تصحيح المسار في الصراط المستقيم

على حسب الغاية والفاعل والموضوع والقابل (7)

آية الله السيد مرتضى الشيرازي

2018-04-22 07:07

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ)(1)

من بصائر النور في آية الصراط المستقيم:

من البصائر الجوهرية في الآية الكريمة التي ينبغي ان تستوقف الباحث طويلاً، استكشاف السرّ في اختيار مفردة (المستقيم) كوصف للصراط ودلالاتها والمضامين التي يمكن ان تكتنزها هذه المفردة القرآنية الكريمة، ذلك انه كان من الممكن ان يقال مثلاً (أهدنا الصراط القويم أو القائم) فلماذا اختيار المفردة من تصاريف باب الاستفعال؟

المحتملات في معنى المستقيم

لعل بعض السر في ذلك ينجلي باستعراض المحتملات في تفسير مفردة (المستقيم) فان المحتملات بدواً حسب النظر القاصر هي ثلاثة:

أ- المراد به المجرد (القويم)

الأول: ان باب الاستفعال قد يأتي ليفيد معنى المجرد، فمثلاً استقرّ يفيد معنى قرَّ فانه لا يراد به انه طلب القرار والاستقرار بل انه يستعمل عادة ويراد به انه قرَّ بالفعل، كما قال الشاعر:

فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّتْ بِهَا النَّوَى..... كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالإِيَابِ الْمُسَافِرُ

ولكن لو كان المراد هذا المعنى من (المستقيم) أي كان المراد منه هو نفس فعل المجرد، لكان من غير المبرّر الخروج عن صيغة المجرد إلى باب الاستفعال، فان القاعدة هي ان هذه التصاريف إنما وضعت لتدل على معنى إضافي زائداً على ما تفيده مادة الكلمة الأصلية، والخروج عنها إلى إرادة المجرد خلاف الأصل، على انه قليل بل نادر إذ ندر استعمال الاستفعال في معنى المجرد.

ب- المراد به المطاوعة

الثاني: ان باب الاستفعال قد يأتي ليفيد معنى المطاوعة، فمثلاً تقول: أدرته فاستدار، فان المجيء بصيغة الاستفعال إنما هو ليفيد المطاوعة والتجارب والانفعال عمّا فعلتَه، وكان من الممكن ان يقال أدرته فدار لكنه يكون حينئذٍ خالياً عن نكهة المطاوعة، وكذلك تقول أرحته فاستراح فانه لا يراد به انه طلب الراحة كما هو الأصل في باب الاستفعال بل المراد انه طاوعك في الاستراحة وانقاد لك واستجاب.

فقد يقال ان الوجه في التعبير في الآية الشريفة بـ(الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) هو الإشارة إلى جنبة المطاوعة في الصراط ووجه الاستقامة فيه وانه هو وجود عِلّة فاعلية له، إذ تقول مثلاً: اقمته فاستقام، فذلك يفيد ان هناك علّة لاستقامة الصراط هي التي بها كان الصراط مستقيماً فليس هو مستقيماً بذاته بل هو مستقيم بفعل فاعل وهو الله تعالى فكأنه قيل أهدنا الصراط الذي أقمته يا ربنا فأستقام، وكأنّ ذلك يستبطن التعليل في لزوم إتباعه فانه إذا كان الخالق جل اسمه هو الذي أقام الصراط فاستقام فانّ من الطبيعي ان علينا حينئذٍ المطاوعة والانقياد والمشيء على الصراط المستقيم (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)(2).

بل ان ذلك يتناغم مع طلب الهداية في صدر الآية إذ تقول: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) فحيث ان الصراط هو الذي أقامه الله تعالى فاستقام بفعله تعالى فان من اللازم ان نطلب من الله تعالى الهداية إليه؛ إذ ليس بمقدورنا ان نستكشف حقائق أفعال الله تعالى وكيفياتها وأغراضها وحدودها إلا منه جل اسمه، فانه حيث كان جل اسمه هو الذي أقام الصراط على كيفية خاصة ولأهداف محددة وبضوابط معينة فاستقام عليها فان علينا ان نطلب منه الهداية إلى ذلك كله والتي لا تكون، طبيعياً، إلا عبر الأنبياء والرسل والأوصياء؛ إذ لا يوجد، وكما هو واضح، اتصال مباشر بيننا وبين إله الأرض والسماء، يكفل لنا إيضاح ذلك إلا عبر الرسل والأوصياء.

ج- المراد به الطلب (طالب القيام والثبات والاستقامة!)

الثالث: ان باب الاستفعال يأتي للدلالة على طلب الفعل، وهذا هو الأصل فيه والموضوع له، فمثلاً تقول: استغَفَرَ الله تعالى أي انه طلب غفرانه لذنبه أو استخرج الذهب من المعدن أي طلب خروجه، وإن كان قد يراد به إخراج الذهب منه.

ولكن هذا المعنى قد يقال بانه لا معنى لفرضه في الآية الكريمة إذ الصراط ليس مما يطلب القيام والقوام، بل هو مما يوصف بالقويم أو القائم، نعم يوصف به الإنسان باعتباره مدرِكاً شاعراً إذ يقال: إنسان مستقيم فقد يراد به المجرد ومعنى القويم، وقد يراد به انه طالب للقيام والثبات والاستقامة؛ كما تقول: إنسان مستثمِر أي طالب للثمرة والاستثمار، وشخص مستعمِر أي طالب للإعمار والعمران، وشركة مستخرِجة للذهب أي طالبة لخروجه، وذلك لأن الإنسان مدرِك شاعر فيصدق عليه انه يطلب كذا، أما الصراط فهو غير مدرك ولا شاعر لذا لا يصح وصفه بانه طالب للقيام والقوام والاستقامة كي يوصف بانه مستقيم بطلب وإرادة وشعور منه. هذا.

الوجه في وصف الصراط بالمستقيم مع انه لا إدراك له

ولكنّ النظر الفاحص يقودنا إلى صحة وصف الصراط بالمستقيم وإرادة المعنى الموضوع له لباب الاستفعال منه، وذلك لأن الصراط المستقيم فسر في الروايات وكما سبق بتفسيرات:

الأول: قال الإمام الصادق عليه السلام: ((نَحْنُ وَاللَّهِ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ))(3).

الثاني: ((الطريق ومعرفة الإمام))(4) كما في رواية أخرى، و((اِهْدِنَا الصِّرٰاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ))(5) حسب رواية ثالثة:

أولاً: لأن المراد به المعصومون عليهم السلام

فأما المعنى الأول للصراط وهو الأئمة الأطهار عليهم السلام وكذلك الرسل والأنبياء، فان من الواضح صحة نسبة الاستقامة بمعنى طلب الثبات والقيام إليهم، وذلك لأن كل نعمة فمن الله (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ)(6) وقال تعالى: (وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً)(7) فان أصل وجود الممكن من الله تعالى، والرسول والأئمة من الممكنات والمخلوقات لله تعالى كما هو بديهي، كما ان صفاته من الله تعالى أيضاً فإنها ممكنة وليست بواجبة الوجود، وبعبارة أخرى: لا هي واجبة الوجود ولا هي من ذاتي باب البرهان ليكون ثبوتها لذيها ضرورياً، على ان مطلق ذاتي باب البرهان محتاج للفاعل بحاجة ذيه إليه.

بل يقول تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى)(8) و(وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ)(9).

والحاصل: ان الرسل والأنبياء والأوصياء يطلبون الثبات على الطريق والاستقامة على الدين القويم من الله تعالى، وعندما نقول (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) يراد به أهدنا إلى الأئمة والأنبياء والرسل عليهم السلام الذين هم الصراط المستقيم إلى الله تعالى أي الذين هم صراط مستقيم بمشيئة الله تعالى وباستجابته لطلبهم إذ طلبوا منه الاستقامة والثبات على الصراط المستقيم الذي يراد به في تفسير آخر دينه جل اسمه فهذا (وهو هم) صراط وذاك (وهو دينهم) صراط، وهما طولياً موصلان لله تعالى.

ثانياً: لأن الطريق، ككل مخلوق، مدرِك شاعر

واما المعنى الثاني: فقد يتوهم ان التعبير بالمستقيم عن الطريق نفسه مع إرادة المعنى الحقيقي للاستفعال مما لا يمكن إذ لا شعور له ولا إدراك كي يطلب الثبات والاستقامة، وعليه فلا محالة يجب ان يفسر ذلك بلسان الحال لا بلسان القال.

ولكن ذلك غير صحيح، وذلك لأن من الثابت ان كل شيء شاعر مدرك قال تعالى: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)(10) والملفت في الآية والصارخ أيضاً ان الله تعالى يَسِمُنا نحن بالقصور والجهل (وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) كي لا نقول بان المراد من تسبيحهم انه مجاز أي انه بلسان الحال! فيقول جل اسمه: ما مضمونه: ان كل شيء يسبح لكنك أنت لا تفهم! اما إذا كان المراد التسبيح بلسان الحال فهو مجاز لا غموض فيه ولا مجال للاستنكار عليه فلا معنى لتقريعنا باننا لا نفقه! كما يدل على شعورها قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)(11) وهي ظاهرة من حيث مفردة (عَرَضْنَا) في المقصود؛ إذ لا يعرض الشيء على غير المدرك الشاعر فلا يقال عرضت على الحائط ان اصبغه مثلاً، كما هي صريحه من حَيث مفردتي (فَأَبَيْنَ) و(وَأَشْفَقْنَ).

وهذه الحقائق القرآنية تقمع غرور الإنسان إذ يتصور انه العاقل والمدرك الوحيد وانه أفضل المخلوقات! ولذا نجده تعالى يقول في آية أخرى (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)(12) فالإنسان ليس أفضل خلائق الله كما يتوهمه الكثيرون بل هناك أفضل منه ولذا قال تعالى: (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) وليس على الجميع والكل.

وعليه: فالطريق والصراط مدرك شاعر يطلب من الله تعالى الثبات على القوامية والقيامية والاستقامة!

ولكن ماذا يعني ان يطلب الصراطُ الاستقامة؟

الجواب: لأن الاستقامة ليست ذاتية له بل هي من الاعراض وكل ما كان كذلك فانه بحاجة إلى جعل، فهذا أولاً، واما ثانياً: فلأن الاستقامة ليست هي الاستواء والسير على خط مستقيم بالضرورة، بل ان هذا هو المعنى الأولي أو الظاهري أو المادي للاستقامة؛ إذ قد يكون الصراط المستقيم هو المتعرج أو المموج أو الحنيف (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا)(13) فهو المائل عن سبيل المشركين أي بالمعنى الحسي المعهود، ولكنه المستقيم بالمعنى الحقيقي الآخر المنشود، وهذه حقيقة في غاية الأهمية ومزيد توضيحها:

معاني الاستقامة:

ان الاستقامة بمعنى الاستواء والسير على الخط المستقيم (بالمعنى المعهود) ليست مطلوبة لذاتها بل قد تكون هي الخطأ والضلال بعينه ويكون الهدى والرشاد في الاستقامة بمعنى آخر بل بمعاني أخرى أربعة وهي الاستقامة بلحاظ الغاية، والفاعل، والموضوع، والقابل.

أولاً: الاستقامة بلحاظ الغاية

ولنمهد لذلك بمثالين من عالم التكوين:

المثال الأول: الصواريخ الذكية، فان هذا النوع من الصواريخ قيمته الحقيقية في انه يتتبع الهدف (وهو الطائرات الحربية الـمُغيرة على البلاد) بكل إلحاح وإصرار فمهما غيّرت الطائرة الحربية مسارها وتعرجت وارتفعت أو انخفضت فانه يتّبع نفس المسار المتعرج، وهذا يعني ان استقامة الصاروخ الذكي ليست في سيره في خط مستقيم بل ان استقامته واقعاً هي في سيره باتجاه الهدف فمهما استقام استقام ومهما انحرف انحرف.

والسر ان الاستقامة بمعنى الاستواء ليست هدفاً ولا مطلوباً لذاته بل إنما قيمة الطريق هي بالايصال إلى المقصد والغاية فحينئذٍ يكون طريقاً وإلا كان مُضلّة ومنزَلقاً ومتاهةً، وعليه: فطريقية الطريق هي بان يوصل للهدف فقد يجب ان يكون متعرجاً حينئذٍ فيكون هو المستقيم حقاً وإن كان غير مستقيم بالمقياس المادي الظاهري لكونه متعرجاً، وقد يجب ان يكون مستقيماً بالمعنى المعهود لأنه الموصل للهدف.

المثال الثاني: الطرق الجبلية الضيقة المتعرجة المنحرفة الملتوية التي تستدير باستدارة الجبل وتتعرج بتعرجه، وهنا نشهد بوضوح ان المستقيم بالمعنى المعهود أي السير في خط مستوٍ هو غير المستقيم واقعاً إذ به الهلاك والضلال والسقوط في أسفل الوادي السحيق، وبالعكس فان المستقيم بالمعنى الحقيقي هو الانحراف بانحراف الجبل والالتواء مع التواءاته.

السر في التعبير بـ(( يَدُورُ حَيْثُمَا دَارَ))

ومن هنا نفهم بعض السر في قوله صلى الله عليه واله وسلم ((عَلِيٌّ مَعَ الْحَقِّ وَالْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ يَدُورُ حَيْثُمَا دَارَ))(14) والمذهل هو التعبير بـ(يدور) و(حيثما دار) وعدم التعبير بالمعهود كالقول بانه يمشي معه على خط مستقيم أو انه يواصل سيره معه في خط مستقيم أو شبه ذلك، والسر هو ان الغاية هي الـمِلاك والمقياس فقد تقتضي الدوران وقد تقتضي الاستقامة بالمعنى المعهود.

وهذا هو الذي لم يفهمه الخوارج من (علي صلوات الله عليه) حيث توهموا انه كان يجب عليه ان يمشي على خط مستقيم ويرفض (التحكيم) مهما بلغ الأمر، كما غفل الجهال من أسلافهم إذ اعترضوا على صلح الحديبية، غافلين عن ان الهدى (وهو رضا الله تعالى) قد لا يكون في ذلك، فمثلاً: قد يكون الصراط المستقيم في الحركة وقد يكون في الجمود والسكون وقد ورد ((كُونُوا أَحْلَاسَ بُيُوتِكُمْ))(15) فقد تكون الثورة هي الصراط المستقيم كما صنع أبو الأحرار وسيد الشهداء وقد تكون الهدنة هي الصراط المستقيم كما صنع السبط الأكبر عليه السلام وقد تكون المعاهدة أو حتى التحالف.

ومن هنا يتأكد ان الصراط المستقيم بلحاظ الغاية لا يتطابق بالضرورة مع الصراط المستقيم بلحاظ نفس صفة الاستقامة الحسية الظاهرية.

لأنه عليه السلام صَمَت وسَكَن إذ وجبا ونَهَض ونَطَق إذ لَزِما

ومن هنا نفهم أيضاً السرّ في عظمة علي عليه السلام حيث انه صمت إذ وجب الصمت ونطق إذ وجب النطق، ونعرف انه كان في قمة البطولة والشجاعة والشموخ والتسليم لأمر الله تعالى والرضا بقضائه والصبر على بلائه إذ شهد هجوم الأعداء على الصديقة الزهراء عليها السلام ولم يقاتلهم مع انه كان بمقدوره ان يزلزل بنيانهم ويجندل أبطالهم كما جندل أسلافهم من قبل.. فذلك لأنه (قيّدته وصية من أخيه)،

عَنْ عِيسَى بْنِ الْمُسْتَفَادِ أَبِي مُوسَى الضَّرِيرِ قَالَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ عليه السلام ((قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَ لَيْسَ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام كَاتِبَ الْوَصِيَّةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم الْمُمْلِي عَلَيْهِ وَجَبْرَئِيلُ وَالْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ عليهم السلام شُهُودٌ قَالَ فَأَطْرَقَ طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا الْحَسَنِ قَدْ كَانَ مَا قُلْتَ وَلَكِنْ حِينَ نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم الْأَمْرُ نَزَلَتِ الْوَصِيَّةُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كِتَاباً مُسَجَّلًا نَزَلَ بِهِ جَبْرَئِيلُ مَعَ أُمَنَاءِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ جَبْرَئِيلُ يَا مُحَمَّدُ مُرْ بِإِخْرَاجِ مَنْ عِنْدَكَ إِلَّا وَصِيَّكَ لِيَقْبِضَهَا مِنَّا وَتُشْهِدَنَا بِدَفْعِكَ إِيَّاهَا إِلَيْهِ ضَامِناً لَهَا يَعْنِي عَلِيّاً عليه السلام فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه واله وسلم بِإِخْرَاجِ مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ مَا خَلَا عَلِيّاً عليه السلام وَفَاطِمَةُ فِيمَا بَيْنَ السِّتْرِ وَالْبَابِ

فَقَالَ جَبْرَئِيلُ يَا مُحَمَّدُ رَبُّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ هَذَا كِتَابُ مَا كُنْتُ عَهِدْتُ إِلَيْكَ وَشَرَطْتُ عَلَيْكَ وَشَهِدْتُ بِهِ عَلَيْكَ وَأَشْهَدْتُ بِهِ عَلَيْكَ مَلَائِكَتِي وَكَفَى بِي يَا مُحَمَّدُ شَهِيداً قَالَ فَارْتَعَدَتْ مَفَاصِلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه واله وسلم فَقَالَ يَا جَبْرَئِيلُ رَبِّي هُوَ السَّلَامُ وَمِنْهُ السَّلَامُ وَإِلَيْهِ يَعُودُ السَّلَامُ صَدَقَ عَزَّ وَجَلَّ وَبَرَّ هَاتِ الْكِتَابَ فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِدَفْعِهِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام فَقَالَ لَهُ اقْرَأْهُ فَقَرَأَهُ حَرْفاً حَرْفاً فَقَالَ يَا عَلِيُّ هَذَا عَهْدُ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَيَّ وَشَرْطُهُ عَلَيَّ وَأَمَانَتُهُ وَقَدْ بَلَّغْتُ وَنَصَحْتُ وَأَدَّيْتُ فَقَالَ عَلِيٌّ عليه السلام وَأَنَا أَشْهَدُ لَكَ بِأَبِي وَأُمِّي أَنْتَ بِالْبَلَاغِ وَالنَّصِيحَةِ وَالتَّصْدِيقِ عَلَى مَا قُلْتَ وَيَشْهَدُ لَكَ بِهِ سَمْعِي وَبَصَرِي وَلَحْمِي وَدَمِي فَقَالَ جَبْرَئِيلُ عليه السلام وَأَنَا لَكُمَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم يَا عَلِيُّ أَخَذْتَ وَصِيَّتِي وَعَرَفْتَهَا وَضَمِنْتَ لِلَّهِ وَلِيَ الْوَفَاءَ بِمَا فِيهَا فَقَالَ عَلِيٌّ عليه السلام نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي عَلَيَّ ضَمَانُهَا وَعَلَى اللَّهِ عَوْنِي وَتَوْفِيقِي عَلَى أَدَائِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم يَا عَلِيُّ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُشْهِدَ عَلَيْكَ بِمُوَافَاتِي بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ عَلِيٌّ عليه السلام نَعَمْ أَشْهِدْ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه واله وسلم إِنَّ جَبْرَئِيلَ وَمِيكَائِيلَ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْآنَ وَهُمَا حَاضِرَانِ مَعَهُمَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ لِأُشْهِدَهُمْ عَلَيْكَ فَقَالَ نَعَمْ لِيَشْهَدُوا وَأَنَا بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أُشْهِدُهُمْ فَأَشْهَدَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم وَكَانَ فِيمَا اشْتَرَطَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ بِأَمْرِ جَبْرَئِيلَ عليه السلام فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ قَالَ لَهُ يَا عَلِيُّ تَفِي بِمَا فِيهَا مِنْ مُوَالَاةِ مَنْ وَالَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْبَرَاءَةِ وَالْعَدَاوَةِ لِمَنْ عَادَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ عَلَى الصَّبْرِ مِنْكَ وَعَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ وَعَلَى ذَهَابِ حَقِّي وَغَصْبِ خُمُسِكَ وَانْتِهَاكِ حُرْمَتِكَ فَقَالَ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَقَدْ سَمِعْتُ جَبْرَئِيلَ عليه السلام يَقُولُ لِلنَّبِيِّ يَا مُحَمَّدُ عَرِّفْهُ أَنَّهُ يُنْتَهَكُ الْحُرْمَةُ وَهِيَ حُرْمَةُ اللَّهِ وَحُرْمَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم وَعَلَى أَنْ تُخْضَبَ لِحْيَتُهُ مِنْ رَأْسِهِ بِدَمٍ عَبِيطٍ قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام فَصَعِقْتُ حِينَ فَهِمْتُ الْكَلِمَةَ مِنَ الْأَمِينِ جَبْرَئِيلَ حَتَّى سَقَطْتُ عَلَى وَجْهِي وَقُلْتُ نَعَمْ قَبِلْتُ وَرَضِيتُ وَإِنِ انْتَهَكَتِ الْحُرْمَةُ وَعُطِّلَتِ السُّنَنُ وَمُزِّقَ الْكِتَابُ وَهُدِّمَتِ الْكَعْبَةُ وَخُضِبَتْ لِحْيَتِي مِنْ رَأْسِي بِدَمٍ عَبِيطٍ صَابِراً مُحْتَسِباً أَبَداً حَتَّى أَقْدَمَ عَلَيْكَ.

ثُمَ‏ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم فَاطِمَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَأَعْلَمَهُمْ مِثْلَ مَا أَعْلَمَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالُوا مِثْلَ قَوْلِهِ فَخُتِمَتِ الْوَصِيَّةُ بِخَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ وَدُفِعَتْ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام فَقُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ عليه السلام بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَلَا تَذْكُرُ مَا كَانَ فِي الْوَصِيَّةِ فَقَالَ سُنَنُ اللَّهِ وَسُنَنُ رَسُولِهِ فَقُلْتُ أَ كَانَ فِي الْوَصِيَّةِ تَوَثُّبُهُمْ وَخِلَافُهُمْ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام فَقَالَ نَعَمْ وَاللَّهِ شَيْئاً شَيْئاً وَحَرْفاً حَرْفاً أَ مَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى‏ وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) وَاللَّهِ لَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَفَاطِمَةَ عليها السلام أَ لَيْسَ قَدْ فَهِمْتُمَا مَا تَقَدَّمْتُ بِهِ إِلَيْكُمَا وَقَبِلْتُمَاهُ فَقَالَا بَلَى وَصَبَرْنَا عَلَى مَا سَاءَنَا وَغَاظَنَا))(16)

إذاً كان عليه السلام مأموراً بالصبر.. الصبر المرّ على الفاجعة العظمى.. وما أصعب ان يصبر المرء على الهجوم على زوجته أمامه فكيف إذا كانت الزوجة وديعة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم؟ وكيف إذا كان الزوج أسد الله الغالب وقاتل عمرو بن ودّ ومرحب والقادر على نسف الأعداء نسفاً؟ إن كل ذلك يكشف عن أعلى درجات إيمانه عليه السلام وعن منتهى طاعته لله تعالى وعن أعظم وأروع درجات الاستقامة الحقيقية على طريق رضا الخالق وتحصيل رضاه.. فكانت الاستقامة ههنا تعني بالضبط عكس مفهوم الاستقامة البدائي لدى البسطاء الذين يتصوروها في اثارتها حرباً طاحنة، وليكن بعدها ما يكون!

إن الغيرة والحمية والشجاعة قيم أساسية لكنها جميعاً يجب ان تخضع لـ(الحكمة) ولمشيئة المبدأ الأعلى جل وعلا وللغاية الأسمى، وبتعبير آخر هي قيم إضافية أو نسبية.

وبتعبير آخر: الغيرة على الدين هي الأسبق رتبة من الغيرة على الأشخاص مهما بلغت منزلتهم ورتبتهم ولذلك قال أمير المؤمنين لفاطمة الزهراء عليها السلام ما مضمونه انه إذا أرادت ان يستمر صوت الشهادة بان (محمداً رسول الله) يصدح على المآذن أبد الدهر، فلتصبر.. وكانت هي روحي فداها عالمة بذلك، لكنهما أرادا إبلاغنا تلك الحقائق المرة عبر هذا الطريق والحوار.

وتتضح القيمة النسبية للغيرة والحمية أكثر عند التدبر في الرواية التالية، فقد ورد: ((غَيْرَةُ الْمَرْأَةِ كُفْرٌ وَ غَيْرَةُ الرَّجُلِ إِيمَانٌ))(17) والمقصود ان غيرة الرجل على امرأته بما يصون دينها وعرضها إيمان، وغيرة المرأة على زوجها بما تتفجر معه قوتها الغضبية ضد ما أباحه الله له، كفر أي انه كفر بالقانون الإلهي.

النحو والمنطق أو الفقه؟

ومن الأمثلة على الاستقامة بلحاظ الغاية: ان رجل الدين قد ينشغل بدراسة النحو والصرف والمنطق وغيرها ثم يكتشف انه قد توغل فيها بما ضيّع عليه الهدف الأسمى وأخرجها من جهة الطريقية إلى الموضوعية ومن الآلية إلى الاستقلالية فهنا عليه ان يصحح المسار ويغيره بلحاظ الغاية وهي علم الفقه الذي كانت كل تلك المقدمات مجرد طريق لتذليل الأدلة وتطويعها في عملية الاستنباط للحكم الشرعي الكلي الفرعي الإلهي.

الفقه أو العقائد؟

والأوضح من ذلك ان طالب العلم أو العالم لو رأى وفرةً في دروس الفقه والأصول وندرةً في دروس العقائد، فان عليه ان يصحح المسار فيترك حتى تدريس الخارج ليتفرغ لحفظ عقائد الناس وصدّ الهجمات الثقافية والفكرية والعقدية وردّ الشبهات المتموجة في المجتمع يوماً بعد يوماً أكثر فأكثر.

وذلك يعني ان الصراط المستقيم ليس بالضرورة في ان يستمر في تدريس الفقه والأصول، بل قد يكون كذلك، وقد يكون في تركهما، وقد يكون في تنصيف الجهد وتنويعه.

ومن هنا نصل إلى قاعدة هامة هي الفيصل في النزاع الممتد على امتداد التاريخ بين الحداثة والأصالة، إذ كثيراً ما يسأل: هل الأصل هو التغيير والتجديد أو الأصل هو السكون والتجميد؟ وهل علينا ان نتبنى أصالة الجمود والسكون؟ أم أصالة الانطلاق والحركة والنهوض؟

والجواب المنبثق من مبدأ (الغاية): أنه كلا، فلا هذا ولا ذاك!، بل الأصل هو (الحكمة) وقد قال (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)(18) و(وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)(19) فقد تقتضي الحكمة التي تعني وضع الأشياء في مواضعها ومنها عدم تضييع الأهم بسبب التشبث بالمهم، التجديد والعصرنة وقد تقتضي الرجعية والتشبث بالماضي أو ببعض قيمه وأساليبه..

وبكلمة: فإن الصراط المستقيم لا يعني ان تبقى مصراً على الاستمرار في نفس الدرب السابق حتى أ- إذا تغيرت الأهداف الوسطى أو الآنية نظراً لمقتضيات باب التزاحم فصار هدفك هو الحاجز الأكبر عن الهدف الأعظم ((لَا قُرْبَةَ بِالنَّوَافِلِ إِذَا أَضَرَّتْ بِالْفَرَائِضِ))(20) ب- أو اكتشفت أهدافاً أعظم ج- أو بانَ لك استحالة الوصول إلى الهدف المنشود فكان اللازم تصحيح المسار باتجاه هدف آخر يعوضك عما حرمته لدى العجز عن الهدف الأول.

ثانياً: الاستقامة بلحاظ الفاعل

وقد يكون المدار في الاستقامة والانحراف هو (الفاعل) لا (العمل نفسه) وهذا يعني ان (العمل) قد يكون بنفسه يشكل تارة خط الاستقامة وأخرى خط الانحراف إذا ما وقع بالضد من رغبة الفاعل الذي إليه يرجع الأمر ومشيئته.

ان الله يغضب لغضب فاطمة عليها السلام

ومن أبرز وأهم النماذج على ذلك قوله صلى الله عليه واله وسلم: ((إِنَّ اللَّهَ يَغْضَبُ لِغَضَبِ فَاطِمَةَ وَيَرْضَى لِرِضَاهَا))(21) و((يَرْضَى اللَّهُ تَعَالَى لِرِضَاهَا وَيَسْخَطُ لِسَخَطِهَا))(22) ولكي يتضح ذلك جيداً فعلينا الانتقال إلى مثال آخر أقرب إلى الأفهام وهو (رضا الوالدين أو سخطهما) فان (العمل المباح) كالخروج إلى الشارع أو السوق قد يتحول إلى عمل محرم إذا كان فيه إيذاءً لأحد الوالدين وقد يكون واجباً إذا كان تركه السبب في إيذائهما كذلك.

وبذلك يظهر ان الصراط المستقيم في الأعمال لا يدور دائماً مدار حسنها وقبحها ومصلحتها ومفسدتها أو خلوها من ذلك كله، بل قد يدور مدار النسبة إلى الفاعل وإلى رضاه ومشيئته أو سخطه وكراهته، وهنا يتجلى لنا أكثر عمق معنى الحديثين ((عَلِيٌّ مَعَ الْحَقِّ وَالْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ يَدُورُ حَيْثُمَا دَارَ)) و((يَرْضَى اللَّهُ تَعَالَى لِرِضَاهَا وَيَسْخَطُ لِسَخَطِهَا)) إذ يكون أ- الحق مع علي يدور حيثما دار علي ب- كما يكون علي مع الحق يدور معه حيثما دار ج- ويكون رضى الله مترتباً على رضى فاطمة د- وسخطه لاحقاً لسخطها، فليس المدار والملاك والمقياس هو العمل فقط وإلا لكان كل أحد كذلك إذ يدور رضا الله مدار الصلاة والصوم والحج ونظائرها ويدور سخطه مدار الغصب والسرقة وشرب الخمر وأشباهها، سواء أصدر من فاطمة عليها السلام أم من غيرها (على درجات في الأعمال) لكن الخصيصة التي في فاطمة عليها السلام هي ان رضا الله يدور مدار رضاها ولم يقل ان رضا الله يدور مدار أعمالها الصالحة وإلا لكان التخصيص أشبه باللغو إذ ان كل أحد فان رضا الله يدور مدار عمله الصالح(23).

والأعمال الصالحة لا تُقبل إلا بالتوحيد والولاية

ويؤكد ذلك أيضاً الأحاديث الدالة على ان الأعمال الصالحة لا تقبل إلا بالإيمان بالله تعالى والرسول صلى الله عليه واله وسلم والولاية لأهل بيته عليهم السلام فرغم ان العمل صالح إلا ان انتسابه إلى الموحّد أو المسلم أو الموالي وصدوره منه هو ملاك القبول، ألا ترى قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)(24) و(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا)(25) و(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا)(26) مع انهم قد يعملون أعمالاً صالحة كثيرة و(وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)(27) وقال (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)(28) وقال (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)(29) فبدون الإيمان بإمامة أمير المؤمنين والأئمة من بنيه عليهم السلام لا يرضى الله الإسلام ديناً من أحد.

وقال صلى الله عليه واله وسلم: ((قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا))(30) فلو لم يقلها لم يفلح وإن عمل الصالحات وقال صلى الله عليه واله وسلم: ((أَسْلِمْ تَسْلَمْ أَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ))(31)

وقال الشاعر مقتبساً المضمون من الروايات:

لو أنّ عبداً أتى بالصالحاتِ غداً.....وودّ كلّ نبيٍّ مرســــلٍ وولي

وصام ما صام صوّاماً بلا ضجــر.....وقام ما قام قوّاماً بـــلا مـــــلل

وحجّ ما حجّ من فرضٍ ومن سنن.....وطاف بالبيت حافٍ غــــير منتعل

وطار في الجوّ لا يأوي إلى أحدٍ.....وغاص في البحر مأموناً من البلل

يكسو اليتامى من الديباج كلّهم.....ويُطعم الجائعين البرّ بالعســـــل

وعاش في الناس آلافاً مؤلّفةً.....عارٍ من الذنب معصوماً من الـزلل

ما كان في الحشر عند الله مُنتفعاً.....إلّا بحبّ أمير المؤمنين علي

وقد فصلنا الكلام عن ذلك في كتاب (شعاع من نور فاطمة عليها السلام دراسة عن القيمة الذاتية لمحبة فاطمة الزهراء عليها السلام).

رضا المالك هو المقياس، لا المصالح والمفاسد

ويشهد لذلك كله المثال الآتي: وهو ان رضا المالك هو المقياس في صحة العمل وكونه مباحاً جائزاً أو كونه باطلاً محرماً فالطريق المستقيم، إذا كنت في ملكٍ للغير، هو الحركة على حسب رضاه، والطريق المنحرف هو الحركة المستوجبة لسخطه، وذلك في دائرة اللاإقتضائيات طبعاً، فمثلاً: لو دخلت دار الغير فأجاز لك الجلوس في هذه الغرفة أو تلك الزاوية جاز لك ذلك وإذا حظر عليك ذلك حرم، فالأمر منوط برضاه وسخطه لا بالمصلحة والمفسدة، فلو كانت مصلحتك في ان تجلس في هذه الزاوية أو الركن لكونه الأجمل والأكثر تفريجاً للهمّ لكونه مشرقاً على حديقة غناء مثلاً، لكنّ المالك لم يرض بذلك فانه حرام لأنه غصب وتصرف في ملك الغير بدون رضاه، فالمدار في الاستقامة على جادة الشرع ههنا على رضا المالك وليست على المصلحة والمفسدة في المتعلَّق أصلاً، نعم لا يمكن للمالك ان يحلل الحرام أو يوجب الحلال من قبل نفسه.

ثالثاً: الاستقامة بلحاظ الموضوع

فان الموضوع قد يتغير فيتغير معه الحكم، ولنضرب لذلك أمثلة:

أ- المعدود إذا صار مكيلاً أو موزوناً، فانه يحرم حينئذٍ بيعه متفاضلاً، والعكس بالعكس، فلو كان البيض مثلاً يباع بالعدد جاز بيع بيضةٍ جيدة ببيضتين رديئتين، ولو صار بعد ذلك موزوناً حرم ذلك، فالطريق المستقيم هو الحرمة تارة والجواز أخرى حسب تغير عُرف البلد في الموضوع، وليس خطأ ثابتاً واحداً متصلاً لا يتزحزح.

ب- إذا تحوّلت بعض الألحان المستخدمة في المدائح أو المراثي إلى ألحان أهل الفسوق بان اقتبسوها وأكثروا منها وهجرها الرواديد بحيث عدّ عرفاً انه من الغناء وألحان أهل الفسوق والمجون، حرم قراءة المدائح والمراثي بها، وبالعكس إذا كان طورٌ أو لحنٌ من الألحان من الغناء عرفاً ومن ألحان أهل الفسوق ثم سقط عن كونه كذلك فرضاً، جاز.

ج- آلة اللهو، فلو كانت آلة من الآلات كـ(السامبلر) مثلاً متعددة الاستعمالات فليست حينئذٍ آلة لهو فتكون كالحاسوب الذي وإن أمكن نصب لوحة الشطرنج فيه واللعب به لكنه لأنه متعدد الاستخدامات فليس آلة لهو فيجوز بيعه وشراؤه، لكن (السامبلر) أو غيره لو تمحض بمرور الزمان في الاستعمالات اللهوية بحيث عدّ آلة لهو، حُرم استعماله، فليست الاستقامة على جادة الشرع بتحريمه أبداً ولا بتحليله دائماً.

رابعاً: الاستقامة بلحاظ القابل

والقابل أيضاً له المدخلية التامة في استقامة هذا الأمر أو انحرافه فقد تدور الاستقامة مداره فيكون الطريق المستقيم بلحاظ قابلٍ ما طريق ضلال وانحراف وزيف ويكون بالنسبة لقابل آخر طريق هدى وصلاح فمثلاً: ورد في الحديث ((لَا تُعْطُوا الْحِكْمَةَ غَيْرَ أَهْلِهَا فَتَظْلِمُوهَا وَلَا تَمْنَعُوهَا أَهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُ...))(32) فإعطاء الحكمة قبيح وظلم تارة وحسن وعدل تارة أخرى.

بذل العلم لغير أهله وكتمانه عن أهله

ومثلاً: ذكر فضائل أهل البيت عليهم السلام ومناقبهم هو صراط مستقيم دون شك، ولكن لو كان القابل ممن لا يتحمل ذكر بعض مقاماتهم وكان – لضعف نفسه – لو ذكرت له يرتدّ – لا سمح الله – عن الدين أو يتّهمَ لا سمح الله – الرسول أو الإمام بالكذب في دعوى اتصافهم بتلك الفضائل والمقامات، فان ذكر تلك المقامات لذلك الشخص يكون محرماً حينئذٍ.

ولذلك ورد ((إِنَّ أَمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا يَحْمِلُهُ إِلَّا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ وَ لَا يَعِي حَدِيثَنَا إِلَّا صُدُورٌ أَمِينَةٌ وَ أَحْلَامٌ رَزِينَةٌ))(33).

ووردت أحاديث عديدة في ذم بذل العلم أو اعطائه أو ذكر فضائلهم لمن لا يتحملها، والأمر بالعكس فيمن يتحمل فان كتمان الفضائل عنه حرام إذا كان من دائرة الواجب الكفائي أو فرض فيما لو لم يذكرها لاندثرت، وذلك في بعض المراتب أو المصاديق مما لا شك فيه فتدبر، وتدل على أحد الطرفين أو كليهما الأحاديث التالية:

((إِنَّ حَدِيثَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا يَحْتَمِلُهُ إِلَّا صُدُورٌ مُنِيرَةٌ أَوْ قُلُوبٌ سَلِيمَةٌ أَوْ أَخْلَاقٌ حَسَنَة))(34)

و((خَالِطُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ وَدَعُوهُمْ مِمَّا يُنْكِرُونَ وَلَا تَحْمِلُوهُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَعَلَيْنَا، إِنَّ أَمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا يَحْتَمِلُهُ إِلَّا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أَوْ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ أَوْ عَبْدٌ قَدِ امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ))(35)

و((أَمَا وَاللَّهِ إِنَّ أَحَبَّ أَصْحَابِي إِلَيَّ أَوْرَعُهُمْ وَأَفْقَهُهُمْ وَأَكْتَمُهُمْ لِحَدِيثِنَا وَإِنَّ أَسْوَأَهُمْ عِنْدِي حَالًا وَأَمْقَتَهُمْ إِلَيَّ الَّذِي إِذَا سَمِعَ الْحَدِيثَ يُنْسَبُ إِلَيْنَا وَيُرْوَى عَنَّا فَلَمْ يَعْقِلْهُ وَلَمْ يَقْبَلْهُ قَلْبُهُ اشْمَأَزَّ مِنْهُ وَجَحَدَهُ وَكَفَرَ بِمَنْ دَانَ بِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الْحَدِيثَ مِنْ عِنْدِنَا خَرَجَ وَإِلَيْنَا أُسْنِدَ فَيَكُونُ بِذَلِكَ خَارِجاً مِنْ وَلَايَتِنَا))(36)

و((عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عليه السلام قَالَ ذُكِرَ التَّقِيَّةُ يَوْماً عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عليه السلام فَقَالَ وَاللَّهِ لَوْ عَلِمَ أَبُو ذَرٍّ مَا فِي قَلْبِ سَلْمَانَ لَقَتَلَهُ وَلَقَدْ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم بَيْنَهُمَا فَمَا ظَنُّكُمْ بِسَائِرِ الْخَلْقِ إِنَّ عِلْمَ الْعَالِمِ صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا يَحْتَمِلُهُ إِلَّا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ أَوْ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أَوْ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ قَالَ وَإِنَّمَا صَارَ سَلْمَانُ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّهُ امْرُؤٌ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ فَلِذَلِكَ نَسَبَهُ [نَسَبُهُ‏] إِلَيْنَا))(37)

وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)(38)

ومن هنا نعرف احدى أهم مقاييس التقية فانها تارة تكون بلحاظ الفاعل وأخرى تكون بلحاظ القابل، فهي من القضايا الخارجية لا الحقيقية بمعنى انها قد تكون في ظرف ما ولشخص ما واجبةً وقد تكون محرمة لشخص آخر أو لنفس الشخص في ظرف آخر، بل ذهب بعض الأعلام إلى تقسيمها إلى الأحكام الخمسة وان تنظّر فيه بعض آخر(39).

وورد ((التَّقِيَّةُ فِي كُلِّ ضَرُورَةٍ وَصَاحِبُهَا أَعْلَمُ بِهَا حِينَ تَنْزِلُ بِهِ))(40)

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com

........................................
(1) سورة الفاتحة: آية 6.
(2) سورة الملك: آية 22.
(3) علي بن إبراهيم بن هاشم القمي، تفسير القمي، مؤسسة دار الكتاب – قم، 1404هـ، ج2 ص66.
(4) علي بن إبراهيم بن هاشم القمي، تفسير القمي، مؤسسة دار الكتاب – قم، ج1 ص28.
(5) محمد بن مسعود العياشي، تفسير العياشي، المكتبة العلمية – طهران، 1380هـ، ج1 ص22، و في (البرهان في تفسير القرآن، مؤسسة البعثة، ج1 ص115).
(6) سورة النحل: آية 53.
(7) سورة الإسراء: آية 74.
(8) سورة الأنفال: آية 17.
(9) سورة الإنسان: آية 30.
(10) سورة الإسراء: آية 44.
(11) سورة الأحزاب: آية 72.
(12) سورة الإسراء: آية 70.
(13) سورة الأنعام: آية 161.
(14) العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء – بيروت، 1404هـ، ج10 ص432.
(15) محمد بن إبراهيم النعماني، الغيبة، مكتبة الصدوق – طهران، 1397هـ، ص196.
(16) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج1 ص281-283.
(17) السيد الشريف الرضي، نهج البلاغة، دار الهجرة للنشر – قم، ص491.
(18) سورة لقمان: آية 12.
(19) سورة البقرة: آية 269.
(20) السيد الشريف الرضي، نهج البلاغة، دار الهجرة للنشر – قم، ص475.
(21) الشيخ الطوسي، الأمالي، دار الثقافة للنشر – قم، 1414هـ، ص427.
(22) العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء – بيروت، 1404هـ، ج46 ص134.
(23) وللحديث وجه آخر فتدبر.
(24) سورة النساء: آية 48.
(25) سورة الفرقان: آية 23.
(26) سورة النساء: آية 145.
(27) سورة الحج: آية 31.
(28) سورة النساء: آية 65.
(29) سورة المائدة: آية 3.
(30) محمد بن شهرآشوب المازندراني، مناقب آل أبي طالب عليه السلام، مؤسسة العلامة للنشر – قم، 1379هـ، ج1 ص55.
(31) العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء – بيروت، 1404هـ، ج20 ص386.
(32) الحسن بن أبي الحسن الديلمي، أعلام الدين، مؤسسة آل البيت عليهم السلام – قم، 1408هـ، ص336.
(33) السيد الشريف الرضي، نهج البلاغة، دار الهجرة للنشر – قم، ص280.
(34) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج1 ص408.
(35) الشيخ الصدوق، الخصال، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1403هـ، ج2 ص624.
(36) محمد بن الحسن، بصائر الدرجات، مكتبة آية الله المرعشي – قم، 1404هـ، ص537.
(37) المصدر نفسه: ص25.
(38) سورة البقرة: آية 159.
(39) راجع كلام الشهيد عن التقية وكلام الشيخ الانصاري عنها.
(40) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج2 ص217.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي