الصراط المستقيم في تحديات الحياة ومستجدات الحوادث
(2)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2018-03-06 06:20
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ)(1)
من بصائر الآية الكريمة: (الصراط المستقيم) هدف أو وسيلة؟
قد يُواجَه المتدبّر في هذه الآية الكريمة، بتساؤل هام عن الوجه في قوله تعالى: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) مع ان الصراط هو الطريق والطريق مقصود لغيره، وذو الطريق هو المقصود لذاته، وبعبارة أخرى: الطريق مقدمة وذو المقدمة هو المطلوب لذاته، فكان الأولى ان تُطلب الهداية للهدف والغاية بدل ان تطلب للمقدمة إليها فان هذا الطلب (الطلب للهداية نحو الطريق والمقدمة) وإن صح لكنه لا يكون إلا بلحاظ الغاية والهدف وذي الطريق؟
الأقسام ثلاثة: المقدمة وذو المقدمة ومجمع الأمرين
ويمكن الجواب عن ذلك بوجه دقيق يبتني على مبحث مبنوي هام: وهو: أن المعروف هو تقسيم الأمور إلى مقدمة وإلى ذي المقدمة، والذي يتصوره البعض هو ان المنفصلة حقيقية، لكن التحقيق يقودنا إلى وجود قسم ثالث وهو ما كان مقدمة وذا المقدمة في الوقت نفسه أي ما كان مطلوباً لنفسه ومطلوباً لغيره وما كان هدفاً ووسيلة في الوقت ذاته، وطريقاً وغاية وهدفاً معاً جميعاً، وعليه فتكون الأقسام ثلاثة:
المتمحِّض في المقدمية والآلية
1- ما هو متمحِّض في جهة المقدمية أو الطريقية، وذلك كنصب السّلم للصعود على السطح فانه لا موضوعية فيه أبداً ولذا لو أمكنه الطيران للسطح أو القفز إليه مثلاً بدون مؤونة زائدة أو مضاعفات سلبية لَما كان للسّلم حينئذٍ قيمة أبداً.
المتمحِّض في الغائية والمطلوبية الذاتية
2- ما هو متمحِّض في جهة الغائية أي ما كان مطلوباً لذاته لا لمقدميته لشيء آخر (وإن أمكن أن يقع مقدمة أيضاً لكنه وقع مورد الطلب نظراً للجهة الأولى بالأساس) وذلك كالإيمان بوجود الله تعالى ووحدانيته فانه مطلوب لذاته فحتى لو لم يردعه ذلك عن المعصية فانه مطلوب نفسي ولذا قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)(2) نعم لا شك في ان المؤمن بالله مع تجنبه معاصيه أفضل من المؤمن فقط، لكنّ القصد هو ان الإيمان به تعالى مطلوب نفسي بل هو أسمى الغايات والأهداف؛ وبذلك أيضاً يظهر الفرق بين اثنين كلاهما يخدم الناس ويتجنب أمثال الرشوة والغش والخداع والتدليس والظلم والإيذاء، لكن أحدهما يؤمن بالله ورسوله والآخر يكفر بهما فان المؤمن المتقي العامل أفضل من الكافر غير العامل بلا شك، وليس ذلك من منظار الـمُسلم المسلِّم فقط بل حتى من منظار العلم والعقل إذ (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)(3)؟ فمن يعلم قوانين الطبيعة والفيزياء والكيمياء ويعمل بها أشرف ممن يعمل بها من دون علم بلا شك، بل العامل العالم بها عن اجتهاد أفضل من العامل العالم عن تقليد.
الجامع للجهتين:
3- ما هو جامع للجهتين بأن يكون مطلوباً لذاته ومطلوباً لغيره، وذلك إنما يكون إذا كانت في ذاته مصلحة ملزمة وكان أيضاً مقدمة لغاية ذات مصلحة ملزمة أهم أو حتى مساوية له في الأهمية، فيكون هدفاً من جهة ووسيلة من جهة أخرى فهو هدف لأنه حامل للمصلحة بذاته وهو وسيلة لأنه مقدمة للوصول إلى غاية أخرى، ولنمثل لذلك بمثالين:
أ- تعلّم العلم
الأول: تعلّم العلم فان العلم مطلوب لذاته كما هو مطلوب لغيره إذ العلم (كعلم العقائد والفقه والأصول، وعلم الطب والهندسة، وعلم الكيمياء والفيزياء) كمالٌ وفضيلة في حد ذاته ولذا كان العالم أشرف من الجاهل حتى إذا كان العالم مثلاً مسجوناً في طامورة تحت الأرض بحيث لا يُنتفع بعلمه أبداً إلا انه في حد ذاته أشرف من الجاهل وإن كان طليقاً.
وجه أفضلية الزهراء عليها السلام على الإمام الصادق عليه السلام
وهذا ما يفسر به أفضلية مثل السيدة الصديقة الزهراء عليها السلام على الأئمة الأطهار وسائر الخلائق رغم انه قد يتوهم ان قتلها في عمر الورود وهي ذات ثماني عشرة سنة حال دون الكثير الكثير جداً من عطاءاتها للبشرية فكيف تكون أفضل من الإمام الصادق عليه السلام مثلاً وقد طبَّقت علومه الدنيا؟
والجواب واضح وهو: ان القيمة قيمتان: قيمة ذاتية وغيرية، والأشخاص، كما الأشياء، تتفاضل بقِيَمِها الذاتية أولاً وبالذات، ألا ترى ان الذهب أفضل وأشرف من الفضة وهما أشرف من التراب، في حد ذواتها؟ وكذلك الإمام الكاظم عليه السلام الذي كان مضطهداً مغلولاً في ظُلَم المطامير وبطون السجون لسنوات قيل انها بلغت 14 عاماً فهل أنقص ذلك من قيمته شيئاً؟ كلا ثم كلا.
ب- حبّ الله والرسول والآل
الثاني: الحبّ، فانه كذلك؛ ألا ترى ان حبّ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام وسائر الأنبياء عليهم السلام والأئمة عليهم السلام له الموضوعية في حد ذاته (وإن كانت له الطريقية أيضاً) ولذا ورد في الحديث ((حُبُّ عَلِيِّ عليه السلام حَسَنَةٌ لَا تَضُرُّ مَعَهَا سَيِّئَةٌ...))(4)
كيف يكون ((حُبُّ عَلِيِّ عليه السلام حَسَنَةٌ لَا تَضُرُّ مَعَهَا سَيِّئَةٌ))؟
وقد اعترض أحد الطلاب على أحد العلماء بان هذا غير معقول فأجابه العالم قائلاً: أسألك سؤالين فأجب عنهما وستعرف وجه الحقيقة بوضوح! قال: تفضل! فقال:
السؤال الأول: ألا تعتقد بالشق الأول من الحديث وهو ((حُبُّ عَلِيِّ عليه السلام حَسَنَةٌ))؟ فقال الطالب: نعم فانه قد وردت الروايات من كتب الفريقين بذلك (بل ورد انه صلى الله عليه واله وسلم قال لعلي عليه السلام: ((لَا يُحِبُّكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضُكَ إِلَّا مُنَافِقٌ...))(5) وقال عليه السلام: ((لَوْ ضَرَبْتُ خَيْشُومَ الْمُؤْمِنِ بِسَيْفِي هَذَا عَلَى أَنْ يُبْغِضَنِي مَا أَبْغَضَنِي، وَلَوْ صَبَبْتُ الدُّنْيَا بِجَمَّاتِهَا عَلَى الْمُنَافِقِ عَلَى أَنْ يُحِبَّنِي مَا أَحَبَّنِي؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ قُضِيَ فَانْقَضَى عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ ص أَنَّهُ قَالَ يَا عَلِيُّ لَا يُبْغِضُكَ مُؤْمِنٌ وَلَا يُحِبُّكَ مُنَافِقٌ))(6))(7) فلا شك في ان حبّ علي عليه السلام حسنة كما ان حبّ رسول الله حسنة، ولكن الإشكال في الشق الثاني ((لَا تَضُرُّ مَعَهَا سَيِّئَةٌ))؟
فقال العالم: إذاً أجب على السؤال الثاني: ألم يقل الله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)(8)؟
فقال الطالب نعم! فقال العالم: إذاً حب علي حسنة بنص الروايات فهذه هي الصغرى، و(إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) بنص الآية فهذه الكبرى، فأين وجه الاعتراض!
ولا يعني ذلك الإغراء بالمعصية أبداً
أقول: وان ذلك لكذلك، ولا يعني ذلك إغراء الناس بالمعاصي إذ كما ان الاستغفار يمحو الذنوب فكذلك حب الرسول والآل، وكما ان الله إذ اعتبر الاستغفار ماحياً للذنوب لم يكن مشجعاً لهم بذلك على المعصية فكذلك إذا اعتبر حبّ الرسول والآل ماحياً للذنوب.
نعم يبقى ان الذنب تكمن خطورته في انه يترك أثراً وضعياً على المحبة فمن يذنب ثم يذنب ثم يذنب فانه يُخشى ان تُفقده ذنُوبُه المتتاليةُ محبته لله تعالى والرسول صلى الله عليه واله وسلم والأمير عليه السلام فيكون إيمانه مستعاراً لا مستقراً، بل حتى من يذنب الذنب الواحد فلا يستهيننّ به إذ قد يجرّه إلى ثانٍ فثالث فرابع حتى يُفقده إيمانه والعياذ بالله، بل الذنب الواحد مما يترك أثراً على المحبة والتعلق القلبي والفكري والنفسي والروحي بقَدَره ولذا نجد ان من نظر إلى المرأة الأجنبية لا سمح الله فان رغبته في الصلاة ومناجاة الرب وحضور قلبه في الصلاة يقلّ أو ينعدم وقد تقفز صورتها إلى ذهنه وهو وسط الصلاة أو الدعاء أو الزيارة فتسلبه خشوعه بالمرّة وما أعظم تلك من خسارة.
تَعْصِي الإِله وَأنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ
هذا محالٌ في القياس بديعُ
لَوْ كانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأَطَعْتَهُ
إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
في كلِّ يومٍ يبتديكَ بنعمةٍ
منهُ وأنتَ لشكرِ ذاكَ مضيعُ
وقد فصلنا الكلام حول ذلك وحول أصل الإشكال والجواب في كتاب (شعاع من نور فاطمة). فراجع
وموطن الشاهد هو ان العلم والحب، كل منها مطلوب لذاته لما فيهما من الشرف الذاتي والمطلوبية الذاتية وقد قال تعالى: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)(9) و(الَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ)(10) و((هَلِ الدِّينُ إِلَّا الْحُبُّ))(11) كما انهما مطلوبان طريقياً أيضاً فان حب الله طريق إلى إطاعته أيضاً وإلى تجنب معاصيه.
كما ظهر مما سبق ان حبّه طريق لجهة أخرى وهي محو ذنوبه أيضاً فهو 1- ذو قيمة ذاتية 2- كما انه طريق إلى محو الذنوب الماضية 3- كما انه طريق مشجع للالتزام بالطاعات والعبادات؛ فانه على قدر المحبة تزداد الإطاعة والمودة.
وكذلك العلم فان الطالب الجامعي يدرس ليتخرّج ليتوظّف لينفق على عياله، فتعلّمه مطلوب وكمال وفضيلة كما هو مقدمة لغاية أخرى وهي صَون ماء الوجه وحفظ النفس والإنفاق على الأهل والعيال.
ج- الركض نحو الجامعة!
بل ويمكن التمثيل لذلك بمثال عرفي معروف وهو الركض كرياضة من الرياضات فانه مطلوب لذاته لما فيه من المصلحة إذ به يحافظ المرء على صحته الجسدية والنفسية والعقلية أيضاً فهو مطلوب نفسي بما هو هو (أي المصلحة كامنة فيه) فإذا ركض باتجاه الجامعة كي يصل إليها في الموعد المحدد فانه يكون مطلوباً غيرياً أيضاً.
وجه جديد لكون الثواب على نفس المشي لزيارة الحسين عليه السلام
وبذلك تنحلّ عقدة معروفة وشبهة طرحها صاحب الكفاية وهي ان الأجر يكون على ذي المقدمة لأنه المأمور به والمطلوب وحامل المصلحة، وعليه فلا معنى لأن يؤجَر الإنسان على المقدمة لأنها لا مصلحة فيها أبداً، وعليه: فكيف نفسِّر الأجر العظيم المذكور للمشي لزيارة الإمام الحسين عليه السلام مثلاً؟ فان المشي طريقي مقدمي، فأجاب: بانه إما من باب ان خير الأعمال أحمزها أو من باب التفضل الإلهي المحض والصرف.
ولكن التحقيق غير ذلك وهو يعتمد على هذه المقدمة التي أشرنا إليها، وهي ان من الأشياء ما هو جامع للجهتين: الطريقية والموضوعية، إذ تكون فيه في حد ذاته المصلحة كما انه مقدمة لأمر آخر فيه المصلحة أيضاً كما سبق من مثال العلم والحب لله، والمشي لزيارة الإمام الحسين عليه السلام هو كذلك، فانه من جهةٍ مقدمة للزيارة فالغاية هي الزيارة وهي الهدف، ولكن ومن جهة أخرى فانه مطلوب لذاته أي المطلوب ليس فقط (المشي لزيارة الإمام عليه السلام) بل المطلوب أيضاً (المشي في زيارة الإمام عليه السلام) فإذا فرض ان شخصاً لا يستطيع الزيارة وأمكنه فقط ان يمشي خطوات مع (المشّاية) فان فيها الثواب أيضاً، وهذا جواب آخر نضيفه إلى أجوبة أخرى ذكرناها في ذلك المبحث. وتحقيق هذا الجواب مع الأخذ والرد فيه موكول لذلك الموطن.
و(الصراط المستقيم) هو من هذا القسم الثالث فانه مطلوب لنفسه ومطلوب لغيره، وهو غاية وهدف وهو في الوقت نفسه وسيلة، وهو الحامل للمصلحة بذاته كما انه طريق للوصول إلى ما فيه المصلحة، فافهم يا من رعاك الله واغتنم!.
معاني الصراط المستقيم
ويظهر ذلك بالتدبر في المعاني التي ذكرت للصراط المستقيم والمعاني وهي:
القرآن الكريم
أولاً: القرآن الكريم، كما فسرته به بعض الروايات فقد ورد عَنْ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ، ((قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّا إِذَا كُنَّا عِنْدَكَ سَمِعْنَا الَّذِي نَشُدُّ بِهِ دِينَنَا(12)، وَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ سَمِعْنَا أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةً مَغْمُوسَةً، لاَ نَدْرِي مَا هِيَ؟! قَالَ: «أَ وَ قَدْ فَعَلُوهَا؟!»(13).
قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم يَقُولُ: أَتَانِي جَبْرَئِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، سَتَكُونُ فِي أُمَّتِكَ فِتْنَةٌ.
قُلْتُ: فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا؟ فَقَالَ: كِتَابُ اللَّهِ، فِيهِ بَيَانُ مَا قَبْلَكُمْ مِنْ خَبَرٍ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ وَلِيَهُ مِنْ جَبَّارٍ فَعَمِلَ بِغَيْرِهِ قَصَمَهُ اللَّهُ(14)، وَمَنِ الْتَمَسَ الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، لاَ تُزِيغُهُ الْأَهْوَاءُ، وَلاَ تَلْبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَلاَ يَخْلَقُ عَلَى الرَّدِّ، وَلاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ.
هُوَ الَّذِي لَمْ تُكِنَّهُ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ أَنْ قَالُوا: (إِنّٰا سَمِعْنٰا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ)(15) مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَ مَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنِ اعْتَصَمَ بِهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، هُوَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ الَّذِي (لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(16) ))(17)، فانه – القرآن الكريم – مطلوب لذاته فانه المقصد والغاية كما هو مطلوب لغيره فانه الطريق إلى الله تعالى، ولذلك تجد ان تلاوة القرآن في حد ذاتها لها الثواب، وكذلك حفظه أو النظر إليه، ثم بعد نجد ان العمل به له ثواب آخر، فتلاوته فيها المصلحة كما انه من جهة أخرى مقدمة للعمل كما انه من جهة ثالثة مقرِّب إلى الله تعالى.
الأنبياء والمرسلون والأئمة الميامين
ثانياً: الأنبياء والأئمة عليهم السلام:
أما الأنبياء فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله في تفسير هذه الآية) ((الْعَيَّاشِيُّ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: وَلَقَدْ آتَيْنٰاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثٰانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ فَقَالَ: «فَاتِحَةُ الْكِتَابِ [يُثَنَّى فِيهَا الْقَوْلُ، قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم: إِنَّ اللَّهَ مَنَّ عَلَيَّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ] مِنْ كَنْزِ الْعَرْشِ، فِيهَا:
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ الْآيَةُ الَّتِي يَقُولُ [فِيهَا]: وَإِذٰا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلىٰ أَدْبٰارِهِمْ نُفُوراً.
وَاَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ دَعْوَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، حِينَ شَكَرُوا اللَّهَ حُسْنَ الثَّوَابِ.
وَمٰالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قَالَ جَبْرَئِيلُ: مَا قَالَهَا مُسْلِمٌ قَطُّ إِلاَّ صَدَّقَهُ اللَّهُ وَأَهْلُ سَمَاوَاتِهِ.
إِيّٰاكَ نَعْبُدُ إِخْلاَصُ الْعِبَادَةِ. وَإِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ أَفْضَلُ مَا طَلَبَ بِهِ الْعِبَادُ حَوَائِجَهُمْ.
اِهْدِنَا الصِّرٰاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ الْيَهُودُ وَ(وَغَيْرِ الضَّالِّينَ) النَّصَارَى».))(18).
واما الأئمة عليهم السلام فقد ورد عنهم عليهم السلام: ((نَحْنُ وَاللَّهِ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ))(19).
أمير المؤمنين عليه السلام ومعرفته
ثالثاً: (الصراط المستقيم) ((هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام وَمَعْرِفَتُهُ))(20) كما ورد في الرواية، فنفس الأنبياء والأئمة وعلى مقدمتهم أمير المؤمنين صراط مستقيم فهم بذاتهم ((السَّلَامُ عَلَى الْأَدِلَّاءِ عَلَى اللَّهِ... ))(21)، وهم مطلوبون لذاتهم كما هم مطلوبون لأنهم المقرِّبون إلى الله تعالى، ويوضح ذلك ان بِرّ الوالدين بين مستحب وواجب حتى إذا كانا كافرين فإذا كانا مؤمنين كانت لبرهما جهتان: أ- بما هما والدان ب- وبما هما والدان مؤمنان، والأنبياء عليهم السلام والأئمة عليهم السلام حيث كانوا وسائط الفيض وجب شكرهم وطلب رضاهم من هذه الجهة كما وجب شكرهم لكونهم الطرق إلى الله تعالى.
ولذلك نجد أيضاً ان قول المعصوم حجة وفعله وتقريره أيضاً، فتأمل؛ ولذلك كان ما سنّه النبي صلى الله عليه واله وسلم واجب الإتباع مثل ما فرضه الله(22)، وقد أوضحنا في كتاب (الحجة معانيها ومصاديقها) ان ذات المعصوم ونفسه هي حجة لا قوله وفعله وتقريره فقط فراجع وجه تصوير ذلك هنالك.
وكذلك معرفة أمير المؤمنين عليه السلام فان نفس معرفته كمال بل هي أسمى الكمالات ولذلك نجد ان كل من ازداد بمقاماته وفضائله ومناقبه وعلومه ومواقفه معرفةً ازداد كمالاً ومنزلةً عند الله تعالى ولديهم أيضاً، ومعرفته، من جهة أخرى، طريق إلى معرفة الله تعالى ومقربّة إليه.
حبّ محمد وآله
رابعاً: كما ورد عن ابن عباس قوله في تفسير الآية (حب محمد وآله) فحبهم موضوعي – طريقي كما أوضحنا ذلك أيضاً. هذا.
الجواب عن شبهة ان (اهدِنَا) طلب للحاصل
وقد مضت أجوبة ثلاثة على الإشكال بان المؤمن إذا قرأ هذه الآية الكريمة (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) ودعا بهذا الدعاء فانه يكون من طلب الحاصل وهو محال أو لغو، فقد أجبنا بوجوه ثلاثة:
الأول: ان الطلب هو للهداية في مرحلة العِلّة المبقية أي للاستمرار عليها والبقاء والديمومة.
الثاني: انه طلب للدرجات العليا من الهداية، وسيأتي بإذن الله تعالى تشعيبه إلى جوابين.
الثالث: انه طلب للهداية التكوينية بعد الاهتداء نظرياً، أي طلب الإيصال للمطلوب بعد حصول إراءة الطريق.
الوجه الرابع: في المصاديق المتجددة والقضايا المستحدثة
ان المراد من (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) التجلِّيات المتجددة لمتعلّقات الصراط، بمعنى الهداية للصراط المستقيم في الموضوعات المستحدثة والمصاديق المتجددة، وليس المراد ان هنالك صراطات أخرى وان المراد بالآية الهداية إليها وذلك لبداهة ان الصراط واحد لا يتعدّد ولا يتكرّر فهو كلي منحصر بالفرد، والغريب ان التتبع يقودنا إلى ان القرآن الكريم لم يَرِد فيه الصراط بصيغة الجمع أبداً بل انه إذا أراد جمعه فيما وقع في مقابل الصراط، عبّر عنه بالسُّبُل، مثل قوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ)(23) وذلك لأن الصراط إلى الله تعالى واحد وإنما له متعلقات ومصاديق متعددة فإبراهيم النبي صراط إلى الله وموسى وعيسى وسائر الأنبياء وعلى رأسهم النبي المصطفى محمد صلى الله عليه واله وسلم كل منهم صراط إلى الله تعالى وكذلك كل واحد من الأئمة عليهم السلام.
وبكلمة أخرى: اننا نطلب من الله تعالى ان يهدينا للصراط المستقيم عند مواجهة كل موضوع مستحدث، ذلك ان الإنسان كثيراً ما يواجه تحديات مصيرية وتكون أمامه خيارات صعبة فما هو الصراط المستقيم الذي يرضي الله تعالى فيها؟ ولذا ورد ((أَتَانِي جَبْرَئِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ صلى الله عليه واله وسلم سَيَكُونُ فِي أُمَّتِكَ فِتْنَةٌ قُلْتُ فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا؟ فَقَالَ: كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ بَيَانُ مَا قَبْلَكُمْ مِنْ خَيْرٍ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ وَهُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ مَنْ وَلِيَهُ مِنْ جَبَّارٍ فَعَمِلَ بِغَيْرِهِ قَصَمَهُ اللَّهُ وَمَنِ الْتَمَسَ الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ...))(24).
طلب الهداية في كل فتنة اجتماعية أو سياسية
ففي كل فتنة اجتماعية أو سياسية أو قانونية أو عشائرية أو حزبية أو غيرها على الإنسان ان يبحث عن الصراط المستقيم فيها وعليه ان يدعوا الله تعالى ليهديه إلى الصراط المستقيم فيها.
وفي أثناء الاجتهاد والاستنباط
بل نقول ان المجتهد وهو منشغل بعملية الاستنباط عليه ان يدعو الله تعالى لكي يهديه للصراط المستقيم في اجتهاده فان اجتهاده قد يصيب وقد يخطئ فإذا طلب من الله تعالى، وبإلحاح، ان يهديه للصواب ولمعنى الآية أو الرواية أو وجه الجمع الصائب بين الروايتين أو شبه ذلك، فان الله تعالى يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)(25).
وهنا نؤكد على ضرورة ان يجعل كل منّا الآية الكريمة نصب عينيه دوماً وان تتحول إلى جزء من حياته في كل موقف وحَدَث ومستجدّ ولدى كل فكرة وتدبر واستنباط واجتهاد، فكلما عنّ له وعرض أمر أو مشكلة أو فكرة استحضر فوراً هذه الآية وعلق قلبه بالله تعالى وأذعن، مرة أخرى، في قرارة نفسه ومن جديد بان الهداية بيده تعالى فيطلب منه بانقطاع الهداية للصراط المستقيم، وإذا فعل الإنسان ذلك بصدق وإذعان وانقطع قلبه إلى الله تعالى فان الله جل اسمه حقيق بان يهديه للصراط المستقيم في كل مسألة ولدى كل موقف بعد استجماعه طبعاً لسائر الشروط الظاهرية المعتبرة، كاستفراغ الوسع ومدارسة العلماء وشبه ذلك.
وقد وردت أدعية متعددة في طلب التسديد الإلهي كلما عرض أمر شائك وحادث محيّر، ومنها ما ورد عن الإمام صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه بان يقرأ الإنسان إذا تحيّر في أمرٍ ((عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْآوِيِّ الْحُسَيْنِيِّ عَنْ صَاحِبِ الْأَمْرِ عليه السلام قَالَ: تَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ عَشْرَ مَرَّاتٍ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ وَدُونَهُ مَرَّةٌ ثُمَّ تَقْرَأُ الْقَدْرَ عَشْراً ثُمَّ تَقُولُ هَذَا الدُّعَاءَ ثَلَاثاً: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ لِعِلْمِكَ بِعَاقِبَةِ الْأُمُورِ وَأَسْتَشِيرُكَ لِحُسْنِ ظَنِّي بِكَ فِي الْمَأْمُولِ وَالْمَحْذُورِ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ الْفُلَانِيُّ مِمَّا قَدْ نِيطَتْ بِالْبَرَكَةِ أَعْجَازُهُ وَبَوَادِيهِ وَحُفَّتْ بِالْكَرَامَةِ أَيَّامُهُ وَلَيَالِيهِ فَخِرْ لِيَ اللَّهُمَّ فِيهِ خِيَرَةً تَرُدُّ شَمُوسَهُ ذَلُولًا وَتَقْعَضُ أَيَّامَهُ سُرُوراً اللَّهُمَّ إِمَّا أَمْرٌ فَآتَمِرُ وَإِمَّا نَهْيٌ فَأَنْتَهِي اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِرَحْمَتِكَ خِيَرَةً فِي عَافِيَةٍ ثُمَّ تَقْبِضُ عَلَى قِطْعَةٍ مِنَ السُّبْحَةِ تُضْمِرُ حَاجَةً إِنْ كَانَ عَدَدُ الْقِطْعَةِ زَوْجاً فَهُوَ افْعَلْ وَإِنْ كَانَ فَرْداً لَا تَفْعَلْ وَبِالْعَكْسِ))(26)
ولنضرب عدداً من الأمثلة الهامة من أمثلة الحاجة إلى الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم لدى المواقف المتجددة:
الهداية إلى الزواج الناجح
الزواج، فان الزواج، حسب تعبير أحد العلماء، يعدّ مغامرة كبرى مجهولة العواقب إلى حد كبير، فقد ينجح وقد لا ينجح وقد يسعد وقد يشقى، ومن الواضح ان اللازم على الرجل إذا أراد الزواج – والمرأة إذا أرادت – ان يحقِّق عن الزوجة – وتحقِّق عنه – وخصوصياتها الأخلاقية وعن أسرتها ومنبتها إذ ان منبت السوء خطير، فإذا حقّق واطمأنّ فتزوج فان هناك نسبة غير مضمونة من الخطأ وهي مجال المغامرة المجهولة إذ ان بعض النساء تبدو صالحة بل ومثالية ثم بعد الزواج بفترة تتغير أو قد لا تتغير بل تبدو على حقيقتها كالحة بشعة، وكذلك حال الرجال فان من تشير كافة التحقيقات إلى حسن أخلاقه واستقامة دينه قد ينكشف عنه غير ذلك أو قد ينقلب لاحقاً فيتغير بزاوية مائة وثمانين درجة، فههنا بالضبط موطن الحاجة الأكبر للتمسك بالدعاء بالقول: أهدنا الصراط المستقيم في اختيار الزوجة التي تكون عوناً لي على ديني ودنياي ولا تشقيني في دنياي أو ديني.
بل الأمر أوسع من ذلك إذ قد يكون الرجل والمرأة معاً صالحين ويبقيان كذلك ولكنهما يرزقان بأولاد أشرار فلا يكون زواجهما مصلحة أبداً ولكن أنى للإنسان ان يدرك ذلك قبل الزواج؟ فههنا تتجلى أكثر ضرورة ان يلحّ الإنسان على الله تعالى بان يجعل زواجه طريقاً إلى الجنة وان يهديه في هذا الموقف إلى الطريق الموصل إليها فان كان الزواج بها هو الطريق الموصِل فليهد قلبه نحوها ويسوقه إليها وإلا فليضرب على قلبه وليصرف رأيه.
الهداية للموقف الصحيح من المشاركة في انتخابات الدول الغربية
مثال آخر: هل الأفضل لبعض المسلمين المتواجدين بالغرب الانتماء للأحزاب المختلفة والمشاركة في الانتخابات وذلك لكي تكون لهم مواقع قيادية في تلك الأحزاب بدل ان يصل إليها الصهاينة والمتطرفون من اليهود والمسيحيين فيشحنوهم بالعداء للإسلام والمسلمين؟، بينما، في مقابل ذلك، إذا وصل المسلمون فانهم سيدفعون باتجاه اتخاذ قرارات لصالح المسلمين أو يَحُولون على الأقل دون اتخاذ قرارات معادية للإسلام والمسلمين؟
فتلك هي حجة بعض الأطراف، ولكن تقابلها حجة آخرين وهي ان الانخراط في أحزابهم لا يخلو من مقارنة بعض المنكرات، أولاً، وانه لا يخلو من نوع تأييد وتقوية لهم، ثانياً.
ويقول بعض آخر: بان المسألة داخلة في صغريات باب التزاحم لأن لها جهات ترجّح الدخول وجهات ترجّح العدم، وإيجابيات وسلبيات، والسؤال هو انه عند مواجهة هكذا موقف – والملايين من المسلمين يواجهون ذلك هنالك – فما هو الصراط المستقيم والقرار الحكيم في ذلك؟
شروط سلامة الموقف في القضايا الخطيرة
ولعل الأصح هو ان القضية هي من الشؤون العامة، وليست شأناً شخصياً خاصاً، لذلك فانه لا بد من ثلاث أمور:
الأول: استشارة أهل الخبرة وصولاً للتشخيص الموضوعي للأهم والمهم في باب التزاحم.
الثاني: الاستئذان من الفقيه الجامع للشرائط، والذي يدل عليه أو يؤيده ان انخراط الاشخاص، في زمن الأئمة عليهم السلام، في سلك الحكومة، كان منوطاً بإذن الإمام عليه السلام فكان عليه السلام يأذن لمثل علي بن يقطين ولا يأذن لآخرين، وذلك حسب معرفته بدخائل الشخص وشاكلته النفسية ومدى قوة شخصيته من عدمها، ومدى سيطرة شهواته أو قوته الغضبية عليه أو العدم، ومدى جُبنه أو شجاعته؟ ومدى حكمته أو تهوّره؟ إلى غير ذلك، فهذا من جهة، ومن جهة أخرى: يدور الأمر مدار معرفته بوضع الحكومة وخصائص الحكّام وطريقتهم في التعاطي مع أمثال هؤلاء الأفراد (الظاهر الانتماء منهم أو الخفي المتقي) ومن جهة ثالثة: معرفته بالوضع العام أي معرفته بوضع المجتمع والحاجات والضرورات التي لا يمكن اتخاذ أي قرار إلا بمعرفتها تفصيلاً.
فإذا كان الفقيه الجامع للشرائط محيطاً بالظروف الموضوعية والذاتية الآنفة الذكر لزم الرجع إليه، بل يجب عليه وجوباً كفائياً ذلك.
الثالث: ان يكون ذلك شورى بين العلماء من جهة وبين أهل الحل والعقد من أهالي تلك البلاد من المخلصين الأكفاء من جهة أخرى، فإن أمكن اجتماعهم جميعاً فهو المطلوب وإلا فعبر الوكلاء أو عبر وسائط التواصل الاجتماعي والّاكفى اجتماع ثلة منهم بحيث يصدق كون (أمرهم شورى بينهم) وقد فصلنا الكلام عن ذلك في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية)(27).
الحوزة أو المنصب؟
مثال ثالث: لو دار الأمر في رجل الدين بين ان يستمر في الدراسة الحوزوية أو في التدريس في الحوزة وبين ان يتوظف في الدولة في موقع مهم أو ان يتسنّم منصباً رفيعاً، فايهما أهم؟ وما هو الصراط المستقيم الذي يوصله إلى الجنة أو إلى القيام بوظيفته الشرعية على أحسن وجه، من بين الخيارين؟
ههنا تتجلى أهمية ان يكرِّر الإنسان هذا الطلب ويدعو بإلحاح بالغ قائلاً (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) والذي يعني – من باب التفسير بالمصداق - (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) في كل حادثة وأمرِ مستجدِّ وقضيةٍ حادثة، وهي التي أمرنا فيها أيضاً بـ((وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اللَّه))(28) لنعرف بالرجوع إليهم الصراط المستقيم في تلك الأمور كلها.
المعاني الأربع، متكاملة غير متمانعة
ثم ان هذه المعاني الأربع والمعاني الآتية، ليست من قبيل مانعة الجمع بل هي من قبيل مانعة الخلو، إذ لا تضاد بين كل تلك المعاني فلا إشكال في ان تراد بأجمعها بل ان الإطلاق محكّم إلا ان يدعى الانصراف عن المعنى الأخير فتدبر وتأمل إذ لا وجه لذلك بعد كونه تفسيراً بالمصداق والله العالم وسيأتي بإذن الله وجه لتقوية الشمول فانتظر.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين