استثمار مقاصد الشريعة في الفقه والأصول والتقنين
القسم الأول: تمهيدات
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2022-03-09 04:44
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، واللعنة الدائمة على الظالمين أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
تمهيدات:
التعريف
مقاصد الشريعة هي (الغايات التي استهدفها الشارع الأطهر لدى وضعه (1) للأحكام الشرعية التكليفية والوضعية وللآداب والسنن (2)، سواء على مستوى الفرد أم الحكومة أم المجتمع).
وقد عبّر بعضهم عنها بـ: (علم أسرار الدين الباحث في حِكَم الأحكام ولِـمّياتها وأسرار خواص الأعمال ونُكَتها) (3).
فيما عبّر بعض آخر بـ: (المعاني والحِكَم الملحوظة في جميع أحوال التشريع أو معظمها) و(الكيفيات المقصودة للشارع، لتحقيق مقاصد الناس النافعة، أو لحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم الخاصة؛ كيلا يعود سعيهم في مصالحهم الخاصة إلى إبطال ما أُسس لهم من تحصيل مصالحهم العامة: إبطالاً عن غفلة، أو استنزال هوى، وباطل شهوة) (4).
وقال آخر: (المقاصد هي الغاية من الشريعة، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها) (5).
لكن التعبير بـ(الغايات) أو (الأغراض) أو (العلل) أولى من التعبير بـ(أسرار) أو (الكيفيات) أو (الحِكَم)، وذلك لأن المقصد هو ما يقصده الفاعل من فعله وحركته أو قوله وتشريعه، وهو الغاية أو الغرض أو الهدف أو العلة، والمنصرِف من المقصد هو العلة التامة دون العلة الناقصة أو جزء العلة؛ فإنها لا تصلح منشأً فعلياً للحكم وإن صلحت كعاملٍ مساعدٍ في الاستنباط، كما سيأتي في البحث الأصولي.
وأما (الحِكَم الملحوظة في معظم أحوال التشريع) فلا تفيد إلا الظن إذا أريد تعميمها إلى المواطن المجهولة، (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْني مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (6)، إضافةً إلى أنه من المحال أن يوجد المعلول (الحكم المشرَّع) بمجرد وجود جزء علته التي ترجّح (أو توجب) إنشاءه، والمحال محال سواءٌ في ذلك عالم العين وعالم الاعتبار.
وأما (الكيفيات) و(الأسرار) فإن إرادة (الغايات) منها تكلّف بعيد عن الفهم العرفي وعن اللغة، وإن كانت الأسرار تعمّ العلل الخفية.
ويجب التمييز بين مقاصد الأحكام الشرعية وبين مقاصد الشريعة، لأن الثانية أعم وأكثر كليةً من الأولى.
والمعروف أن الضروري من مقاصد الشريعة خمسة هي: (حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل) وذلك هو ما صرح به العديد من علماء العامة والخاصة.
وقد صرح بعضهم بإدراج هذه المقاصد الخمسة ضمن التقسيم الثلاثي المعروف (الضروريات، والحاجيات، والتحسينات أو التماميات)، واعتبر تلك الخمسة من القسم الأول (7).
بينما ارتأى بعضهم أن علل الشريعة ومقاصدها تنقسم إلى خمسة أقسام، وذلك بحسب تصنيفه الفقه الإسلامي إلى خمسة أقسام: (الضروريات، والحاجيات، وثلاثة أنواع من الأحكام) (8).
وليس هذا البحث الموجز معقوداً لبحث ذلك وتقييمه.
مقاصد الشريعة ومقاصد المقاصد
والذي نستظهره أن للشريعة مقاصدَ وللمقاصد مقاصد، ومقاصد المقاصد هي المقاصد العليا للشريعة، وأن (الرحمة) و(الحكمة) هما مقصد المقاصد الإلهية، (وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمينَ) (9)، و: (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (10)، و: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثيراً) (11)، و:(وَأَنْبَتْنا فيها مِنْ كُلِّ شيء مَوْزُونٍ) (12)، و: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (13).
وإليهما يعود الأمر بـ (العدل والإحسان والعفو): (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) (14)، و: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلينَ) (15)، كما لأجلهما اعتبر القرآن الكريم (القيام بالقسط) غرضاً لإرسال الرُسل وإنزال الكتب، (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْميزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (16).
ومنهما نشأ على المستوى التكويني تكريم الإنسان وكرامته، (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَني آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضيلاً) (17).
وأما على المستوى التشريعي، فقد نشأ منهما عَرْض الأمانة على الإنسان واستخلافه وأمره بالعبادة لله تعالى وحده، (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) (18)، و: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَليفَةً) (19)، و: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (20)، و: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ) (21).
كما إليهما يعود الأمر بعمران الأرض وبإصلاحها وإصلاح المجتمع، (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فيها) (22)، و: (قالُوا أَتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) (23)، و: (اخْلُفْني في قَوْمي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبيلَ الْمُفْسِدينَ) (24)، و: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) (25).
والمعنى والمقصود من الرحمة واضح، وأما الحكمة فإننا نقصد بها اصطلاحاً (وضع الأشياء مواضعها) و(صلاح أمور الأخرى والأولى) (26)، وعلى ذلك فإن (العدل) هو مقتضى الحكمة، قال تعالى: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (27)، و: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (28)، و: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ) (29)، ويكون خلق الماهيات الإمكانية على حسب المشيئة الربانية مقتضى الحكمة بذلك المعنى، لكونها تتطلب بلسان حالها إفاضة نعمة الوجود عليها، فكان خلقها بحسب الحكمة الإلهية النافذة في الأشياء وضعاً للإيجاد والوجود مواضعه، كما أن عدم خلق ما لم يخلق أو النحو الذي لم يخلق عليه مقتضى الحكمة، إذ لم يكن وضعاً للشيء مواضعه.
هذا إذا عرّفنا (الحكمة) بالتعريف الآنف، وأما إذا عرّفناها بـ (الإتقان والإحكام)، فإن مقصد المقاصد يكون (الرحمة في إطار الحكمة)، ومنه يتفرع ما قيل من (قيّدت حكمتُه كرمَه) فتدبر جيداً.
وصفوة القول: إن الرحمة والحكمة هما منتهى المقاصد الإلهية على مستوى العقل العملي أو الجوارح، وأما على مستوى العقل النظري أو الجوانح، فإن (الإيمان بالله تعالى ورسله والمعاد) (30) عند عامة المسلمين (31) هو مقصد المقاصد الإلهية، (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصيلاً) (32)، و: (وَالَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (33)، وإن كان كل من المستويين يتموج على الآخر بما يشكل نوعاً من الدور المعيّ والتأثير المتقابل (34).
فتلك هي (مقاصد المقاصد)، وأما (المقاصد) فهي وجوب حفظ النفس والعقل والنسل والمال (35)، وذلك كله إنما هو شعاع من أشعة الرحمة والحكمة الإلهية ونتيجة من نتائجها وثمرة من ثمراتها.
بل إن وجوب الإيمان بالله تعالى وتوحيده ورسله و...، يعدّ شعبةً من شعب الرحمة والحكمة الإلهية، إذ (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظيمٌ) (36)، فاقتضت رحمة الله تعالى تحريمه علينا كما اقتضى لطفه، ـ واللطف يعني المقرِّب للطاعة والمبعِّد عن المعصية، (37) ـ أن نتجنب عبادة الأصنام (وَاجْنُبْني وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) (38).
ولا شك في تحقق رابطة تفاعلية وعلاقة فعل وانفعال متقابلة بين (الإيمان) وبين (الرحمة)، فالإيمان هو السبب للرحمة كما هو المسبّب عنها، من غير دَوْرٍ؛ لاختلاف المرتبتين، فالرحمة الإلهية، ومقتضيات جوده وكرمه، اقتضت الحكم الإلزامي بالإيمان به وحده، (وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ) (39)، والإيمان به هو البوابة الواسعة للرحمة الإلهية، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (40).
مقاصد الشريعة في الروايات الشريفة
وعلى هدي القرآن الكريم وردت الروايات الكثيرة مصرّحةً تارةً بمقاصد الخلقة، وأخرى بمقاصد الشريعة وغاياتها، كما تراوحت الروايات بين ما يصرح بمقاصد الشريعة أو مقاصد أحكام منها، وبين ما يتناول مقاصد المقاصد:
فقد روى جعفر بن محمد بن عمارة عن أبيه، أنه قال: (سَأَلْتُ الصَّادِقَ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (عليه السلام) فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ خَلْقَهُ عَبَثاً، وَلَمْ يَتْرُكْهُمْ سُدًى، بَلْ خَلَقَهُمْ لِإِظْهَارِ قُدْرَتِهِ، وَلِيُكَلِّفَهُمْ طَاعَتَهُ، فَيَسْتَوْجِبُوا بِذَلِكَ رِضْوَانَهُ، وَمَا خَلَقَهُمْ لِيَجْلِبَ مِنْهُمْ مَنْفَعَةً، وَلَا لِيَدْفَعَ بِهِمْ مَضَرَّةً، بَلْ خَلَقَهُمْ لِيَنْفَعَهُمْ وَيُوصِلَهُمْ إِلَى نَعِيمِ الْأَبَدِ) (41).
فقد خلق الله تعالى الخلق ليظهر قدرته وليكلفهم بطاعته، لا لنفع يعود إليه سبحانه، بل لكي (يَسْتَوْجِبُوا بِذَلِكَ رِضْوَانَهُ) و(لِيَنْفَعَهُمْ وَيُوصِلَهُمْ إِلَى نَعِيمِ الْأَبَدِ).
وتضمنت خطبة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تعليلاً دقيقاً لمجموعة من أهم الأصول والفروع والأحكام:
(فَفَرَضَ الْإِيمَانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّرْكِ، وَالصَّلَاةَ تَنْزِيهاً مِنَ الْكِبْرِ، وَالزَّكَاةَ زِيَادَةً فِي الرِّزْقِ (42)، وَالصِّيَامَ تَثْبِيتاً لِلْإِخْلَاصِ، وَالْحَجَّ تَسْلِيَةً لِلدِّينِ (43)، وَالْعَدْلَ مُسْكاً (44) لِلْقُلُوبِ، وَالطَّاعَةَ نِظَاماً لِلْمِلَّةِ، وَالْإِمَامَةَ لَمّاً مِنَ الْفُرْقَةِ (45)، وَالْجِهَادَ عِزّاً لِلْإِسْلَامِ، وَالصَّبْرَ مَعُونَةً عَلَى الِاسْتِيجَابِ (46)، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعَامَّةِ، وَبِرَّ الْوَالِدَيْنِ وِقَايَةً عَنِ السَّخَطِ، وَصِلَةَ الْأَرْحَامِ مَنْمَاةً لِلْعَدَدِ (47)، وَالْقِصَاصَ حَقْناً لِلدِّمَاءِ، وَالْوَفَاءَ لِلنَّذْرِ تَعَرُّضاً لِلْمَغْفِرَةِ، وَتَوْفِيَةَ الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ تَغْيِيراً لِلْبَخْسَةِ، وَاجْتِنَابَ قَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ حَجْباً عَنِ اللَّعْنَةِ، وَاجْتِنَابَ السَّرِقَةِ إِيجَاباً لِلْعِفَّةِ، وَمُجَانَبَةَ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِجَارَةً مِنَ الظُّلْمِ، وَالْعَدْلَ فِي الْأَحْكَامِ إِينَاساً لِلرَّعِيَّةِ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الشِّرْكَ إِخْلَاصاً لِلرُّبُوبِيَّة) (48).
(فـ(اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (49) وَأَطِيعُوا اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ فَإِنَّهُ (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (50) (51).
وزاد الإمام علي (عليه السلام) على ما ذكرته الصديقة الزهراء (عليها السلام) بقوله: (وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ رَدْعاً لِلسُّفَهَاءِ، وَصِلَةَ الرَّحِمِ مَنْمَاةً لِلْعَدَدِ، وَالْقِصَاصَ حَقْناً لِلدِّمَاءِ، وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ إِعْظَاماً لِلْمَحَارِمِ، وَتَرْكَ شُرْبِ الْخَمْرِ تَحْصِيناً لِلْعَقْلِ، وَمُجَانَبَةَ السَّرِقَةِ إِيجَاباً لِلْعِفَّةِ، وَتَرْكَ الزِّنَا تَحْصِيناً لِلنَّسَبِ، وَتَرْكَ اللِّوَاطِ تَكْثِيراً لِلنَّسْلِ، وَالشَّهَادَاتِ اسْتِظْهَاراً عَلَى الْمُجَاحَدَاتِ، وَتَرْكَ الْكَذِبِ تَشْرِيفاً لِلصِّدْقِ، وَالسَّلَامَ أَمَاناً مِنَ الْمَخَاوِفِ، وَالْأَمَانَةَ نِظَاماً لِلْأُمَّةِ، وَالطَّاعَةَ تَعْظِيماً لِلْإِمَامَةِ) (52).
وعلى مستوى فقه الحكومة نجد الإمام علياً (عليه السلام) يضيف مقصد (رضا الرعية) إلى مقصدي (الحق والعدل) إذ يقول: (وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وَأَجْمَعُهَا لِرِضَا الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَا الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَا الْعَامَّةِ) (53)، والذي يستفاد منه أن من مقاصد الشريعة رضا الرعية، ضمن دائرة الحق والعدل، إضافةً إلى رضا الرب.
المنحى العام لعلماء الفريقين تجاه المقاصد
وقد اختلف علماء العامة والخاصة قديماً وحديثاً في الأخذ بمقاصد الشريعة والمصالح والمفاسد في استنباط الحكم الشرعي، إلاّ أن المنحى العام لعلماء الشيعة، إلاّ النادر منهم، هو تحييدها عن عملية الاستنباط الفقهي، رغم إذعانهم بثبوت المصالح والمفاسد لكافة الأحكام الشرعية (إلا النادر كالأوامر الامتحانية، على أن لها مصلحةً أيضاً ولكن لا في المتعلّق)، وأنها علل التشريع في الإسلام (54)، ورغم استشهادهم بالكثير من الآيات والروايات عليها في ثنايا كتب الفقه والتفسير، وكذلك تأليف الشيخ الصدوق (رحمه الله) المتوفى 381 هـ وغيره، كتاباً باسم (علل الشرائع) (55)، بل لقد افتتح الكثير منهم كتبهم الفقهية بسرد مجموعة من الآيات والروايات المتضمنة لعلل الأحكام أو حِكَمها أو بعض أسرارها أو مصالحها أو مفاسدها (56).
إضافةً إلى أن عدداً من علماء الشيعة كتب بحوثاً عن عنوان (مقاصد الشريعة) أو ما يقاربه من العناوين، كـ(تنقيح المناط) و(منصوص العلة) (57).
وفي المقابل نجد أن جمعاً من علماء العامة، اهتموا بـ(مقاصد الشريعة)، وألفوا فيها كتباً كثيرة، بدءاً بالجويني المتوفى 474 هـ في (البرهان في أصول الفقه)، بل وبعض من سبقه، ومروراً بالغزالي المتوفى 505 هـ في (المستصفي في علم الأصول)، ثم الشاطبي المتوفى 790 هـ في (الموافقات في أصول الشريعة)، ووصولاً إلى الطاهر بن عاشور المتوفى 1396 هـ وعلال الفاسي المتوفى 1394هـ في كتابه (مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها)، وإلى متأخري المعاصرين.
من أسباب عدم محورية (المقاصد) في فقه الشيعة
ولعل من أهم الأسباب التي دعت علماء الشيعة لإلغاء استثمار (المقاصد) في عملية الاجتهاد والاستنباط، يعود إلى أنهم يرون أن ملاكات الأحكام الكاملة وعللها التامة مجهولةٌ لنا، ويقصدون بذلك المقتضيات التامة السليمة عن المزاحِمات والموانع التي تحول دون وصول الـمِلاك إلى مرتبة العلة التامة للتشريع، ومن الواضح أن قاعدة (الشيء ما لم يجب لم يوجد) (58)، تسري في التشريع كما في التكوين، من غير أن يتنافى ذلك مع الإذعان بأن أفعال الله تعالى وشرائعه معللة بالأغراض (59) الحكمية واعترافهم بأن ملاكات كثير من الأحكام قد صرحت بها الآيات والروايات.
نعم، إذا اعتبرنا التيسير وقواعد (لا حرج) و(لا ضرر) وترجيح الأهم على المهم في باب التزاحم، من المقاصد، فإننا سنذعن حينئذ بأن علماء الشيعة قد اعتمدوا عليها بشكل كبير جداً.
ومن الآيات والروايات، إضافةً إلى ما مضى، قوله تعالى: (هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبينٍ) (60)، و: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمينَ) (61)، و: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتي كانَتْ عَلَيْهِمْ) (62)، و: (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْميزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (63).
ومن الروايات: ما رواه الشيخ الصدوق في علل الشرائع، بسند صحيح: عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام): (أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ شَيْءٌ إِلَّا لِشَيْءٍ) (64).
ولكن الروايات السابقة ونظائرها إنما ذكرتها باعتبارها حكمة، أو مصلحة من المصالح، أو سراً من الأسرار، من غير أن يعطينا الله تعالى، العلم المحيط بِلِمِيّتها، وإن فُرِض أننا أحطنا بإنيّتها، (وَما أُوتيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَليلاً) (65)، و: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (66).
ومن الأسباب أيضاً: أنهم ارتأوا أن إدخال مقاصد الشريعة في عملية الاستنباط، مع عدم تصريح القرآن الكريم أو الأحاديث المعتبرة بعليتها التامة، لا يعدو كونه قياساً، وهو محرم بالروايات الصحيحة الصريحة والإجماع لدى الشيعة، كما أنه لا يتجاوز مرتبة إفادة الظن، (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْني مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (67).
ولكن، ومع ذلك فإن العديد من علماء الشيعة اعتبروا بعض مقاصد الشريعة، كقاعدة اليسر، مما يعضد الأدلة الأخرى، أو مما يقتضي الحكم الشرعي، وعلى سبيل المثال قال في جواهر الكلام: (إطلاق خبر السكوني المعتضد بإمكان جريان قاعدة اليسر فيه أيضاً) (68)، وقال في بحث آخر: (مع أن قاعدة اليسر تقتضيه) (69)، وإنما أعرض عن قاعدة اليسر في صورة وجود روايات صريحة على خلافها مع إعراض الأصحاب عنها، في بعض الموارد، فقال في بحث آخر: (وظاهر الأخبار السابقة، فلا يلتفت إلى قاعدة اليسر سيما بعد إعراض الأصحاب عنها) (70).
وأما علماء العامة فقد أخذ بعضهم عليهم أنهم وإن اهتموا بكتابة كتب حافلة عن المقاصد الشريعة إلا أن أمثال الشاطبي منهم لم يحاول أو لم يستطع إدخالها في علم الأصول، كآلية من آليات الاستنباط إلى جوار الآليات الأصولية المعروفة الأخرى (71).
ولكن من غير الخفي أن هنالك محاولات حثيثة في العصور الأخيرة لبلورة منهج علمي وآلية منضبطة لاستخراج الأحكام من المقاصد، وإن جرى الكلام عن مدى كونها بالفعل منضبطة ومرجعية معيارية دقيقة، خاصة وأن المقاصد يراد لها أن تكون بمنزلة الدستور الذي يهيمن على علم القانون، وآلية ترجع إليها القوانين، فهو ضابط منهجي مرجعي ينبغي أن لا يكون مختلفاً فيه، كعلم المنطق مثلاً، أو أن يكون الاختلاف فيه في أدنى درجاته، مع أن الخلاف بين علماء المقاصد في تحديد المقاصد وأولوياتها، أو في كيفية الاستنباط منها، أو في نتائجها الفقهية، كبير جداً.
ولا يستهدف هذا البحث دراسةً أو تحليلاً أو مناقشةً أو تأييداً لأي من الآراء السابقة أو غيرها، سواء لدى علماء الشيعة أم السنة (72)، وإنما يستهدف طرحاً جديداً يتكيّف وينسجم من جهة مع الفكر الأصولي الشيعي ولا يخرج عن قواعده وأصوله، ويثري بحث مقاصد الشريعة لدى الفكر الأصولي السني من جهة أخرى.
غاية البحث:
عرض طرق جديدة لاستثمار مقاصد الشريعة في عملية الاستنباط الاجتهادي في الفقه والأصول وفي مرحلة التقنين لدى المشرعين في مجالس الأمة حيث سنطرح سبع طرق، أو مسائل أصولية وقواعد فقهية مفتاحية تتراوح بين:
أ: ما يمكن لمقاصد الشريعة أن تجد لها متسعاً، بحيث تسهم في عملية الاستنباط الاجتهادي، من دون أن تدخل في دائرة القياس أو الظن غير المعتبر، أو تعتبر تطفّلاً على عالم الجعل الخاص بالشارع الأطهر المحيط هو، من دوننا، بكافة الملاكات المتزاحمة والموانع.
ب: وبين ما دلت أدلتها من الروايات الشريفة، على كون بعض مقاصد الشريعة هي الباعث على جَعْل أحكامها على حسب ما جُعِلت، مُفصِحةً عن بعض معادلات عالم الجعل والتشريع.
هيكلية البحث:
وسيتضمن هذا البحث:
المدخل: الوجيز في الرحمة الإلهية كمقصد من مقاصد الشريعة.
الفصل الأول: كيفية استثمار هذا المقصد والاستناد إليه، إما في تغيير الرأي الاجتهادي والموقف في عدد من أهم مسائل علم الأصول والقواعد الفقهية، أو في تطويره، أو تأكيده:
أما التغيير ففي (قاعدة الدوران بين التعيين والتخيير) وفي (قاعدة الاحتياط).
وأما التطوير ففي بابي (التعارض والتزاحم) وفي مبحث (الانصراف).
وأما التأكيد ففي مبحث (حجية الطرق والأمارات) وفي قاعدتي (الإمضاء والإلزام).
الفصل الثاني: مقاصد الشريعة على مستوى المجتمع والسلطة التنفيذية والتشريعية:
أما المجتمع فسنشير إلى الكيفية التي تهندس بها مقاصد الشريعة، العلاقات الاجتماعية وهياكلها.
وأما السلطة التشريعية والتنفيذية، فسيقع البحث عن مدى تأثير مقاصد الشريعة في تغيير الشاكلة الفكرية ـ النفسية للمقننين في مجلس الأمة، ولواضعي اللوائح التنظيمية والنظم الداخلية في الوزارات والشركات، وسوف نختم ذلك كله باقتراح تأسيس (كتلة التحرير في مجلس الأمة ومؤسسات المجتمع المدني).
منهجية البحث:
يعتمد هذا البحث المنهج الاستنباطي ـ التحليلي، والمنهجية الأصولية في تحليل النصوص الدينية وفقه الآيات والروايات، وقد يستعين أحياناً بالمنهج الاستقرائي، وليس بحثاً اتيمولوجياً في أصول المفردات ومفاهيمها.
في القسم الثاني: المدخل: الوجيز في (الرحمة) كمقصد من مقاصد الشريعة..