الصراط المستقيم في مواجهة الحكومات الظالمة
(4)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2018-03-22 06:29
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ)(1) وقال جل اسمه: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ)(2) وفي مقابل الصراط المستقيم تقع السبل (وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ).
ومن أهم سبل الضلال ما ذكره تعالى بقوله: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ)(3)
من بصائر النور في آية الصراط المستقيم
ولنتوقف في البداية عند بصيرة قرآنية هامة في آية الصراط المستقيم فنقول: ان مفردة (الصراط) تحتل موقعاً شديد الأهمية في هذه الآية الكريمة لخصوصيتها وفرادتها وتميّزها على سائر المفردات المضارعة والمشابهة، ومن تلك المفردات (الطريق) فان الصراط كما فسروه يعني (الطريق).
لماذا (الصراط) وليس (الطريق)؟
ولكن لماذا لم يقل جل اسمه (اهدنا الطريق المستقيم) مع ان الطريق مفردة واضحة جليّة الدلالة والمعنى؟
وعندما نتدبر ونتفكّر في الأسباب والعلل المحتملة الآتية فاننا سنكتشف جانباً من تجليات عظمة القرآن الكريم وبعض أسرار إعجازه في انتقاء الكلمات، بنحو مذهل، ويمكننا ههنا الإشارة إلى بعض ما يخطر بالبال من العلل المطروحة على ساحة البحث والتحليل:
(الصراط) تحمل إرثاً تاريخياً وكنزاً من البطون
أولاً: لأن كلمة (الصراط) تحمل إرثاً تاريخياً وتستبطن كنزاً من البطون والمضامين والدلالات.
ثانياً: لأن كلمة (الصراط) تحيط بها هالة من الإبهام، بحيث تتناسب مع تعلق مفردة (أهدنا) بها، تماماً.
ثالثاً: لأنها لا مثنّى لها من لفظها ولا جمع لها، مما يستشم منه ان الصراط ذاتِيُّهُ الوحدة والتفرد.
وتوضيح ذلك:
1- ان الخزين التاريخي المعرفي الذي يكتنزه (الصراط) يتضح عبر إلقاء نظرة سريعة على ما ذكره اللغويون في مفردة الصراط ومناقشته على ضوء علم فقه اللغة، فقد ذكروا:
اللغويون: الصراط يعني: البلع والازدراد!
(سرط: سَرِطَ الطعامَ والشيءَ، بِالْكَسْرِ، سَرَطاً وسَرَطاناً: بَلِعَه، واسْتَرَطَه وازْدَرَدَه: ابْتَلَعَه، وَلَا يَجُوزُ سرَط؛ وانْسَرَطَ الشَّيْءُ فِي حَلْقِه: سارَ فِيهِ سيْراً سهْلًا. والمِسْرَطُ والمَسْرَطُ: البُلْعُوم، وَالصَّادُ لُغَةٌ. والسِّرْواطُ: الأَكُول؛ عَنِ السِّيرَافِيِّ. والسُّراطِيُّ والسِّرْوَطُ: الَّذِي يَسْتَرِطُ كُلَّ شَيْءٍ يَبْتَلِعُهُ. وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: رَجُلٌ سِرْطِمٌ وسَرْطَمٌ يَبْتَلِعُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ مِنَ الاسْتراط... وَفِي الْمَثَلِ: لَا تَكُنْ حُلْواً فتُسْتَرَطَ، وَلَا مُرّاً فتُعْقى، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَعْقَيْتُ الشَّيْءَ إِذا أَزَلْتَه مِنْ فِيك لمَرارتِه كَمَا يُقَالُ أَشْكَيْتُ الرَّجُلَ إِذا أَزلته عَمَّا يَشْكُوهُ. وَرَجُلٌ سِرْطِيطٌ وسُرَطٌ وسَرَطانٌ: جَيِّدُ اللَّقْمِ. وَفَرَسٌ سُرَطٌ وسَرَطانٌ: كأَنه يَسْتَرِطُ الجرْي. وَسَيْفٌ سُراطٌ وسُراطِيٌّ: قَاطِعٌ يَمُرّ فِي الضَّريبةِ كأَنه يَسْتَرِطُ كُلَّ شَيْءٍ يَلْتَهِمُه...
والسِّراطُ: السَّبِيلُ الْوَاضِحُ، والصِّراط لُغَةٌ فِي السِّرَاطِ، وَالصَّادِ أَعلى لِمَكَانِ المُضارَعة، وإِن كَانَتِ السِّينُ هِيَ الأَصل، وقرأَها يَعْقُوبُ بِالسِّينِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ ثَبِّتْنا عَلَى المِنْهاج الْوَاضِحِ؛ وَقَالَ جَرِيرٌ:
أَميرُ المؤمنينَ عَلَى صِراطٍ،... إِذا اعْوَجَّ المَوارِدُ مُسْتَقِيم
والمَوارِدُ: الطُّرُقُ إِلى الْمَاءِ، وَاحِدَتُهَا مَوْرِدةٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَنَفَرٌ مِنْ بَلْعَنْبر يصيِّرون السِّينَ، إِذا كَانَتْ مُقَدِّمَةً ثُمَّ جَاءَتْ بَعْدَهَا طَاءٌ أَو قَافٌ أَو غَيْنٌ أَو خَاءٌ، صَادًا وَذَلِكَ أَن الطَّاءَ حَرْفٌ تَضَعُ فِيهِ لِسَانَكَ فِي حَنَكِكَ فَيَنْطَبِقُ بِهِ الصَّوْتُ، فَقَلَبَتِ السِّينُ صَادًا صُورَتَهَا صُورَةَ الطَّاءِ، وَاسْتَخَفُّوهَا لِيَكُونَ الْمَخْرِجُ وَاحِدًا كَمَا اسْتَخَفُّوا الإِدْغام، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمُ الصِّرَاطَ وَالسِّرَاطَ، قَالَ: وَهِيَ بِالصَّادِّ لُغَةُ قُرَيْشٍ...)(4).
فهؤلاء يرون ان الصراط هي بالأصل السراط ثم انهم فسروا السراط بالابتلاع والازدراد كما يقال سرط الطعام إذا بلعه واسترطت الطعام إذا ازدرته، وسميت الطريق صراطاً لأنه يبتلع سالكه أو لأن سالكه يبتلعه!
قال الراغب في مفرداته: (السِّرَاطُ: الطّريق المستسهل، أصله من: سَرَطْتُ الطعامَ وزردته: ابتلعته، فقيل: سِرَاطٌ، تصوّرا أنه يبتلعه سالكه، أو يبتلع سالكه، ألا ترى أنه قيل: قتل أرضا عالمها، وقتلت أرض جاهلها، وعلى النّظرين قال أبو تمام:
رَعَتْهُ الفيافي بَعْدَمَا كانَ حِقْبَةً... رعَاهَا وَمَاءُ الـمُزْنِ يَنْهَلُّ سَاكِبُهْ)(5)
أقول: الوجه فيه: ان الراكب على جواد أو في سيارة مسرعة مثلاً فانه إذا نظر أمامه إلى الأرض فانه يخيل إليه ان السيارة تبتلع الأرض لسرعة طيّها من تحته، أو ان الناظر من بعيد أو من علّ إذا رأى الراكب أو الماشي في الطريق يبتعد رويداً رويداً حتى يختفي فكأنه يستشعر ان الطريق قد ابتلعه!
وبعبارة أخرى: كما ان ابتلاع الطعام يتضمن مروراً للطعام من الفم إلى الحلق والحنجرة والمرئي واختفاءه كذلك السائر في الطريق فانه يذهب فيه إلى ان يختفي.
وقال في معجم مقاييس اللغة: (سرط: السين والراء والطاء أصلٌ صحيح واحد، يدلُّ على غَيبة في مَرّ وذَهاب. من ذلك: سَرَطْت الطّعام، إذا بَلِعْته؛ لأنَّه إِذا سُرِطَ غاب. وبعضُ أهل العلم يقول: السِّراط مشتقٌّ من ذلك، لأنَّ الذاهبَ فيه يغيب غيبةَ الطعام الـمُستَرَط)(6)
المناقشة:
أ- الصراط كلمة من الإرث الإبراهيمي علیه السلام
ولكن الظاهر ان ذلك ليس بالصحيح وان الصراط ليس من مادة سرط ولا ان معناه انه يسترط المارة ويبتلعها أو المارة تسترطه وتزدرده! فذلك تكلّف واضح واجتهاد حدسي لا دليل عليه وهو مبنيّ على مجرد تقارب الحروف في الكلمتين.
والصحيح هو: ان (الصراط) هي مفردة من إرث الأديان الإبراهيمية وان هذه الكلمة كانت مجهولة لدى قريش إذ ضاعت كما ضاعت الكثير من معالم ديانة إبراهيم، وحيث وجدوها قريبة من سرط توهموا انها هي! بل نطقوها بالسين أيضاً! وعلى الرغم من ان الكتابة في القرآن الكريم هي بالصاد ولكننا نجدهم يضعون سيناً فوقها إشارة إلى انها بالأصل سين! وهو اجتهاد غريب.
ويكفينا دليلاً على ما ذكرناه ان بعض اللغويين(7) نص على انها (وَهِيَ بِالصَّادِّ لُغَةُ قُرَيْشٍ الأَوّلين الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ، قَالَ: وَعَامَّةُ الْعَرَبِ تَجْعَلُهَا سِينًا)(8) كما جاء في لسان العرب.
والظاهر حجية نقل خبراء اللغة في مثل ذلك، كما فصلناه في كتاب (حجية مراسيل الثقات المعتمدة)، ويكون نطق العرب للصاد بالسين توهماً منهم فانهم حيث لم يجدوها بالصاد في لغتهم توهموا ان (الصراط) هو (السراط) مع انه اجتهاد عقلي في أمر نقلي محض.
وعلى ذلك فالظاهر ان الصراط في (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) قد ذكر لأنها مفردة جاءت في الديانة الإبراهيمية عليه وعلى نبينا وآله السلام، فتشير فيما تشير إلى ان الإسلام الذي جاء به الرسول المصطفى محمد صلى الله عليه واله وسلم هو الصراط المستقيم الذي أرشد إليه أبو الأنبياء إبراهيم علیه السلام وان صراط الله تعالى على امتداد تاريخ البشر هو صراط واحد مستقيم في أصوله وأسسه وقواعده وإن كان مما يتكامل في أحكامه وتفاصيله. ولعله يمكن استنباط ذلك من بعض الآيات الأخرى كقوله تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا)(9) وإن كان ظاهرها المعنى لا اللفظ خاصة ولا اللفظ والمعنى، فتدبر.
ب- الصراط فيه نوع إبهام، فناسب (أهدنا)
2- ومن ذلك يظهر وجه احتمالي آخر لاختيار كلمة (الصراط) وهي ان فيه، كما ظهر من البحث اللغوي الآنف، نوعاً من الابهام في نفس اللفظ كما ان فيه نوعاً من الابهام في ذاته لذا احتاج إلى مرشد من السماء إذ لا يعرف الناس الصراط المستقيم عادة إلا برسل مبعوثين من قبل الله تعالى فاحتاج الصراط الإلهي إلى هداية ربانية، فبذلك يكون عالم الإثبات قد طابق عالم الثبوت ويكون فيه إشارة خفية إلى انه كما ان الصراط في لفظه تجهله قريش فكذلك هو في مصداقه وجوهره فاحتاج إلى الاستعانة بالله تعالى بالقول بصدق وإخلاص (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ).
ج- لا مثنى للصراط، عكس الطريق
3- ان الصراط لا مثنى له من لفظه ولا جمع، عكس الطريق والسبيل، ولذا نجد – وكما سبق – ان القرآن الكريم لم يأت بتثنية أو جمع للصراط أبداً بل حيث وجب ان يذكر مقابلاً للصراط لم يذكر الصراطات مثلاً بل ذكر السبل، قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ)(10).
وذلك يستبطن دلالة أخرى أيضاً وهي ان الصراط واحد ولا يمكن ان تكون هناك صراطات مستقيمة! فكما ان الله تعالى (أحد) لا ثاني له كذلك (الصراط) واحد(11) لا ثاني له! فكأنها تفيد ان الصراط ذاتيّه التفرد والوحدة! وذلك هو ما يؤكد حديث الفرقة الناجية من بين ثلاث وسبعين فرقة فان مضمونه يمكن ان يعضد بمثل هذه الآية القرآنية الكريمة.
فهذه بعض الوجوه المحتملة وراء السر في اختيار مفردة الصراط بديلاً عن الطريق والسبيل في الآية الشريفة، وسيأتي ذكر بعض الوجوه الأخرى بإذن الله تعالى.
من البصائر في آية الصراط
وقد سبق: (ان المراد من الهداية في الآية الكريمة قد يكون هو الهداية في مرحلة العِلّة المبقية فيكون الطلب طلباً لديمومة الهداية واستمراريتها فهو طلب يتعلق بالهداية في عمود الزمن وامتداداته، وقد يكون طلباً للمراتب العليا من الهداية فهو طلب يتعلق بالجانب الكيفي ودرجات الإيمان والهداية والاهتداء، وقد يكون طلباً للهداية التكوينية بعد التشريعية التي تعني الإيصال للمطلوب لا مجرد إراءة الطريق، وقد يكون طلباً للهداية بحسب تجلياتها في المفردات المتجددة والمصاديق المستحدثة، والكلام الآن يدور حول القسم الرابع فنقول:
دوائر الهداية في المفردات المتجددة
ان الهداية لدى مواجهة المصاديق المتجددة والمفردات المستجدة، لهي ذات دوائر عديدة:
الدائرة الأولى: دائرة الأحكام.
الدائرة الثانية: دائرة الموضوعات.
الدائرة الثالثة: دائرة النظريات العامة.
الدائرة الرابعة: دائرة القيادة الإسلامية.
الدائرة الخامسة: دائرة الأدلة والحجج والبراهين)(12) وهناك دوائر أخرى أيضاً:
6- الهداية في دائرة المواقف المتجددة
الدائرة السادسة: دائرة المواقف.
فان الإنسان يكون بأمسّ الحاجة إلى هداية الله تعالى وتسديده في كافة المواقف الصعبة خاصة المصيرية منها.
الموقف من الحكومات المستبدة الجائرة
ومن أهم المواقف التي تبرز فيها الأهمية البالغة للهداية الإلهية المباشرة، الموقف من الحكومات الجائرة والذي يُعدّ على امتداد التاريخ من أصعب المواقف إن لم يكن الأصعب على الإطلاق.. ذلك ان الحكومات المستبدة تمتلك الأموال والمناصب والوظائف والإعلام كما تمتلك جمهوراً عريضاً من الغوغاء الذين ينعقون مع كل ناعق، ومن يقف أمامها فان بمقدورها ان تسحقه بلا رحمة، بل وفوق ذلك فانهم قد يقتلونه بسلاح الشرعية وباسم الإسلام المحمدي الأصيل:
ويُكَبِّرونَ بِأَن قُتِلتَ وإنَّما قَتَلوا بِكَ التَّكبيرَ وَالتَّهليلا
فهم يمتلكون العصى الغليظة والجزرة الحلوة! ويمتلكون ان يحرموا من ينهاهم عن المنكر ولو بأبسط العبارات، من المنبر والمحراب والتدريس والتأليف، أو السفر والحضر والتجارة بل وأي نوع من أنواع المشاركة في الحياة العامة إلى غير ذلك.
لذلك فان من الطبيعي ان يصاب الأكثر بالرعب حتى من مجرد التفكير في مقارعة الحاكم الجائر.
معادلات وأحكام في العلاقة بالحكام
وعلى ضوء ذلك كان من الضروري الإشارة إلى بعض القواعد العامة والأحكام الهامة التي تحكم معادلة المظلوم – الظالم.
والحديث موجه لكافة الطلاب الكرام والعلماء والأفاضل ولكافة المثقفين والأطباء والمهندسين والصحفيين والجامعيين ولعامة الناس أيضاً، فان امتحان العلماء والمثقفين وعامة الناس مع الحكام الظلمة والسلطات المستبدة عسير شديد وما أكثر من سقط في هذا الامتحان الصعب فقد قال تعالى: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)(13) بل بلغ الأمر بالناس إلى درجة إلى ان يتظاهروا على سبط رسول الله وأعظم خلائق الله في ذلك العصر متسلحين بسلاح الشرعية الكاذبة التي أضفاها أمثال (عمرو بن سعد وشبث بن ربعي) وأضرابهم حتى ورد بفتوى شريح القاضي: انه علیه السلام: (خرج عن حدّه فقتل بسيف جدّه).
1- المظلوم أقوى من الظالم دائماً
فمن المعادلات: ان المظلوم أقوى من الظالم دائماً وإن بدأ الظالم منتصراً؛ ذلك ان فوقهما الله تعالى تعالى وقد ورد ((يَوْمُ الْمَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ أَشَدُّ مِنْ يَوْمِ الظَّالِمِ عَلَى الْمَظْلُومِ))(14)
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: ((مَا مِنْ مَظْلِمَةٍ أَشَدَّ مِنْ مَظْلِمَةٍ لَا يَجِدُ صَاحِبُهَا عَلَيْهَا عَوْناً إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ))(15)
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْحَى إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ فِي مَمْلَكَةِ جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَّارِينَ أَنِ ائْتِ هَذَا الْجَبَّارَ فَقُلْ لَهُ إِنَّنِي لَمْ أَسْتَعْمِلْكَ عَلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ وَاتِّخَاذِ الْأَمْوَالِ وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلْتُكَ لِتَكُفَّ عَنِّي أَصْوَاتَ الْمَظْلُومِينَ؛ فَإِنِّي لَمْ أَدَعْ ظُلَامَتَهُمْ وَإِنْ كَانُوا كُفَّاراً))(16)
وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: ((لَمَّا حَضَرَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ علیه السلام الْوَفَاةُ ضَمَّنِي إِلَى صَدْرِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ أُوصِيكَ بِمَا أَوْصَانِي بِهِ أَبِي علیه السلام حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَبِمَا ذَكَرَ أَنَّ أَبَاهُ أَوْصَاهُ بِهِ، قَالَ: يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَظُلْمَ مَنْ لَا يَجِدُ عَلَيْكَ نَاصِراً إِلَّا اللَّهَ))(17)
عقوبة غريبة لمن رمى الإمام الحسين علیه السلام بسهم، فمنعه الماء
وقد جاء في التاريخ أن بعض الظلمة من جيش يزيد وبن زياد وعمرو بن سعد رمى الإمام الحسين علیه السلام بسهم فحال بينه وبين ان يشرب الماء، والظاهر ان القضية كانت حين سقط سيد الشهداء على الأرض وقد غطت دماؤه الطاهرة بدنه الزاكي وكان على وشك اللقاء بجبار السماوات والأرض فجاءه أحدهم بماء ليشرب فرماه ذلك اللعين بسهم فحال بينه وبين شرب الماء، فدعى عليه الإمام الحسين علیه السلام قائلاً (اللهم أضمِئه).
وبعض الأدعية سرعان ما تستجاب وبعضها يؤخره الله تعالى لأجلٍ، لكنّ الدعاء لا محالة يستجاب لقوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(18)) وكان هذا الدعاء على ذلك الظالم مما أسرعت إليه الإجابة، فابتلي بمرض غريب حتى انه كان يصيح مما يستشعره من الحرارة الشديدة في بطنه ومعدته ومما يتملكه من البرودة الشديد في ظهره، وكان البرد في ظهره والحرّ في بطنه من الشدة حتى انهم كانوا يضعون الثلج على بطنه ويسلطون على بطنه المراوح ولم يكن ينتفع منها بشيء! كما كانوا يضعون خلف ظهره المصطلى وجمرات النيران المتوقدة حتى يكاد ظهره يحترق ولكن ومع ذلك كان البرد القارس على شدته لا يتغير أبداً!
إضافة إلى ذلك فقد كان يؤتى بسويق كثير جداً، والسويق هنا يراد به الماء مع الحليب ممزوجاً، فكان يشرب بمقدار ما يشربه خمسة أشخاص وهو مع ذلك يصيح (اسقوني! اهلكني العطش!) وكان لا يجديه شيئاً! وكان يشرب ويشرب ويشرب حتى انقدّ بطنه وانفجر كما ينقدّ البعير! فهذه معادلة من المعادلات.
2- التبرير للحاكم الظالم، من الكبائر
ومن الأحكام: التبرير للظالم والحاكم المستبد، حرام بل هو من أشدّ المحرمات، فان بعض الناس دَرَجَ على اختلاق الأعذار للظالم بدل الانتصار للمظلوم فإذا رأى عالماً سجن لأنه نطق بالحق ونهى عن المنكر أو مؤمناً حُبس لأنه دافع عن ظلامة من ظلامات الناس، برّر للظالم ولو بمقدار أن (الحق عليه) والعتب عليه، وباللهجة الدارجة (صوچه)!! وان الذي يقارع الظالم ولو بنهي عن المنكر وأمر بالمعروف فانه قد خالف القانون وعرّض نفسه للسجن والأذى فهو الذي قد حفر قبره بيديه فماذا تتوقعون منّا!
((مَنْ عَذَرَ ظَالِماً بِظُلْمِهِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَنْ يَظْلِمُهُ))
والغريب ان الله تعالى قد أعدّ العقوبة لمن يعذر الظالم بظلمه، في الدنيا قبل الآخرة، فقد ورد عن أبي عبد الله عليه السلام انه قال: ((مَنْ عَذَرَ ظَالِماً بِظُلْمِهِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَنْ يَظْلِمُهُ فَإِنْ دَعَا لَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ وَلَمْ يَأْجُرْهُ اللَّهُ عَلَى ظُلَامَتِهِ))(19) فالأثر الوضعي لمن يعذر الظالم في ظلمه هو ان يسلط الله عليه من يظلمه جزاء خذلانه للمظلوم وإعذاره الظالم في ظلمه، وفوق ذلك فانه لا يعطيه الله أجراً رغم وقوعه مظلوماً مع ان أجر المظلوم عظيم وذلك لمجرد انه أعذر ظالماً يوماً ما في ظلمه!
و((عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ علیه السلام قَالَ مَنِ ارْتَكَبَ أَحَداً بِظُلْمٍ بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَلَيْهِ مَنْ يَظْلِمُهُ بِمِثْلِهِ أَوْ عَلَى وُلْدِهِ أَوْ عَلَى عَقِبِهِ مِنْ بَعْدِهِ))(20)
فهذا حكم من الأحكام مع بعض آثاره الوضعية.
3- الآثار الأخروية لإعانة الظالم:
ومن المعادلات: ما ورد في الحديث الشريف عما هو مكتوب على الباب الرابع من أبواب جهنم فقد ورد ((وَعَلَى الْبَابِ الرَّابِعِ مَكْتُوبٌ ثَلَاثُ كَلِمَاتٍ أَذَلَّ اللَّهُ مَنْ أَهَانَ الْإِسْلَامَ، أَذَلَّ اللَّهُ مَنْ أَهَانَ أَهْلَ الْبَيْتِ، أَذَلَّ اللَّهُ مَنْ أَعَانَ الظَّالِمِينَ عَلَى ظُلْمِهِمْ لِلْمَخْلُوقِين))(21) والظاهر ان هذا الباب الرابع مخصص لدخول هذه الطوائف الثلاثة إلى النار 1- من أهان الإسلام، 2- من أهان أهل البيت، 3- من أعان الظالمين على ظلمهم للمخلوقين، فهم جميعاً في موقع واحد من مواقع جهنم!
((مَنْ مَدَحَ سُلْطَاناً جَائِراً كَانَ قَرِينَهُ إِلَى النَّارِ))
بل وفوق ذلك ورد في أمالي الصدوق: في مناهي النبي صلى الله عليه واله وسلم: ((قَالَ: مَنْ مَدَحَ سُلْطَاناً جَائِراً وَتَخَفَّفَ وَتَضَعْضَعَ لَهُ طَمَعاً فِيهِ كَانَ قَرِينَهُ إِلَى النَّارِ؛
وَقَالَ صلى الله عليه واله وسلم: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)(22)
وَقَالَ صلى الله عليه واله وسلم: مَنْ دَلَّ جَائِراً عَلَى جَوْرٍ كَانَ قَرِينَ هَامَانَ فِي جَهَنَّمَ؛
وقال صلى الله عليه واله وسلم: مَنْ تَوَلَّى خُصُومَةَ ظَالِمٍ أَوْ أَعَانَ عَلَيْهَا ثُمَّ نَزَلَ بِهِ مَلَكُ الْمَوْتِ قَالَ لَهُ: أَبْشِرْ بِلَعْنَةِ اللَّهِ وَنَارِ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ؛
وَقال صلى الله عليه واله وسلم: أَلَا وَمَنْ عَلَّقَ سَوْطاً بَيْنَ يَدَيْ سُلْطَانٍ جَائِرٍ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ السَّوْطَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُعْبَاناً مِنَ النَّارِ طُولُهُ سَبْعُونَ ذِرَاعاً يُسَلِّطُ عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ،
ونهى عن إجابة الفاسقين إلى طعامهم))(23)
و((عن أبي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) قَالَ قَنْطَرَةٌ عَلَى الصِّرَاطِ لَا يَجُوزُهَا عَبْدٌ بِمَظْلِمَةٍ))(24) فهذه قاعدة من القواعد.
4- من أكبر الكبائر إضفاء الشرعية على الحاكم الجائر
ومن الأحكام: ان من أكبر الكبائر ومن أشد المحرمات إضفاء الشرعية على الحكام الظَّلَمة.. ذلك ان الحكومات المستبدة الظالمة وعلى مر التاريخ كانت تتسلح في ظلمها للناس بسلاح الشرعية الذي تستحصله من الكهنة والقسيسين والرهبان والأحبار ورجال الدين السنة أو الشيعة، أي العلماء في كافة المذاهب والأديان..
فسرِّحوا النظر إلى كافة الحكومات الجائرة عبر التاريخ فهل تجدون حكومة خلت من العلماء من أعوان الظلمة؟
رسالة نادرة من الإمام السجاد علیه السلام إلى الزهري
ويكفينا نموذجاً على ذلك ان الزهري كان واحداً من أعلم علماء العصر وكان معروفاً بالقدس والورع وكان عظيم المنزلة جداً عند العلماء كما عند عامة الناس.. ولكنه تحوّل إلى واحد من أهم أركان الخليفة الأموي الجائر وكان من المكانة العظيمة عند الناس بحيث آلم الإمام السجاد علیه السلام أشد الإيلام بتلبيسه على الناس، بل انه أحرج موقع الخلافة الشرعية إذ أسدل عباءة الشرعية على الخلافة الأموية، وذلك انه كان من أعلم علماء عصره إن لم يكن الأعلم ويكفي قول الإمام السجاد عنه (( فَقَدْ أَثْقَلَتْكَ نِعَمُ اللَّهِ بِمَا أَصَحَّ مِنْ بَدَنِكَ وَأَطَالَ مِنْ عُمُرِكَ وَقَامَتْ عَلَيْكَ حُجَجُ اللَّهِ بِمَا حَمَّلَكَ مِنْ كِتَابِهِ وَفَقَّهَكَ فِيهِ مِنْ دِينِهِ وَعَرَّفَكَ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ محمد صلى الله عليه واله وسلم )) بل بلغ الأمر إلى درجة ان يكتب الإمام السجاد له رسالة نادرة – غريبة في مضامينها تكشف عن عمق المأساة عندما يدخل العلماء في سلك الحكام ويبررون للحكام أعمالهم وظلمهم وجورهم.
فقد كتب الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) في كتابه للزهري محذِّراً له عن عظيم عقاب الله له على إعانته الظلمة على ظلمهم: ((كَفَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ مِنَ الْفِتَنِ وَرَحِمَكَ مِنَ النَّارِ فَقَدْ أَصْبَحْتَ بِحَالٍ يَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَكَ بِهَا أَنْ يَرْحَمَكَ فَقَدْ أَثْقَلَتْكَ نِعَمُ اللَّهِ بِمَا أَصَحَّ مِنْ بَدَنِكَ وَ أَطَالَ مِنْ عُمُرِكَ وَ قَامَتْ عَلَيْكَ حُجَجُ اللَّهِ بِمَا حَمَّلَكَ مِنْ كِتَابِهِ وَفَقَّهَكَ فِيهِ مِنْ دِينِهِ وَ عَرَّفَكَ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ محمد صلى الله عليه واله وسلم فَرَضَ لَكَ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْكَ وَ فِي كُلِّ حُجَّةٍ احْتَجَّ بِهَا عَلَيْكَ الْفَرْضَ فَمَا قَضَى إِلَّا ابْتَلَى شُكْرَكَ فِي ذَلِكَ وَ أَبْدَى فِيهِ فَضْلَهُ عَلَيْكَ فَقَالَ (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) فَانْظُرْ أَيُّ رَجُلٍ تَكُونُ غَداً إِذَا وَقَفْتَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ فَسَأَلَكَ عَنْ نِعَمِهِ عَلَيْكَ كَيْفَ رَعَيْتَهَا وَ عَنْ حُجَجِهِ عَلَيْكَ كَيْفَ قَضَيْتَهَا؟
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ قَابِلًا مِنْكَ بِالتَّعْذِيرِ وَلَا رَاضِياً مِنْكَ بِالتَّقْصِيرِ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لَيْسَ كَذَلِكَ أَخَذَ عَلَى الْعُلَمَاءِ فِي كِتَابِهِ إِذْ قَالَ (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ).
وَاعْلَمْ أَنَّ أَدْنَى مَا كَتَمْتَ وَ أَخَفَّ مَا احْتَمَلْتَ أَنْ آنَسْتَ وَحْشَةَ الظَّالِمِ وَسَهَّلْتَ لَهُ طَرِيقَ الْغَيِّ بِدُنُوِّكَ مِنْهُ حِينَ دَنَوْتَ وَإِجَابَتِكَ لَهُ حِينَ دُعِيتَ فَمَا أَخْوَفَنِي أَنْ تَكُونَ تَبُوءُ بِإِثْمِكَ غَداً مَعَ الْخَوَنَةِ وَأَنْ تُسْأَلَ عَمَّا أَخَذْتَ بِإِعَانَتِكَ عَلَى ظُلْمِ الظَّلَمَةِ إِنَّكَ أَخَذْتَ مَا لَيْسَ لَكَ مِمَّنْ أَعْطَاكَ وَدَنَوْتَ مِمَّنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَى أَحَدٍ حَقّاً وَلَمْ تَرُدَّ بَاطِلًا حِينَ أَدْنَاكَ وَأَحْبَبْتَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ثم قال علیه السلام:
أَوَلَيْسَ بِدُعَائِهِ إِيَّاكَ حِينَ دَعَاكَ جَعَلُوكَ قُطْباً أَدَارُوا بِكَ رَحَى مَظَالِمِهِمْ وَ جِسْراً يَعْبُرُونَ عَلَيْكَ إِلَى بَلَايَاهُمْ وَ سُلَّماً إِلَى ضَلَالَتِهِمْ دَاعِياً إِلَى غَيِّهِمْ سَالِكاً سَبِيلَهُمْ يُدْخِلُونَ بِكَ الشَّكَّ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَ يَقْتَادُونَ بِكَ قُلُوبَ الْجُهَّالِ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَبْلُغْ أَخَصُّ وُزَرَائِهِمْ وَ لَا أَقْوَى أَعْوَانِهِمْ إِلَّا دُونَ مَا بَلَغْتَ مِنْ إِصْلَاحِ فَسَادِهِمْ وَ اخْتِلَافِ الْخَاصَّةِ وَ الْعَامَّةِ إِلَيْهِمْ فَمَا أَقَلَّ مَا أَعْطَوْكَ فِي قَدْرِ مَا أَخَذُوا مِنْكَ وَ مَا أَيْسَرَ مَا عَمَرُوا لَكَ في كَنَفِ مَا خَرَّبُوا عَلَيْكَ...))(25)
وعبارات الإمام دقيقة ذات دلالات بالغة جداً ولنسلط العدسات على بعضها فقط:
أ- ((وَاعْلَمْ أَنَّ أَدْنَى مَا كَتَمْتَ وَأَخَفَّ مَا احْتَمَلْتَ أَنْ آنَسْتَ وَحْشَةَ الظَّالِمِ...)) فحتى هذا المقدار حرام وإثم ومعصية.
ب- ((جَعَلُوكَ قُطْباً أَدَارُوا بِكَ رَحَى مَظَالِمِهِمْ وَجِسْراً يَعْبُرُونَ عَلَيْكَ إِلَى بَلَايَاهُمْ وَسُلَّماً إِلَى ضَلَالَتِهِمْ)) وذلك لأن الحكام الظلمة لا يمكنهم عادة الظلم إلا متسلحين بسلاح الشرعية التي يمنحها لهم العلماء مقابل بعض حطام الدنيا!
ج- قوله علیه السلام: ((يُدْخِلُونَ بِكَ الشَّكَّ عَلَى الْعُلَمَاءِ)) وهو أغرب إذ يظهر منه ان الزهري كان أكبر أو من أكبر علماء عصره حتى ان العلماء إذ كانوا يرونه مع الحاكم الأموي كانوا يشكون في ان الحق مع من؟ مع أهل البيت؟ أم مع الشجرة الملعونة في القرآن؟ بل لعلهم كانوا يخدعون به حتى ليكاد يخيل إليهم ان الأمويين على حق لأن مثل الزهري معهم! وما أعظم ما يشكّله ذلك من إحراج لجبهة الحق وأعلام التقى بل ما أعظم ما شكّله من إحراج للإمام السجاد علیه السلام بنفسه حتى كتب له هذه الرسالة المؤلمة – المقرحة.
د- قوله علیه السلام: ((فَلَمْ يَبْلُغْ أَخَصُّ وُزَرَائِهِمْ وَلَا أَقْوَى أَعْوَانِهِمْ إِلَّا دُونَ مَا بَلَغْتَ مِنْ إِصْلَاحِ فَسَادِهِمْ وَاخْتِلَافِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ إِلَيْهِمْ))(26) والذي يدل بوضوح على ان اقوى دعائم الظلم هم العلماء وانهم أقوى من سائر أعوانهم كافة من ضباط وقادة ورؤساء وجيوش ووزراء ومسؤولين..
أحاديث غريبة وضعها ضد أهل البيت عليهم السلام تزلّفاً للسلطان
ولعل السر في تشدّد الإمام السجاد علیه السلام في الكلام معه وعمق تألمه منه يعود إلى انه كان قد برع في جعل الأحاديث ضد أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء (وهذا لعمري من العجائب) وفي وضع الأحاديث التي تكرس دعائم الحكم الأموي الجائر حتى ان ابن أبي الحديد صرح بان الزهري كان مثل أبي هريرة والمغيرة بن شعبة وعمرو العاص في وضع الأحاديث واختلاقها وجعلها على لسان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم.
فقد روى(!) الزهري بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه واله وسلم طرق باب علياً وفاطمة (عليهما السلام) فقال لهما: ألا تصليان؟ قال علي فقلت: يا رسول اللّه إنّما أنفسنا بيد اللّه عزّ وجلّ فإن شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف النبي وهو يقول: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا)(27).
والكذب والدجل واضح بيّن وقد أراد الزهري ان يحوّل الفضيلة إلى رذيلة بعد ان لم يمكنه إنكارها من أصلها إذ كان الناس يعلمون ان الرسول عندما نزل قوله تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)(28) كان يمر على بيتهما لمدة ثمانية أشهر أو تسعة ويتلو عليهم قوله تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ليكرس في أذهان الناس انهم هم أهل البيت وان (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)(29)(30) لا يراد بها إلا هم! فتطوع الزهري لوضع هذا الحديث ليصورهما (عليهما السلام) متثاقلين عن الصلاة ويصوّر انزعاج النبي صلى الله عليه واله وسلم منه علیه السلام ووصفه له بأنه أكثر شيء جدلاً!
والأغرب من ذلك انه ترقى في عدائه وكذبه وتدليسه وحقده حتى وضع الحديث التالي:
كما روى الزهري عن عائشة أنّها قالت: كنت يوماً عند رسول اللّه فجاء العباس وعلي فقال رسول اللّه: يا عائشة هذان يموتان على غير ديني!! وذلك ما لم يقله إلا أبغض النواصب وأشدهم حقداً وخبثاً ومكراً ودناءة.
فهذا كله من جهة ومن جهة أخرى كان يكذب في الاتجاه الآخر أيضاً إذ كان من أكاذيب الزهري ولأجل أن يلبس على الناس ويخفف من حدّة كراهيتهم لآل مروان يقول: (وكان علي بن الحسين من أفضل أهل بيته وأحسنهم طاعة، وأحبهم إلى مروان وابنه عبد الملك)!!.
5- ان جماهير الناس، في معرفة الحق، ليسوا هم المقياس!
ومن المعادلات: ان الكثير من الناس يتصور ان الحق هو مع هذه الحكومة أو تلك، لا للتضليل الإعلامي فحسب بل لأنهم يجدون الحكومات قادرة على تحشيد الملايين من الناس في الشوارع وفيهم العلماء وأساتذة الجامعات ووجوه المجتمع، فكيف تكون الحكومة على باطل!
ولكن ذلك غفلة عن ان (الحق) لا يعرف بذلك.. وإلا لكان فرعون والحجاج وهتلر وستالين، من سادة المحقين وطليعة أهل الحق، وكان النبي موسى علیه السلام والإمام السجاد علیه السلام والمظلومون على باطل!
ويكفي ان نشير إشارة خاطفة إلى ان الناس كيف تخلّوا – بعلمائهم ووجهائهم – عن سيد الأوصياء أمير المؤمنين علیه السلام وعن البضعة الطاهرة وانحازوا إلى صف الطغاة بل وشارك كثير منهم في العدوان السافر ضد سيد الأوصياء أو – على الأقل – لم يحركوا ساكناً حين هجم الأعداء الغاصبون على دار ابنة الرسول وبضعته وأحرقوا الباب ولطموا خدّ سيدة نساء العالمين، وما أعظمها من فاجعة كبرى تهتز لها الجبال الرواسي وتبكي لها العيون دماً.
قال سليمٌ قلتُ يا سلمانُ*****هل دخلوا ولم يك استئذانُ
فَقَالَ إِي وعِزَةِ الجبـــــــــــارِ*****وما على الزهراءِ من خمــارِ
لـكنها لاذتْ وراءَ البــــــــابِ*****رعايةً للسترِ والحجـــــــــابِ
فمُذ رَأَوها عصروها عصره*****كادت بنفسي أن تموتَ حسره
نادت أيا فضةُ أسندينـــــــــي*****فقد وربي أسقَطُــــــــوا جَنِينِي
فَأسقَطَت بنتُ الهدى وا حزنَا*****جَنِيـــــنَها ذاكَ المسمَى مُحْسِنا
أتُضْرَمُ النارُ بِبَاب دَارِهـــــا*****وآيةُ النُــــــــــورِ على منارِها
وبابُها بابُ نبيِ الرحمــــــــةْ*****وبابُ أبوابِ نجاةِ الأمـــــــــــة
بل بابُها بــــابُ العليِ الأعلى*****فثَمَ وجهُ اللـــــــــــــهِ قد تجَلَى
ماكْتَسَبُوا بالنارِ غَيرَ العـــــارِ*****ومن ورائِهِ عذابُ النــــــــــارِ
ما أجْهَلَ القومَ فإن النـــــــارَ لا*****تُطْفِأُ نورَ اللـــــــــــــهِ جَلَ وعلى
فاحْمرَتِ العينُ وعيـــنُ المعرفةْ*****تُذْرَفُ بالدمعِ عَلى تلك الصِفَـــــةْ
ولا يُزيلُ حُمْرَةَ العَيــــــنِ سِوى*****بِيضُ السُيوفِ يومَ يُنْشَرُ الـــــلِوا
وللسياطِ رَنَـــــــــــــــةٌ صَدَاهَــا*****فِي مَسْمَعِ الدَهْـــــــرِ فَمَا أَشْجَاهَا
والأَثَرُ البَاقِي كَمِثْـــــــــلِ الدُمْلُجِ*****في عَضُدِ الزَهْرَاءِ أَقْوَى الـحُجَجِ
ومن سَوَادِ مَتنِهَا اسْودَ الفضـــــا*****يا ساعدَ اللـــــهُ الإمامَ المرتضى
ووَكزُ نَعلِ السَيفِ فِي جَنْبَيْهَـــــا*****أتَى بِكُلِ مَا أَتَــــــــــــــــى عَليها
ولَسْتُ أَدْرِي خَبَرَ المِسْمَـــــــــارِ*****سَلْ صَدْرَهَا خِزَانَةَ الأسْـــــــرارَ
وفِي جَبِينِ المَجْدِ ما يُدْمِي الحَشَا*****وهَلْ لَهُمَ إخْفاءُ أمـــــــــرٍ قد فشا
والبابُ والجِدَارُ والدِمـَـــــــــــاءُ*****شُهُودُ صِدْقٍ مَا بِهَا خَفَـــــــــــاءُ
قال سليمٌ قلتُ يا سلمانُ*****هل دخلوا ولم يك استئذانُ
لَقَدْ جَنَىْ الجَانِي عَلَى جَنِينِها*****فَانْدَكَتِ الجِبَالُ مِنْ حَنِينِـــــــــها
أَهَكَذَا يُصْنَعُ بِابْنَـــــــةِ النَبِي*****حِرْصًا على المُلكِ فَيَــــا لِلْعَجَبِ
أَتُمْنَعُ المَكْرُوبَةُ المَقْرُوحَــــه*****عَنِ البُكَا خَوْفًا مِنَ الفَضِيحَـــــــةْ
واللهِ يَنْبَغِي لَهَا تَبْكِي دَمَــــــا*****مَا دَامَتِ الأَرْضُ ودَارَتِ السَمَاءْ
لِفَقْدِ عِزِهَا أبِيــــــــهَا السَامِي*****ولِاهْتِضَامِهَا وذِلِ الحَــــــــــامِي
لَـكِنَ كَسْرَ الضِلْعِ لَيْسَ يَنْجَبِرْ*****إلا بِصِمْصَـــــــــامِ عَزِيزٍ مُقْتَدِرْ
إِذْ رَضُ تِلْكَ الأَضْلُعِ الزَكِيَةْ*****رَزِيَةٌ مَا مِثْلُهَا رَزِيَــــــــــــــــــةْ
ومع كل تلك الجرائم المروعة لم يفعل الناس شيئاً إما لجبن وخوف أو لطمع في مال أو منصب أو شبه ذلك، وقد قال سيد الشهداء علیه السلام: ((النَّاسُ عَبِيدُ الدُّنْيَا وَ الدِّينُ لَعِقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُونَ))(31)
السيد الحكيم مسيرة علم وجهاد
وأخيراً لنضرب مثلاً من التاريخ القريب يضجّ بالعِبَر والدروس والدلالات، عن احد أكبر مراجع التقليد العظام الذين تصدّوا للحكومات الجائرة الظالمة ودفعوا ضريبة ذلك غالية جداً، ولكنّ ذلك لم يُثنِهم عن مواصلة المسيرة الجهادية لعشرات السنين رغم كافة الضغوطات المرعبة، ورغم ان الناس تخلّوا عنهم في أحرج اللحظات، ليعيد التاريخ نفسه وفي هذه اللقطات من التاريخ المعاصر نجد أنموذجاً مشرقاً من الوكلاء في عصر الغيبة ينطق بعمق المأساة في خذلان الأكثر حتى للمرجع الأعلى إذا ما قارع الحكام الظلمة وواجههم بمرّ الحق ولم ينحنِ لهم ولم يرضخ لباطلهم.
السيد محسن الحكيم المرجع الأعلى في زمانه.. كان من طلائع العلماء المجاهدين منذ سني عمره المبكرة ففي عام 1914م (وكان عمره آنذاك 25 عاماً) شارك في ثورة الشعيبة البصرة ضد الإنكليز، التي قادها علماء الدين وعلى رأسهم السيد محمد سعيد الحبوبي والسيد علي الداماد والسيد عبد الرزاق الحلو والسيد مهدي الحيدري وغيرهم.
وقد قاد هؤلاء العلماء الشعب العراقي لمقاتلة الانكليز ومنعهم من دخول العراق ودارت معارك ضارية في منطقة الشعيبة، وقد استشهد في هذه المعارك عدد من العلماء، ثم شارك السيد الحكيم في ثورة العشرين بقيادة الميرزا الشيرازي ثم شيخ الشريعة الاصفهاني والشيخ محمد جواد الجزائري والشيخ عبد الرضا آل الشيخ راضي والشيخ جواد الجواهري والشيخ مهدي الخالصي وغيرهم.
عبد الكريم يتبنّى الشيوعيين، والحكيم يواجهه بصلابة
وفي عام 1958 وبعد انقلاب 14 تموز، تبنّى عبد الكريم قاسم سياسة تضرب الدين في الصميم إذ تحالف مع الحزب الشيوعي وفتح له المجال بل واحتضنهم وأعطائهم أعلى المناصب في الدولة وسخر لهم كافة الامكانيات والأموال والإعلام وغير ذلك مستهدفاً ان يحولهم إلى رقم صعب يحكم الشعب كله، منطلقاً من فلسفة خرقاء إذ أراد دفع الفاسد بالأفسد حيث أراد مواجهة التيار القومي الذي يقوده جمال عبد الناصر، بالتيار الشيوعي الذي لا يقارن به من حيث الفساد من كل الجهات..
وعند ذاك تصدى السيد الحكيم وسائر العلماء لهذا المخطط بكل قوة وذلك على الرغم من جوّ الرعب الحاكم إذ كانوا الشيوعيون يسحلون من يعارضهم بالشوارع ويقتلون المعارضين بدم بارد بتأييد من عبر الكريم قاسم شخصياً، فاصدر فتواه المعروفة (بسم الله الرحمن الرحيم. لا يجوز الإنتماء للحزب الشيوعي، فإن ذلك كفر وإلحاد، أو ترويج للكفر والإلحاد. أعاذكم الله وجميع المسلمين من ذلك، وزادكم إيماناً وتسليماً. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ». محسن الطباطبائي الحكيم - 17 شعبان 1379. وقد وافق ذلك 15/2/1959م) وسارع العلماء الأعلام إلى تأييد المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم في فتواه ومنهم آيات الله العظام السيد عبد الهادي الشيرازي والسيد محمود الشاهرودي والسيد ميرزا مهدي الشيرازي والسيد أبو القاسم الخوئي والسيد عبد الله الشيرازي والشيخ عبد الكريم الزنجاني والسيد جواد التبريزي و الشيخ عبد الكريم الجزائري والسيد محمد علي الطبطبائي والشيخ مرتضى آل ياسين.
انتقام السلطات والشيوعيين من السيد الحكيم والمتدينين
وفي مقابل ذلك وغيره أطلق الشيوعيون حملات تسقيطية: سياسية – اجتماعية – جماهيرية – فكرية رهيبة ضد رجال الدين والمتدينين، وكان من ذلك:
أ- انهم وصموا الدين بانه (أفيون الشعوب) وانه رجعية وتخلف.
ب- بل وأكثر من ذلك عمموا على كافة كوادرهم ووسائل إعلامهم ان (كل متدين فهو مجرم) والسبب (انه يعيق تقدم المجتمع)! ومن الواضح ان مفردة (المجرم) تتسع إلى درجة الحكم عليه بانه يستحق القتل بأبشع الصور، كما كانوا يفعلون ذلك بالفعل! إذ تكرر ان أمسكوا ببعض المعارضين وربطوا إحدى رجليه إلى سيارة ورجله الأخرى إلى سيارة أخرى بحبال قوية.. ثم وفي مظاهرات صاخبة مرعبة تنطلق السيارتان بسرعة كبيرة في اتجاهين متضادين لكي يرى الناس بأمّ أعينهم كيف ينشطر المتدين المعارض إلى شطرين بأفجع الصور لمجرد انه عارض الشيوعية!
ج- وحرّكوا الجهلة والغوغاء ضد السيد الحكيم، حتى انه بلغ من وقاحتهم أن صاحب دكان مجاور لمنزل السيد محسن الحكيم، كان عندما يخرج السيد من داره يرفع صوت المذياع بأناشيد الشيوعيين، حتى إذا اقترب السيد من دكانه رفع صوته: عفلقي عفلقي! بمعنى انه من جماعة ميشيل عفلق، وكان ذلك هو إتهامهم المعلّب لمن لا يخضع لعبد الكريم! وكان من جملة شعاراتهم: وِلْما يصفـگ عفلقي، والحبال موجودة ! أي: من لم يصفق للشيوعيين ولعبد الكريم فهو بعثي، والحبال جاهزة لكي تسحله في الشوارع!
وإذا رجعتم إلى الوراء وعشتم في تلك الأجواء وتجسدتم الرعب الحاكم على العراق كله لعرفتم قيمة الجهاد والمجاهدين وانه لولاهم لالتهمت الشيوعية العراق وعمَّ الإلحاد والفساد بأبشع صُوَرِه، بلادَ علي والحسين (عليهما الصلاة والسلام)!
د- وبلغت الحالة من الشدة إلى درجة ان طلاب الحوزة العلمية كانوا لا يتجرأون على الخروج إلى دروسهم وإلى المساجد فرادى إذ كان يمكن ان تهاجمهم في كل لحظة جماعات المقاومة الشعبية!
وكان كثير من الطلاب وعوائلهم يعيشون في رعب وقلق إذ كان يحتمل في كل ليلة ان تهجم عليهم في بيوتهم قوات المقاومة الشعبية وتقتادهم إلى المجهول أو تقتلهم رأساً! هذا.
حزب البعث يواجه الحوزة العلمية ويطارد العلماء
وفي العام 1968 قام حزب البعث، وبتخطيط ومساندة أسياده، بانقلاب عسكري وأمسكوا أزمّة الحكم في العراق بالعنف والإرهاب وقاموا بمطاردة العلماء وملاحقة المؤمنين، بل نص قرار صادر عن القيادتين القطرية والقومية في 4 نيسان 1969م على ضرورة القضاء على المرجعية الدينية لأنها العقبة الكبرى أمام أهدافهم(32)..
وقد أقدمت السلطات الجائرة على تسفير أعداد كبيرة من طلبة العلوم الدينية والعلماء الى ايران متذرعين بان أصلهم إيراني وكانت عناصر الأمن تداهم المدارس الدينية وتعتقل الطلاب والعلماء وتسوقهم إلى السجون وكان السيد محسن الحكيم في كربلاء لزيارة الاربعين فقطع زيارته ورجع إلى النجف احتجاجا على ذلك، وقد أرسلت السلطات وفدا رفيع المستوى لمقابلة السيد الحكيم وتهدئته وكان في الوفد حردان التكريتي.
المرجعية العليا تستعرض قوتها الجماهيرية
ثم سافر السيد الحكيم إلى بغداد ليستعرض قوة المرجعية الدينية العليا وجماهيريتها
وقال حردان التكريتي في مذكراته: (ان السيد الحكيم سافر الى بغداد بحجة المرض وكان يقصد عرض القوة التي يتمتع بها، وفعلا جاءت اليه الوفود من كل مكان وعندما زاره اثنان من المسؤولين موفدين من قبل الرئيس خاطبهم بلهجة قاسية مطالبا اياهم الافراج الفوري عن رجال الدين والكف عن ملاحقة الاخرين)(33).
السلطات تعتقل العلماء وتحاصر المرجع الأعلى
والآن لننتقل إلى الوجه الآخر للأمر، فقد افتعلت الحكومة مسرحية هزيلة اتهمت فيها نجل المرجع الأعلى، وهو العلامة السيد مهدي الحكيم كما اتهمت السيد العم آية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي بالتجسس وأمرت بإلقاء القبض عليهما فأمكنهم اعتقال السيد العم وعذبوه في سجن بعقوبة بأنواع من التعذيب بلغت 44 نوعاً! وكان منها انهم كانوا يدقون ابراً طويلة بالمطرقة في أصابع يديه (بين الأظفر والأصبع) حتى تنفذ إلى أواسط الأصبع أو تنكسر! ولَكُمْ ان تتصوروا العذاب الرهيب والألم الشديد الذي يعتصر السجين في تلك الدقائق وحتى إلى أيام أو أسابيع! وقد ذكر السيد الوالد قدس سره أنواعاً كثيرة منها في كتاب (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام).
واما السيد مهدي الحكيم فقد أمكنه ان يهرب متخفياً.. ولكن قوات الأمن طوقت منزل المرجع الأعلى السيد الحكيم وقطعت عنه الماء والكهرباء لفترة من الزمن.. ومع ذلك كله لم نجد الناس يحركون ساكناً.. نعم خرجت بعض المظاهرات وعطلت الأسواق لفترة، ولكن الناس استسلموا بعد ذلك! وبقي السيد الحكيم وحده! ولكن ذلك كله لم يثنه عن عزمه أبداً.
وموطن الشاهد: ان تلك الأيام انقضت.. وبقي السيد الحكيم قامة شامخة في سماء العلم والجهاد.. ورمى التاريخ الشيوعيين والبعثيين بلعناته وأصبحوا مثلاً للطغاة الذي ينتقم الله منهم شر انتقام ولو بعد مضي السنين والأعوام فان (الله يمهل ولا يهمل) و((قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه واله وسلم إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ الظَّالِمَ حَتَّى يَقُولَ قَدْ أَهْمَلَنِي ثُمَّ يَأْخُذُهُ أَخْذَةً رَابِيَةً، إِنَّ اللَّهَ حَمِدَ نَفْسَهُ عِنْدَ هَلَاكِ الظَّالِمِينَ فَقَالَ (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(34))((35) و(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)(36)
والتاريخ يعيد نفسه وباستمرار...
مستقبلكم بأيديكم: إما من أعوان الظلمة أو من أنصار المظلومين!
وكلكم أخوتي الأفاضل وأبنائي الكرام طوال سِنيّ عمركم القادمة وقد تكون عشرات السنين بإذن الله، ستواجهون حكومات جائرة في أي بلد عشتم فيه وستشهدون قرارات ظالمة من الحكومات المتعاقبة.. فاحسموا أمركم: فهل تريدون عَرَض الحياة الدنيا أم تريدون رضا الله والآخرة! وهل تريدون عزاً زائلاً أو مجداً خالداً؟ وهل تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر أو تكونون من أعوان الظلمة وأنصار المستبدين؟.. مهما كان فتذكروا قوله تعالى: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)(37) و(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) وقوله علیه السلام: ((وَمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَلَا سَغَبِ مَظْلُومٍ))(38) وقوله علیه السلام: ((مَنْ أَرَادَ عِزّاً بِلَا سُلْطَانٍ وَكَثْرَةً بِلَا إِخْوَانٍ وَهَيْبَةً بِلَا مَالٍ فَلْيَنْتَقِلْ مِنْ ذُلِّ مَعَاصِي اللَّهِ إِلَى عِزِّ طَاعَتِهِ))(39)
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين