مهام المجتمع المدني ومسؤولياته

ومواصفات الجماعة المجتمعية

آية الله السيد مرتضى الشيرازي

2014-10-09 02:19

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه الكريم:

﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[1].

استضاءة قرآنية في الصيغة اللغوية لنسبة الفرد إلى المجتمع:

هناك سؤال دقيق وهام قد يطرح في قوله سبحانه وتعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، وهو: ما هو السر في استخدام مفردة(بعض) في هذه الآية القرآنية الكريمة، والحال إن البعض لا يكون إلا منسوباً إلى الكل؟ أي فيما إذا كانت النسبة هي نسبة الجزء والكل[2]، لكن في المقام النسبة هي نسبة الأفراد والآحاد إلى الكلي، إذ:

1- هنالك كلّي وجزئي، فالإنسان كلي وزيد وعمر وبكر كل واحد منهم جزئي.

2- وهنالك كل وجزء، هذه الدار كل، أو هذا الجدار كل، وكل لبنة أو طابوقة هي جزء، فنقول: بعض الدار أو الجدار، أو في مثال بدن الإنسان- وهو كل- نقول: بعض بدني أو بعض رأسي.

وعليه، فإن كلمة(بعض) تستخدم في الجزء من الكل، بعض الشيء، سواء في الأشياء المادية، كما نقول بعض الجدار، أو بعض يدي جُرحت مثلاً، أم في الأشياء المعنوية؛ إذ نقول: أجد بعض الصعوبة، يعني شيئاً من الصعوبة.

أما المجتمع البشري فهو آحاد وأفراد، فأنا فرد وذاك فرد والآخر فرد آخر، والكلي هو الإنسان، وعلى هذا كيف تستخدم كلمة (بعض) الموضوعة للدلالة على الجزء بالقياس إلى الكل، أم في الجزئي بالقياس إلى الكلي؟

ولعل الجواب على ذلك يكمن في لفتةٍ دقيقة رائعة، وهي أنه تارة تستخدم (بعض) في جزء منسوب إلى كل، وتارة تستخدم في الجزئيات المنسوبة إلى الكليات، وذلك بلفتة دقيقة، وهي أن يلاحظ في الكلي جانب الهيئة الاجتماعية، فيكون كل فردٍ جزءاً من تلك الهيئة الاجتماعية، وهذا يعني إنه جزئي وهو في ذات الوقت جزء، هو جزئي باعتبار، وجزء باعتبار أخر.

وتوضيح ذلك ببيان أبسط، إن زيداً هو جزئي للإنسان، لكنه جزء للمجتمع، فزيد جزء من المجتمع، وليس جزئياً من المجتمع؛ لأن المجتمع هو عبارة عن هذه الهيئة المجموعية، و هذه الحالة العامة، فالنقطة الدقيقة في المقام هي أن الفرد والجزئي يتحول إلى جزء مع تغيير اللحاظ، ولذا نرى هذا الاستخدام موجوداً في العرف أيضاً، مثلاً نقول: قال بعض العلماء، وبعض العلماء لا يراد به جزء من بدنهم، بل لوحظ العلماء كهيئة مجموعية، فهذا الذي هو أحدهم صار بعضهم، حيث لوحظت الهيئة المجموعية، وكذلك نقول مثلاً: سافرنا في بعض الأيام، أو في بعض الليالي مع أن الأيام والليالي (كليات)، والمراد بهذه الكلمة أحد الأيام أو إحدى الليالي، وما ذلك إلا لأن الأيام بمجموعها كأنها كم متصل، وكأنها(كلّ) وهذا اليوم جزء له.

والحاصل: إن هذا الاستخدام في العرف متبع ومطرد، ولكن بهذا اللحاظ وبهذه العلقة.

وعوداً إلى الآية الشريفة نقول: كان من الممكن أن يقول الله سبحانه وتعالى: والمؤمنون والمؤمنات أحدهم ولي الآخر، أو آحادهم، أو أشخاصهم، أو أفرادهم أولياء لسائر الأفراد أو للأفراد الآخرين، إضافة إلى ذلك فالله سبحانه وتعالى حيث استخدم ما هو مجعول للجزء بالقياس للكل في الفرد بالقياس إلى الكلي، فإنه في الواقع لم يستخدم في الفرد بالقياس إلى الكلي، بل استخدم في الفرد بلحاظ كونه جزءاً لعنوان آخر، وهو المجتمع، وهذا كله إضافة إلى اللفتة الجمالية الرائعة، فإن جملة (بعضهم أولياء بعض) في غاية الروعة والجمال.

واللطيف في الأمر إنه توجد في هذه الكلمة نقطة دقيقة، وكأن برهانها معها، وهذا هو الدقيق في الأمر، والسيد الوالد (يرحمه الله) في كلمته التي لا تنسى أبداً، كان يقول: إنَّ القرآن الكريم دأبه هكذا، أنه عادة عندما يذكر حُكْماً أو تشريعاً أو حظراً فإنه يلحقه بفلسفة له وبحكمة، أو تسبقه حكمة، وكنت أفكر: وقد تقترن به الحكمة والعلة والفلسفة؛ وذلك في غاية الروعة والجمال، يعني تارة حكمة التشريع تذكر قبله، وتارة تكون بعده، وأخرى تُبين معه، وفي المقام هي معه(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، فلماذا يكون هذا ولياً لذلك، وذلك ولياً لهذا؟

ويأتي الجواب من داخل الآية: لأنني أنا بعض منه، وهو بعض مني، لأننا كلٌ متماسك، فما أضر هذا يضر ذاك والعكس بالعكس، والأفراد قد لا يكون بينهم تماسك وتعاون، بل قد يكونون متدابرين، لكن إذا لاحظنا الهيئة المجموعية فسنجد أنَّ هذا يشكل جزءاً من الكل، والجزء يتأثر بالكل، والكل يتأثر بالجزء، كما هو واضح، فإن الطابوقة أو اللبنة إذا انهدت من الحائط فإن الحائط ينفلق وينخرم أو يضعف ويتداعى بنفس النسبة، ولأنني بعض منك وبالعكس، إذن، أنا وأنت علاقتنا لابد أن تكون علاقة الولاية، أحدنا ولي للأخر، وسيأتي معنى الولاية في البحث القادم إن شاء الله.

وبعبارة أخرى: الحكمة والفلسفة في تشريع كوني وليّاً لك، وكونك وليّاً لي منطوية في الموضوع نفسه، يعني انَّ موضوع الحكم، الذي هو كلمة بعضهم، تستبطن الإشارة إلى فلسفة الحكم أيضاً! فلأنني بعض منك وأنت بعض مني فأنا ولي لك وأنت ينبغي أن تكون ولياً لي، وهاتان لفتتان دقيقتان في الآية القرآنية الكريمة.

وعلى ضوء هذا البحث، فهنالك صوراً عديدة، وهي ست عشرة صورة، يمكن أن تنتزع من هذه الآية الشريفة في العلاقة التبادلية بين مكونات المجتمع، وقد ذكرنا منها صوراً ثمانية في المباحث السابقة؛ إذ تارة تنطلق العلاقة من(الفرد)، وهناك أربع صور مستبطنة في هذه المجموعة، وتارة يكون منطلق العلاقة هي(الدولة)، وهي أربع صور مستنبطة فيها، وتوجد صور أربع أخرى سنشير لها في مباحث هذا الفصل.

المسؤوليات المجتمعية للجماعة» مؤسسة المجتمع المدني

قد يكون منطلق العلاقة الاتجاهية هي(الجماعة)، وهذه المجموعة أيضاً تتضمن صوراً أربع: فتارة نلاحظ علاقة الجماعة بالفرد، وتارة نلاحظ علاقتها بسائر المجاميع والمجموعات والجماعات، وأخرى نلاحظ علاقتها بالجميع أي بكل الأمة، ورابعة نلاحظ علاقتها بالدولة، وهي الصور الأربع في هذه المجموعة.

إن مسؤولية الجماعة كجماعة، وكهيئة اجتماعية أو كمجموعة تكون:

أ- تجاه الأفراد.

ب- وتجاه المجاميع أي المجموعات أو الجماعات والمنظمات والاتحادات الأخرى وغيرها.

ج- وتجاه الجميع.

د- وتجاه الدولة.

وبيت القصيد في مباحث الكتاب يكمن في هذه الحزمة أو المجموعة الثالثة، وهي الجماعة ومجموعاتها، أي في مؤسسات المجتمع المدني؛ لأن هذه المؤسسات عبارة عن مجاميع ومجموعات وجماعات، كون هذه الجماعة وتلك الجماعة وغيرها هي التي تشكل مؤسسات المجتمع المدني.

المهامّ الثلاثة لمؤسسات المجتمع المدني:

إن الأهداف أو المهام التي لأجلها انبثقت ضرورة تأسيس وتكريس مؤسسات المجتمع الإيماني، أو مؤسسات المجتمع الإنساني، كمصطلح بديل عن المجتمع المدني، سواء أكان الاتجاه نسبة إلى الأفراد أم للمجاميع الأخرى أم للجميع أم للدولة، هي ثلاثة مهام أو عناصر أو أهداف:

المهمة الأولى: بناء المجتمع.

المهمة الثانية: توفير الخدمات.

المهمة الثالثة: أن تكون الموازن الاستراتيجي لقدرة الدولة، والسلطة الموازية، وإن شئت فقل: السلطة الخامسة.

إن هذه العناصر الثلاثة هي أعمدة أهداف مؤسسات المجتمع المدني، وهي بناء المجتمع السليم، وتوفير الخدمات الأساسية، بل والثانوية أيضاً، وتوفير الموازن الاستراتيجي للحكومة ليحول دون أن تسحق الحكومة حقوق الناس وتظلمهم، وتصادر الحريات، وتكبت الناس والجماهير والمؤسسات.

1- بناء المجتمع:

والبحث في الهدف الأول وهو بناء المجتمع فكرياً وثقافياً وعلمياً، وإيمانياً وأخلاقياً هو بحث طويل، نتركه للمستقبل إن شاء الله.

2- توفير الخدمات:

إن الهدف الثاني وهو(توفير الخدمات)، فإنه يعد إحدى أهم مهام ومسؤوليات مؤسسات المجتمع المدني، وهو عنوان عريض يشمل كافة الخدمات التي تتعلق بالبنية التحتية للمجتمع، فالخدمات تشمل الكهرباء، وتوفير الماء ثم المجاري، ثم المواصلات والنقل والطرق، وهي وسائل التواصل المعبر عنها بالمواصلات، من سيارات وحافلات وقطارات وسفن وطائرات وما أشبه ذلك، ثم وسائل الاتصال السلكية واللاسلكية، من هاتف إلى إنترنيت وغير ذلك، وهذه جميعاً على رأي البعض تعتبر ضمن مؤسسات البنية التحتية، التي هي بالأساس تعد من مسؤولية الدولة، لكننا نرى: أن مؤسسات المجتمع المدني هي شريكة في المسؤولية.

لا يجوز للدولة احتكار الخدمات:

وهذه مسألة جوهرية، فإن كثيراً من الناس يعتبر هذه الخدمات الأربعة من مسؤولية الدولة، وهي:

1- الكهرباء.

2- والماء والمجاري.

3- والطرق التي تعني الشوارع والجسور والمواصلات وغيرها.

4- ووسائل الاتصال السلكية واللاسلكية.

والبعض يلحق بها:

5- الصحة مثل المستشفيات وغيرها.

6- والتعليم من مدارس ومكتبات وغيرها.

فهذه الستة، أو الأربعة يتصورونها حصرياً مسؤولية الدولة، ونحن نقول: لا ريب في أنها مسؤولية الدولة، لكنها ليست مسؤولية حصرية للدولة، بل هي مسؤولية مؤسسات المجتمع المدني أيضاً، بنحو الشراكة لا بنحو الطولية.

والفارق كبير وجوهري وأساسي: فإننا نجد الدول- وانطلاقاً من النظرية الحصرية- تقبض بيد من حديد على أزمّة الأمور في هذه المجالات الأربعة، أو الستة، ولا تسمح للناس بأية مبادرة ذاتية أو تطوعية، وكثيراً ما لا تصنع هي أي شيء، ولذا نلاحظ في بلادنا المختلفة إن هنالك- في هذه الأبعاد الستة- الكثير من الثغرات والنواقص، في الصحة والتعليم، و الكهرباء والماء، وغيرها.

وكمثال: نجد أن(الطرق) تنتمي إلى العقود الماضية، مع أنه يجب أن يكون المخطط بحيث تستوعب الطرق ضغط السيارات وغيرها، للخمسين سنة القادمة، بينما لا تستوعب شوارعنا حتّى حدود الحاجة الفعلية.

إن المشكلة في الدول أنها هي تحتكر هذه السلطات (أي الخدمات)، والحال أنها ليست حقاً منحصراً بها، مثلاً في المدن المقدسة مثل كربلاء والنجف وسامراء والكاظمية، والمدينة المنورة، ومشهد المشرفة، وغير ذلك، نجد الدولة لا تسمح للناس لأن يبادروا، ولو سمحوا لهم لكانوا قد طوروا هذه المشاهد المشرفة بشكل هائل، ولا تبقى حتى الآن الكثير منها متخلفة من هذه الجهات، من حيث المعاهد والمكتبات ومن حيث الكهرباء، و الماء والمجاري، ومن حيث الصحة والتعليم، إلى غير ذلك.

إن(الدولة) إما إنها لا تسمح بكل أو ببعض ما سلف، أو إنها قليلاً ما تسمح بذلك وبعد روتين وشروط مجهدة وقد تكون تعجيزية، بل الحق إن ذلك مما لا يحتاج إلى سماح الدولة؛ إذ هذه القضية ترتبط بالناس أولاً وأخيراً، والدولة ما هي إلا خادم للناس، والخادم لا يحق له أن يفرض على السيد شروطاً، أو أن يستبد بالأمر بحيث له أن يتصدى لهذه المهمة، أو المسؤولية، أو الخدمة، ويمنع سيده- وهم عامة الناس- من أن يفعلوا شيئاً، هذا مع قطع النظر عن أن هذا الخادم- الدولة- قد زاد الطين بلة بكونه مقصراً، هذا هو الخطأ الفاحش الآخر في الموضوع.

والمحصّلة هي إننا نعتقد، أنَّ مؤسسات المجتمع المدني هي أولاً مسؤولة عن بناء المجتمع، وثانياً مسؤولة عن توفير الخدمات بمختلف أشكالها وألوانها، وليس هذا حقاً حصرياً للدولة بحيث تسمح أو لا تسمح، بل هي مسؤولية ابتدائية لمؤسسات المجتمع المدني وللناس، وعلى الدولة أن تقوم بواجبها كخادم للناس، ولا يجوز لها التقصير كما لا يجوز لها المنع، وليس لها الحق أن تقول للناس تعالوا استأذنوني ثم لا تأذن!! كما لا يحق لها أن تدخل القضية في دوّامة الروتين والبيروقراطية العجيبة الغريبة المتحكمة في بلادنا.

وكشاهد على ذلك- وهذا مما يؤسف له- نجد أن الزوار في كربلاء أو القاهرة أو الزينبية بدمشق أو قم، وفي كثير من هذه البلاد المقدسة، لا تتوفر لهم أدنى الخدمات البسيطة لماذا؟ لأن الدولة مقصرة أولاً، ولأنها صارت حجر عثرة أمام عطاء الناس في هذا الحقل ثانياً.

وانطلاقاً من ذلك شاهدنا المرجعيات الشيعية، وعلماء الشيعة وعلماء المؤمنين- بالقدر الذي كان يمكن لهم- يتصدون لهذه القضايا، مثلاً الميرزا الشيرازي الكبير(رحمة الله تعالى عليه) بنى جسراً في سامراء بأموال ضخمة في ذاك الوقت، وأيضاً أنشأ بعض المؤسسات الأخرى، والكثير من العلماء قد تصدوا للكثير من هذه القضايا، كالسيد البروجردي، وكالسيد الوالد (رحمهما الله تعالى) ثم السيد العم في الكثير من الدول في العراق وإيران وأفغانستان والخليج وأوربا وغيرها، وبتحريضهم وتخطيطهم أسسوا الكثير من المكتبات والمدارس والجامعات وصناديق الإقراض الخيري والمستوصفات، والكثير من آبار الماء في تلك المناطق البدائية وهكذا، والآن أحد المراجع في النجف الأشرف يزود الناس بالكهرباء، وأحد العلماء في كربلاء بنى مستشفى ضخماً وهكذا.

إن هذه مسؤولية مشتركة عامة، ولو آمنا بهذه المسؤولية وبهذه الشمولية، ولو آمن كل عالم ديني، وكل طبيب وكل مهندس وكل محامي، بأن عليه أن يتحمل شطراً من المسؤولية- لا أن يتصور الطبيب نفسه كمجرد طبيب، وكذا المهندس والمحامي وغيرهم، بل يستشعرون أن عليهم مسؤوليات أخرى تجاه المجتمع بأجمعه بهذه الأبعاد الخدمية التي أشرنا إليها- فإن وجه الأرض سيتغير بشكل كبير، وكان الأمن والرخاء والسلم والاستقرار والازدهار هوالطابع العام لكافة البلاد.

من الوصايا المجتمعية للرسول الأعظم(صلى الله عليه وأله):

في هذا السياق نذكر رواية لها دلالة كبيرة وردت في (كتاب تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة) للعاملي (رضوان الله عليه) فإنه ينقل عن كتاب(عقاب الأعمال)عن رسول الله(صلى الله عليه وأله) إنه قال في آخر خطبة خطبها، (وهذه هي وصاياه(صلى الله عليه وأله) فلنعمل بها، سواء أكنا رجال دين أم مهندسين، أم كنا مزارعين، أم كان الإنسان بقالاً أم عطاراً أم أي شيء آخر، وقد صرح الرسول (صلى الله عليه وأله) بمفردات عديدة لهذه المسؤوليات الولائية من بعض الأطراف للبعض الأخر):

1- المسؤولية تجاه المكفوفين:

المفردة الأولى: يشير إليها الرسول (صلى الله عليه وأله) بقوله: (من قاد ضريراً إلى مسجده، أو إلى منزله أو لحاجة من حوائجه كتب الله له بكل قدم رفعها ووضعها عتق رقبة، وصلّت عليه الملائكة حتى يفارقه، ومن كفى ضريراً حاجة من حوائجه، فمشى بها حتى يقضيها أعطاه الله براءتين: براءة من النار، وبراءة من النفاق، وقضى له سبعين ألف حاجة في عاجل الدنيا، ولم يزل يخوض في رحمة الله حتى يرجع.)

إن الكثير من الناس يستثقل أن يمسك بيد الضرير ويعبر به الشارع أو يوصله لمقصده، وقد يرى في ذلك بعض الغضاضة، أو يرى فيه عيباً، وقد يتعلل بأن له أعمالاً أهم، لكن هذه مسؤولية المؤمنين والمؤمنات؛ لأن بعضهم أولياء بعض، وهذا يعني إنني مسؤول عن هذا الضرير، مع أنه قد يكون شخصاً لا أعرفه، أما تبيان كونه براءة من النفاق وما ربطه، فيترك الى بحث أخر[3].

(ومن كفى ضريراً حاجة من حوائجه...) تتسع لتستوعب حتّى مثل طباعة كتب للمكفوفين بلغة بريل مثلاً، والمكفوفون بالملايين، بل بعشرات الملايين في العالم، والحال إن الكتب التي كتبت لهم هي أقل من حاجتهم بكثير، سواء الكتب التي كتبت من قبل المتدينين من رجال الدين العلماء، أم من قبل سائر الأخصائيين.

2- المسؤولية تجاه المرضى:

المفردة الثانية، يشير إليها رسول الله (صلى الله عليه وأله) بقوله: (من قام على مريض يوماً و ليلة بعثه الله تعالى مع إبراهيم الخليل (عليه السلام) فجاز على الصراط كالبرق اللامع، ومن سعى لمريض في حاجته فقضاها خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، فإن كان المريض من أهله، فقال رسول الله: (صلى الله عليه وأله) مِنْ أعظم الناس أجراً مَنْ سعى في حاجة أهله، ومن ضيّع أهله وقطع رحمه حرمه الله تعالى حسن الجزاء يوم يجزي المحسنين وضيّعه، ومن يضيّعه الله تعالى في الآخرة فهو يتردد مع الهالكين حتى يأتي بالمخرج ولن يأتي به. وهذا يعني أن أي عذر فهو غير مقبول! فإذا أراد شخص أن يضيع في صحراء المحشر بكل أهوالها وأخطارها، فما عليه إلا أن يضيع أهله ويقطع رحمه.

(ومن قام على مريض) إذ قد يتمرض أحد من الأرحام وغيرهم، وقد يستثقل بعض الناس أن يطبب هذا المريض، ویشتغل بتمريضه، خاصة لبعض الأمراض ولبعض المرضى من الشيوخ والعجائز، وخاصة إنه قد يكون ذا شأن اجتماعي، وقد يكون تاجراً أو مدرساً، أو محامياً، أو أي شيء آخر، ولكن لننظر ماذا يقول رسول الله (صلى الله عليه وأله) فيمن يقوم على مريض يوم وليلة- لأربع وعشرين ساعة-بعثه الله مع إبراهيم الخليل(عليه السلام) فجاز على الصراط كالبرق الخاطف اللامع، وإن من سعى لمريض في حاجة قضاها خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، فإن كان المريض من أهله؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وأله): من أعظم الناس أجراً ممن سعى في حاجة أهله، ومن ضيّع أهله وقطع رحمه، حرمه الله حسن الجزاء يوم يجزي المحسنين وضيّعه.

وهذه الرواية ونظائرها تؤسس للإطار التشريعي العام الذي يتكفل ببناء المجتمعات وتماسكها وتكامليتها، ويقيمها على الأسس الإيمانية أو الإنسانية؛ إذ يبعثه الله مع إبراهيم الخليل (عليه السلام)

3- المسؤولية تجاه المَدِين:

المفردة الثالثة: يشير إليها رسول الله (صلى الله عليه وأله) بقوله: (ومن أقرض ملهوفاً فأحسن طلبته استأنف العمل وأعطاه الله بكل درهم ألف قنطار من الجنة)، و(أحسن طلبته) يعني أقرضه ثم لم يضيق عليه في استرداد القرض، و(استأنف العمل) (يعني أن الله عزوجل يمحي ذنوبه السابقة كلها، ويقول له ابدأ حياتك من جديد، فإنك كيوم ولدتك أمك بلا ذنوب ولا أثقال ولا أوزار.

4-المسؤولية تجاه المكروب:

المفردة الرابعة: (ومن فرّج عن أخيه كرباً من كرب الدنيا نظر الله إليه برحمته فنال بها الجنة، وفرج الله عنه كربه في الدنيا والآخرة).

5-المسؤولية تجاه الاختلاف الأسري:

المفردة الخامسة: (ومن مشى في إصلاح بين امرأة وزوجها أعطاه الله أجر ألف شهيد قتلوا في سبيل الله، وكان له بكل خطوة يخطوها وكلمة في ذلك عبادة سنة قيام ليلها وصيام نهارها).

والبحث في هذا الحقل طويل، فإذا عمل الجميع بهذه الوصية من رسول الله (صلى الله عليه وأله)، فسوف نجد أن المجتمع قد تحوّل إلى جنة إن شاء الله.

اتجاهات المسؤولية المجتمعية لـ(الجماعة):

إذا لاحظنا اتجاه المسؤولية أو السهم منطلقاً من الجماعة، فإننا سنجده تارة يكون من الجماعة للفرد، وأخرى من الجماعة للجماعة وللجماعات الأخرى، وثالثاً من الجماعة للجميع، ورابعاً من الجماعة للدولة.

وقد جرى البحث في مقدمات الاتجاه الرابع، من مسؤولية الجماعة للدولة، من خلال مسؤوليات المجتمع المدني ومهامه تجاه الدولة، وسيأتي تفصيله في الفصل الخاص بعنوانه، ولأغراض بحثية سنفصل البحث في هذه الصور حول (الجماعة) ومميزاتها وخواصها.

خواص (الجماعات) ومواصفاتها:

أولاً: إن الجماعة لها روح أخرى.

ثانياً: إن الجماعة لها اعتبار آخر.

ثالثاً: إن الجماعة لها مسؤوليات أخرى.

رابعاً: إن الجماعة لها أجر وثواب آخر.

وسنشير إلى بعض هذه العناوين الأربعة فقط، فنقول: إن الفرد يُلاحظ تارة بما هو شخص، وتارة بما يحمل من اعتبار العائلة- أي عائلته- أو بما له من اعتبار الشركة أو المنظمة، أو الجماعة أو البلدة التي ينتمي إليها، والأمر يختلف على التقديرين؛ لأن الشخص له نفسية وروحية أو هالة معينة، لكنه في الجمع قد تكون له روحية ونفسية أخرى، أو حالة أخرى أو إن شئت هالة أخرى، فالجماعة إذن لها روح أخرى، هذا أولاً، وثانياً إن للجماعة أعتباراً آخر، ثم أن لها مسؤوليات أخرى، ولها أجر آخر.

الاجتماع والمسؤولية:

ومجمل القول إن الجماعة:

1- تتحلى بروح أخرى.

2- وتتميز باعتبار آخر، مثل العلامة (الماركة) المسجلة.

3- ولها مسؤوليات أخرى، فإنني كشخص- مثلاً- لي مسؤولية كعضو أو كطالب أو كأستاذ في الحوزة العلمية المباركة، ولي مسؤولية أخرى كشخص كربلائي أو نجفي أو مشهدي، فإنها مسؤولية أخرى، أو كشخص عربي، أو هندي لي مسؤولية؛ لأني مسؤول عن وطني، وعن شعبي، كما أنني مسؤول عن أهلي، وصحبي، وجماعتي، وعشيرتي، ولكن بالحق.

 ولذلك نرى شخصاً يقول أنا قطيفي أو حساوي أو بحريني ويفتخر بذلك، أو يقول أنا مكي أو مدني أو مشهدي أو نجفي أو كربلائي ويفتخر بذلك، أو يقول: إني إيراني أو أفغاني أو هندي أو باكستاني، أو يقول أنا فلسطيني أو لبناني، أو صيني أو أفريقي، ولا إشكال في ذلك، فحب الوطن من الإيمان، ولكن يجب أن لا يظلم الآخرين عندما يقول أنا عراقي أو بحريني أو كويتي أو مدغشقري أو إندونيسي أو أشبه ذلك، فهذه الكلمة يجب أن يصبها في البناء، فمثلاً يقول: أنا بحريني لي تاريخ أكثر من ألف سنة من التشيع ومن العطاء ومن العلماء. إذن، فمسؤوليتي مضاعفة، أويقول أنا نجفي وهذا يعني إن لي تاريخ أكثر من ألف سنة من الحوزة العلمية ومن المرجعية، ومن حفظ بيضة الإسلام وحماية ثغوره. إذن، أنا مسؤول، بل إنه حتى إذا لم يكن رجل دين، بل كان كاسباً عادياً أو طالباً عادياً فإنه مسؤول عن سمعة هذه المدينة وعن شرفها ومكانتها.

فقه (الجماعة) ومفردة الانشقاقات:

وهنالك بحث هام جداً يستدعي تفصيلاً فقهياً، ونشير له ههنا إشارة،وهو أن هذه الحالة الاعتبارية أو الهيئة الاعتبارية للجمع تترتب عليها سلسلة من المسائل الشرعية، المغفول عنها عادة، فمثلاً إذا اجتمعت جماعة وأسست منظمة أو شركة أو حزباً أو نقابة أو هيئة خيرية، أو أي شيء آخر، ثم انشق البعض عنها بعذر صحيح أو غير صحيح، بحق أو بباطل، فإذا خرج هذا البعض بعذر مقبول صحيح أو بغير عذر مقبول، فإن له أن يقول إني كنت مساهماً في صنع هذا الاعتبار، ولم تكن لكم كآحاد هذه المكانة وهذه السمعة، فلي بعض الحق، فهل له الحق بالفعل ككبرى كلية؟ ثم ما هو مصداق حقه؟ ومن الذي يحدده؟ فهل له مثلاً تأسيس منظمة ثانية بنفس الاسم؟ مع إضافة أو بدون إضافة، كأن يسميها رقم واحد أو رقم اثنین، مثلاً، فذلك التجمع رقم واحد، وهو يصير برقم اثنين! فالسؤال هو هل يحق له شرعاً ذلك أم لا؟

 هذه المسألة لها شعب عديدة، ولها صور عديدة فإنه هل كان موظفاً لقاء أجر أو كان مساهماً مؤسساً؟ ثم ما هو الارتكاز العرفي في ذلك البلد؟ وما هو الشرط الضمني لهؤلاء المجموع كمجموع؟ وهل هناك هيئة أمناء أو هيئة إدارية أو مجلس تنفيذي؟ وما هي الصلاحيات الممنوحة لهم حسب العقد الاجتماعي أو نظام التوكيل أو غير ذلك؟ إن المعادلة تختلف على حسب صور عديدة، وعلى حسب تلك الصور العديدة، فهذا الشخص له الحق أو بعضه، أو لا حق له أبداً، أو يجب أن يصالح معه بشيء، والبحث له تفصيل يطلب من مظانه.

التواصل الاجتماعي وبركاته على ضوء الروايات:

ولابد من أن نستضيء ببعض الروايات الشريفة الملهمة، والمعبرة في هذا الحقل، من كتاب» تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة:«

1- التزاور وآثاره وفوائده:

يقول الإمام الصادق(عليه السلام) (تزاوروا فإن في زيارتكم إحياء لقلوبكم وذكراً لأحاديثنا، وأحاديثنا تعطف بعضكم على بعض، فإن أخذتم بها رشدتم، ونجوتم وإن تركتموها ظللتم وهلكتم، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم).

وهذا أمر صريح ببعث وإحياء روح الجماعة في الأفراد، عبر التزاور وتداول أحاديثهم (عليهم السلام)، وأن لا يكون الإنسان منعزلاً يفكر في مصالحه الشخصية فقط، فإن الناس بتزاورهم بعضهم مع بعض يتماسك نسيجهم أكثر فأكثر ويتكاملون، وهذه الحالة الجمعية والروح الجماعية تتكرس وتتقوى باستمرار، وهذا هو المطلوب شرعياً.

إن كثيراً من الناس- على سبيل المثال- يجلس وراء الإنترنيت، ويقضي وقته هنالك لساعات وساعات، يتصفح المواقع، وقد يكتب المقالات، وقد يتحاور مع الآخرين عبر (الجات والفيس بوك) وما أشبه، لكن هذا لا يكفي، فالتزاور له موضوعية في الشريعة الإسلامية، كما له الطريقية أيضاً.

إن من الممكن أن يجلس الفرد في صومعة منشغلاً بالتأليف، أو أن يلقي محاضراته في (استديو) مثلاً ويبثها، وهذا عمل جيد وضروري وأساسي، ولكنه لا يكفي؛ لأن الروح الجمعية مطلوبة في الشريعة، فروح الجماعة غير روح الفرد، وبركاتها بركات أخرى، واعتبارها اعتبار آخر.

ولتوضيح أكثر، هنالك شيء يسمونه العلامة» الماركة « المسجلة، وأحياناً فإن الإنسان- بما هو شخص- ليست له تلك الرمزية، ولكن بما هو عضو عائلة له رمزية معينة، وماركة مميزة أو بما هو منتم إلى بلدة ما له رمزية أو قدسية أو نكهة كذلك، فنقول له كربلائي، أو نجفي، أو كاظمي(أو كظماوي)، أو مدني، أو مكي، أو مشهدي، أو سامرائي، فهذا اعتبار آخر، وله نكهة أخرى، فإن الشخص- بما هو شخص- له روح، ولكنه بما هو كربلائي أو نجفي فإن له إحساساً بروح أخرى تحثّه نحو المزيد من الأخلاق الفاضلة ومن العطاء، ومن هداية الناس وإرشادهم، فهي روح أخرى، روح ثانية، نبعت من النسبة، ونبعت من الجمع ومن الانتساب للجماعة.

ولذلك يقول:(عليه السلام) (إحياءً لقلوبكم وذكرى لأحاديثنا). وهذا أثر آخر؛ إذ إننا نحيي قلوبنا بالتزاور، بمعنى إنه لا يكفي الجلوس بالبيت ليلاً ونهاراً، ومطالعة روايات أهل البيت(عليهم السلام)، بل لابد للفرد من أن يتزاور، فهذا له تأثير آخر، أن يسمع من الغير ويذكر للغير أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) لأن لها تأثيراً من نمط آخر، لأن أحاديثهم(عليهم السلام) (تعطف بعضكم على بعض، فإن أخذتم بها رشدتم ونجوتم، وإن تركتموها ضللتم وهلكتم، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم).

2- اجتماع المؤمنين وحضور الملائكة:

وفي رواية لطيفة أخرى، ذات دلالة بالغة، يقول الإمام الصادق (عليه السلام)،كما ورد في الكافي الشريف: (ما اجتمع ثلاثة من المؤمنين إلا حضر من الملائكة مثلهم، فإن دعوا بخير أمّنوا، وإن استعاذوا بشر دعوا الله ليصرفه عنهم، وإن سألوا حاجة تشفعوا إلى الله وسألوه قضاءها).

إن هذه الرواية تشير إلى أثر هام جداً من آثار الجمع، فإن زيداً لوحده، وأحمد لوحده، والثالث لوحده، لو دعوا لم يكن لهم أثر نفس الدعوة لو كانوا مجتمعين، والمطلوب أيضاً الاجتماع، لأن(ما اجتمع ثلاثة من المؤمنين إلا حضر من الملائكة مثلهم(. فهذا الفرد مهما كان حاله، حتى لو كان مشغولاً بالعبادة، ليس له هذا الأثر، بل يختلف الحال.

ولذا ورد أيضاً(لا رهبانية في الإسلام)، و(ما اجتمع ثلاثة من المؤمنين إلا حضر من الملائكة مثله) وواضح إن هذا بشرط لا، عن الأقل لا عن الأكثر،(فإن دعوا بخير أمنوا)، فالملائكة يؤمِّنون على دعائهم، وأما إذا كان الفرد لوحده فلا يكون معه هذا العون من أولئك الملائكة: (وإن استعاذوا بشرّ دعوا الله ليصرفه عنهم، وإن سألوا حاجة تشفعوا الى الله) وفي نسخة أخرى: (شفعوا إلى الله)،(وسألوه قضاءها).

عليه فإن هذا الحديث يوجه بالذات لطائفتين:

أ- الصدمة والعزلة:

الطائفة الأولى: الذين يفضلون الانعزال عن المجتمع لأسباب شتى، وقد يكون منها ما تحملّوه وكابدوه من صدمات، فإن المجتمع الإنساني الذي نعيشه يواجه المرء ببعض المواقف التي لا يتوقعها الفرد فيفكر مع نفسه (ما كنت أتوقع من جماعتي أن يتعاملوا معي بهذه الطريقة) فينكمش وينزوي في صومعة أو في منزل منعزل أو في غير ذلك، وهذا خطأ، وأي خطأ!

ب- النخبة والعزلة:

الطائفة الثانية: بعض النخبة والتي قد تكون نخباً سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، والتي قد تنعزل وتتصور أن ذلك هو الأفضل لها ولعطائها، فيخاطب نفسه سأعتكف في صومعتي ومكتبتي، أو في برجي العاجي، وسيكون عطائي أكبر، مع أن جزءاً من وقته عليه أن يخصصه للناس بأن يكون معهم؛ لأنه منهم وإليهم، بل إن الآثار والبركات ستترتب عندئذ، وإلا فلا، مهما كان الإنسان فطحلاً أو محسناً أو خيراً،(وإن ساٴلوا حاجة شفعوا)، وشفاعة الملائكة لها قيمتها الكبيرة(إلى الله، وسألوه قضاءها).

3- التقاء الإخوان واستغاثة الشيطان:

وفي رواية ثالثة، يرويها ثقة الإسلام الكليني في الكافي الشريف أيضاً-والكافي هو نور المعرفة، وجواهر الحكمة- يقول أمير المؤمنين:(عليه السلام) (ليس شيءٌ أنكى لإبليس وجنوده من زيارة الأخوان في الله بعضهم لبعض) ويقول(عليه السلام): (وإنّ المؤمنَين يلتقيان فيذكران الله، ثم يذكران فضلنا أهل البيت، فلا يبقى على وجه إبليس مضغةٌ إلا تخدّد[4]، حتى أنّ روحه لتستغيث من شدة ما تجد من الألم، فتحسّ ملائكة السماء وخزّان الجنان، فيلعنونه حتى لا يبقى ملَكٌ مقرّبٌ إلا لعنه، فيقع خاسئاً حسيراً مدحوراً).

أما إذا ذكر الفرد لوحده، هذه الفضائل، فهذه الثمرة غير موجودة.

إن الذي يغيظ إبليس وجنوده هو أن يجلس رئيس الجمهورية، أو رئيس الوزراء، أو عضو البرلمان مثلاً مع عامة الناس، مع البقال والعطار، أو أن يجالسهما أن الطبيب والمهندس مثلاً، أو أي شخص آخر، في أي موقع كان، ليذكروا الله تعالى ويتذاكروا فضل أهل البيت (عليهم السلام)، فهذا هو الذي يغيظ إبليس ويحطمه، وينهي قدرته على التحكم في قلب هذا الإنسان- حتى أن روح إبليس تستغيث من شدة ما يجد من الألم، فتحس ملائكة السماء وخزان الجنان بآلام إبليس الملعون فيلعنونه، حتى لا يبقى ملك مقرب إلا لعنه، فيقع خاسئاً حسيراً مدحوراً.

أين ينبغي أن يكون هذا التلاقي؟ وكم مرة بالشهر؟

الجواب: يومياً، أو بالأسبوع مرة على الأقل، في المساجد والحسينيات والمشاهد المشرفة، وفي المؤتمرات والندوات أيضاً، وفي الوزارات والشركات ومختلف مؤسسات المجتمع المدني أيضاً.

إذن، البحث في هذا الحقل يكشف عن وجود أبعاد غيبية أيضاً، ذات جوانب متعددة.

الفرد في الجماعة:

وبعبارة أخرى: إن الجماعة سواء أكانت منظمة أم نقابة أم حزب، أم هيئة أم عشيرة أم عائلة أم غيرها، هذه الجماعة بما هي هي، لها اعتبار آخر غير اعتبار الفرد، ولها روح أخرى، كما أن لها احساساً أسمى بالمسؤولية.

لذا فإن من المشهود إن الفرد عندما يكون لوحده فقد يكون لديه إحساس بضرورة التحرك والنشاط والدفاع عن الدين، لكنه إذا كان في ضمن جمع، في مؤتمر أو في ندوة أو في مجلس، فإننا نرى هذه الشعلة يشتد أوارها، وإن

هذه الجمرة قد ازدادت التهاباً و تأججاً، وهي روح أخرى، قد سرت في الجمع، وهذا ثابت من الناحية العلمية.

الاجتماع والهالة:

كما أن من الثابت إنه إذا اجتمع جمع في مكان ما، فإن هالة تحيط بهم، ذلك إن لكل إنسان هالة تحيط به، فبعض الصالحين يستطيع بنظرة واحدة إلى الشخص وإلى هالته أن يعرف إن كان كاذبا أو لا، فاسقاً أو لا، متقياً أو لا، عالماً أو لا، وهكذا، وقد اكتشف العلم الحديث جانباً من هذه الحقيقة، بوجود هالة وطاقة معينة تحيط بهذا الإنسان، وهذه الطاقة أو الهالة التي تحيط بالإنسان تختلف من إنسان إلى آخر، كما أن الشجاع أو الجبان، الكريم أو البخيل، العادل أو الفاسق، الظالم أو العادل، لكل منهم هالة تختلف عن الآخر.

وتوجد هالة أخرى هي هالة الجمع، فإن الجماعة الحاضرة في مجلس ما توجد هالة أخرى تحيط بهم، لعل ذلك من الحِكَم وراء ما ورد في حديث الكساء، عن الصديقة الزهراء (عليها السلام)، عن رسول الله: (صلى الله عليه وأله) (ما ذكر خبرنا هذا في محفل من محافل أهل الأرض وفيه جمع من شيعتنا ومحبينا، إلا ونزلت عليهم الرحمة، وحفت بهم الملائكة، واستغفرت لهم إلى أن يتفرقوا).[5]

إن هذه الهالة وهذه الحالة، وهذه الروح السارية موجودة ما داموا مجتمعين، أما إذا تفرّقوا فإنها تنتهي أو تخبو؛ ولذا من المستحب أن تتجدد هذه الاجتماعات باستمرار، فلا يكفي أن يقول المرء: أنا اجتمع مع أصدقائي المؤمنين مرة في السنة، مثلاً، أيام الحج في مكة المكرمة، أو في الأربعين في كربلاء، إن هذا لا يكفي، بل ينبغي على الإنسان أن يجدد الاجتماعات ويكثر منها لأنه بتجدد ذلك تتجدد الروح وتكثر البركات، بل وكذلك الأمر حتّى في اجتماعات العائلة، لأن هناك هالة تحيط بها، وهي هالة إيمانية و معنوية و علمية أيضاً، كما أنها محفوفة بالخيرات والبركات.

والملاحظة في المجتمعات الغربية، حيث إنهم لا حج لهم ولا عمرة ولا زيارة، كزيارة الأربعين أو كزيارة سائر المشاهد المشرفة، وحيث لا حسينية لهم ولا مسجد، وحيث العوائل غالباً مفككة، نلاحظ انهم يحاولون التعويض عن ذلك بالنوادي الاجتماعية أو بالمؤتمرات؛ لأن الإنسان بما هو إنسان يحتاج إلى هذه الروح الجمعية، ولو عاش الإنسان لوحده منعزلا لأصيب بمرض الكآبة من حيث يدري أو لا يدري؛ لأن الإنسان اجتماعي بطبعه، هكذا خلقه الله سبحانه وتعالى.

 يقول الله سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض(سواء أكانوا مؤمنين، أم كن مؤمنات، افراداً أم جماعات، فإن الكل مسؤول، ثم إن هذه الجماعات لها روح أخرى، ولها اعتبار آخر، ولها أجر وآثار وضعية أخرى، ونحن مسؤولون عن تلك الآثار، كما نحن مسؤولون عن المقدمات.

وكما سبق فإن الجماعات تارة تلاحظ نسبتها للدولة، وتارة تلاحظ منسوبة للجماعات الأخرى، فهي مسؤولية أيضاً تجاه المؤسسات الأخرى، وتارة أخرى تلاحظ نسبتها للفرد، ونسبتها للمجموع.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلاة الله على محمد وآله الطاهرين.

* فصل من كتاب "معالم المجتمع المدني" في الفكر الإسلامي

والكتاب سلسلة محاضرات ألقيت في الحوزة العلمية الزينبية

http://m-alshirazi.com

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/mortadashirazi.htm

............................

[1] سورة التوبة، الآیة ۷١.

[2] فتأمل.

[3] وذلك بنحو المقتضي اٴو العلة المعدة.

[4] ٲي إن وجهه –بل كل قطعة منه – یصیر كالإخادید

[5] ورد فی حدیث ٲھل الكساء، عن جابر (رض﴾، عن الصدیقة فاطمة الزھراء (عليها السلام)، قالت:(فقال علي لٲبي:یا رسول الله، ٲخبرني ما لجلوسنا ھذا تحت الكساء من الفضل عند الله، فقال النبی (صلى الله عليه وأله): والذي بعثني بالحق نبیاً، واصطفاني بالرسالة نجیاً، ما ذكر خبرنا ھذا فی محفل من محافل ٲھل الارض، وفیه جمع من شیعتنا ومحبینا، إلا ونزلت عليهم الرحمة وحفت بهم الملائكة، واستغفرت لھم إلی ٲن یتفرقوا، فقال علي(عليه السلام): إذًا واللہ فزنا وفاز شیعتنا، ورب الكعبة، فقال ٲبي رسول اللہ(صلى الله عليه وأله):یا علي، والذی بعثني بالحق نبیا، واصطفانی بالرسالة نجیاً ما ذكر خبرنا ھذا فی محفل من محافل ٲھل الأرض وفیه جمع من شیعتنا ومحبینا، وفیھم مھموم إلا وفرج الله ھمه، ولا مغموم إلا وكشف الله غمه، ولا طالب حاجة إلا وقضی الله حاجته، فقال علي (عليه السلام): إذاً الله فزنا وسعدنا، وكذلك شیعتنا فازوا في الدنیا والآخرة، ورب الكعبة.)

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا