية أو معرفية: كل كتاب يكتب شرط استقامته؛ فانه اذا كان غير مستقيم فإنه في نفس الوقت قد يشكل عثرة في الطريق وكل محاضرة تلقى، وكل شخص يُربى، كل طفل يُنمّى ويزكى، وكل مدرسة او ميتم، او حسينية أو مكتبة او صندوق للإقراض الخيري يؤسس فإنه يحتمل ان يكون – بلطف الله تعالى - من العوامل الممهدة للظهور المبارك.

وعندئذ ستشرق الأرض بنور الله سبحانه وتعالى أو بنور رب الأرض كما أشرنا إليه في البحث الماضي، وسنكون جميعا بلطف مولى الكونين أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه من أعوانه وأنصاره والمجاهدين بين يديه والمستشهدين بين يديه، إن شاء الله.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com

............................................
(1) الزمر:69
(2) وفي بعض الروايات (وضع يده) أي وضع الإمام عجل الله تعالى فرجه يده، والطولية تحل توهم الإشكال.
(3) بريد يعني رسول، يعني من يُبْرَد به ويُبعث به لإبلاغ رسالة.
(4) سيأتي في البحث القادم الأثر التربوي لنظرية الإعجاز كقاعدة عامة. فانتظر.
(5) على تأمل في صحة إطلاق هذه الكلمة.
(6) لا بد من الالتفات إلى كلمة (يحتمل...) وكلمة (الاقتضاء) جيداً. على اننا في البحث القادم سنناقش هذا الأمر سلباً وإيجاباً فانتظر
(7) ونقصد بـ يقدم انه بحسب لطف الله تعالى أو ما قدّره من الاسباب الظاهرية وإلا فان لله تعالى الأمر كله من قبل ومن بعد.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي