الدافعية نحو العلم والتعليم الجامعي

أ. د. قاسم حسين صالح

2019-09-25 07:13

مقدمة استهلالية

تعني الدافعية motivation حالة نفسية داخلية تنشّط أفكارنا ومشاعرنا feelings، وتوجّه سلوكنا نحو هدف معين ينجم عن تحقيقه فائدة شخصية واعتبار اجتماعي.

والدوافع على نوعين: بيولوجية، فطرية innate، تكون شاملة أو عامة لدى البشر، تتعلق بحاجات البقاء والتكاثر، مثل: الطعام والشراب والنوم والجنس...، ومكتسبة تم تعلمها عــــن

طريق التنشئة الاجتماعية والمؤسسات التربوية والسياسية والإعلامية. ويدخل ضمنها الدوافع الإنسانية، التي تعني تحديدا تلك المتعلقة بسعادة الفرد والعيش بحياة جديرة به كأنسان، ومنها مثلا دافع: الحب، الصداقة، الانتماء للوطن، تحديث الخبرة... ودافع التحصيل والنجاح.

والبشر جميعا تحركّهم دوافع. والاختلاف بينهم يكون في: نوع هذه الدوافع، وشدتها أو قوتها، والهدف الذي يتجه نحوه الدافع.

والجديد الذي اكتشفه علماء نفس الأعصاب، وجود نظام عصبي في دماغ الإنسان " تحديدا: bran s dopamine system " تبين أنه اذا حصل الفرد على مكافأة (مادية أو معنوية) لدافع معين " نجاح الطالب بامتياز مثلا، أو الزواج من شخص تحبه.." فأن هذا الجهاز يعمل على تنشيط الأفكار البنّاءة، والمشاعر الجميلة، والسلوك المنتج. وبعكسه، أي اذا لم يحصل على مكافئات، فأن دماغ الإنسان يكون خاملا، فيشعر بالضجر ويكون كسولا !.

والدافعية نحو العلم، تعدّ السبب أو العامل الرئيس في التباين الحاصل بين الدول والمجتمعات. وأن الدولة أو المجتمع الذي لا يتمتع طلبة الجامعة فيه بدافعية عالية نحو العلم، يكون في آخر القائمة.

الجامعة في القرن الواحد والعشرين

يعدّ " العلم " الوسيلة الأكيدة لتطوير الدولة والمجتمع والفرد: اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وبيئيا... وتعدّ " الجامعة " القناة الرئيسة التي تخرّج الكوادر المؤهلة علميا وعمليا لتحقيق الازدهار الاقتصادي والحضاري والتقدم التكنولوجي.

والجامعة، كانت وما تزال، مؤسسة تسعى الى تأهيل المنتسبين إليها المهارات اللازمة لتوظيفها في خدمة المجتمع، والقيام بالبحث العلمي النظري والتطبيقي. غير أن النظام العالمي الجديد فرض مواصفات جديدة على جامعات القرن الواحد والعشرين، من أهمها: أن تربط الجامعة بين المعرفة التي تقدمها والمردود الملموس لهذه المعرفة. وتسويق " منتوجها " أو رأسمالها العلمي والبحثي. فالحكومات والمجتمعات صارت تحكم الآن على الجامعة بمدى نجاحها الذي يحققه خريجوها في نواحي الحياة المختلفة، وفي مدى نجاح الأساتذة في رفد المؤسسات الإنتاجية والاقتصادية والثقافية والخدماتية بالأبحاث العلمية المفيدة.

وننبه الى أن " فلسفة العلم " التي كانت في القرن العشرين بين: مثالية، مادية، وضعية، براجماتية..، تراجعت في القرن الواحد والعشرين لتتصدرها فلسفة جديدة هي فلسفة " اقتصاد السوق " في عالم جديد فيه قطب واحد سيتحكم في الإنتاج والاقتصاد والسياسة والأخلاق أيضا، هو قطب " الشركات العملاقة متعددة الجنسيات ". وأن الجامعة التي لا تأخذ في حساباتها هذه المتغيرات الجديدة تكون أقرب الى " مدرسة ابتدائية " يتعلم فيها الطلبة المعرفة لذاتها لا لتوظيفها في خدمة الدولة والمجتمع.

ثلاثية العملية التربوية

يقوم التعليم الجامعي على ثلاثية: الطالب والتدريسي والمنهج. ويكون التعليم منتجا اذا كانت هذه العناصر الثلاثة تمتلك مقوماتها الإيجابية الفاعلة، ونعني بها:

أن يمتلك الطالب الدافعية للتعلم.

أن يمتلك التدريسي مواصفات المعلم الناجح.

أن يكون محتوى المناهج مواكبا للتطور العلمي، ومحققا لأهداف الطالب، وذا علاقة مباشرة بحياة الناس وتحسين أحوالهم.

وتعليقا على مناهجنا الجامعية في العراق، فان الذي يستعرض تاريخ المناهج في الجامعات الغربية منذ نشوئها يجد أنها تقوم على ثلاث نظريات رئيسة:

1. النظرية الجوهرية. وتهدف الى نقل المعارف والأفكار والمعتقدات من الجيل القديم الى الجيل الجديد.

2. النظرية الموسوعية. وتهدف الى الربط بين احترام التقاليد والقيم والتراث وقبول للجديد في ضوء فكرة: الحكمة الشاملة.

3. النظرية البراجماتية. وهذه ترى أن التعليم يجب أن يكون عن طريق عمل الأشياء لا عن طريق القراءة عنها. وأنه لا توجد هنالك أهداف ثابتة للمنهج. فالمنهج الجيد هو الذي يحقق المنفعة للطالب.

ومع أن واقع مناهجنا الجامعية لا يقوم على نظرية واضحة ومحددة فأن معظمها يتوزع بين ما عفا عليه الزمن وبين ما ليست له فائدة تطبيقية. وهي – في الغالب – لا تثير حماسة الطالب لأنها ليست لها علاقة مباشرة بحياته ومستقبله. وفي الحق، فأن افضل ما في مناهجنا الجامعية يفصله عن ما هو حديث في العلم عقد من الزمن إن لم يكن ربع قرن. وهذا واحد من أهم عوامل انخفاض الدافعية لدى طلبة الجامعة.

وفيما يخص التدريسي، فأن عددا كبيرا من التدريسيين في الجامعات والمعاهد العراقية يفتقر الى مواصفات التعليم الجامعي الناجح. ففي سبيل المثال، ما تزال المحاضرة تلقى بالطريقة الإملائية..حتى في الدراسات العليا !. أعني أن الأستاذ يتكلم ( وفي الغالب يرد!) والطالب يسمع. فيما ينبغي أن تكون المحاضرة قائمة على المناقشة والحوار والتنوع باستعمال الوسائل السمعية والبصرية، التي تقضي على الرتابة والملل وتساعد على شدّ انتباه الطالب.

ومن مواصفات التدريسي الناجح، سواء كان بمرتبة " أستاذ – بروفيسور " أو " مدرس مساعد " أن يكون متمتعا باحترامه لذاته واحترام طلبته له، واحترام المواعيد وتقديره الكامل لقيمة الوقت، وعدم الاعتذار عن المحاضرة إلا للضرورة القصوى. وأن لا ينهي محاضرته قبل موعدها المحدد، ليتعلم طلبته منه تقدير قيمة العلم واحترام " الوقت " الذي ما زلنا –للأسف – لا نحترمه.

إن عدم تمتع التدريسيين كافة بمواصفات التدريسي الناجح يشكل ثاني أهم عوامل انخفاض الدافعية نحو العلم في جامعاتنا.

يضاف الى ذلك، أن منظوماتنا العلمية ومؤسسات التعليم العالي ( الجامعات والمعاهد ) تعاني أزمة حقيقية تنسحب على العملية الثقافية والثقافة العلمية التي أصبحت في القرن الواحد والعشرين جزءا" لا يتجزأ من منظومة العلم والتكنولوجيا، فيما تبدو مشاركة هذه المؤسسات ( الجامعات ) في تشكيل الوعي والبناء الوطني الاجتماعي والاقتصادي، لا ترقى الى مستوى مثيلاتها في ماليزيا وكوريا الجنوبية مثلا". بل هنالك اتهامات موجهة لنظمنا التعليمية والتربوية بالعجز والفشل في حث الأجيال على التعلم الفاعل وإكسابهم المعارف والمهارات النوعية التي تؤهلهم لتوظيف المعرفة العلمية والمنافسة في سوق العمل. وأن شعار " الجامعة في خدمة المجتمع " يبدو في واقعنا العراقي كلاما" أكثر منه فعلا". ويعزى السبب الى وجود كوادر في الحلقات الإدارية الرئيسية ليست كفوءه، أو ربما لا تريد تفعيل هذا الشعار الى واقع تطبيقي، ويعد هذا سببا" مهما" في انخفاض الدافعية.

دافعية الإنجاز

تعني دافعية الإنجاز (Achievement Motivation) حاجة نفسية لدى الإنسان لتحقيق النجاح في: المدرسة، الوظيفة، العمل، أو مجالات الحياة الأخرى.

وتفيد الدراسات الحديثة بأن مفهوم (دافعية الإنجاز) أكثر تعقيدا" مما كان يعتقد. فالتربويون الأوائل كانوا يفهمون هذه الدافعية بأنها النجاح الوظيفي والمالي، أي أن تكون ناجحا" في عملك الوظيفي وان تكسب مالا" وفيرا". إما الفهم الحديث للدافعية فأنه يرى إنها تتضمن عوامل نفسية Psychological، ومعرفية Cognitive وحضارية ـ اجتماعية Sociocaltural. وان الناس ليسوا متشابهين في الدافعية كما كان يعتقد، بل إن اختلافهم بوصفهم أفرادا" لكل منهم شخصيته الخاصة به، تؤدي الى إن يكونوا مختلفين أيضا" في الدافعية نحو الإنجاز والنجاح. بل الناس ( النساء بشكل خاص ) لديهم دافعية تتمثل بالخوف من النجاح fear of success، بمعنى الخوف من النتائج المترتبة على النجاح، وبخاصة الخوف من حسد الآخرين!.

الدافعية والطالب الجامعي

لنتذكر ما قلناه، بأن الدافعية تنشّط activate السلوك، وتوجهه direct. وأن الدافعية تكون على نوعين: ذاتية، تتعلق بشخصية الفرد وتكوينه المعرفي والعقلي. وخارجية، تخص البيئة والمجتمع والحضارة والمؤسسات التعليمية.

ويعتقد عدد من علماء النفس بأن الدافعية الذاتية اكثر أهمية من الدافعية الخارجية، ومنها ما يخص ( مستقبل ) الطالب وما اذا كانت لديه أهداف ( واضحة ومحدده جيدا" ) وما اذا كان ( ضامنا ) الحصول على وظيفة أو عمل يناسب اختصاصه. فهنالك فرق كبير بين دافعية طالب يعرف بأن العلم والمعرفة والمهارة التي اكتسبها في الجامعة، سيستخدمها ويستفيد منها في الوظيفة التي سيتعين بها، وبين دافعية طالب آخر هدفه أن يحصل على شهادة جامعية.

وتلعب العوامل الفكرية دورا" كبيرا" في الدافعية، واليها ترجع الكثير من أسباب اختلاف مستوى الدافعية عند الطلبة. فالطالب الذي لديه ثقة عالية بقدراته، ويتوقع النجاح دائما" تكون دافعيته نحو العلم عالية. وتؤكد الدراسات الحديثة خطأ ذلك الاعتقاد القائل بأن الذكاء والجانب العقلي هو العامل الرئيسي في التحصيل الدراسي.فهي تشير الى العوامل النفسية، ومنها: الثقة بالنفس والشعور بالأمن النفسي والتكيف الدراسي داخل الجامعة، على أنها اكثر أهمية في ( التحصيل ) من عامل الذكاء.

وننبّه الى أن المكافأة الخارجية تؤدي أحيانا الى خفض الدافعية نحو الإنجاز. فقد كشفت إحدى الدراسات أن الطلبة الذين لديهم رغبة قوية في الفن، والذين لا يتوقعون مكافئات خارجية، يقضون وقتا أطول في الرسم وينتجون أعمالا فنية أكثر جودة موازنة بأقرانهم الذين يتوقعون مكافئات خارجية. والمشكلة المتعلقة بتوظيف المكافأة بوصفها حافزا هي، أن الطالب قد يدركها بوصفها سببا في سلوك الإنجاز أكثر منها سببا في دافعيته الشخصية.

والجديد الذي قد لا يعرفه كثيرون، أن العوامل النفسية والمعرفية لدى الأشخاص الذين يتمتعون بدافعيه عالية، تزيد من نشاط كيماوية الدماغ، وتعمل على إطلاق هرمونات " الدوبامين مثلا" " وتجعل الطالب يشعر بالبهجة والسعادة والمتعة في مواصلة التعلم وحب العلم.

أما العوامل الخارجية التي تؤثر في الدافعية، فأن أهم أسبابها التي تؤدي الى انخفاضها لدى طلبة الجامعة هي: تخلّف محتوى المناهج الدراسية، والطرائق التقليدية في التدريس وما يصاحبها من ملل، وسوء النظام الإداري والروتين المتعب والإدارة المتذبذبة ونظام التعليم المعتمد. ففي سبيل المثال، تبين إن نظام الكورسات ليس منتجا" في الجامعات بإقليم كردستان. فضلا على عوامل حضارية – اقتصادية – اجتماعية تعمل على توجيه مسارات الإنجاز أو التحصيل. فقد كشفت إحدى الدراسات التي أجريت على 104 مجتمعا، أن الوالدين في المجتمعات غير الصناعية يضعون قيمة واطئة للإنجاز والاستقلال لدى أطفالهم، وقيمة عالية على الطاعة والتعاون، مقارنة بالمجتمعات الصناعية.

جملتان اعتراضيتان

1. في العام 1998 كنت أستاذا زائرا في جامعة صنعاء في اليمن وكان الوقت شتاء.وفي إحدى الأمسيات اشتهيت أن آكل " لبلبي " فوقفت عند صاحب " عربانة" يبيعه..تبين لي بعد الحديث معه أنه مهندس عراقي !.والمصيبة أن ما يحصل الآن هو حتى بيع " الماء " صار متعذرا في بغداد حيث الموت يمشي مع الناس في الشارع !.

2. يبدو أن إسناد المسؤوليات في التعليم الجامعي من رؤساء الجامعات الى رؤساء الأقسام يتم على أساس الانتماءات الحزبية. وما يجعلك تضحك أم تلطم على رأسك أن رئيس إحدى الجامعات احتار في تعين "س" أو " ص " عميدا لإحدى الكليات، فحسمها بطريقة أخذ " الخيرة " بالسبحة !.

مقترح للتأمل

إن مستقبل العراق الجديد يتوقف على نوعية طلبة الجامعة بوصفهم قادة مستقبل في عالم يتغير بسرعة مدهشة، يتطلب أن يكون التعليم الجامعي فيه متمتعا" بـ ( الجودة الشاملة ) التي تقوم على المشاركة الجماعية والتفاعل بين عناصر العملية التعليمية والتركيز على ( النوعية ) في المدخلات والمخرجات، والانطلاق من احتياجات سوق العمل ومطالب التنمية، وبرامج تخطيط استراتيجي تستوعب الخريجين في مشاريع الإعمار الهائلة.

غير أن اعتماد ( الجودة الشاملة ) كمشروع حضاري يتطلب الكشف من الآن عن مستوى الدافعية لدى طلبة الجامعات العراقية لتشخيص أسباب انخفاضها واقتراح سبل معالجتها وهذا ما لا نمتلكه للأسف الشديد.

وعلية نقترح أن تعمل الجامعات العراقية، التي تتمتع باستقرار أمني لاسيما الجامعات قي إقليم كوردستان، على توظيف عدد من الرسائل الجامعية ( ماجستير ودكتوراه ) وبحوث التخرج لطلبة المراحل الأخيرة، وبحوث التعضيد للتدريسيين لدراسة هذا الموضوع ميدانيا". فبالعلم يكون العراق نمرا" أسيويا" جديدا" يتفوق على نمورها الستة: كوريا الجنوبية، ماليزيا..... بما يمتلكه من طاقات بشرية وثروات مادية هائلة.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا