الفدرالية والديمقراطية التوافقية ومعطيات الواقع العراقي
الأستاذ الدكتور خالد عليوي العرداوي
2016-06-09 02:09
مقدمة
شكل تبني الفدرالية في الدستور العراقي لعام 2005 منعطفا تاريخيا مهما للدولة العراقية الحديثة لا زالت أصداءه المهمة في بدايتها وسوف تتصاعد تدريجيا مستقبلا لتترك تأثيراتها ليس على العراق فحسب، بل وعلى منظومة النظام الإقليمي برمته، وهذه الفدرالية العراقية الوليدة حملت في طياتها كثيرا من النقاشات والصراعات حول مفردات عديدة جديدة على الرأي العام العراقي، لاسيما مفردتي الفدرالية والديمقراطية التوافقية، لذا يأتي هذا البحث لتوضيح هاتين المفردتين، وتحديد العلاقة بينهما، ومعطيات الواقع العراقي المبررة لتبني النظام الفدرالي، وما يواجهه هذا النظام من تحديات، وما يتطلبه من ضمانات لنجاحه.
أهمية البحث:
تبرز أهمية هذا البحث في ربطه المقصود بين الفدرالية كفكرة ونظام حكم طبقتها دول عدة، والديمقراطية التوافقية كفكرة ومنهج سلوك في الدول ذات المجتمعات المتعددة، والتي تواجه مشاكل في العلاقة فيما بين مكوناتها المختلفة كالمجتمع العراقي، وسيجد القارئ اختصارا عند التطرق إلى الفدرالية من حيث مفهومها، أهميتها، خصائصها.. واستفاضة نوعا ما عند بحث موضوعي الديمقراطية التوافقية ومعطيات الواقع العراقي، لأن الفدرالية شهدت استفاضة في بحثها من قبل باحثين داخل وخارج العراق غطت الكثير من موضوعاتها، أما الديمقراطية التوافقية، ومعطيات الواقع العراقي الدافعة باتجاه الفدرالية، وما تواجهها من تحديات، وما تحتاجها من ضمانات، فلا زال البحث فيها يحتاج إلى كثير من الدراسات والبحوث المتسمة بالجد والموضوعية لتلافي النقص الواضح في هذا المجال، فيأتي بحث (الفدرالية والديمقراطية التوافقية ومعطيات الواقع العراقي)، ليأخذ مجاله في تسليط الضوء على موضوعات هي في غاية الأهمية لبناء العراق: مجتمعا وحكما، ومساعـدة النخب المسئولة في البلـد على اتخـاذ الخطـوات الصحيحــة للوصـول إلى غــد عراقي أفضل.
مشكلة البحث:
يعالج البحث مشكلة مهمة تتمثل في انه على الرغم من تبني النظام الفدرالي دستوريا في العراق إلا أن الأسس والقواعد التي يتطلبها نجاح هذا النظام لا زالت غامضة وغير واضحة لكثير من العراقيين – نخبة وقاعدة – بل ويتم تجاهلها أحيانا من خلال ربطها بمفاهيم غير صحيحة كربط الفدرالية بالتقسيم، والديمقراطية التوافقية بالمحاصصة.. وهذا الأمر يجعل العملية السياسية في العراق تسير في اتجاهات متعددة قد تشوه حقيقة النظام الفدرالي ولا تلبي متطلبات نجاحه.
فرضية البحث:
يقوم البحث على فرضية تتضمن ثلاثة منطلقات:
الأول - أن هناك علاقة جدلية بين الفدرالية والديمقراطية التوافقية تقتضي الحرص على احترامها عند تبني النظام الفدرالي – لا سيما في الحالة العراقية.
الثاني - أن الفدرالية والديمقراطية التوافقية تستندان إلى قواعد وشروط خاصة لنجاح تطبيقهما لا يمكن تجاهلها والادعاء بالعمل وفقا للمنهج الفدرالي التوافقي.
الثالث - أن دراسة معطيات الواقع العراقي تشير إلى أن تبني الفدرالية كخيار استراتيجي يعد أمرا ضروريا لبناء دولة تحتوي جميع المكونات العراقية، وتعيد الثقة لعلاقة هذه المكونات بعضها بالبعض الآخر، وجعلها دولة مؤثرة وفريدة في محيطها الإقليمي والدولي.
منهجية البحث: اعتمد في البحث على المنهج الوصفي المستند إلى الطريقة الاستقرائية في البحث العلمي لأن هذه المنهجية كانت الأنسب لتحقيق غاية البحث.
هيكلية البحث: تتكون هيكلية البحث من مقدمة، وثلاثة مباحث، وخاتمة. إذ خصص المبحث الأول للحديث عن الفدرالية، والمبحث الثاني للحديث عن الديمقراطية التوافقية، بينما خصص المبحث الثالث للحديث عن معطيات الواقع العراقي الدافعة باتجاه الفدرالية بما تنطوي عليه من تحديات.
المبحث الأول: الفدرالية
يتطلب تكوين صورة واضحة عن الفدرالية تحديد مفهومها، وخصائص نظامها السياسي، وأهميتها، وضمانات نجاح تطبيقها، وهذا الموضوعات سيتم التطرق إليها بشكل مختصر، وكما يلي:
المطلب الأول: مفهوم الفدرالية
إن الفدرالية هي كلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية "فيدوس" التي تشير إلى معنى التآلف أو التعاقد([1])، وقد استعملت الكلمة في إطارها السياسي بشكل حديث نسبياً، حيث جرت عدة محاولات لتعريفها. منها على سبيل المثال تعريف (لاري دايموند) الذي يقول: إنها"".. تنظيم سياسي تتوزع فيه نشاطات الحكومة بين حكومة مركزية وحكومات محلية وعلى نحو يتيح لكل نمط من هذه الحكومات القيام بنشاطات تتخذ على أساسها قرارات نهائية"([2]). أما (دونالد ل. واتس) فيضيف إلى هذا التعريف بقوله: وتقوم الفدرالية "على أساس القيمة والمصداقية المفترضة في الجمع مابين الوحدة والتعددية، وعلى استيعاب الهويات المميزة والحفاظ عليها وتعزيزها ضمن اتحاد سياسي اكبر حجما. إن جوهر الفدرالية.. هو ترسيخ الوحدة واللامركزية والمحافظة عليهما في آن واحد([3]). ووجد (جورج أندرسون) أن الفدرالية ".. هي شكل ديمقراطي من أشكال الحكم تقوم على أساس الدستور وسيادة القانون"([4])، ومهما اختلفت الآراء حول تعريف الفدرالية، فإنها تكاد تجمع على مجموعة من السمات يمكن حصرها بما يلي:
1. إن الفدرالية تمثل صيغة من صيغ الحكم في دولة عصرية حديثة.
2. إن نظام الحكم الفدرالي ينتمي إلى ما يسمى بالأنظمة الديمقراطية، لذا تجد (لاري دايموند) يقول: لا يمكن لفدرالية حقيقية أن تتحقق ضمن نظام استبدادي وتسلطي، لان مفهوم اقتران الحرية بالفدرالية لا يمكن إنكاره بأي شكل من الأشكال([5]).
3. ترتبط الفدرالية بالاتحاد ولا تعني التقسيم والانفصال([6]).
4. إن الاتحاد في ظل الفدرالية يكون اختيارا وليس قسرا([7]).
5. يتميز المجتمع الذي تطبق فيه الفدرالية بتنوعه ألاثني أو الديني أو القومي..([8]).
المطلب الثاني: أهمية الفدرالية وخصائص نظام الحكم الفدرالي
أولاً: أهمية الفدرالية
يتزايد الاهتمام بالفدرالية في الوقت الحاضر، وذلك للأهمية التي تحضى بها نتيجة للأسباب الآتية([9]):
1. كونها تشكل إطارا مناسباً لنظام سياسي ديمقراطي لما توفره من مستوى إقليمي للحكم يأتي بعد المستوى الاتحادي.
2. إنها تعالج الصراعات الناشئة في الدول التي تتميز بالتنوع والتعددية الاجتماعية – أثنية، دينية، طائفية.. – إذ ".. كل جماعة تتمسك بديانتها، ولغتها، وأفكارها، وطرائقها"([10])، ومجتمع بهذه الصورة هو مجتمع ".. تعيش ضمنه مختلف قطاعات المجتمع جنبا إلى جنب، ولكن بانفصال داخل الوحدة السياسية الواحدة"([11])، وإنكار وجود هذه الصراعات بين المكونات المختلفة من شأنه أن يرفع هذه الصراعات بينها إلى درجة تهدد وحدة المجتمع بالتشضي والتفتت، لأن "الو لاءات الأولية لما كانت شديدة الصلابة فمن المستبعد أن تنجح أية محاولة لاستئصالها (بحجة الوحدة الوطنية)، لا بل إن من شأن محاولة كهذه أن تؤدي إلى نتائج عكسية، وربما نشطت التماسك القطاعي(الفئوي) الداخلي والعنف بين القطاعات بدلا من التماسك الوطني"([12])، ولتجاوز مثل هكذا مصير مجهول تطرح الفدرالية نفسها كخيار ناجح يجسر العلاقة ويعيد الثقة بين المكونات المختلفة (القطاعات المختلفة).
3. تعزيز المنافسة والابتكار على المستوى المحلي، وتشجيع النشاط الإنتاجي من خلال منع أعمال النهب والسلب التي يمكن للحكومة المركزية أن تمارسها.
4. تعزيز الأمن الوطني في الدولة التي تتعدد أطيافها الاجتماعية وتواجه ضغوطاً من القوى المتطرفة.
5. تمثيل الجماعات الأقلية بشكل أفضل، لأن الديمقراطية التنافسية المستندة إلى حكم الأكثرية الانتخابية قد تغلق الطريق أمام هذه الجماعات بشكل دائم فلا يكون لها دور في الحكومة المركزية، في حين تعزز وجودها ودورها في ظل الحكم الفدرالي.
6. حماية الوحدة الوطنية ومنع التقسيم، فالفدرالية قادرة على تحقيق مصالحة بين القومية والديمقراطية في الدول متعددة القوميات من خلال منح المناطق التي تتركز فيها الأقليات السلطة الذاتية لإدارة شؤونها المحلية، كتأمين حقوقها اللغوية والثقافية وممارسة شعائرها الدينية، وحمايتها من انتقادات أو تدخلات القومية التي تشكل الأغلبية.
ثانياً: خصائص نظام الحكم الفدرالي
تتصف أنظمة الحكم الفدرالية بجملة من الخصائص التي تميزها عن غيرها من الأنظمة السياسية وهي([13]):
1. وجود مستويان من الحكم كل منهما يمارس سلطات مباشرة على مواطنيه: المستوى الأول تمثله الحكومة الفدرالية (الاتحادية) وهو المستوى الأعلى، والمستوى الآخر تمثله الحكومات المحلية (مقاطعة، كانتون، إقليم، ولاية، لاندر.. الخ) وهو المستوى الأدنى.
2. توزيع السلطات والمسؤوليات التشريعية والتنفيذية بين هذين المستويين وحسب ما نص عليه الدستور، وهذا الأمر يختلف من نظام فدرالي إلى آخر، حيث هناك سلطات ومسؤوليات لكل مستوى من مستويي الحكم وهناك سلطات ومسؤوليات مشتركة بينهما([14]).
3. وجود هيئات قضائية تمارس دورها في فض المنازعات البينية، والعمودية لمستويي الحكم.
4. وجود مؤسسات وإجراءات معينة لتسهيل وتنسيق التعاون بين مستويي الحكم.
5. وجود دستور مكتوب تم إقراره بتوافق الحكومات والكتل السياسية، ولا يمكن تعديله بإجراء منفرد من الحكومة الاتحادية، بل يجب عليها أن تأخذ بنظر الاعتبار رأي الحكومات المحلية، والدستور بدوره هو الذي ينظم كافة الخصائص الواردة في الفقرات أعلاه.
إن هذه الأهمية والخصائص التي تتميز بها الفدرالية، تجعل منها تنظيماً لإدارة السلطة في مجتمع يعاني من مشاكل حقيقية تهدد استمرار وجوده، وليست سبباً في خلق هذه المشاكل فهي تأتي بعدها لعلاجها لا قبلها لافتعالها، وهذه الملاحظة يجب إدراكها قبل توجيه أي انتقاد أو اتخاذ أي موقف من الفدرالية.
المطلب الثالث: ضمانات نجاح تطبيق الفدرالية
لا يدل اختيار الفدرالية كنظام للحكم في دولة ما على أن هذه الفدرالية تمتلك مقومات النجاح والاستمرار، بل يحتاج ذلك إلى جملة من الضمانات المهمة التي تختلف من نظام فدرالي إلى آخر، فقد حدد (لاري دايموند) هذه الضمانات بما يلي([15]):
1. وجود دستور مكتوب يتضمن الآتي:
أ. حماية حقوق الأفراد والحكومات المحلية من خلال تضمين هذه الحقوق في الدستور بوصفها جزءاً من الصفقة الفدرالية، وأن يمتلك المركز القوة للتدخل في الوحدات الفردية (حكومات الأقاليم) لحماية الحقوق الدستورية وكل ما يتعلق بها من إجراءات، وذلك بمنح المحاكم الفدرالية والسلطات القضائية تفويضاً بإلغاء القوانين والأفعال أو المعاقبة عليها، ويتوجب على الدستور – أيضاً – أن يمنح المحكمة الدستورية الفدرالية تفويضاً بترجمة وتفسير الأحكام الخاصة بها ودعمها وحل الخلافات بين الحكومات قضائياً، وحماية الحقوق الدستورية للأفراد والجماعات.
ب. حق الوحدات المكونة للاتحاد في الاشتراك بتعديل الدستور الفدرالي، وأن يكون لها الحق في تغيير الدستور الخاص بها من جانب واحد (وبما لا يتعارض مع الدستور الفدرالي).
ج. وجود تمثيل متساوي وقوي للوحدات الصغرى في المؤسسة الفدرالية والحكومة اللامركزية.
د. منح الحكومات المحلية بعض الاستقلالية في إدارة شؤونها الاقتصادية.
ه. توزيع القوة أو السلطة بين الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية مع حماية الحكومات المحلية من تطفل الحكومة الاتحادية.
2. وجود مؤسسات مجتمع مدني نابضة بالحياة، وقد أحسن (دايموند) في التأكيد على هذه المؤسسات لما تشكله من قوة ضاغطة باتجاهين: الأول باتجاه الحكومة الاتحادية لمنعها من الانحراف عن المسار السياسي الصحيح وحثها على مزيد من اللامركزية، والآخر باتجاه الحكومات المحلية لمنعها من استغلال سلطاتها بشكل يتنافى مع الدستور الاتحادي ومع حقوق وحريات مواطنيها، فضلاً عن الدور الفاعل لهذه المؤسسات في رفع مستوى الوعي العام للأفراد والجماعات.
من جانبه أكد (جورج اندرسون) على أهمية هذه الضمانات وأضاف إليها ضمانات أخرى تتمثل بـ([16]):
1. الضمانات الثقافية التي تتضمن:
أ. احترام سيادة القانون.
ب. احترام حقوق الأقليات.
ج. احترام عنصر الهوية المشتركة.
2. وجود توازن بين الوحدات المكونة للاتحاد لمنع الاستقواء في علاقاتها بعضها بالبعض الآخر.
ويمكن أن نضيف إلى ما تقدم الضمانات الآتية:
1. وجود نخبة سياسية مؤمنة بالفدرالية وتعمل على ترسيخها دستوريا وشعبياً.
2. وجود عدة وحدات فرعية للاتحاد الفدرالي، وأن لا يكون مقتصراً على وحدتين فقط([17]).
إن الضمانات أعلاه تشكل أساس نجاح تطبيق الفدرالية، وبدونها يغدو فشل النظام الفدرالي أمر محتوما ولا مفر منه.
المبحث الثاني: الديمقراطية التوافقية
كثر الحديث والجدل حول الديمقراطية التوافقية في الساحة السياسية العراقية، وانقسم الموقف اتجاهها ما بين مؤيد وآخر معارض، لذا يتطلب معرفة هذه الديمقراطية تحديد مفهومها أولاً، وآليات تطبيقها ثانياً، وضمانات نجاحها ثالثاً، وعلاقتها بالفدرالية رابعاً.
المطلب الأول: مفهوم الديمقراطية التوافقية
إذا تجاوزنا المفهوم الكلاسيكي للديمقراطية في الفكر السياسي، بمعنى إنها حكم الشعب من أجل الشعب، والذي ينظر إليه البعض على إنه فكرة طوباوية غير صالحة للواقع ولا يمكن تطبيقها([18])، وتجاوزنا –كذلك- المصطلحات المؤدلجة للديمقراطية –ديمقراطية شعبية، ديمقراطية مركزية وما أشبه- وركزنا الاهتمام على الديمقراطية كآلية للحكم مرتبطة بالانتخابات ورأي الأكثرية والرضا الشعبي في إطار التنافس الحر النزيه عن طريق صناديق الاقتراع، وهو ما يصطلح على تسميته بالديمقراطية التنافسية أو ديمقراطية الأغلبية التي عرفها(سيمون مارتن ليبست) بالقول: إنها ".. نظام سياسي يوفر الفرص المؤسساتية المنتظمة لتبديل موظفي الحكم، وآلية اجتماعية تسمح لأكبر جزء ممكن من السكان في التأثير في القرارات الرئيسة، وذلك بالاختيار من بين المرشحين لاحتلال المنصب السياسي([19]).
إن هذا التعريف وغيره لديمقراطية الأغلبية يخلص إلى تحديد خصائصها العامة بما يلي([20]):
1. إنها آلية سلمية لتداول السلطة.
2. إنها آلية للحكم في مجتمع متجانس ثقافياً([21]).
3. تسمح للجميع بالحكم من خلال المشاركة في التشريع، وإقرار السياسة العامة، وتطبيق القانون والإدارة الحكومية.
4. اختيار الحكام يتم استناداً إلى الأغلبية الانتخابية التي يحصلون عليها في انتخابات عامة تشمل كل الشعب، فيكون الحكام ممثلين لكل الشعب.
5. خضوع السلطة للمراقبة والمحاسبة من قبل الشعب، لذا عليها أن تعمل وفقاً لمصلحته.
6. عملية صنع القرار من خلالها تتم استناداً إلى قاعدة الأغلبية.
7. مفهوم الأقلية والأغلبية يجري احتسابه على أساس سياسي، وليس على أساس عرقي أو ديني أو طائفي.
8. الاستقرار السياسي يستند إلى القبول والرضا الشعبي.
وبالانتقال إلى الحديث عن الديمقراطية التوافقية تجد أن المرتكز الأساس لها هو مبدأ التوافق، والتوافق كما يعرفه (آبريل كارتر) يعني ".. التكيف ووقائع الوضع السياسي والالتقاء بالمعارضين في منتصف الطريق، وتعزيز الخير العام بالتضحية ببعض المطالب والايثارات الشخصية ويرتبط –أيضاً- بقيم الحكمة والتسامح الليبرالية.."([22])، فالديمقراطية التوافقية، تجمع بين مقتضيات الديمقراطية من جهة، ومقتضيات التوافق من جهة أخرى، ولكن التوافق بين من؟. انه يعني التوافق بين ممثلي المكونات الاجتماعية المختلفة، تلك المكونات المتصارعة والتي تبحث عن دور سياسي لها وتحرص على تأكيد هويتها المستقلة، فالمجتمع الذي يطبق الديمقراطية التوافقية يكون مجتمعاً غير متجانس ثقافياً، ومتصارع اجتماعياً، وتشتد عدم الثقة بين مكوناته، ومثل هذا المجتمع يواجه حسب (آرنت ليبهارت) واحداً من ثلاثة حلول لمشاكله السياسية([23]):
الأول، اعتماد الحل التوافقي الذي يقبل بالانقسامات التعددية باعتبارها لبنات أساسية لبناء نظام ديمقراطي مستقر.
الثاني، إزالة الطابع التعددي للمجتمع أو تقليصه بصورة جوهرية عبر الاستيعاب لكافة مكوناته، لخلق مجتمع متجانس ثقافياً، وإمكانية نجاح هذا الحل ضئيلة على المدى القصير.
الثالث، تقليص التعدد عبر تقسيم الدولة إلى دولتين متجانستين أو أكثر، وهو الحل الذي يرفضه كثير من الوطنيين الحريصين على وحدة الدولة.
ونظراً إلى أن الحل الثاني متعذر في الأمد القصير، والثالث لا يمكن القبول به –لاسيما في العراق- فإنه لا يبقى إلا الحل الأول المستند إلى الديمقراطية التوافقية، لذا تعرف الديمقراطية التوافقية بأنها ".. إستراتيجية في إدارة النزاعات من خلال التعاون والوفاق بين مختلف النخب بدلاً من التنافس واتخاذ القرارات بالأكثرية.."([24]), وقد ولدت هذه الديمقراطية ".. من الحاجة إلى توسيع ديمقراطية الأغلبية المعهودة، أي منع الأغلبية من التسلط على الأقلية ومنع الأقلية من تخريب الديمقراطية ذاتها بحجة وجود أغلبية تستبد برأيها.."([25]). عليه يمكن أن الوصول إلى القول: بان الديمقراطية التوافقية هي آلية سلمية لتداول السلطة في مجتمع متعدد يواجه خطر الانقسام، بسبب تطرف مكوناته الاجتماعية، وعدم ثقتها بعضها بالبعض الآخر، لذا يلجا قادة هذه المكونات إلى التوافق كسبيل آمن لتقاسم السلطة واتخاذ القرارات على أساس الحلول الوسط ووفقاً لمنطق الصفقة السياسية.
استناداً إلى ما تقدم يمكن تحديد خصائص الديمقراطية التوافقية بأنها:
1. آلية سلمية لتداول السلطة.
2. تطبق هذه الآلية في مجتمع متنوع ومتصارع.
3. تشجع المشاركة السياسية على مستوى المكونات، ومستوى الشعب بشكل عام.
4. تستند في اختيار الحكام إلى قاعدة التمثيل العرقي أو الديني أو الطائفي..
5. خضوع السلطة للمراقبة والمحاسبة من قبل الناخبين على مستوى المكونات بشكل أساس.
6. اتخاذ القرارات يرتكز إلى أسلوب الصفقة السياسية بين قادة نخب مستعدين لتقديم التنازلات والقبول بالحلول الوسط.
7. تحقيق الاستقرار السياسي من خلال تخفيف التوتر بين المكونات الاجتماعية وإعادة الثقة بينها وصولاً إلى رضاها بالنظام السياسي الحاكم.
وللمقارنة بين ديمقراطية الأغلبية والديمقراطية التوافقية وبيان عوامل الاختلاف والقواسم المشتركة بينهما يمكن النظر إلى المخطط الموجود في أدناه، والذي يوضح حقيقة مهمة هي إنه من الخطأ النظر إلى الديمقراطيتين نظرة واحدة لأنه على الرغم من القواسم المشتركة بينهما، فان مظاهر الاختلاف جدية ومهمة ولا يمكن التغاضي عنها أو إهمالها.
المطلب الثاني: آليات تطبيق الديمقراطية التوافقية
على الرغم من تطبيق الديمقراطية التوافقية في دول أوربية عريقة (بلجيكا 1918- 1963 هولندا 1917 – 1967ن النمسا 1945، سويسرا)، وفي دول غير أوربية (كندا, لبنان, نيجيريا, ماليزيا, قبرص..)([26])، إلا أن الكتابات الموضوعية المحايدة عنها في العراق ومنطقة الشرق الأوسط تعد قليلة جداً، لذا سيتم تحديد آليات تطبيق هذه الديمقراطية بالاعتماد على مصدر واحد يعد الأبرز في موضوعيته وتركيزه، وهو من تأليف الكاتب الأمريكي القدير (آرنت ليبهارت) تحت عنوان (الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد).
لقد حدد (ليبهارت) في كتابه عددا من الآليات التي بدونها يكون الحديث عن الديمقراطية التوافقية حديثاً عديم الجدوى وهي كما يلي:
أولاً: حكومة الائتلاف الواسع، والمقصود بذلك هو أن زعماء كافة القطاعات المهمة في المجتمع (مكونات المجتمع)، يجب أن يمارسوا الحكم من خلال ائتلاف واسع قد يأخذ صيغة حكومة ائتلافية واسعة في النظام البرلماني، أو مجلس موسع أو لجنة موسعة ذات وظائف استشارية هامة أو ائتلاف واسع للرئيس وسواه من كبار أصحاب المناصب العليا في النظام الرئاسي. إن الفلسفة الكامنة وراء هذه الصيغة في الحكم هو تجاوز المرحلة الانتقالية التي يمر فيها مجتمع ما، تتعرض خلالها وحدته إلى الخطر، ولا يمكن فيها اعتماد مبدأ الأكثرية والأقلية الذي تسير وفقه الديمقراطية التنافسية، لأن المكونات الاجتماعية المختلفة في حالة تنافر وصراع ومستوى حاد من انعدام الثقة بينها من جانب، ومن جانب آخر لا يمكن تطبيق مبدأ الرابح والخاسر في هذه المرحلة لأنه سيزيد مستوى التأزم لعدم قبول جميع الأطراف بمبدأ الخسارة. إن تطبيق صيغة الحكم من خلال ائتلاف واسع هو لإجبار جميع الأطراف على الاتفاق على حزمة مناسبة من الحلول الوسط يقبلها الجميع، ليكون الحكم برضا الجميع([27]).
ثانيا: الفيتو المتبادل (حكم الأغلبية المتراضية)، إن المشاركة في حكومة الائتلاف الواسع " تتيح ضمانة سياسية هامة لقطاعات الأقلية، لكنها ليست حماية مطلقة ولا خالية من العيوب، ينبغي للقرارات أن تتخذ في الائتلافات الواسعة وعندما تتخذ هذه القرارات عبر أكثرية الأصوات، فإن تمثيل الأقلية في الائتلاف يمنحها فرصة لتقديم اقتراحاتها بأقصى ما يمكن من قوة لشركائها في الائتلاف، لكنها قد تهزم مع ذلك أمام أصوات الأكثرية، وعندما تؤثر قرارات كهذه في المصالح الحيوية لقطاع أقل (مكون)، فإن هذه الهزيمة تعتبر غير مقبولة وتعرض التعاون بين النخب القطاعية (نخب المكونات) للخطر، ولذلك فلابد من إضافة فيتو الأقلية إلى مبدأ الائتلاف الواسع، ولا يمكن لغير هذا الفيتو أن يمنح كل قطاع ضمانة كاملة للحماية السياسية"([28])، وما يراه البعض من خطر ناجم عن مثل هذا الفيتو([29])، يراه (ليبهارت) خطراً يمكن تجنبه لثلاث أسباب هي([30]):
1. إن الفيتو هو فيتو متبادل تستطيع كافة القطاعات الأقلية أن تستعمله، والإفراط في استعماله من قبل أقلية ما مستبعد لأنه قد ينقلب ضد مصلحتها الخاصة أيضاً.
2. إن مجرد كون الفيتو متاحاً كسلاح ممكن يمنح شعوراً بالأمان يجعل استعماله مستبعداً، لأن إعطاء كل مصلحة أو قطاع قوة الحماية الذاتية يحول دون نشوء أي صراع أو نزاع بينها على الغلبة، ويقمع كل شعور قد يضعف التعلق بالكل، فكل مكون اجتماعي يرى ويشعر بأنه يستطيع ترقية ازدهاره الخاص بأفضل السبل عبر مصالحة الإرادة الطيبة عند الآخرين وترقية ازدهارهم.
3. إن خطر الطريق المسدود والجمود الذين قد يترتبا على الاستعمال غير المحدود للفيتو، يدفع كل مكون اجتماعي إلى الشعور بضرورة تفادي تعطيل عمل الحكومة وتقديم تنازلات خاصة تأميناً لمصلحة وسلامة الجميع ومن ضمنها سلامته ومصلحته الخاصة.
بقي الإشارة إلى أن هذا الفيتو المتبادل قد يكون تفاهما عرفيا غير مكتوب، أو قاعدة سياسية متفق عليها رسمياً، كما هو الحال في هولندا أو سويسرا، وقد يكون منصوص عليه دستورياً كما هو الحال في بلجيكيا في تعديلها الدستوري عام 1970([31]).
ثالثاً: النسبية في التمثيل السياسي والتعيينات وفي مجالات الخدمة المدنية وتخصيص الأموال العامة، يعترف (ليبهارت) إن مبدأ النسبية يمثل انحرافاً عن مبدأ الأكثرية المعتمد في ديمقراطية الأغلبية إلا إنه يراه مبدأ يقوم بوظيفتين([32]):
1. إن النسبية تشكل طريقة في توزيع التعيينات في الإدارات العامة والموارد المالية على شكل مساعدات حكومية على مختلف القطاعات (المكونات)، والمكون الأصغر يكون أقل ربحية من المكون الأكبر وأقل إمكانية.
2. تؤثر النسبية على عملية صنع القرار، إذ توثر المكونات في هذه العملية بحسب قوتها العددية، وهذا الأمر سيفتح الباب واسعاً أمام المساومة السياسية من قبل المكونات المختلفة، ويبرز تأثير النسبية في القرارات التي تتطلب القيام بعمل ما، ولا يمكن تحقيق إجماع تلقائي فيها بحيث يكون هناك رابحون وخاسرون. وعندما يكون هناك مأزق (حكم الأكثرية أو فيتو الأقلية) يبرز حلان([33]):
الأول: اللجوء إلى مقايضة الأصوات أو حزمة قرارات (رزمة حلول) يتم بموجبها ربط عدة قضايا معاً وحلها بالتزامن عبر تنازلات متبادلة.
الثاني: تفويض القرارات الصعبة والمصيرية إلى زعماء كبار المكونات، وهذا التفويض قد يترتب عليه تأجيل البت السريع في القرارات إلا إن فائدته هو إنه في المفاوضات الحميمة والسرية تزداد إلى أقصى حد أمكانية تحقيق رزمة من الاتفاقات وتخفض إلى أدنى حد إمكانية فرض الفيتو.
ولأجل أن تعمل النسبية بشكل صحيح لابد من تعمد المبالغة في تمثيل القطاعات الصغيرة، والتكافؤ في التمثيل لأنها من الوسائل المهمة والضرورية لتوفير الحماية للقطاعات الصغيرة([34]).
إن التأثير الإيجابي للنسبية في مجال عملية صنع القرار تبرز أهميته من خلال:
1. عدم صدور قرارات ارتجالية أو مستعجلة غير مدروسة.
2. منح القرارات الصادرة قبول ورضا جميع الأطراف مما يجعل تحمل نتائجها من مسؤولية الجميع.
3. تشجيع النهج اللامركزي والديمقراطي في الإدارة من خلال ترسيخ قيم التسامح والاعتدال وقبول الحلول الوسط.
أما التأثيرات السلبية لهذا المبدأ في عملية صنع القرار وفي الدولة عموماً فهي:
1. تأخير صدور القرارات بسبب الاختلاف في وجهات النظر بين الأطراف.
2. تعطيل النصوص الدستورية أحياناً، عندما يتطلب الأمر لجوء قادة المكونات الاجتماعية إلى التفاوض والاتفاق للخروج بحزمة قرارات تناسب الجميع بعيدا عن التقيد الصارم بالنص الدستوري.
3. قد تفرض مقتضيات النسبية توزع المناصب الإدارية استناداً إلى مبدأ الولاء على حساب مبدأ الكفاءة في بعض الأحيان.
إن مقارنة إيجابيات وسلبيات مبدأ النسبية تدفع إلى الميل إلى صالح الايجابيات وتبني هذا المبدأ وفقا للديمقراطية التوافقية، طالما إن السلبيات يمكن تجاوزها وتحمل بعضها أحياناً، لأن أي نظام سياسي لا يمكن أن يخلو منها.
رابعاً: درجة عالية من الاستقلال لكل المكونات في إدارة شؤونها الداخلية الخاصة، إذ يجب ترسيخ "حكم الأقلية لنفسها في المنطقة التي تعني هذه الأقلية حصرياً.. ففي كافة الشؤون التي تعني الجميع ينبغي للقرارات أن تتخذ من قبل كل القطاعات معا وبدرجات متساوية تقريباً من النفوذ، أما في باقي الشؤون فيمكن للقرارات ولتنفيذها أن يوكل لقطاعات مختلفة([35])، لذلك فإن الديمقراطية التوافقية من طبيعتها ".. أن تجعل المجتمعات التعددية أكثر تعددية، وهي لا تستهدف إزالة الانقسامات القطاعية أو إضعافها، بل الاعتراف بها صراحة وتحويل القطاعات إلى عناصر بناءة للديمقراطية المستقرة"([36]). وعليه فإن الفدرالية هي النمط الملائم والأكثر جاذبية لتطبيق هذا الاستقلال القطاعي ولعمل الديمقراطية التوافقية([37]).
المطلب الثالث: ضمانات نجاح الديمقراطية التوافقية وعلاقتها بالفدرالية.
أولاً: ضمانات نجاح الديمقراطية التوافقية
يتطلب نجاح الديمقراطية التوافقية في تحقيق الاستقرار السياسي للمجتمع مجموعة من الضمانات، لمنع تحولها إلى شكل هدام من أشكال المحاصصة المفتتة للمجتمع، ويمكن تحديد هذه الضمانات بـ:
1. الدور المحوري لزعماء المكونات الاجتماعية.
يعد الدور الفعال والايجابي لزعماء المكونات الاجتماعية من أهم ضمانات نجاح الديمقراطية التوافقية، إذ يجب أن يتصف الزعماء بصفات معينة لقيادة دولة تتبنى المبدأ التوافقي في ديمقراطيتها، وبدون ذلك لا يمكن لهذه الدولة أن تسير العملية السياسية فيها بشكل صحيح، وهذه الصفات هي([38]):
أ. أن يشعر الزعماء بشيء من الالتزام بصون وحدة البلد وبالممارسات الديمقراطية.
ب. أن يتحلوا بالاستعداد للانخراط في الجهود التعاونية فيما بينهم بروح الاعتدال والحلول الوسط.
ج. أن يضمنوا ولاء أتباعهم ودعمهم لهم من خلال اتصافهم بقدر من التسامح يفوق تسامح أتباعهم من جهة، فضلا عن قدرتهم على حمل الأتباع على مجاراتهم من جهة أخرى.
إن اتصاف الزعماء بمثل هذه الصفات هو الذي يفسر سبب نجاح الديمقراطية التوافقية وتحقيقها للاستقرار في دول كان يتوقع لها الإنسان عدم الاستقرار([39])، ففي مثل هذه الدول ".. تتعرض الميول اللامركزية للمجتمع ألتعددي للمقاومة بواسطة المواقف البناءة والسلوك التعاوني اللذين يبديهما زعماء مختلف قطاعات السكان.."([40])، وهذا السلوك التعاوني ".. يتخطى الانقسامات القطاعية أو الثقافية الفرعية على مستوى الجماهير. (فالديمقراطيات التوافقية الأوربية) مستقرة لا لأن مجتمعاتها تعددية بصورة ملطفة، بل على الرغم من الانقسامات القطاعية العميقة في مجتمعاتها"([41])، وذلك بفضل وجود زعماء قادرين على تحمل مسؤولياتهم رغم صعوبة الظروف. إن فشل زعماء المكونات في التمتع بهذه الصفات سينعكس سلباً على تطبيق الديمقراطية التوافقية عموماً، وستزيد ممارساتها الخاطئة من انقسام المجتمع ولا استقراره السياسي، بل وقد تقود إلى الصراع والاحتراب الداخلي، لأنهم –أي الزعماء- لن يكونوا أكثر من مجرد قوى سيطرة تسعى إلى تعظيم مصالحها الخاصة الضيقة على حساب مصلحة المجتمع العامة، ومصلحة المكونات التي يدعون تمثيلها بشكل خاص([42]).
2. ترسيخ منظومة قيم ديمقراطية ترتكز إلى التسامح وحرية الرأي وقبول الآخر والاعتدال تجري حمايتها دستورياً ومؤسساتياً، فبدون هذه المنظومة لن يتجاوز الحديث عن التوافقية حدود الأطروحات النظرية التي لا أساس لها على أرض الواقع.
3. التبني المرحلي للديمقراطية التوافقية، إذ أن اعتماد هذه الديمقراطية يجب أن يأخذ في الحسبان أن هذا الأمر يكون مرحلياً وليس دائما، ليتم تركه لصالح ديمقراطية الأغلبية بمجرد تجاوز حالة الصراع وانعدام الثقة بين المكونات، وخلق هوية ثقافية متجانسة تسمح بذلك، والوقت هنا غير محدد بل تحدده الظروف. إن أدراك هذه الحقيقة من زعماء والمكونات وأتباعهم، يشكل ضمانة مهمة لتعجيل عميلة تجسير العلاقة بينهم للانتقال للمرحلة التالية.
4. ضمانات أخرى ترتبط بـ([43]):
- وجود توازن بين القوى الاجتماعية المشتركة في العملية السياسية بشكل لا يسمح باستبداد أحداها على حساب الآخرين.
- صغر حجم البلد، فكلما كان حجم البلد صغيراً كلما كانت فرص نجاح الديمقراطية التوافقية أكبر.
- ولاءات غالبة وعزل قطاعي بين المكونات.
- وجود تقاليد سابقة في مجال التوافق بين زعماء المكونات.
ثانياً: العلاقة بين الديمقراطية التوافقية والفدرالية
تتضح العلاقة بين الديمقراطية التوافقية والفدرالية من خلال ما يلي:
1. إن كل منهما تشكل آلية مناهضة للاستبداد والمركزية والإنفراد بالسلطة.
2. إنهما تستهدفان تحقيق الاستقرار في مجتمع يعاني من النزاع، والصراع، وانعدام الثقة بين مكوناته المختلفة.
3. التوازن بين المكونات في الديمقراطية التوافقية وبين الوحدات المكونة للاتحاد الفدرالي، يعد ضمانة مهمة للنجاح في كل منهما، علماً أن حدود المكونات قد تنطبق على حدود الأقاليم بشكل يعطي أهمية أكبر لتعزيز النجاح.
4. دور النخب السياسية مهم جداً في نجاح الديمقراطية التوافقية وفي ترسيخ الفدرالية.
5. وجود منظومة قيم ديمقراطية، يعد قاسماً مشتركاً للنجاح في الديمقراطية التوافقية وفي الفدرالية.
6. الفدرالية تقتضي وجود الديمقراطية التوافقية –غالباً- عند بداية نشوء الاتحاد الفدرالي، لكن ليس بالضرورة أن يقترن وجود الديمقراطية التوافقية بوجود الاتحاد الفدرالي (حالة لبنان أنموذجاً).
7. الديمقراطية التوافقية تكون مرحلية في تبنيها، إذ يتم التحول عنها إلى ديمقراطية الأغلبية عند خلق الظروف الملائمة، بينما لا تكون الفدرالية مرحلية، بل تبقى ببقاء الكيان القانوني للاتحاد الفدرالي.
8. وحدة المجتمع ومنع تمزيقه هو الهدف الذي تسعى إليه كل من الديمقراطية التوافقية والفدرالية، على خلاف ما يحاول أن يصوره الكثيرون من المعاديين لهاتين النظريتين.
المبحث الثالث: معطيات الواقع العراقي
سيتركز الحديث في هذا المبحث على معطيات الواقع العراقي، لمعرفة مبررات الأخذ بالخيار الفدرالي في العملية السياسية التي بدأت بعد 9/4/2003؟، والتحديات التي تواجهه؟ ومتطلبات نجاحه؟.
المطلب الأول: مبررات الخيار الفدرالي
توجد أسباب حقيقية عدة تبرر اعتماد الفدرالية كخيار استراتيجي لبناء نظام سياسي فاعل في العراق في الوقت الحاضر تتمثل في:
أولاً: تنوع المجتمع العراقي
إن المجتمع العراقي لا يمثل طيفاً ثقافيا واحدا، بل هو عبارة عن تشكيل موزائيكي متعدد الألوان، وقد تأكدت هذه الحقيقة في الإحصاءات السكانية المتكررة التي جرت في هذا البلد. فإذا تجاوزنا ما ثبته الدكتور (محمد سلمان حسن) في إحصاءه السكاني لعام 1867, كونه ركز على بيان نسبة القبائل البدوية إلى القبائل الريفية وسكان المدن([44])، وتوقفنا عند الإحصاء الذي أجرته الإدارة البريطانية عام 1919 عندما كان عدد سكان العراق مليون و492 ألف نسمة لوجدنا أن المجتمع العراقي يتكون من المكونات الاجتماعية الآتية([45]):
العرب الشيعة 55%
العرب السنة 19%
الأكراد 18%
اليهود والمسيحيون والطوائف الأخرى 8%
وقد حدد إحصاء عام 1947 نسب مكونات المجتمع العراقي بما يلي([46]):
عرب شيعة 51,4%
عرب سنة 19,7%
أكراد سنة 18,4%
فارسيون 1,2%
تركمان سنة 1,1%
تركمان شيعة 0,9%
أكراد شيعة فيليه 0,6%
مسيحيون 3,1%
يهود 2,6%
يزيديون وشبكيون 0,8%
صابئة 0,2%
وتأكد هذا التنوع في المجتمع العراقي في الإحصاءات اللاحقة، وصولاً إلى آخر إحصاء تم في عام 1997، على الرغم من أن الإحصاء الأخير لم يحدد نسب الطوائف لأنه جاء خالياً من السؤال عن الهوية الدينية للعراقيين([47]). لكن تنوع المجتمع العراقي لوحده لا يصلح أن يكون مبرراً كافيا للخيار الفدرالي لولا وجود المبرر الثاني.
ثانياً: وجود الاستقطاب الثقافي بين المكونات العراقية
تتميز مكونات المجتمع العراقي بوجود درجة عالية من الاستقطاب الذاتي والرغبة في تأكيد الهوية الخاصة لكل منها، وعدم حصول حرب أهلية شاملة تؤكد هذا الاستقطاب يعود في جزء كبير منه إلى سطوة السلطة المركزية واستبدادها وإنكارها العلني للحقائق، إلا أن هذه السلطة نفسها عمقت حالة الاستقطاب ورسختها وعزلت المكونات العراقية عن بعضها، لتبدو على شكل جزر ثقافية منغلقة على الذات ومتخندقة اتجاه الآخر، فولد ذلك حالة مستمرة من التوتر وانعدام الثقة بين هذه المكونات. لكن إذا كان هذا الكلام ينطبق على كل المكونات، فإنه سيقتصر البحث في الحديث عن مكونين وقع عليهما الجزء الأكبر من العنف والمظلومية ألا وهما الشيعة والأكراد.
الشيعة والسلطة في العراق
عرفت الدولة العراقية منذ نشؤها عام 1921 إلى سقوط حكم البعث عام 2003 –باستثناء فترة 1958-1963- بأنها دولة طائفية متحيزة ضد الشيعة، بل إن طائفية هذه الدولة شكلت ركناً مهماً قامت عليه، فالسلطة ".. للعرب وليس للأكراد، وللسنة العرب وليس للشيعة العرب"([48])، ولم يقتصر الموقف من الشيعة على مجرد الإقصاء والتهميش، وإنما تعدى ذلك إلى سلب الوطنية والهوية العربية منهم، واستباحة بيوتهم وممتلكاتهم بحجة إنهم عجم إيرانيون([49]).
وهذا الموقف من شيعة العراق دفعهم إلى مزيد من الانغلاق على ذاتهم ورفضهم الاعتراف بسلطة تجعلهم وقود حروبها ومغامراتها الكارثية، وفي الوقت نفسه تمتهن كرامتهم، وتسلب حقوقـهم وحرياتهم. وما مواقف القوى الشيعية المشاركة في العملية السياسية أو التي تقف خارجها بعد عام 2003، وما أظهرته من تصلب في مواقفها إلا دليل على رغبتها في تأكيد هوية الشيعة المستقلة وريبتهم وعدم ثقتهم بسلطة لا يكونون فاعلين في تشكيلها، وكان البعد الطائفي الذي أخذته بعض القوى انعكاساً لهذه المشاعر الشيعية العميقة والمتراكمة لعقود طويلة.
أكراد العراق وتأكيد الهوية المستقلة
واجه الأكراد في العراق ما واجهه مواطنيهم الشيعة من تهميش وإقصاء وإلصاق تهمة المتمردين والعصاة بهم، كما تعرضوا إلى انتهاك منقطع النظير لحقوقهم وحرياتهم من قبل الأنظمة المركزية المتعددة، لكن شعور الكرد بهويتهم المستقلة والمطالبة بتأكيدها ليس طارئا، بل يمتد إلى بداية نشوء الدولة العراقية عام 1919 (حركة الشيخ محمد الحفيد([50])، وقد حاولوا إيصال مطلبهم هذا إلى مؤتمر الصلح في فرساي في نفس العام([51])، وتمكنوا من تضمين وثيقة الانتداب البريطاني على العراق الذي قرره مؤتمر سان ريمو 1920 فقرة تقول: لا يوجد في هذا الانتداب ما يمنع سلطات الانتداب من تأسيس حكومة مستقلة إدارياً في المقاطعات الكردية([52])، ووصل الأمر في عام 1922 إلى أن تصدر الحكومتان: العراقية والبريطانية تصريحا جاء فيه: تعترف حكومة صاحب الجلالة البريطانية والحكومة العراقية بحق الأكراد القاطنين ضمن حدود العراق في تأسيس حكومة كردية ضمن هذه الحدود([53]). وفي عام 1929 طالب النواب الأكراد في بغداد من خلال عريضة خاصة بزيادة الإنفاق في المناطق الكردية وتشكيل ولاية كردية تضم دهوك، أربيل، السليمانية، كركوك([54])، وتكرر هذا الطلب عام 1963 من قبل الحزب الديمقراطي الكردستاني([55]). واستمرت مساعي الكرد لتأكيد هويتهم المستقلة، وتشكيل حكومة تعبر عنهم إلى أن وصل الأمر إلى تشكيلهم إقليم مستقل في كردستان بعد عام 1991 ضم محافظات أربيل ودهوك والسليمانية، وكان مشروعهم السياسي الصريح هو أن الفدرالية هي الخيار الوحيد لتعايش مكونات المجتمع العراقي المختلفة.
إن هذا الواقع الذي عاشه الشيعة والأكراد في العراق خلق صراعاً وتوتراً بين مكونات المجتمع العراقي المختلفة يتطلب المبادرة السريعة إلى إيجاد حل سلمي يخففه، ويعيد الثقة لهذه المكونات بعضها بالبعض الآخر، فتبرز الفدرالية كخيار مفضل أمام العراقيين في الوقت الحاضر.
ثالثاً: الطابع المركزي الشديد للسلطة في العراق
إذ دفعت هذه المركزية (تشارلز تريب) إلى القول: إن الدولة العراقية كانت أداة سلطة "موضوعة رهن إشارة من أخذوا بيدهم زمام القيادة، ومهما كانت الطموحات البعيدة للأشخاص الموجودين في القيادة.. فقد انشغلوا بإدارة الموارد التي سوف تسمح لهم بتغذية شبكات المحسوبية والجهاز القمعي الذي ضمن بقاء السلطة بين أيديهم.. أما المحرومين من السلطة ممن لا صوت لهم، فكانوا مشمولين في الخطاب، ولكنهم مستبعدون من حسابات المكاسب السياسية"([56])، وبلغ الطابع المركزي للسلطة في عهد صدام حسين 1979 – 2003- إلى حد ".. اعتبار السياسة وسيلة لتأديب الشعب وضمان امتثاله لرؤية الحكام للنظام السياسي"([57]). إن ما خلفه النظام المركزي الشديد من نتائج مروعة شملت كل العراقيين، يقتضي وضع حد له، لمنع عودته من جديد وعدم الاطمئنان للوضع الحالي وهذا ما حذر منه (وليام بولك) بقوله: ".. إن الفترة الحالية من غير دكتاتور قد يثبت إنها كانت مجرد فترة بين هذا الدكتاتور (صدام حسين) والدكتاتور التالي.."([58])، وليس من نظام أفضل من الفدرالية يقطع الطريق على عودة الدكتاتورية، لاسيما أن العهد الطويل للاستبداد في العراق خلق ثقافة جمعية مستعدة لقبول الاستبداد والخضوع للمستبد، ولابد مع وجود مثل هكذا ثقافة من تنظيم جديد للدولة يضمن فتح آفاق الحرية وضمان الحقوق لجميع العراقيين.
رابعاً: غياب هوية عراقية جامعة تنصهر في بوتقتها كل الهويات الفرعية، إذ حاول بعض الأدباء في العهد الملكي بناء هوية علمانية تقلص التباينات بين الشيعة والسنة، إلا إنها كانت هوية عربية تستثني الأكراد والتركمان وبقية المكونات([59]). فغياب هكذا هوية يعد من الأمور التي تزيد التوتر والصراع بين مكونات المجتمع المتعددة، مما يقتضي إيجاد حل تعزز فيه هذه المكونات وجودها المستقل لتشعر بالرضا، وفي نفس الوقت تندمج في العمل السياسي والتنافس السلمي متعدد الأبعاد مع بعضها البعض لخلق هوية شاملة تحقق الانسجام والتجانس الثقافي.
انطلاقاً من كل الأسباب المتقدمة، تعد الفدرالية خياراً مثالياً تبنى عليه العملية السياسية في عراق ما بعد 2003.
المطلب الثاني: تحديات الخيار الفدرالي
تواجه الفدرالية في العراق تحديات خطيرة تهدد نجاحها تتمثل في ما يلي:
أولاً: الفهم الغامض وارتباك التطبيق
إذ على الرغم من إقرار الفدرالية في العراق دستورياً وفقاً لنصوص دستور عام 2005، إلا أنها كخيار استراتيجي لا زالت غامضة، ولم ترسخ جذورها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً في أغلب مناطق العراق، باستثناء إقليم كردستان – فبقيت مظاهر المركزية الموروثة تفعل فعلها في ممارسة السلطة، وفي برامج القوى السياسية وشعاراتها، وفي الأنماط الاقتصادية السائدة، وفي القيم والعلاقات الاجتماعية، ولم يحصل تغيير ملموس في هذه الجوانب ينسجم مع الفدرالية، باستثناء المظاهر الملطفة للديمقراطية التي جعلت المواطن قانعاً بالمستوى المحدود من اللامركزية ظناً منه إنها هي الفدرالية، وما زاد من غموض وشلل الفدرالية أمور عدة منها:
1. عدم ظهور أقاليم جديدة بعد عام 2003 شبيهة بتجربة إقليم كردستان.
2. وجود دعاية مضادة للفدرالية من بعض القوى السياسية، تحاول أن تغرس في وعي المواطن العراقي فكرة إن الفدرالية تعني تقسيم العراق.
3. وجود رؤى مختلفة للفدرالية حاول أصحابها إسقاط وتهميش وإعاقة برامج بعضهم للبعض الآخر – مشروع فدرالية الوسط والجنوب، مشروع فدرالية البصرة على سبيل المثال – مما قاد إلى فشلهم جميعاً وتراجعهم عن رؤاهم مرحلياً وربما كلياً.
4. تعطيل بعض النصوص الدستورية المتعلقة بالفدرالية (كتشكيل مجلس الاتحاد م 65 من الدستور –مثلاً- ومحاولات التشكيك بالنص الدستوري والدعوة إلى تعديله، فضلاً عن انتهاك بعض نصوصه –أحياناً- أو إهمالها وتجاهلها، كل ذلك أضعف النص الدستوري في نظر المواطن مما انعكس سلباً على رؤيته للنظام الفدرالي برمته.
ثانياً: أزمة النخبة السياسية
سبق أن عرفنا أن تطبيق الفدرالية والديمقراطية التوافقية يحتاج إلى وجود زعماء سياسيين لهم صفات خاصة للنهوض بمسؤولياتهم، ومشكلة العراق في هذا المجال هو أن نخبته السياسية تعاني من أزمة حقيقية تجعل أكثرهم يفتقرون إلى المواصفات التي تؤهلهم لبناء مشروع فدرالي ناجح، وذلك للأسباب الآتية:
1. لما كانت الدول الفدرالية ذات المنهج التوافقي تحتاج إلى أن تكون النزعة الوحدوية لقادتها أقوى من نزعات الانقسام والصراع في قاعدتها الاجتماعية، فإن سلوك بعض الزعماء السياسيين في العراق يكاد يكون معاكسا لهذا المبدأ، إذ عمقت صراعاتهم وتخندقاتهم عناصر الانقسام والصراع على المستوى الشعبي، بل إن بعضهم استغل وتر الانقسام والتعددية للوصول إلى السلطة والاستحواذ على مكاسبها.
2. عجز أغلبهم عن كسب ثقة أتباعهم، فضلاً عن حملهم على مجاراتهم، بفعل تراكم الشك وعدم الثقة بين الطرفين الناتج عن عوامل كثيرة منها: عدم كفاءة هذه العناصر ووجودهم في أماكن غير مؤهلين لها، فانعكس الأمر سلباً على الأداء الوظيفي لهم، وتورط بعضهم في أعمال مشبوهة وغير نزيهة، وإصرارهم على تعظيم امتيازاتهم ومكاسبهم قانونياً – امتيازات أعضاء مجلس النواب مثلاً – فضلاً عن انسياق الكثير منهم وراء إغراءات السلطة بصرف النظر عن الطريقة، إذ جعل هذا الأمر وعودهم وعهودهم للشعب ضعيفة وخاطئة وأحياناً فارغة لا معنى لها.
3. تعدد الرؤى السياسية للزعماء العراقيين بشكل جعلها تتقاطع أحياناً مع الفدرالية ومنهج التوافق السياسي، فهذا رئيس الوزراء العراقي السيد نوري المالكي يحمل الديمقراطية التوافقية مسؤولية الفشل في العملية السياسية جاعلاً الحل في نظام رئاسي يستند إلى الاستحقاق الانتخابي([60]). كما إن تقاطع الرؤى السياسية للنخبة السياسية جعلتها تمارس أساليب التشهير والتسقيط للخصوم، وهذا الأمر انعكس سلباً على نظرة الشارع العراقي لساسته.
ثالثاً: الفساد المالي والإداري
يشكل الفساد المالي والإداري بكافة صورة وأشكاله تحدياً خطيراً لبناء الدولة العراقية في الوقت الحاضر وذلك باعتراف كبار المسؤولين([61])، ويتأكد هذا الأمر عند الاطلاع على تقارير المنظمات الوطنية والدولية، فقد صنفت منظمة الشفافية العالمية العراق في المرتبة الثانية بين أكثر الدول فساداً وذلك في تقريرها السنوي لعام 2008([62])، بينما صنفته مجلة السياسة الخارجية الأمريكية في المرتبة الثالثة([63])، وتراوحت نسبة الهدر في المال العام في الوزارات العراقية بين خمسة ملايين دولار كحد أدنى في وزارة التربية وأربع مليار دولار كحد أعلى في وزارة الدفاع([64])، والعلل والأسباب الكامنة وراء هذا الفساد كثيرة، فمرة يتم تحميل المسؤولية لبريمر وسلطة الائتلاف المؤقتة([65])، ومرة ثانية تفسر بعدم رسوخ المؤسسات وسلطة القانون، فضلاً عن التحديات الأمنية وغياب المساءلة والشفافية الحقيقيتين([66])، ومرة ثالثة ترجع السبب إلى وجود جذوره في مؤسسات الدولة العراقية قبل عام 2003 وتفاقمها بعد هذا التاريخ بسبب الفساد السياسي المتنامي([67]).
وبصرف النظر عن أسباب هذا الفساد، إلا أن واقع الحال يشير إلى إنه أصبح مشكلة حقيقية تهدد كيان الدولة، والخطورة لا تكمن في هدر المال العام فحسب، بل وفي ما تركه من قصور مؤسسي في دوائر الدولة، جعلها تخسر أدائها الجيد واحترامها من قبل الشعب، وإذا كانت هذه الدوائر تعمل في إطار المشروع الفدرالي، فإن النقمة سترتد إلى هذا المشروع الذي صار محشوراً بين دوائر رسمية ضعيفة الأداء وغير كفوءة، وبين شعب ناقم يطالب بتحسين ظروفه على اختلاف مستوياتها.
رابعاً: حداثة التجربة الديمقراطية
إن الوعي السياسي الجمعي للعراقيين لم يحسم بعد نهائياً لصالح الديمقراطية – قيما وسلوكاً- بل لا زال وعياً متأرجحاً بين الدكتاتورية والديمقراطية، ومثل هذا الوعي يمكنه في ظروف معينة أن يعاود الركون إلى الدكتاتورية ويخضع لحكم دكتاتور جديد، كما يمكن في ظروف مغايرة أن تترعرع فيه الديمقراطية تدريجياً لتصل إلى هدفها المنشود في بناء نظام حكم ديمقراطي يحمي المواطن ويحفظ له حقوقه وحرياته ويكون غير قابل للاختراق من قبل المغامرين وطلاب السلطة.
كما تتجسد حداثة التجربة الديمقراطية في العراق في هشاشة مؤسساتها الدستورية وضعفها، فضلاً عن هشاشة وضعف المؤسسات المدنية الضاغطة التي تمنع الانحراف وتحسن الأداء، وكل هذه الأمور تشكل مكامن خطر تتهدد الفدرالية في العراق، وتتطلب بذل المزيد من الجهد لتوفير ضمانات استمرارها ونضجها.
خامساً: التحدي الخارجي
يمثل العراق اليوم وكما شبهه وزير الخارجية هوشيار زيباري([68]) واحة من (الحرية والديمقراطية) في صحراء الدكتاتورية والشمولية، فجعل هذا الأمر العملية السياسية في هذا البلد مصدر تهديد لدول ألف حكامها الثبات في الكرسي وعدم تركه إلا بالموت أو الثورة، وحكموا شعوبهم بسياسة الحديد والنار، وما مظاهر الديمقراطية التي نراها بين الحين والآخر هنا وهناك في هذه الدول إلا عبارة عن مظاهر مفصلة حسب مقاييس السلطة، لذا تجد أن تاريخ 9/4/2003 يعد تاريخا مقلقا لكل دول المنطقة المحيطة بالعراق لأنه يجسد سقوطا لمنظومة كاملة من الحكم الشمولي، تلك المنظومة التي عجزت عن خلق فرص التداول السلمي للسلطة، وانتهكت حقوق الإنسان وحرياته بشكل سافر، كما فشلت في بناء مؤسسات دستورية تستجيب لإرادة الشعب وتكفل له مراقبة ومحاسبة حكامه.
لقد أدركت الدول المحيطة بالعراق إن نجاح تجربته الديمقراطية يعني سقوطها الحتمي –عاجلاً أو آجلاً- لذا عملت بكل الوسائل على خلق العراقيل وأثارة الشكوك حول شرعية العملية السياسية في العراق، من خلال تصدير وسائل العنف إليه أو من خلال استمالة عناصر من نخبته السياسية غير المدركة لحجمها الحقيقي ولدورها التاريخي الذي يجب أن تلعبه، أو بعدم التفاعل الإيجابي مع العملية السياسية وبناء جدار من العزل حولها، أو باستغلال الضعف المرحلي للعراق في الوقت الحاضر من أجل تصفية حسابات عقائدية أو سياسية دولية أو إقليمية على أرضه. إن هذا الدور الذي لعبه –تقريباً- كل جيران العراق شكل، ولازال واحدا من أهم التحديات التي واجهت الفدرالية وهددت نجاحها.
المطلب الثالث: ضمانات نجاح الخيار الفدرالي
إن نجاح الخيار الفدرالي في العراق وتحوله إلى مشروع وطني للدولة العراقية المعاصرة، يتطلب مجموعة من الضمانات المهمة والتي يمكن حصرها بما يلي:
1- الاحترام الكامل للدستور العراقي النافذ، وتطبيق نصوصه بأمانة وجعله المرجع الأخير لحل النزاعات البينية والعمودية، والتحلي بالحكمة والصبر عند طرح مقترحات تعديل بعض بنوده على أن لا يطال التعديل الأساس الفدرالي الذي قام عليه الدستور ومنظومة الحقوق والحريات التي كفلها، فضلا عن السعي الحثيث لاستكمال الهياكل المؤسساتية التي وردت فيه كونها سترسخ الفدرالية وترفد منهجها في العراق.
2- أن يترك قادة النخبة السياسية أسلوب الهواة في العمل السياسي القائم على المصالح الضيقة واقتناص الفرص قصيرة الأجل بالالتزام بمواصفات وقواعد العمل التي يقتضيها منهج التوافق لبناء النظام الفدرالي والتي ذكرت آنفا في المبحث الثاني. وأن تنصب كافة مشاريعهم ورؤاهم السياسية على تعميق وتطوير وتجديد هذا النظام لا على التنظير لأنظمة مغايرة تقلق الساحة السياسية، وتزيد الفجوة بين العراقيين، وتمنع خلق هوية موحدة تجمعهم. وأن يكون هناك حرص حقيقي من هذه النخبة على كسب ثقة الشعب واحترامه لهم من خلال سيرتهم الحسنة وقدرتهم على معالجة مشاكله الكثيرة.
3- تعزيز سلطات المحافظات غير المرتبطة بإقليم لخلق الظروف المناسبة لتحولها إلى أقاليم متعددة، وعدم الرضا بالوضع الحالي كونه مقلقا ولا يسمح بالقول أن هنالك توازنا يمنع الاستبداد ولا يهدد بالتقسيم، فوجود عدة أقاليم في الدولة العراقية ستزيد من ديمقراطيتها ومن عقلانية وواقعية قادتها والمسئولين فيها.
4- تعزيز البرامج الإعلامية والعلمية والشعبية التي تبين محتوى الفدرالية وأسباب اختيارها والنتائج المرجوة من وراء ذلك لكي يستنير الرأي العام العراقي، ويمتلك وعيا سياسيا ناضجا يؤمن بها ويدافع عنها، ويجعلها أساس تميز دولته وتقدمها في إطار إقليمي كابح للحريات ومستبيح للحقوق.
5- وضع خطط للاقتصاد الوطني تنسجم مع المنهج الفدرالي، وتدور في عجلته سواء بالنسبة للحكومة الاتحادية أو بالنسبة للحكومات المحلية، والاستعانة بالمختصين في هذا المجال، فضلا عن التجارب الموجودة في الدول الفدرالية المعاصرة.
6- ترسيخ القيم الديمقراطية التي تعترف بالتنوع كسنة من سنن الحياة لا يمكن إنكارها تحت أي ذريعة، وما يقتضيه التنوع بعد الاعتراف به هو قبول الآخر والعمل معه وعدم تهميشه، واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية.
7- تحييد التحدي الخارجي وتقليل تأثيراته عبر الالتفاف حول خيار الفدرالية والمصلحة الوطنية، وعدم التعاطي مع القوى الخارجية بشكل يفسح المجال لها للتدخل بالشأن الداخلي العراقي، إذ كلما ازدادت قوة الدولة واتضح مشروعها وتكاتف قادتها، كلما ضعفت قدرة القوى الخارجية على اختراقها وتهديد وحدتها وحاضرها ومستقبلها.
الخاتمة
خلص هذا البحث إلى تأكيد حقيقة مهمة هي: أن اعتماد الفدرالية كخيار لبناء الدولة في العراق ليس مجرد ترف فكري أو شعار سياسي مستعجل، بل هو خيار استراتيجي دفعت إليه أسباب ومبررات واقعية، لكن هذا الأمر لا زال غير مدرك من كثير من العراقيين –نخبة وقاعدة- للأسباب التي ذكرت آنفا، لكن تجاوز هذا الوضع السياسي المقلق وغير المريح – على مستوى الفكر والسلوك - يحتاج إلى توفير ضمانات ضرورية حتى لا يصيب الشلل أسس المشروع الفدرالي، ويقود بالنهاية إلى انهياره وفشله، فحدوث مثل ذلك سوف تكون عواقبه خطيرة جدا على حاضر ومستقبل العراق، أما نجاحه فستكون نتائجه مثمرة ومؤثرة على العراق ومحيطه الإقليمي حاضرا ومستقبلا، إذ قد لا تتكرر مثل هذه الفرصة مستقبلا للعراقيين في أن يكونوا رواد مرحلة تاريخية تقود إلى انقلاب شامل في كل ما عرفته المنطقة من مفاهيم وقيم وأنماط سلوك.