مخاطر انهيار البنيان المعرفي
ودعائم الشك الأربع في كلام الإمام علي عليه السلام (7)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2017-12-25 05:50
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (قَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)(1)
وقال الله العظيم في كتابه الكريم: (لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(2).
بين البنيان المادي، والبنيان المعرفي أو العلمي والثقافي أو القِيَمي
(البنيان) تارة يكون بنياناً مادياً ظاهرياً ملموساً، وأخرى يكون بنياناً علمياً – ثقافياً، وثالثة يكون بناء فكرياً معرفياً تكون قاعدته العقل، إلا ان البناء المعرفي الفكري يسبق رتبةً البناء الثقافي – العلمي، ورابعة يكون بنياناً قِيَمِياً – أخلاقياً تكون منطقته في القلب.
والبنيان المادي إنما تكون قيمته بالعمق الذي يحتضنه بداخله وبالبناء الفكري – القِيَمي - المعرفي الواقعي الذي يكمن خلفه؛ ولذلك كان الاستثمار – دوماً – في الرأسمال البشري هو الأساس الذي يجب ان تبتني عليه شتى أنواع الاستثمار سواءً أكانت في الصناعة والزراعة والتجارة أم كانت حتى في العلم والثقافة إذ يسبقهما البناء المعرفي – القِيَمي.
مخاطر وباء التشكيك على نسيج الأمم وبناءاتها
ومن هنا فان (وباء التشكيك) يعدّ الخطر الأعظم على أية حضارة أو مدنية أو ازدهار وتطور عمراني أو صناعي أو زراعي أو علمي أو شبه ذلك، ذلك ان فايروس التشكيك يدمر البنيان المعرفي – الفكري للأفراد أو الجماعات أو الشعوب أو الأمم كما ينسف البنيان القِيَمي – الاخلاقي بل والعاطفي حيثما سرى وتسلل أو امتدّ واتسع.
الأسرة بناء بشري يعتمد على البنيان المعرفي - القِيَمي
فالأسرة مثلاً بناء بشري لكن هذا البناء لا يمكن له أن يستقر ويثمر ويزدهر إلا ببناء معرفي – فكري – أخلاقي راسخ يستند إلى اعتبار الأسرة هي اللبنة الأساسية الأولى في بناء المجتمعات وانها إذا انهارت انهار المجتمع بالتدريج، وإلى الإذعان بانها يجب ان تكون لها الأولوية في بؤرة اهتمام الوالدين والمعلمين والمجتمع أيضاً، فإذا سرى التشكيك إلى ذلك وتحول المال – مثلاً - إلى المحور الأساس في الحياة للوالدين أو لأحدهما وتراجعت قيمة الأسرة في البناء المعرفي – الفكري – القِيَمي لأحدهما أو لهما معاً وتحولت إلى أولوية ثانوية بل إلى شيء هامشي أو فوق ذلك: إلى عبء كبير، فعندئذٍ سوف نرى – كما رأينا – انهيار الملايين من العوائل في أنحاء الأرض خلال بضع سنين أو أقل.
وكذلك النقابات والعشائر والأحزاب والدول
وكذلك تجري مسارات الأمور في سائر البناءات البشرية: في النقابات والعشائر والأحزاب والدول؛ فإن بذرة الشك والتشكيك من طبيعتها انها تنمو وتتكاثر بشكل مفجع كما انها مُعدِية بشكل غريب؛ ذلك ان الحكومة بناء ظاهري كما ان مؤسسات المجتمع المدني هي الأخرى بناءات بشرية ظاهرية، فإذا تسلحت ببنيان معرفي – فكري – قِيَمي وأخلاقي يتجسد في النزاهة والأمانة والثقة المتبادلة والجدّ والمثابرة والتعاون والأخلاق والإخلاص والإيمان والاخوة والشورية والتعددية، فانها عندئذٍ تزداد رسوخاً وعمقاً وتجذراً وعطاءً أيضاً.
ولكن ماذا لو جرى الشك في تلك القِيَم والأفكار والمبادئ واعتبارها – مثلاً - أخلاقياً برجوازية؟ ماذا يحدث إذا تحولت الحكومة أو الجماعة جوهرياً لتقوم على بنيان معرفي مضاد مبني على التشكيك في القيم الأخلاقية وعلى إعطاء مركز الصدارة للشهوات وللذات والأنا وللرياسة مهما كان الثمن ولو كانت عبر سحق حقوقهم؟
وكذلك الأفراد في أهدافهم المستقبلية
وكذلك الحال أيضاً في الأفراد وأهدافهم المستقبلية فانك تجد الشاب الجامعي إذا أضحى فريسة التشكيك في قيمة أهدافه التي وضعها لنفسه (مثل أن يكون طبيباً أو مهندساً أو محامياً أو مستمراً أو شبه ذلك)، فانه لا يمكنه أن يتفاعل مع هذا الهدف أبداً بل سيؤثر ذلك بالسلب على درجة اهتمامه بالدراسة والمذاكرة والحضور في الجامعة وغير ذلك، وقد يؤول أمره إلى أن يفضل عليها النوم أو جلسات البطالين أو حتى قراءة القصص البوليسية والأفلام الهابطة لا سمح الله، ومن الطبيعي أن يرسب، بعد ذلك، في الامتحان أو يحصل على درجات نازلة رديئة، وذلك عكس من كانت أهدافه واضحة لديه مشرقة متلألئة في جنبات قلبه وعقله فانه، طبيعياً، سيكون الأكثر جِداً واجتهاداً في سلّم حركته في الدراسة وفي سائر مراحل الحياة.
بنيان المنافقين، حسب القرآن الكريم
وفي الآية الشريفة نجد ان (البنيان) الذي بناه أولئك المنافقون وهو بنيان مادي يتمثل في المسجد الذي بنوه، لم يكن يحمل في ثناياه أية قِيمة معرفية أو اخلاقية يستحق ان يمتدحها الله تعالى بل لقد اسمي بمسجد الضرار اشتقاقاً من الآية الكريمة (وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)(3) وذلك لأن هذا البناء الظاهري كان المفترض فيه ان يجسد في عمقه ومضامينه ومبادئ تأسيسه وغاياته وأهدافه، البنيان المعرفي – الفكري – الأخلاقي والقِيم العليا الإنسانية الإسلامية، ويكون المرآة لها والجسر الموصلة إليها، لكنه كان على العكس من ذلك بناءً أُسِّس على الريب والشك في القِيم والـمُثُل والدين والرسالة المحمدية صلى الله عليه واله وسلم فهم لم يبنوه انطلاقاً من وحي المعرفة والقيم الاخلاقية العليا والعلم والاطمئنان بها، بل بنوه على أعمدة الشك والريبة في الرسالة المحمدية ومبادئها وقِيمها والتي جرّتهم إلى أن يتحولوا، بالتدريج، إلى أدوات بأيدي الأعداء تسعى لكي تقود انقلاباً عسكرياً بالتعاون مع جيوش الروم، ضد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم.
قصة أبي عامر الراهب ومسجد ضرار
وموجز القضية: ان (أبا عامر الراهب) والذي سماه الرسول صلى الله عليه واله وسلم بأبي عامر الفاسق (وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة) كان في الجاهلية قد ترهب ولبس المسوح وانشغل بالعبادة حيث رأى ان لذلك سوقاً رائجة في نفوس العرب البسطاء، فأضحت لديه مكانة مرموقة لديهم، ولما ظهر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وشاع صيته وظهر أمره وقدم المدينة واستهوى القلوب والعقول، حسده أبو عامر فكان يؤلب عليه الناس واستمر كذلك حتى فتح مكة فهرب من مكة للطائف ثم لما ظهر أمر الرسول صلى الله عليه واله وسلم في الطائف وأسلم أهلها هرب إلى الشام، ومن هناك تواصل مع منافقي المدينة ليبنوا مسجداً يتخذونه ستاراً لنشاطاتهم السرية ونقطة تجمع لرؤوس النفاق ومركزاً للتواصل مع الجواسيس حيث يكون حضورهم إلى هذا المكان طبيعياً تماماً باعتباره مسجداً تقام فيه الصلوات الخمس، وكما قالوا لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم ((يا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أتأذن لنا أن نبني مسجدا في بني سالم، للعليل والليلة المطيرة والشيخ الفاني...))؟(4) أي ليصلوا فيه ولا يأتوا إلى مسجد الرسول صلى الله عليه واله وسلم.
ثم قرر أبو عامر إغراء قيصر الروم بالإغارة على المدينة والقضاء على الرسول والدولة الإسلامية الفتية ويكون لأبي عامر دور إسناد جيش الروم بالاخبار من داخل المدينة، ((وكان قد أرسل إلى المنافقين أن استعدوا وابنوا مسجدا فإني أذهب إلى قيصر وآتي من عنده بجنود وأخرج محمدا من المدينة فكان هؤلاء المنافقون يتوقعون أن يجيئهم أبو عامر فمات قبل أن يبلغ ملك الروم))(5).
والملفت في الأمر ان هؤلاء المنافقين لم يكونوا قاطعين ولا مطمئنين بسلامة مقاصدهم وصحة موقفهم السلبي من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بل كانوا مجرد شاكين ومرتابين فقط لكنهم بنوا بنيانهم الظاهري (المسجد ثم المؤامرات) على هذا البنيان القلبي الهش أي انهم لم يبنوه على بنيان معرفي – علمي بل بنوه على مجرد الريبة والشك ولذا قال تعالى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(6).
بل قد نستظهر من مجموعة من الآيات الشريفة ومن استقراء تاريخ أعداء الأنبياء والأئمة (عليهم السلام): انهم لم يبنوا عِدائهم للأنبياء والأئمة على بناء معرفي – علمي ولو كان بناءً متوهماً، أي انهم لم يبنوه على قطعٍ أو اطمئنان بالعدم بل بنوه على مجرد الشك والريب؛ ولذلك كانوا الأسرع انهزاماً في سوح القتال والأضعف في المواجهة مع المؤمنين المتسلحين بسلاح العلم والمعرفة والرؤية الواضحة، ولعل ذلك من وجوه قوله تعالى: (وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا...)(7) ثم لما ضعفت بعدها الرؤية وضعف البناء المعرفي لديهم تضاءلت قدرتهم إلى الـخُمس فقط فقال تعالى: (فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ...)(8).
البنيان النفسي لطالب العلم
ولنمثل بمثال من التاريخ المعاصر: فان من المعروف ان طالب العلم عندما يأتي للدراسة في الحوزة العلمية في النجف الأشرف أو كربلاء المقدسة أو غيرهما، فانه يواجه صعوبات جمّة: من الغربة إلى ضيق ذات اليد وإلى غير ذلك، فإذا كان الطالب متسلحاً برؤية للهدف واضحة وبقناعة في العلم راسخة وببناء معرفي – نفسي عميق ومتجذر فانه يكون عندئذ كالجبل (( وَلَمْ يَزِغْ قَلْبُكَ وَلَمْ تَضْعُفْ بَصِيرَتُكَ وَلَمْ تَجْبُنْ نَفْسُكَ وَلَمْ تَخِرَّ، كُنْتَ كَالْجَبَلِ لَا تُحَرِّكُهُ الْعَوَاصِفُ))(9) عكس ما لو كان في قرارة نفسه شاكاً أو متردداً أو ضعيف الأيمان بضرورة الدراسة أو بمدى جدوائيتها فانه يكون من الطبيعي ان يهرب عند اصطدامه بأول عقبة أو لدى أول أو ثاني أو ثالث مواجهة مع بعض مشاق الحياة في الحوزة العلمية!
ونجد على العكس من ذلك علمائنا الأبرار الذين كانوا الانموذج الواضح للصمود والشموخ والصبر في مواجهة العقبات نظراً لتسلحهم ببناء فكري – روحي – معرفي عميق ومتجذّر.
معاناة السيد المرعشي في شراء الكتب النادرة والعمل مع الدراسة الجادة!
السيد المرعشي النجفي أحد المراجع المعروفين، كان يسكن في النجف الأشرف قبل حوالي مائة عام وكان منشغلاً بالدراسة بشكل جادٍ، وذات يوم وبينما هو مارُّ في طريقه في إحدى المناطق، ولعلها كانت سوق الحويش، وجد رجلاً يشتري كتاباً خطياً نادراً بسعر كبير، وقد أثار ذلك استغرابه إذ ان ذلك الرجل لم يكن من المهتمّين بمضامين الكتاب، وعندما حقّق عن الأمر تبيّن ان الرجل مهمتّه هي شراء الكتب الخطية النادرة ومن ثَمَّ بيعها إلى رجل بالقنصلية البريطانية؛ وقد هيج ذلك غيرة السيد المرعشي النجفي حيث وجد الاستعمار البريطاني يسعى للاستحواذ حتى على كنوزنا المعرفية (ولذا نجد ان كثيراً من أهم المخطوطات الإسلامية موجودة الآن في مكتبات الغرب نظير الكثير من كتب ورسائل جابر بن حيان الكوفي التي أملاها عليه الإمام الصادق عليه السلام).
وحيث كان السيد قدس سره ينطلق من اليقين بضرورة ان يتصدى كل مؤمن، بكل ما يستطيعه، للمحافظة على ثروات البلاد التي ينهبها الآخرون تارة بالقوة الصلبة الخشنة وأخرى بالقوة الناعمة، لذلك فكر ان يستنقذ قدر جهده سائر الكتب النادرة، وحيث لم يكن يمتلك شيئاً من المال إذ كان يعيش عيشة الفقراء، لذلك قرّر ان يعمل عصراً كحمّال، وما أشدها من تضحية وما أعظمه من تواضع، وان يتقّبل أيضاً الصلاة والصوم الاستيجاريين ليشتري بالأجرة التي يحصل عليها تلك الكتب النفيسة...
وهكذا كان يدرس بجدّ منذ الصباح الباكر، وهو صائم، ويعمل بجد عصراً ويقضي الصلوات ليلاً. مما أثار استغراب بعض الطلبة في مدى قدرته على التحمل في الاضطلاع بهذه الثلاثة جميعاً! وقد غفلوا عن انه ينطلق من إحساس عميق بالمسؤولية ومن بناء معرفي عميق ومن يقين راسخ، وانه لو كان شاكاً في ضرورة أي من تلك الأعمال لما أمكنه أن يقوم بها جميعاً حتى لأسبوع واحد!
وقد وُجد على الغلاف الداخلي لبعض الكتب التي أشتراها مكتوباً بخط يده انه اشترى هذا الكتاب بثمن سنتين من الصلاة والصوم عن فلان بن فلان! وذلك يعني انه صام شهرين وصلى سنتين ليجمع مبلغاً يستنقذ به كتاباً واحداً فقط!
وصفوة القول: ان رجل الدين أو الطبيب أو المهندس أو التاجر والمزارع وغيرهم، لا يمكنهم أبداً التضحية بأي شيء هام إذا لم يكونوا على يقينٍ من الهدف ووضوحٍ من الرؤية ولا يمكن لأية أُمّة أو جماعة أن تحقق إنجازات عظيمة وهي تعيش في دوامة من الشك والتشكيك.
((فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا الْيَقِينُ))
وقد سبق في البحوث الماضية بعض الحديث عن الحلول المفتاحية لظاهرة التشكيك ومضى بعض الكلام عن إحدى أهم الحِكَم المعرفية الكبرى في هذا الحقل وهي قول أمير المؤمنين عليه السلام: ((فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا الْيَقِينُ))(10) وقد سبق تفسير هذه الفقرة من كلامه عليه السلام بثلاث وجوه: (الانطلاق من اليقينيات الوجدانية لدكِّ معاقل الشبهات، والاتخاذ من الكليات منطلقاً لإزاحة الشبهات عن المصاديق والجزئيات، واتخاذ النتائج والمعاليل طريقاً لإزاحة حجب الظلام عن عالم الأسباب والعلل) وقد ذكرنا بعض الشواهد والأمثلة العقلية والفلسفية على ذلك، ونشير الآن إلى مثالين من علم السياسة والاجتماع:
المقياس العام لإدبار الدول: تقديم الأراذل وتأخير الأفاضل و...!
المثال الأول: يقول أمير المؤمنين عليه السلام: ((يستدل على إدبار الدول بأربع: تضييع الأصول والتمسك بالغرور وتقديم الأراذل وتأخير الأفاضل))(11) و((تولي الأراذل والأحداث الدولَ دليل انحلالها وإدبارها))(12) و((إِنَّ مِنْ ذُلِّ الْمُسْلِمِينَ وَهَلَاكِ الدِّينِ، أَنَّ ابْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَدْعُو الْأَرَاذِلَ وَالْأَشْرَارَ فَيُجَابُ...))(13).
وهذه الكلمة تعطي مقياساً عاماً وضابطاً رئيسياً لكل من يجهل واقع الحكومات ويشك في كيفية سير الأمور فيها وإلى أين ستصل في مؤدياتها ونتائجها، فهل هذه الحكومة مستقرة أو هي في طريق الزوال؟ قد تبدو الظواهر والمؤشرات كاذبة أو مُخادِعة إذ قد تمتلك الدول ترسانة ضخمة من الأسلحة التقليدية وغير التقليدية بل قد تكون مسلحة بالأسلحة النووية، وقد تفرض سيطرتها بالقوة على الكثير من الدول المجاورة، بل قد تبدو حكومتها مستقرة ولا نهائية كما كان يبدو حكم الشاه وحكم الشيوعيين في الاتحاد السوفياتي وحكم صدام والقذافي وسائر الطغاة، لكنّ من يمتلك هذا المقياس العَلَوِي فانه سوف لا يشكك حينئذٍ مهما بدت الحكومة متمكِّنةً متجذِّرةً مسيطرةً في انها على جناح السقوط الذي قد يطول لعقود أو لسنين على حسب طبيعة البلاد والحكومات وبهذا المقياس والضابط يقطع الشك باليقين بأعلى صوره.
وهذا المقياس لهو مقياس واضح فإذا رأيت الحاكم قد القى بالأحرار في السجون وطرد العلماء والمفكرين أو شرّدهم أو نفاهم إلى أقاصي البلاد وقرّب إليه الأراذل والمتملقين وضيع الأصول (كالعدل والإحسان والسِّلم والأمن والازدهار الاقتصادي...) وتمسك بحبل الغرور والخيلاء والاستعلاء فأعرف بأن البلاد على شرّ إذ لا يمكن إدارة البلاد في الزراعة والصناعة والتجارة وفي السياسة والثقافة والعلوم إلا بالمفكرين والعلماء والخبراء والفطاحل لا بالأراذل والجهال والمتملقين.
واستلهاماً من كلمته صلوات الله عليه نقول: ان هذا المقياس مقياس عام يشمل أية سلطة مهما بدت صغيرة: فالأحزاب والنقابات والعشائر ومؤسسات المجتمع المدني والجامعات والمدارس وغيرها، إذا أردت أن تعرف أن إدارتها تسير بها من حسن لأحسن أو من حسن لسيء أو من سيء إلى أسوء فأنظر إلى الإدارة: فهل انها تمتلك جيشاً، أو مجموعة على الأقلّ، من كبار المستشارين؟ وهل فوّضت الأمور الإدارية أو أوكلتها إلى عدد من كبار أهل الخبرة والحنكة وأهل الحلّ والعقد والفكر والعلم والحِجى والثقافة؟ أو بالعكس من ذلك سلمت الأمور إلى من يتميّزون بالولاء قبل الكفائة وبالسمع والطاعة قبل الفكر والخبروية؟
المقياس العام لاكتشاف ديمقراطية الحكومات أو استشاريتها
المثال الثاني: ما ذكره السيد الوالد من: ان الحكومات في هذا الزمن دَرَجت على أن تدعي بانها حكومات ديمقراطية أو استشارية وأن الناس يتمتعون فيها بالحريات في مختلف الحقول وأن السجناء ليسوا إلا حفنة من المجرمين أو الجواسيس ولا يوجد حتى سجين رأي أو موقف، كما دَرَجت الحكومات على إجراء انتخابات صورية لكنها تبدو حقيقية لإضفاء طابع شعبي جماهيري على الحكم.
لكن إذا كنت في شك من واقع هذه الحكومات فأقطع الشك باليقين بهذه القاعدة وهي: انه ما عليك إلا أن تراقب الصحف والمجلات ولو ليوم واحد فإذا رأيتها تنتقد الحاكم الأعلى للبلاد (بأية تسمية تَسمّى: الأمير، الملك، القائد، رئيس الجمهورية.. الخ) ورأيتها تهاجمه وتحاسبه على كل صغيرة وكبيرة، فأعرف بان البلاد تتمتع بالحريات حقاً، أما إذا وجدتها لا تحاسب إلا من هو دون الرأس الأول ومركز القدرة الأساس وتتجنب نقده (وفي الكثير من البلاد: تتجنب نقد حتى كبار أعوانه) وانه إذا انتقده أحدهم فسوف يتعرض للملاحقة بشكل أو بآخر، فأعرف بان الحريات كاذبة والديمقراطية مزعومة.
والمقياس الآخر الذي كان يذكره هو: راقب وضع البلد فإذا رأيت الأحزاب المتنافسة على الحكم حرةً وكان الحكم تداولياً وكان الجهاز الحاكم يتغير بين كل دورة انتخابية وأخرى من أعلى رأس فيه فنازلاً فأعرف بان الانتخابات حرة نزيهة، اما إذا رأيت شخصاً ما (مهما كان اسمه وعنوانه) يبقى مسيطراً على دفة الأمور ولا تطاله الانتخابات أبداً ولا تقلص من مساحة سلطته وسيطرته أصلاً فاعرف بان الانتخابات ما هي إلا عملية خداع متطورة لإضفاء طابع شوري شعبي على واقع استبدادي غاشم.
دعائم الشك: في حِكَم الإمام علي عليه السلام
ثم اننا إذا رغبنا في معرفة حقيقة الشك وما الذي يقف وراء ظاهره التشكيك، وأردنا استكشاف الحلول المفتاحية له، فلا بد لنا من ان نبحث عن دعائمه وأسسه التي يستند إليها فإذا اكتشفناها عرفنا عمق خطورتها كما عرفنا مفتاح حلها وبلسم جراحها وسبل مواجهتها.
ولقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام في كلمة مفتاحية مذهلة في الروعة والدقة والجمال والحكمة إلى دعائم الشك فقال: ((وَالشَّكُّ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى التَّمَارِي وَالْهَوْلِ وَالتَّرَدُّدِ وَالِاسْتِسْلَامِ...))(14).
من دعائم الشك (التماري) والمقصود منه
وهذه الكلمة غريبة في روعتها نادرة في عمقها وشدة اختزالها؛ إذ ان الإمام أشار إلى أهم أسبابِ معضلةٍ حيّرت البشرية على مر التاريخ، بعبارة تتكون من أربع كلمات فقط، وسنتوقف اليوم للبحث عن المفردة الأولى فقط:
(التماري) يشير إلى أمر من عالم الإثبات عكس لواحقه التي تشير إلى أمر من عالم الثبوت، و(التماري) تفاعل مأخوذ من المراء والمراد هو الجدال بالباطل بل مطلق الجدال وإن كان بالحق ولذا ورد ((وَأَوْرَعُ النَّاسِ مَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقّاً))(15) كما قال تعالى: (فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا)(16) أي لا تجادل في أمر أصحاب الكهف إلا مراء ظاهراً أي بحجة ظاهرة.
وورد في الحديث: ((الْمِرَاءُ فِي كِتَابِ اللَّهِ كُفْرٌ))(17) وسمي كفراً (لأنه من عمل الكفار، أو لأنه يفضي بصاحبه إلى الكفر إذا عاند صاحبه الذي يماريه على الحق، لأنه لا بد أن يكون أحد الرجلين محقا والآخر مبطلا، ومن جعل كتاب الله سناد باطله فقد كفر، مع احتمال أن يراد بالمراء الشك، ومن المعلوم أن الشك فيه كفر) (18).
كما ورد في الحديث: ((مِنْ تَعَلَّمَ عِلْماً لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ وَيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيُقْبِلَ بِوُجُوهِ النَّاسِ إِلَيْهِ فَهُوَ فِي النَّارِ))(19).
لماذا تنتج المماراة الشك في كل شيء؟
ولعل من الأسباب في مبغوضية المماراة انها تؤدي عادة إلى البغضاء والحقد والعداوة، كما انها تسوق الإنسان غالباً أو في كثير من الأحيان، إلى استخدام الحجج والأدلة لتكريس دعائم الباطل أو إلى استخدامها استخداماً باطلاً في حد ذاته، ويتضح ذلك أكثر بمراجعة ما ذكره علماء المنطق:
(إن الجدل لغةً هو اللدد واللجاج في الخصومة بالكلام مقارناً غالباً لاستعمال الحيلة الخارجة أحياناً عن العدل والانصاف. ولذا نهت الشريعة الاسلامية عن المجادلة لا سيما في الحج والاعتكاف.
وقد نقل مناطقة العرب هذه الكلمة واستعملوها في الصناعة التي نحن بصددها والتي تسمي باليونانية (طوبيقا).)(20).
(والبرهان لا يعتمد الا على المقدمات التي هي حقٌ من جهةِ ما هو حقٌ لتنتج الحق أما (الجدل) فإنما يعتمد على المقدمات المسلمة من جهة ما هي مسلمة ولا يشترط فيها أن تكون حقاً وان كانت حقاً واقعاً اذ لا يطلب المجادل الحق بما هو حق كما قلنا بل انما يطلب افحام الخصم وإلزامه بالمقدمات المسلمة سواء أكانت مسلمة عند الجمهور وهي المشهورات العامة والذائعات أم مسلمة عند طائفة خاصة يعترف بها الخصم أم مسلمة عند شخص الخصم خاصة)(21).
(ويظهر بوضوح من جميع ما تقدم صحة تعريف فن الجدل بما يلي:
(انه صناعة علمية يقتدر معها حسب الإمكان على اقامة الحجة من المقدمات المسلمة على أي مطلوب يراد وعلى محافظة أي وضع يتفق على وجه لا تتوجه عليه مناقضة).).(22)
ويتضح لنا عمق كلام الإمام عليه السلام أكثر فأكثر إذ يؤسس لقاعدة ان الشك في الحقائق من دعائمه التماري؛ عندما نقوم باستطلاع ميداني وبدراسة لسيكولوجية الأشخاص الذين تعودوا المماراة إذ سنجد: ان من تعوّد على المجادلة والمخاصمة حتى أصبحت له دأباً وديدناً فان نفسه تتفاعل حينئذٍ مع منهجه بشدة وتتأثر به بعمق: فالذي يجادل في كل شيء يؤول أمره إلى أن يشكك في كل شيء، والذي يبرع في استعمال الحجج على المدّعى ونقيضه وينهج هذا المسلك كخط عام في الحياة فانه لا يلبث أن يبدأ في داخله بالتشكيك حقيقةً في كل الحقائق، والذي يجعل مسامعه عرضة لسماع كل شبهة وجدال ومحاجّة أو يتابع قراءة مختلف السجالات الكلامية وأنواع الجدال في الكلام والعقائد والسياسة والاقتصاد وغير ذلك، فانه لا يلبث أن يبدأ بالتشكيك حتى في البديهيات.
والسبب في ذلك واضح؛ فان النفس إذا اتقنت فنّ الجدال استهواها الجدال فولعت به في حد ذاته ومن ثَمّ تجدها قد انتقلت بصاحبها في خطوات متتابعة إلى الجدال حتى في الحق وإلى مناقشة البديهيات أيضاً، فكما ان الطبع سرّاق فكذلك النفس سرّاقة أيضاً، ومن الواضح انه يمكن إقامة الدليل الباطل على كل حق وباطل! حتى ليكاد الباطل يبدو من قوة الجدال عنه حقاً ويبدو الحق باطلاً!
ولذا نجد ان ظاهرة التشكيك المنتشرة في المجتمع والممتدة نطاقاتها إلى كل شيء (بدءً من وجوده تعالى ووحدانيته وعدله... ومروراً بالدين كله... ووصولاً إلى العائلة والوطن وحتى المستقلات العقلية) نشأت فيما نشأت من كثرة تعرّض الشباب والطلبة أيضاً لسماع الشبهات والمجادلات والسجالات والنقاشات في شتى القضايا، فان الإنسان وإن كان عالماً إلا أن للشبهات وأنواع الجدال خصوصيتين:
المضاعفات السلبية للسجالات الجدلية
الأول: ما سبق من انها أدوات وأسلحة ماضية فإذا عايشها عقل الإنسان باستمرار وبشكل متواصل فانها لا تلبث ان توجّه حِرابها وأسلحتها نحو كافة الحقائق المنتقشة في صفحة عقله وضميره ووجدانه، وحيث انها قوية ذات بريق اخّاذ يأخذ بالألباب ويأسر النفوس، فانها تكون فعّالة طمس الحقائق وقلب المعادلات فان هذا هو شأن المغالطة تماماً وكما تخدع المغالطة الخصمَ في كثير من الأحيان كذلك تخدع صاحبها تماماً.
وبعبارة أخرى: ان الشبهات والسجالات تشبه أن تكون، بل هي كذلك، كالفايروس المعدي، فكما ان الكثيرين ابتلي بها ولم يخلص من سمومها فان الذي يعايشها كثيراً ما يتأثر بها بدرجة أو أخرى.
وهي في ذلك تشبه الأوبئة، فحتى الطبيب المعالج الذي يتصدى لعلاج المرضى بالأمراض الـمُعدِية فانه كثيراً ما تَعْلَقُ به بعض الميكروبات أو الفايروسات الـمُعدِية، إلا إذا إتخذ أشدّ تدابير الحذر والحيطة على مدار الأيام والساعات بل والدقائق والثواني وتعامل بحذر بالغ مع كل ما يلمسه المريض بل وحتى مع الهواء الذي يستنشقه، ومع ذلك قد تجده يصاب بالعدوى ولو أحياناً قليلة أو نادرة!
الثاني: ان الفرد، وإن كان عالماً، فانه ليس محيطاً بكل الحقائق والعلوم فليس هو (الرجل الخارق)(23) الأقوى من كل الشبهات والشكوك، فإذا تحوّل همّه إلى المماراة والمجادلة فان إحدى الحجج (التي ظاهرها الحجة وباطنها المغالطة) التي يسوقها جدلاً للغير أو التي يسوقها الغير إليه مماراةً، قد تعْلق بخاطره فيزيغ معها عقله ويهتز لها قلبه وإيمانه.
إشارة إلى حالة إمام المشككين
ويكفي ان نتصفح حياة (إمام المشككين) في الشرق و(إمام المشككين) في الغرب لنكتشف عمق خطورة التماري على الإنسان، اما إمام المشككين في الشرق(24) فهو الفخر الرازي فانه اعتاد على الممارة والمجادلة في كل شيء، وحيث تحوّلت المماراة إلى عادة لديه فقد تسلّلت وتوسعت وامتدت ليبدأ المماراة والمجادلة حتى في البديهيات والضرورات الإسلامية والإنسانية.
الفخر الرازي: السِّحر حَسَن بل واجب!
ومن ذلك انه ذهب في رأي غريب، ساقه إليه طبعه الجدلي ومماراته ومغالطاته، إلى أن (السحر) ليس بقبيح بل هو حسن بل هو واجب! قال في تفسيره (العلم بالسحر غير قبيح ولا محظور: اتفق المحققون على ذلك؛ لأن العلم لذاته شريف وأَيْضًا لعموم قوله تعالى: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)(25) ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجز، والعلم بكون المعجز معجزا واجب وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبا وما يكون واجبا كيف يكون حراما وقبيحا)(26).
أجوبة سبعة على مماراة الفخر الرازي
أقول: انظر إلى غرابة استدلاله!
فأولاً: من أين أن العلم بذاته شريف! بل العلم ينقسم عقلاً إلى الأقسام الخمسة:
1- العلم النافع جداً أي البالغ درجة المصلحة البالغة الملزمة، وهو واجب، وذلك كأساسيات علم الطب والعقائد وشبه ذلك، 2- والعلم الضار جداً وهو حرام، 3-4 وهناك المستحب والمكروه إذا كان نفعه أو ضرره قليلاً، 5- والمباح إذا لم يكن نافعاً ولا ضاراً.
وبعبارة أخرى: ان شرف العلم بشرف المعلوم فانه من الصفات الحقيقية ذات الإضافة.
ثانياً: ان السحر ليس بعلم بل هو فنّ أو مكر، وهو فنّ هابط ساقط لأنه يعتمد على مزيج من الخداع البصري (وغيره) ومن التصرف في أنفس الناس بالخداع، ومتى كان الخداع شرفاً؟ ومتى كان الاستغفال والتجهيل فضيلة؟.
ثالثاً: ان المسلمين أجمعوا على حرمة السحر بل وعلى كونه من الكبائر، حتى ورد عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ان: ((سَاحِرُ الْمُسْلِمِينَ يُقْتَلُ...))(27) والمفروض في الفخر الرازي انه مسلم بل ومفسر بل وإمام من أئمة المسلمين فكيف يجتهد في مقابل الشريعة؟ وباستدلالات أوهى من بيت العنكبوت، وقد قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)(28).
رابعاً: يرد عليه النقض بان العلم إذا كان شرفاً لذاته و(هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)(29) إذن فليحكم أيضاً بان تعلم فنون القتل والتعذيب وتعليمها للناس أيضاً أمر شريف بل وواجب في حد ذاته! بل وكذلك تعلم فنون الدعارة وإغواء النساء وخداعهن وجرّهن للفساد والعياذ بالله فهي حسب معادلته الكلية أمر شريف حسن وواجب وإذا استثنى فإنما يستثنى مقدمة الحرام منه! وانه إنما يحرم لو أدى للحرام اما في حد ذاته فأمر شريف نافع!
خامساً: ان الآية لا يراد بها كل علم، بل العلوم العقائدية والدينية النافعة وأيضاً الدنيوية النافعة كعلم الطب والزراعة والصناعة وما أشبه(30)، ولا يراد بها انه لا يستوي الذين يعلمون العلوم الضارة المحرمة مع من لا يعلمونها!
سادساً: لو سلمنا جدلاً صحة القاعدة، فانه ما من عام إلا وقد خص.
سابعاً: ان التمييز بين السحر والمعجزة، لا يتوقف على تعلم السحر؛ وهل ترى أُلوف العلماء والاحبار والرهبان والمسيحيين واليهود والكفار والمشركين وكبار العرب عندما آمنوا بالرسول صلى الله عليه واله وسلم حيث شاهدوا معجزاته كانوا يعلمون السحر وثم فرقوا بينه وبين المعجزة؟ وهل ترى ان معاجز عيسى المسيح (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)(31) التي آمن بها الناس كانوا عرفوا انها معجزة لأنهم عرفوا السحر وتضاريسه فعلموا ان هذه معاجز وليست سحراً؟ وهذا برهان واضح على بطلان قوله (ولأن السحر لو لم يكن يُعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجز) بل يرد عليه النقض أيضاً باننا نعلم الاختراعات العلمية المذهلة الحديثة وهل توقف علمنا على انها تطور علمي وليست سحراً، على معرفتنا بعلم السحر حتى نتأكد انها تطور علمي وليست سحراً؟
والشاهد ان من اعتادت نفسه على التماري والجدال وإقامة الدليل على هذا الطرف وعلى نقيضه جدلاً فانه لا يلبث أن ينقلب على نفسه وعلى بديهياته فيوجه سهام أدلته (التي برع في استعمالها بحقٍ وبباطلٍ، وبرع في التلاعب بها بحيث تتطوع لشتى أهدافه الفكرية والعلمية) نحو المبادئ والقيم الاخلاقية ونحو أسس السعادة الإنسانية ونحو المستقلات العقلية، فلا يلبث قليلاً وإلا ويبدأ رحلة الشك المميتة نحو العدمية والظلامية المطلقة!
مماراة القاضي الجلاد حول قتله الأبرياء وأدلته الجدلية!
والتاريخ يكشف لنا أن أولئك الذين انخرطوا في (التماري) فقدوا البوصلة، وربما استدلوا باستدلالات مضحكة - مبكية على قضايا، مما لا يعقل ان يصدر من إنسان سليم العقل.
ومن نماذج ذلك، ذلك القاضي – الجلاد المعروف المتظاهر بالدين والذي ذهب مرة إلى إحدى المحافظات ليدرس ملف ثمانين شخصاً كانوا قد اعتقلوا بتهمة التآمر ضد الدولة وكانت لبعضهم ملفات، ولكن بعضهم الآخر اعتقلوا لمجرد الاحتمال حيث وجدوهم يلتقون أحياناً بهم أو كان بعضهم مجرد شركاء لهم في العمل أو جيراناً لهم في المنطقة..
وعندما وصل هذا القاضي إلى ساحة السجن اعطوه أقراص الملفات واحضروا السجناء ليقوم، في بضع أيام بدراسة الملفات بصبر وأناة كي يكتشف من يستحق الاعدام، بزعمه، ممن يستحق السجن المؤبد أو السجن لسنين أو حتى البراءة وليقوم باستجواب السجناء مباشرة ليستمع إلى دفاعهم عن أنفسهم فلعل التهمة ملفقة والرجل بريء ولعله جاهل قاصر ولعله ممن لا يستحق إلا عقوبة عادية جداً.
لكن القاضي - الجلاد نحّى أقراص الملفات جانباً، وقال: الظروف ظروف صعبة والبلاد تمرّ بحالة حرب ولا وقت لدينا لكل ذلك وعليَّ أن أذهب إلى سجون أخرى كثيرة في مختلف المحافظات... ثم أصدر قراره بإعدام الثمانين جميعاً! فقال له بعض من يحمل في ثناياه بعض الضمير والوجدان: ان فيهم البريء! فأجاب: أما البريء فانه يذهب إلى الجنة! وأما أنا فقد عملت بالاحتياط إذ أمرت بإعدامهم جميعاً! ثم أصر على أن يعدموا أمام عينيه!
ومثل هذه القضية قد تبدو أغرب من الخيال، لكن من يدرس حياة الطغاة كصدام وهتلر يجد أغرب من ذلك ومن يدرس حياة الطغاة المتلفعين باسم الدين كمعاوية ويزيد والحجاج، يجد ما هو أعجب من ذلك...
والشاهد ان المراء والحجة الجدلية التي استند إليها هذا القاضي، كانت تكمن في دليل غريب: (اما البريء منهم فيذهب إلى الجنة)! فنقول له: ولكنك أنت الذي تذهب إلى النار! وهل يصح ان يعلل الحجاج وصدام قتله للأبرياء بانهم سوف يذهبون للجنة! أو يعلل شمر وعمر بن سعد ويزيد قتلهم لسبط رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وسائر الشهداء، بانهم قد عجلوا للشهداء الأبرار للوصول إلى الفوز بالرضوان الإلهي وجنة عرضها السماوات والأرض؟.
وكانت حجته أيضاً انني أخذت بالاحتياط لذلك أمرت بقتلهم جميعاً!؟ مع ان الاحتياط هو في ترك سفك الدماء، بل ان الحدود تدرأ بالشبهات، بل ان (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا)(32).
لكن من اعتاد الجدال والمراء والتماري واختلاق الحجج لكل شيء، وكذلك من عاشر مثل هؤلاء، فان حياته كلها ستكون سلسلة من الأكاذيب والحجج الباطلة التي تسوِّق للجرائم وعظائم الجرائر.. ومن يدري فلعل ذلك الرجل – القاضي – الجلاد كان مقتنعاً بحجته تماماً إذ كثيراً ما يولّد المراء والجدال والمغالطةُ اليقينَ بالباطل ككثير من الطغاة على مر التاريخ، أو لعله كان شاكاً في سلامة موقفه إلا انه بنى حياته على الشك وفلسَفُهُ بالتماري والجدال، كما يحتمل العكس بان كان اختراعه لأمثال هذه الحجج والمغالطات وسعيه لتبرير كل موقف همجي بحجة عقلية أو شرعية هو الذي ولّد لديه الشك في بديهيات الأمور فكان ممن بنى حياته على المراء والجدال وكانت دعامة شكه وتشكيكه التماري.
قال لهم: اقتلوا الأعداد الفردية، لا: بل الزوجية!
ومن طريف – وغريب ما ينقل عن أحد القضاة الجلادين انه ذات مرة ذهب إلى إحدى المحاكم الثورية وكانوا قد حشدوا فيها خمسين متهماً ممن لا يعلم حاله، فأمر بإعدام الأول فالثالث فالخامس إلى التاسع والأربعين أي إعدام الأعداد الفردية وإطلاق سراح الأعداد الزوجية! وعندما علم المتهم الخمسون بانه سيخرج براءة ضحك فرحاً، فرآه القاضي الجلاد فقال له تضحك! إذاً سنعكس الأمر! ثم حكم بإعدام الخمسين فالثامن والأربعين فالسادس والأربعين وهكذا وصولاً إلى الثاني! (أي أمر بإعدام الأعداد الزوجية وبإطلاق سراح الأعداد الفردية)!!
وذلك وأشباهه هو ما يذكرنا بأحكام (قراقوش) والتي نجد تجلياته في الطغاة على مر التاريخ بأغرب مما نقل عنه سواء أصح كل ما روي عنه أم لا...
التماري كالتمارض، يسري من المظهر إلى الجوهر
وصفوة القول: ان (التماري) هو كـ(التمارض) فكما ان الصحيح الجسد لو تمارض وتظاهر بالمرض فانه لا يلبث بدنه ان يستجيب فيتمرض حقيقة، وذلك كمن يتظاهر بالكآبة ويقطِّب وجهه ولا يضحك أبداً فانه لا يلبث ان يستشعر الحزن والكآبة حقيقة.
فكذلك من ينشغل بالمراء ويعتبر، في عالم الجدال والمناظرة، كل شيء محتمل البطلان حتى المستقلات العقلية واليقينيات، ثم يحاول جدلاً إقامة أدلة وبراهين أو مغالطات ضدها، فانه كثيراً ما ينتهي به الحال إلى الشك حقيقة في يقينياته، وذلك هو مما عناه الأمير عليه السلام بقوله: ((وَالشَّكُّ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى التَّمَارِي...)).
ولا يخفى ان ذلك إنما هو في البداية فقط وانه كثيراً ما يؤدي به الشك إلى الإنكار والكفر والجحود بأكثر الحقائق بداهة وقد ورد ((من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه))(33).
ومن ذلك نعرف أهمية الحكمة المستنبطة من كلامه وعلى ضوء كلمته وهي: على العاقل ان يحذر المراء والجدال، وأن يحذر ان يبني حياته على التماري، وأن يحذر ان يفترض، ولو كباحث عن الحقيقة مثلاً، اليقينيات الوجدانية أمراً مشكوكاً فيه ثم يجادل ليقيم الأدلة جدلاً على بطلانها ثم ليفنّدها لاحقاً، فانه كثيراً ما يعلق في شباكِ مصيدةِ مغالطاته وجداله ثم لا ينجو منها أبداً!.
وذلك يؤكد ما سبق قوله من ان للشك المنتج ضوابط ومناهج وان من تجاوزها خرج من دائرة الشك الملهم أو المنتج أو الفعال إلى دائرة الشك المهلك أو السلبي أو الظلامي. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين