آلية القضاء على الفساد في القرآن
السيد جعفر الشيرازي
2017-08-12 04:40
قال الله تعالى (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض)(1).
إذ أردنا أن نقضي على الفساد وبؤره في المجتمع يلزم علينا أن نعرف الفساد وأسبابه، لنتمكن من محاولة الحل من الجذر، والا كان العمل هباءً منثورا.
ولقد أعطانا القرآن الكريم تصوّراً متكاملاً عن الانحراف ونتيجته من الهلاك. ومن تلك الاسباب:
البطر في المعيشة، قال تعالى: (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها)(2) فإن البطر يوجب عدم رؤية شيء سوى المادة واللذة وما يتبعانه من الفساد والإفساد.
الظلم كما قال تعالى: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لمّا ظلموا)(3).
الفسق قال تعالى: (هل يهلك الا القوم الفاسقون)(4) وقال تعالى: (وإذا أردنا أن نهلك قريةٌ أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول)(5).
عدم العمل بكلام الناصحين، قال تعالى: (فكذبوه فأهلكناهم)(6) وقوله تعالى (ولكن لا تحبون الناصحين)(7).
اتباع الملوك والمستبدين قال تعالى :(ان الملوك إذا دخلوا قرية افسدوها وجعلوا اعزة اهلها اذلة وكذلك يفعلون واني مرسلة بهدية)(8).
فإن الملكية وكل نوع من انواع الاستبداد منشأ للفساد والذلة، لانهم يجمعون المتملقين حولهم وينحّون المخلصين ويتعاملون بالرشوة، فلذا لا ملكية في الإسلام لأن الحقيقي منها ذلة وفساد، والصوري منها لغو وتثقيل كاهل الامة.
عدم التدبر في القول واتباع الآباء واتهام الرسل وعدم اتباعهم كما قال تعالى (افلم يتدبروا القول ام جاءهم ما لم يأت آبائهم الاولين ام لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون ام يقولون به جنة بل جاءهـــم بالحق واكثرهـــم للحق كارهون ولو اتبع الحق اهواءهم لفسدت السماوات والأرض)(9).
ولا يمكن القضاء على نتائج الفساد الا عبر التغيير في الواقع، لأن الفساد لا يكون الا عبر أسبابه، وما دامت الأسباب مستمرة فالمسببات أيضاً مستمرة، لأن الدنيا دار أسباب ومسببات، كما قال تعالى: (إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)(10).
وينبغي في عمليّة الإصلاح مراعاة عدة أمور للوصول إلى الهدف:
أولاً: نزاهة المصلحين
يتوجب في المصلحين النزاهة، وإلا فإن كلامهم يفقد أثره، بل يكون تأثيره عكسيّاً حيث إن الناس يقولون لوكان الكلام صحيحاً لعمل قائله به.
ولذا نهى القرآن عن الـــقول من غير عـــمــــل بل اعتبره مـــقــتـــاً كبيرا (لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)(11)، وانطلاقاً من ذلك فإن الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) الذين اختارهم الله تعالى لإنقاذ الناس إنما هم معصومون ومنزهون عن كل عصيان وخطأ لسد هذه الثغرة (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم)(12) وبعد ذلك جعلهم الله الأسوة قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة)(13) وقال أيضاً (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه)(14).
وبعد غيبة الإمام المعصوم (عليه السلام) أوكلت المهمة إلى العالم الرباني إذا كان صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فهذه الصفات يجب أن تتوفر في القيادة، ولأنها ليست معصومة فهي بحاجة إلى مراقبة دائمة وتقويم وجعلها أقرب إلى الصواب عبر الشورى (وأمرهم شورى بينهم)(15).
فلذا كان النموذج الإيجابي هو أقصر الطرق للوصول إلى الهدف المنشود، والنموذج السلبي هو أهم سبب لإبتعاد الناس عن الإصلاح وتنفرهم عنه..
ثانياً: عدم استعداد المجتمع
الإصلاح لا يمكن أن يكون دفعة واحدة، بل ككل أمور الكون يكون بالتدريج وشيئاً فشيئاً، فتوقع الإنقلاب الدفعي في غير محله.
فالمصلح يجب عليه أن يراعي حالة التدرج، فيكتشف في طريقه الخامات التي يمكنه الإعتماد عليها في عمليّة الإصلاح ويبتعد عن من كان يتوهم أنهم يفيدونه ثم تبيّن عدم صلاحيتهم، ومداراة المجتمع عبر التواضع والإحترام والتحمل والحلم وسائر مكارم الأخلاق لتخفيف حدة التوتر، لكي لا يأخذ المجتمع موقفاً سلبياً منه سلفاً، فيغلق فكره وعقله عليه. قال تعالى: (فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى)(16).
وكان ذلك دأب الأنبياء لكي يتهيأ المجتمع نفسيّاً وعمليّاً لقبول الإصلاح. قال تعالى (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك)(17) ، ومن هذا المنطلق نرى التدرج في آيات الأحكام، كي يتهيّأ المجتمع لها.
ثالثاً: الحكمة
وهي مراعاة ظروف الزمان والمكان وطريقة البيان، قال تعالى: (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)(18) فالحكمة هي وضع الشيء في موضعه ليؤثر اثره، ثم الوعظ الذي يتركز على ذكر إيجابيات العمل الصالح وسلبيات العمل الطالح ليتحرك الإنسان من منطلق وجدانه ومصلحته، ثم التسلح بالنقاش والجدل السليم الصحيح ولذلك لتفنيد أدلة المفسدين وإقناع الناس بالصالح.
رابعاً: إشاعة الجو الصالح
فإنه من أهم المرغبات، والعكس بالعكس، لأن الإنسان يُحبُّ أن يحاكي بني نوعه إن خيراً فخير وإن شراً فشر، لذا كانت إشاعة الفاحشة من أشد المحرمات (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذي آمنوا لهم عذاب أليم)(19).
ويتم تهيئة الجو الصالح عبر مختلف البرامج مع مراعاة ظروف الزمان والمكان.
خامساً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فإن كل عمل يعمله الإنسان لو يخلوا من أثر عاجلاً أو آجلاً (وقل اعملوا فسيري الله عملكم ورسوله والمؤمنون)(20) والكلام من العمل الذي يؤثر أثره سواءً كان كلاماً طيباً أم خبيثاً (مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة)(21) (مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة)(22).
ومن هذا المنطق وجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن الكلام يؤثر اثره ولو بعد حين.
سادساً: البيان الواضح
فان وضوح الفكرة تبعد عنها أي شبهة وتسد جميع الثغرات التي يمكن أن يدخل المفسدون عن طريقها، لذا كان القرآن بلسان عربي مبين. والرسول كان بلاغه مبيناً قال تعالى (فاعلموا انما على رسولنا البلاغ المبين)(23).
سابعاً: استثمار جميع الإمكانات والوسائل
قال تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم)(24) حيث إن عدم تكافؤ القوي يوجب خسارة الطرف الأضعف في المعركة، فالمصلح ينبغي أن يتسلح بما استطاع من قوة، ويجب أن تكون قوة ظاهرة توجب تخويف العدو وردعه.
ثامناً: عدم اتباع سبيل المفسدين
القوى الاجتماعية الضاغطة كثيرة، وهي كثيراً ما تستدرج المصلح ليتحول بعد فترة وجيزة إلى جزء من جهاز الإفساد، فما أكثر وعاظ السلاطين الذين تعلموا الوعظ بداية عن إخلاص ثم انجرفوا إلى البلاط، لأن زينة الدنيا خدعتهم فقاموا بالتبريرات المختلفة ليـــقنعوا أنــــفسهم والناس بصـــحة ما دخلــــوا فيه، وقد نهى الله تعالى عن ذلك حيث يقول: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار)(25) وقال تعالى (كالذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين)(26) ونرى وصية موسى لهارون(عليهما السلام) (وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين)(27).
تاسعاً: القناعة التامة والثابتة
لأن العقبات كثيرة وعدم القناعة التامة، أو العاطفيّة في التحرك تستوجب الخضوع أو الخنوع بأول استهزاء أو أول مقاومة من المجتمع.
فلذا نرى آيات كثيرة ركزت على لزوم اليقين. قال تعالى (حتى يتبين لهم انه الحق)(28).
عاشراً: تكاتف الجهود
لأن اليد الواحدة لا تصفق كما في المثل فإن تبعثر الجهود توجب عدم الوصول إلى الهدف المنشود. قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)(29). وقال تعالى (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)(30).
الحادي عشر: الاهتمام بنشر الثقافة والعلم
فإن الجهل هو البؤرة المناسبة لنمو الفساد وسيطرة الملأ من القوم على رقاب عامة الناس، في حين أن العلم نور يبصر به الناس، وكلما ارتفعت ثقافة الناس وعلمهم ضعفت واضمحلت أسباب الفساد، فلذا ركز القرآن الكريم على لزوم كسب العلم وأنه الرادع قال تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)(31). وتعليم الكتاب والحكمة من اولى مهمات الأنبياء (هو الذي بعث في الاميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة)(32).
الثاني عشر: الاستقامة
فإن المشاكل جمة ليمتحن الله السائرين في سبيله ويمحصهم ليميز الخبيث من الطيب، فالمصلح يواجه بمقاومة من المجتمع، ومحاربة من الملأ من القوم، وضرب لمختلف مصلحه المادية والمعنوية، ومحاولات تشويه سمعته والافتراء عليه، واخيراً محاولة تصفية جسدياً.
هذه المشاكل توجب عدم توجه الناس إلى الاصلاح، أو التوقف في منتصف الطريق والاستسلام لتلك الضغوطات وترك الاصلاح.
فالاستقامة هي التي توجب وصوله إلى النتيجة ولو بعد حين (فاستقم عما امرت ومن تاب معك ولا تطعنوا انه بما تعملون بصير ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من اولياء ثم لا تنصرون)(33) وقال تعالى (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما اصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربّنا اغفر لنا ذنوبنا واسرافنا في امرنا وثبت اقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحُسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين)(34).