البعد الاصلاحي في تقريب القرآن الى الاذهان
اصحاب الحجر نموذجا
د. حازم فاضل البارز
2015-03-11 12:55
بسم الله الرحمن الرحيم
ولقد كذب اصحب الحجر المرسلين (80) واتينهم ايتنا فكانوا عنها معرضين (81) وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا امنين (82) فأخذتهم الصيحة مصبحين (83) فما اغنى عنهم ما كانوا يكسبون (84)
صدق الله العلي العظيم
وقف القرآن الكريم بقوة امام مزاعم المعاندين ومطاعن المنكرين من اهل الكتاب والمشركين، الذين حاولوا انكار حقائقه وتعطيل احكامه، والتشكيك في اصوله ووحيه، فكان رد القرآن الكريم بجواب الحق الذي يلزمهم الحجة، بالدليل المحكم، وبالأسلوب العلمي المقنع، فأبطل شبهاتهم الفاسدة بالحكمة والموعظة الحسنة التي يفهمها العامة والخاصة، وبطريقة ترشد الضالين، وتهدي الى سواء السبيل، (والقرآن الكريم حيث يعرض القضايا واحكامها لمجتمعاته هكذا بأدلتها الايجابية لدى العقل، فانه لا يقف بها عند بيان نفع الشيء وخيره، بل يقرنه ببيان اضرار ضده، ثم يحلل ما يحتاج من الموضوعات لتساؤل ينشأ حوله، ويناقشه مناقشة عقلية تؤدي الى الاقناع في ايناس ورضا).
وحينما وطأ الانسان الارض، لم يتركه الله تعالى حائرا تائها في عالمه الجديد الغامض الذي لم يعرف عنه شيئا، بل ساعده على تحصيل المعرفة من خلال ارسال الانبياء بصورة متتالية الى اقوام الارض المتعددة، ولان الانسان ينطوي في تركيبته النفسية على الكثير من المزالق والمهلكات، فانه يحتاج الى النصح والارشاد بصورة دائمة، وقد قامت الاديان السماوية المتتابعة بهذا الدور الضخم، الا وهو دور اصلاح البشرية وتقويم انشطتها وضبطها وفقا لتعاليم سماوية بالغة الدقة، وكان الاسلوب القصصي التوجيهي هو الغالب في النصوص القرآنية الشريفة.
كما نقرأ ذلك في قصة (اصحاب الحجر)، التي وظفها ايه الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) في كتابه تقريب القرآن الى الاذهان، منوها عن معلومات تتعلق بهؤلاء القوم والبعد الاصلاحي عن طريق نبيهم الذي ارسله الله تبارك وتعالى لهم، اذ يرى (قدس سره) ان الحجر هي اسم مدينة قوم صالح عليه السلام وهم ثمود، كما قال سبحانه: (والى ثمود اخاهم صالحا)، (المرسلين) الانبياء الذين ارسلوا من قبل الله سبحانه، وانما اتى بلفظ الجمع، اما لأن في تكذيب صالح تكذيبا للأنبياء لانهم سلسلة واحدة فمن كذب بعضهم فقد كذب جميعهم، او لأنه قد ارسل اليهم عدة انبياء فكذبوا الجميع، وانما ذكر سبحانه صالحا فقط في قصصهم لأنه اخر الانبياء اليهم، او الاتيان بلفظ الجمع – لما تقدم سابقا – من ان المراد به الجنس وكما يقول احدنا، هكذا رأى الاطباء في هذا المريض، يريد الجنس لا الجمع، اي ان هذا الفصيل هكذا، وهو كثير الاستعمال عرفا، (واتيناهم) اي اعطينا اصحاب الحجر (آياتنا) اي الادلة الدالة على التوحيد والنبوة والمعاد، وهي المعجزات التي كان منها الناقة ومنها فصيلها (فكانوا عنها) اي عن الآيات (معرضين) اعرضوا عن التفكر فيها والاستدلال بها على المبدأ والمعاد، فلم يعلموا بما تقتضيه تلك الآيات من الطاعة والايمان (وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا) فقد كان بلدهم بين الجبال، فيصنعون لأنفسهم بيوتا جبلية، بما اعطيناهم من القوة والقدرة (امنين) في حياتهم لا يزعجهم مزعج، والاشخاص الذين في الجبال غالبا يكونون اكثر قوة وامنا للحواجز الطبيعية بينهم وبين من قصد بهم سوءا، ولعل الاتيان بهذه الصفة، دلالة على انهم مع قوتهم ومنعتهم اخذهم عذاب الله حيث طغوا ولم يؤمنوا، (فأخذتهم الصيحة) صاح بهم جبرائيل صيحة هائلة خبلت البابهم (مصبحين) في حال كونهم داخلين في الصباح، في وقت هدوء واستراحة وجمال الافق وهم امناء في بيوتهم الحصينة، (فما اغنى عنهم) اي ما افادهم (ما كانوا يكسبون) من الاموال والمناصب والاولاد وسائر الملاذ الدنيوية، انها لم تدفع العذاب عنهم، وهكذا قتلت الامة في الكفر وتكذيب الانبياء، وهكذا اخذ الله الجميع واهلكهم بأنواع العذاب.
وعلى وفق ذلك ايضا يرى اية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) ان من طبيعة الانسان التردد والمماطلة في قبول الجديد حتى لو كان صحيحا، الامر الذي يتطلب جهودا كثيرة ومتواصلة تحث الانسان على ولوج طريق الاصلاح والسير وفق منهجه، وعلى المعنيين بصلاح الانسان ان لا يكلوا ولا يملوا من اعمال النصح والتوجيه حتى لو فشلوا مرارا وتكرارا في مهامهم الاصلاحية، حيث يقول المرجع الشيرازي: لقد لبث صالح عليه السلام فيهم – كما في الروايات الواردة عن المعصومين صلوات الله عليهم – يدعوهم الى الله مدة مئة وست عشرة سنة، لم يؤمن به خلالها اكثر من سبعين منهم اي بمعدل اقل من شخص واحد خلال كل سنة! وفي هذا دلالة على اننا ينبغي ان لا نتعب او نمل ونضجر من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وان كانت الاستجابة قليلة والتأثير بسيطا.
لذا ينبغي تبيين الامر الصحيح من الخاطئ بخطاب صحيح وبسيط ومقنع في ان واحد، بمعنى يجب ان يفهمه المتلقي ويقتنع به حتى يعمل بما يريده من توجيه، حيث اكد المرجع الشيرازي (دام ظله) ايضا على ضرورة الفهم والاقناع قائلا (لا يكون الاعراض الا بعد ان يتبين الامر، ولذلك نرى القرآن الكريم يذكره بعد ذكر ايتاء الآيات والبينات، فان من لا يعلم ان الحج واجب عليه ولا يحج لا يسمى معرضا، اما من علم بوجوب الحج عليه ولم يحج مع ذلك يقال انه اعرض عن الحج، وهكذا الحال مع اصحاب الحجر فانهم استمرا في تكذيب انبياء الله حتى بعد نزول الآيات ومشاهدة المعجزات، اي انهم اعرضوا عن الآيات)، ومع ان المعجزات غالبا ما تدعم ما يدعو له الانبياء من مناهج ومسارات اصلاحية، الا ان الاقوام غالبا ما كانوا يكذبون انبياءهم، حتى مع رؤيتهم للمعاجز الكثيرة والكبيرة.
ومنها ناقة صالح كما يقول الامام الشيرازي (قدس سره): (ان اعظم اية ومعجزة للنبي صالح عليه السلام وهي الناقة، فقد طالبه جماعة من قومه ان يخرج لهم ناقة من بطن الجبل ليتبين لهم صدق دعواه، فانه ان كان نبيا استجاب الله دعوته، ولم يرد صالح عليه السلام طلبهم فتوجه الى الله تعالى وسأله ذلك، فخرج صوت رهيب من الجبل وانشق الى نصفين ثم خرجت ناقة عظيمة قيل انها كانت تعادل في ضخامتها عشرات النوق، يتبعها فصيلها، وهذا ليس بعزيز على الله، فلقد خلق سبحانه وتعالى ادم وحواء من قبل من دون ابوين، وخلق عيسى من ام فقط – يقول الله تعالى (انما قولنا لشيء اذا اردناه ان نقول له كن فيكون)، ولقد تجسدت معجزة النبي صالح عليه السلام بوضوح كبير وواقعي في ناقته، امام القوم، لكنهم مع ذلك لم يقبلوا بمنهج الاصلاح لانه لا يتفق مع طبيعة حياتهم انذاك، وهذا يدل على ان الاصلاح يتطلب جهودا مضنية وكبيرة يتقدمها الاصرار والصبر حتى تحقيق الغاية المطلوبة وهي اصلاح الناس، حيث (كانت الناقة وبراء جميلة تسير بسيرة الانسان العاقل الحكيم الذي لايؤذي احدا، فكانت لا تؤذي شخصا ولا حيوانا ولا زرعا ولا شيئا، كالإنسان المؤمن الحكيم، وكانت تأكل من حشائش الارض حتى اذا وصلت زرع الناس لم تنل منه حتى بمقدار حبّة، كانت لا تطأ في سيرها زرع احد او انسانا او حيوانا او حشرة رغم ضخامتها بل كانت تتحاشى ذلك في مشيها وسيرها، وكانت الحيوانات الاخرى تخشاها بقدرة الله تعالى، وهكذا كانت اعجازية في كل شيء، ليس في وجودها وخلقتها فقط، فلقد كانت تشرب في اليوم الواحد ماء القرية بأكمله، اي الماء الذي يشرب منه مئة انسان مثلا، وتدع اليوم الذي يليه لأهل القرية يشربون منه، كان لها شرب ولهم شرب يوم معلوم كما ورد في الآية الكريمة في قوله تعالى (قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم)، ومع ذلك اعرض اصحاب الحجر عن الآيات كلها وقرروا قتل الناقة، مع انهم كانوا يستفيدون حليبا! ولكنه الطغيان – والعياذ بالله!).
ان هذه القصة القرآنية الشريفة تريد ان تؤكد على اهمية عدم التراجع عن اتمام منظومة الاصلاح ونشرها كمنهج فكري سلوكي في المجتمع، حتى لو تكرر الفشل لأي سبب كان، لان الاصلاح بحد ذاته عملية بالغة الصعوبة وتحتاج الى آليات عمل تتمثل بالإصرار والتواصل في منهج يقوم على الوضوح والسهولة والاقناع، وهي امور يحتاجها المسلمون في عالم اليوم اكثر من اي وقت مضى، وبهذا اخبرهم نبيهم عليهم السلام ان الله سينزل عليهم العذاب بعد ثلاثة ايام، تصفر وجوههم في اليوم الاول، وتحمر في اليوم الثاني، وتسود في اليوم الثالث! ثم نزل عليهم العذاب ان لم يرجعوا حتى ذلك الحين! سبحان الله! وما أعظم رحمته! فمع ان هؤلاء القوم كذبوا المرسلين واستمروا في تكذيبهم حتى بعد نزول الآيات، يمهلهم الله تعالى ثلاثة ايام عسى ان يتوبوا فيعفوا عنهم ويقبلهم).
وفضلا عن ذلك ايضا ان من الصفات التي يحب توفرها في شخص الحاكم ان يكون حريصا على رعيته، متوجها إليهم، مشغولا برفع حوائجهم وعاكفا على حل مشكلاتهم الدينية والدنيوية، فذلك يعزز من الترابط بين الحاكم والرعية، ويعمق من العلاقة بينهم، وهذا ما تنشده النظرية القرآنية وتدعو اليه، قال تعالى (لقد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم).
ومن الصفات اللازمة للحاكم ان يتحلى بالتضجر والقلق امام اي انحراف يطفح على سطح الامة ويحاول ان يغير من مسيرتها بالاتجاه المخالف لما رسمه لها، وان تظهر له ردة فعل مكافئة لنوعية ومقدار ذلك الانحراف، فلا ينبغي للحاكم ان يرضى بكل ما يطفو على سطح الواقع الاجتماعي بما يغير من لون حياته ويطبعها بغير طابعها الحقيقي، فلا يحق له ان يتقبل ذلك ويغض الطرف عما يجده من منكر وفساد بل عليه ان يثور امام ظاهرة الفساد التي تلوح له في الافق ويسعى في تطهيرها قبل ان تتمكن من النفوس وتصدهم عن مواصلة الطريق، قال تعالى (ولما رجع موسى الى قومه غاضبا اسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي).
وقال تعالى ايضا: (يا ايها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا امنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم.... ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الدنيا شيئا اولئك الذين لم يرد الله ان يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الاخرة عذاب عظيم).
وعلى وفق ما قاله اية الله العظمى الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) نرى ان النبي عليه السلام قريب من الثبات والصمود والصبر وبعيد عن التراجع واليأس، لان مثل هذا اليأس غير مدعاة لإيقاف المسيرة وتعطيل عجلة الحياة، وهكذا يجد النبي عليه السلام نفسه في مواجهة رؤية شمولية وواسعة لمعنى الارتداد والياس، فالإصلاح لا بد وان يؤدي على الرغم من قلته الى نتائج ملموسة، لان الثبات والصمود على الموقف والمبدأ ان يكون قائما على الاعتقاد الراسخ بصوابية الفكرة والمبدأ والايمان العميق بأحقية المبدأ ووجوب التضحية والصبر في سبيله، فالذوبان المطلق في طاعته الله سبحانه يخلق لدى الانسان المؤمن عموما والنبي صالح عليه السلام خصوصا حالة الاندفاع الكبير نحو الاصلاح وتحمل المسؤولية من خلال الحفاظ على علاقة الوثيقة مع الله سبحانه وتعالى.
وعليه فالقرآن الكريم لا يسوق اخبار الماضين وقصصهم لمجرد التسلية او رواية الاخبار، وانما ليتخذ منها السامعون في كل زمان ومكان عبرة وموعظة يستفيدون بها في واقعهم، وذلك لان كل ما ساقه القرآن من اخبار الماضين، لا يتسم باي طابع شخصي، بمعنى انه لا يورد امورا شخصية لا تعني غير اصحاب هذه الامور التي حدثت في القديم، وانما يورد الامور ذات المضمون العام الذي يعني الناس وان حدثت لشخص او اشخاص معنيين من الامم السابقة.
ومن الواضح ان كل ما ساقه القرآن الكريم من اخبار الماضين، يتعلق من قريب او بعيد بأحد امرين، اما العقيدة، واما السلوك، وكلا الامرين هدف اساسي للقرآن في دعوته، فانه يدعو الى العقيدة الصحيحة، والى السلوك القويم معا، يدعو اليها مباشرة احيانا ويدعو اليهما بأسلوب غير مباشر احيانا أخرى، ففي قصة اصحاب الحجر تدعو صراحة الى الاعتبار بها والدعوة الى الاصلاح وهذه القصة عموما يعقبها توضيح العبرة من ذكرها، فنجد اصرار المعادين للنبي عليه السلام على كفرهم وعصيانهم، ليتخذ السامع والقارئ عبرة في نفسه، فلا يسلك ما سلكه هؤلاء المعادون.
وواضح ما تكون القصة في مقام الوعيد، لأهميته في اتعاظ السامعين والقارئين به، ولذلك نجد العقاب واضحا عقب كل خبر من اخبار اصحاب الحجر، ولكن هذا الوعيد يزداد وضوحا وابرازا، وبالتالي تأثيره عند السامع والقارئ، حيث في اغلب الاحيان تسبق الوعيد بمرحلة، هي الانذار بهذا الوعيد، على لسان النبي صالح عليه السلام، وهذا الانذار يتحقق كما انذر به النبي صالح عليه السلام بقوله تعالى:- (فاتخذتهم الصيحة مصبحين) واهمية هذه القصة من العبرة والبعد الاصلاحي لها بالغة الاثر، حيث ان القرآن الكريم ينذر المعاندين بعذاب لن يكونوا خيرا من هؤلاء السابقين لو اصروا على العناد.