الحداثة والحركة الإسلامية: أزمة الأسس وأسئلة المستقبل
مجلة الكلمة
2019-08-25 04:43
بقلم: أحمد شهاب، باحث كويتي في قضايا التنمية السياسية
بمثابة تمهيد
لا يكاد يختلف اثنان على أن ظاهرة «الإسلام السياسي» تعدّ اليوم من القضايا المحورية، التي تفرض نفسها على مائدة البحث العلمي، ولا يقتصر هذا الاهتمام على المسلمين أنفسهم، بل أيضًا نجد الاهتمام ذاته في الدراسات الأكاديمية الغربية، حيث نلاحظ أن الغرب أفسح حيّزًا من اهتمامه لمناقشة هذه الظاهرة ودراستها بعمق وجِدة، سواء تلك الدراسات الغالبة التي تصنّفها كخطر يهدّد الغرب وحضارته الحديثة، أو تلك التي تلتزم بالموضوعية وتكتفي بدراستها كظاهرة «اجتماعية - سياسية» بغض النظر عن الموقف المعلن منها.
ولا شك في أن الاهتمام بالإسلام ومنظومته الفكرية والعقدية والروحية، كان محلّ اهتمام وترقّب لم يغب يومًا عن الدراسات الغربية فضلًا عن الشرقية، إلَّا أن تداعيات النزاعات الأخيرة والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية الطارئة على الحياة المعاصرة، جعلت من الإسلام محورًا رئيسًا لاهتمامات العالم؛ «لهذا لم يكن عبثًا أن تتولّى وكالة المخابرات الأمريكية في سنة واحدة 1983 التمويل الكامل أو الجزئي لأكثر من 120 مؤتمرًا أو ندوة في موضوع واحد هو الصحوة الإسلامية»[1].
ذلك تَمَّ بعد أن اكتشفوا أن الانتماء إلى الإسلام لا يتوقَّف عند مساحة جغرافية محدَّدة تسمّى دار الإسلام، ولا تتجمّد عند جملة من التعاليم التي تستهدف إخضاع الفرد لسلوك روحي منعزل إلى حدٍّ ما، بل هو يمتدّ إلى مساحات جغرافية جديدة بفعل التبشير بالدين، فمساحاته تتّسع يومًا بعد آخر، كما أنه يعمل باستمرار نحو صياغة حاضر ومستقبل يتعدّى عالمه وإنسانه، فهو لا يعتني بالإنسان تربويًّا فقط، وإنما أيضًا يستهدف وضع قوانين بشرية تنظّم حياة الناس في مختلف مجالات الحياة، ولا يختصّ بطبقة محدّدة بل يكاد يستوعب الجميع على اختلاف تموضعاتهم الاجتماعية والعلمية.
اصطدم هذا الوعي الإسلامي برغبة الغرب في تشكيل العالم وفق رؤيته الخاصة، طبقًا لشعارات أخذت حيِّزًا في العصر الحديث من قبيل «أمركة العالم»، و«النمذجة الغربية»، واعتبارها شرطًا للتقدّم والمعاصرة، فلا يمكن للعالم أن يتطوّر إلَّا عبر منهج الحياة في الغرب، على اعتبار أن التنمية «لا تنسجم مع تمسّك مواطني هذه البلاد بالعادات والممارسات التقليدية. وتعتبر القطيعة مع هذه العادات والتقاليد شرطًا أوليًّا للتقدّم الاقتصادي، وعليه يجب إحداث تغيير جذري في كل المؤسسات والسلوكيات الاجتماعية والثقافية والدينية، ليتسنّى بالتالي تغيير الوضع النفسي لدى الناس وأسلوب حياتهم»[2].
وفي كتابه «عالم ما بعد أمريكا» يُشير الدكتور فريد زكريا إلى أن نهوض العالم ما هو إلَّا نتيجة للأفكار والسلوكيات الأمريكية، وأن العالم يسير بالضرورة على نهج الولايات المتحدة الأمريكية، لتصبح الدول أكثر انفتاحًا وديمقراطية، والموضوع لا يتعلّق بوجود أو انعدم النوايا الشريرة، بل يتّصل الأمر «بفلسفة إصلاح العالم»، فالولايات المتحدة تنظر إلى العالم الخارجي بوصفه جزءًا من أمنها الخاص، لذلك تتّجه لتوسيع سلطتها السياسية والاقتصادية، وتضغط لتغيير النظام الدولي لتضمن أمنها الداخلي، وتأمين مصالحها المتسعة دومًا.
إن رفض الولايات المتحدة لأي نظرة مختلفة للعالم، تسبّبت في اتّساع مساحة الصراع معها، فالعالم الآخر لا يتقبّل بالضرورة انتزاع هويته لصالح أخرى، وإن كانت الهوية البديلة تخصّ القوة الوحيدة في العالم، وقد أثبتت التجارب أن انتزاع الأيديولوجيا من سياقها الاجتماعي أدّى إلى نتائج مدمرة، فالأمريكيون يفخرون بالدور الأمريكي في الخارج، ويعتبرونه دورًا إنسانيًّا وحضاريًّا، ويعتزّون بوطنيتهم، لكنهم يفزعون عندما يجدون أن الآخرين يفخرون بأوطانهم[3].
تلك العوامل ساهمت بالإضافة إلى عوامل أخرى داخلية، والتي من أبرزها سقوط الخلافة العثمانية، وإخفاق الأيديولوجيا القومية التي تأكّدت بعد هزيمة ١٩٦٧م، ببروز قوى إسلامية منظّمة، تستهدف الحفاظ على الهوية الإسلامية ولكن بنظرة جديدة، من أبرزها السعي لتحرير السلطة في الدول العربية والإسلامية من هيمنة سياسات التبعية للغرب، وضرورة تفكيك حكومات الاستبداد الذي تسبّبت في تعطيل طاقات أفراد الأمة، وأزاحت المجتمع العربي والإسلامي من دائرة الفعل الحضاري، لا سيما وأن هذه الحكومات تستمد قوّتها واستمرارها على تحالفاتها الاستراتيجية مع القوى العظمي التي تدعم بقاءها، وتحصّنها من عوامل التغيير، وأطلق على هذه القوى الوليدة «الحركة الإسلامية».
المعنى الملتبس للإسلام السياسي
من الناحية المفاهيمية فإن تعبير «الإسلام السياسي» معقّد إلى درجة كبيرة، وذلك لأننا لا نملك أدوات التثبّت المختبرية التي يملكها الباحثون في العلوم الطبيعية، إذ يطلق مصطلح «الإسلام السياسي» في الدراسات الأكاديمية والإعلامية للتفريق أولًا: بينه وبين سائر الحركات الاجتماعية - السياسية التي لا تحمل أيديولوجيا دينية، ولا تستهدف تطبيق الشريعة وأسلمة المجتمع، وللتمييز ثانيًا: بينه وبين الإسلام كشريعة ومعارف وأنشطة اجتماعية وثقافية ودعوية متنوّعة، وللفصل التام ثالثًا: بينه وبين الإسلام الرسمي المتضامن مع الدولة، وبغض النظر عن المحمولات السلبية لهذا المصطلح، فإن ما نروم له هنا هو تحرير المفهوم للمكنة من دراسته وتفكيكه، بعد أن استقرّ في الدراسات الأكاديمية، ولا يعني ذلك قبوله تمامًا أو رفضه بشكل مطلق.
فإذا قلنا بأن الإسلام السياسي هو مجمل الحركات السياسية الهادفة للتغيير والمنازعة على السلطة للتمكّن منها أو لإصلاحها، فإن عددًا كبيرًا من الأحزاب والجماعات المصنفة ليبيرالية أو قومية يجوز أن تُحسب من بينها، طالما أن الأفراد بصفتهم مجموعة من المسلمين المناضلين، يشكّلون عمادها وتتّفق برامجهم لا أقلَّ في خطوطها العريضة مع بقية الحركات الموصوفة بالإسلامية، وإن لم تنضوِ تحت عناوين وشعارات دينية، لا سيما وأن العديد من أفراد هذه الأحزاب في العالم العربي لا يقبلون تجريدهم من هويتهم الإسلامية، وإن كانوا لا يتّفقون مع التصوّرات الدينية التقليدية وينتقدونها، ويعملون نحو دولة محايدة لا يحكمها الدين.
وإذا قلنا بأن «المرجعية» بوصفها الفكرة الجوهرية التي تشكّل الأفكار والمعتقدات، والتي تحكم خطاب الحزب هي الفيصل في التعيين، فإن اتّساعها وتعدّد الأفهام داخلها (مرجعية دينية - مرجعية سياسية - مرجعية مذهبية) يحدّ من موقعيتها خارج الحركة، لتكتفي بتمثيل الإطار القيمي للأفكار والرؤى التي يتبنَّاها الحزب ذاته، ونكون بذلك أمام خصومة فكرية وسياسية من شأنها أن تُضيف الإسلامية إلى جماعة وتسلبها من أخرى وفقًا لمقاييس غير ثابتة، وهو ما نجد مثاله في الانفصال الحركي بين الأحزاب الإسلامية؛ لأن الرؤى المرجعية متفاوتة حينًا، ومتصادمة مع بعضها حينًا آخر، وتزداد هذه الإشكالية مع التنوّع المذهبي والذي يلقي بظلاله الثقيلة عند التصنيف.
وفقًا لما سبق، فإن تحرير «الإسلام السياسي» مفهوميًّا يستدعي تحديده بالوظيفة والدور، فإن كان الإسلام هو الوعاء الثقافي والأخلاقي للممارسة السياسية عند الشعوب الاسلامية، حيث لا يُوجد لديهم ثمة تعارض بين الاعتقادات والأعمال والأنشطة على اختلاف مسمياتها وتصنيفاتها، وحيث يصبّ كل ذلك في الوظيفة والدور الذي يرى الفرد المسلم أنه جزء من تكليفاته الدينية، فإن الإسلام السياسي يتحدّد بالأفكار والمشاريع التي قامت بها جميع الأحزاب والحركات نحو صياغة المشروع السياسي للإسلاميين، وباتجاه إنجاز فعل تغييري تكون «الحركة الإسلامية» هي اللاعب الأساسي في تحديد مفرداته وتشكيل معالمه.
وعليه فإن السعي للتغيير والفعالية هي سمة أساسية في جميع جماعات «الإسلام السياسي»، فهي لا تتوقّف عند ما تتبناه من معتقدات وأفكار وتصورات إسلامية، ولا يعنيها الدخول في الجدل الفكري والعقدي فقط، وانما هي: مجمل التَّنظيمات التي تقوم على الإسلام فكرًا وأيديولوجيةً، وتسعى إلى تغيير الواقع، وتعمل حثيثًا من أجل إعادة بناء الفرد والجماعة وتأهيلهم لاستعادة نفوذ وسلطة الإسلام، لاعتقادٍ راسخٍ بقدرة الجانب السياسي على تحقيق الإصلاح والتغيير والنهضة والتقدّم. فهي حركات تعمل على بناء خطابٍ أيديولوجيٍّ تعبويٍّ، يسعى نحو تطبيق قيم الإسلام وشرائعه في الحياة العامة والخاصة، وتنشط في الساحة السياسية، وتأخذ موقف الندية من الحكومات والحركات السياسية والاجتماعية التي لا تتمثّل تعاليم الإسلام.
الأوجه المتنوّعة للنشاط الإسلامي
لضرورات بحثية صرفة، نسعى في البداية إلى التمييز -وفقًا لقواعد علم الاجتماع السياسي- بين مجمل الأنشطة الإسلامية والحركة الإسلامية، فما نستهدفه في الأسطر القادمة هو تقييم أداء ومستقبل الحركة الإسلامية كظاهرة سوسيوسياسية، وليس الأنشطة الإسلامية المتنوّعة من قبيل الجماعات الروحية والمدارس الفقهية والجمعيات الخيرية وغيرها. ولا شك في أن المسلمين بحاجة ملحة إلى التأسيس لعلم اجتماع سياسي خاص بهم؛ وذلك لأن كل المقاربات السياسية في هذا الحقل جاءت من الغرب وفسّرت وضعياته، وقد ثبت قصورها عن تفسير الراهن الاجتماعي والسياسي في العالم الإسلامي، نظرًا للتباين بين الدول والمجتمعات.
فعندما تكون التفسيرات مبتنية على نظريات منفصلة عن جذورها الاجتماعية، وتعتمد على ما تنتجه العلوم الاجتماعية والسياسية الغربية في مقارها، فهي بالتأكيد لن تتمكّن من قراءة مجتمعها بعين فاحصة، ولن تحوز القدرة على فهم العوامل الأساسية التي تحرّك هذه المجتمعات وتدفع بها للنهوض أو الهدوء. فإن مجمل ما لدينا من نظريات متراكمة لا يكاد يُعرف أساسًا كيف يمكن توظيفها في سياقاتها الاجتماعية، ولذا فإن أغلب التحوّلات التي تجري في العالم العربي والإسلامي، إنما تأتي بغتة، ويتفاجأ الدارسون من حصولها، وكأنها بزغت صدفة ولم تسبقها إرهاصات طويلة ومعقّدة، فالقراءة المستقبلية معدومة نظرًا لغياب النظريات المحايثة للواقع الاجتماعي والسياسي.
تمييزًا لذلك، يُمكن القول: إن «الجماعات الدعوية والثقافية» تستهدف نشر الأفكار والقيم الإسلامية دون أن يكون لديها مشروع لنيل السلطة أو المشاركة فيها. وتُعنى الأنشطة الخيرية بحاجات الذين لا يستطيعون سدّ حاجتهم بأنفسهم سواء كانت تلك الحاجة مادية أو صحية أو تعليمية أو غيرها، وتقوم هذه الأنشطة في الغالب على التبرُّعات والهبات، كما أنها تعمل على فتح مجالات العمل التطوعي للأفراد وذلك لخدمة المجتمع بما يعود عليه بالخير والنفع بدلاً من هدرها فيما لا نفع فيه. فيما تسعى المدارس الدينية إلى نشر العلوم الشرعية، وتوجيه الناس إلى طاعة الرحمن واتّباع سبيل المؤمنين، وتعليم وتأهيل الراغبين في دراسة العلوم الإسلامية، بما يؤهلهم للعمل التبليغي والإرشادي، وهكذا تتوالى بقية المؤسسات والأنشطة.
أما «الحركة الإسلامية» فهي تسعى إلى تقديم معالجات للمشكلات المعاصرة بنظريات واجتهادات ترتكز إلى النصوص والقيم والمبادئ الإسلامية المقدّسة، ولا تستهدف تغيير الأفكار فحسب، وإنما تسعى أيضًا لإنجاز ذلك التغيير على أرض الواقع، فهي تمتلك مشروعًا سياسيًّا يستهدف التغيير السياسي والاجتماعي عبر خطط منظمة، وفقًا لباحثين فإن «الحركة الإسلامية في مفهومها الواسع، تضمّ جميع الأفراد والجماعات التي تسعى لتغيير مجتمعاتها عن طريق اشتقاق أفكارها وبرامجها من الإسلام، وفي حين تختلف هذه الجماعات والأفراد في طرقها ومناهجها وأساليبها وقضاياها الآنية، إلَّا أنها تتّفق على القيمة الإيجابية للإسلام والصلة الوثيقة بين مفاهيمه وقيمه الأساسية والعالم المعاصر، فهي تريد تحويل إطار المرجعية في الحياة العامة إلى مرجعية يكون فيها الإسلام بتفسيراته المختلفة قوة رئيسية في تشكيل هذه الحياة»[4].
طبقًا للبشري فإن الحركة الإسلامية ذات نزعة شمولية تمتدّ إلى كل دوائر المجتمع، ويتّضح ذلك من خلال تعريفه لحركة الإخوان المسلمين بوصفها من كبريات الحركة الإسلامية، بالقول: إن «الحلقة الرئيسية في فكر حسن البنا وموقفه هي «شمول الإسلام» أي الدعوة إلى الإسلام الشامل لكل أوضاع الكون والمجتمع والفرد، والإسلام الجامع لكل أطراف الحياة، أي الإسلام المهيمن على كل أحوال البشر عقيدة وشريعة وسلوكاً»[5].
تمتاز الحركة الإسلامية عمَّا سواها من الجماعات والتكوينات الإسلامية المختلفة، بأنها تسعي دومًا وبصورة مباشرة إلى السلطة السياسية، والسيطرة على الدولة، من أجل تفعيل برنامجها السياسي، والهادف لتطبيق الإسلام وإنفاذ تعاليمه باتّساعها وتنوّعها، وهي بالضرورة تختلف في أساليب عملها بين الاعتدال والتطرّف، وبين العمل السلمي والثوري، وبين المرحلية وحرق المراحل، وهي تسعى نحو «إعادة البناء الاجتماعي من الأساس من أجل انطلاق دورة حضارية إسلامية جديدة... ولا أعني بالضرورة أن الطبيعة الثورية للحركة الإسلامية بعد سقوط الخلافة «العثمانية» تستدعي استخدام القوة في التغيير، وإنما أعني أن التغيير جذري ولو تَمَّ بالتدريج وبالوسائل السلمية، فهو تغيير في طبيعة الدولة ذاتها»[6].
وفقًا لموسوعة علم السياسية لجاسور فقد «انبثق مفهوم الإسلام السياسي الذي نظر إليه البعض من هذه الزاوية التي يسعى من خلالها إلى ممارسة السلطة وإقامة النظام السياسي الإسلامي الذي يرجع في أصوله إلى المجتمع الذي أقامه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة المنورة، وإحياء الخلافة الراشدة، ولكن من خلال حزب سياسي إسلامي له الحق في استخدام كل الوسائل المباحة والجائزة في الصراع السياسي»[7]. فنحن هنا «لا نستطيع أن نطلق كلمة الحركة الإسلامية إلَّا على الحركات التي تضع الدعوة والدولة في برنامجها، إن أية حركة لا تسعى من أجل الحكم أو لا تسعى من أجل شمولية الإسلام لكل الواقع الذي يعيشه الإنسان ليست حركة إسلامية في المصطلح وإن كانت نشاطًا إسلاميًّا في الواقع»[8].
هذا التمييز ضروري لتدارك خلط المفاهيم الشائع عند تناول مسألة الحركة الإسلامية في الدراسات الأكاديمية، فما يُؤخذ على الحركات الاسلامية قد لا يطال بقية الجماعات والتنوّعات الاسلامية بالضرورة، وذلك أن الجماعات الدعوية والثقافية والروحية حقيقة حاضرة في كل المجتمعات والأزمنة، ولا يكاد مجتمع يخلو منها، فهي جزء من تكوين المجتمعات وإرثها الديني والثقافي، وهي قائمة قبل قيام الحركة الإسلامية، ومعها، وستظل حاضرة بحضور الإسلام.
تحرير المفاهيم كضرورة معرفية
من خلال الاطّلاع على الدراسات التي عالجت موضوعة الحركة الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، على اختلاف اهتماماتها وتوجّهاتها السياسية والفكرية، واتّساع رقعتها الجغرافية، وامتدادها الشعبي، نلاحظ حجم الخلط المتكرّر، وربما المتعمّد بين المفهومين، فعلى سبيل المثال نجد أن الكثير من الدراسات تصنّف جماعات العمل الدعوي والخيري كجزء من الحركة الإسلامية، واعتبارها تنظيمًا حركيًّا قائمًا بذاته، بل يتمّ تصنيف الأنشطة الروحية، والطرق والزوايا، والفرق الصوفية، بأنها من جسد الحركة الإسلامية، وغضّ الطرف عن الفروقات البيِّنة بينها.
تسبّب هذا الخلط الذي يفتقر للعلمية، إلى ظهور مشكلتين أساسيتين:
الأولى: تحميل الجماعات الدعوية والخيرية تبعات كل الأخطاء التي وقعت فيها الحركة الإسلامية، وما يستتبعه ذلك من تقييد لأنشطتها وتحجيم لبرامجها دون مبرّر موضوعي، وفي أكثر تجارب الدول العربية تحديدًا، فإن ضريبة الصراع بين الحركة الإسلامية والدولة تدفعها الجماعات غير السياسية، وحين تقرّر الدولة الصدام مع الحركة الإسلامية فإنها في الغالب لا تفرّق بين السياسي منها والدعوي، الطامح للسلطة والعازف عنها، فهي جميعها –في نظر السلطة- حركات مغضوب عليها وتتستر بالعناوين الدينية والخيرية لبرامج وأهداف حزبية، تصنف بالخطيرة.
أما الثانية: فهي صعوبة توجيه نقد علمي لممارسة الحركة الإسلامية، وتحفّظ النقاد والمراقبين حيال ذلك، خشية من اعتبار ذلك نقدًا للدين ذاته وهتكًا لقداسته، أو تثبيطًا للأنشطة الإسلامية الخيرية والعامة، أو توهينًا للفكرة الدينية برمتها، فكل نقد يوجّه إلى الحركة الإسلامية أو أحد قادتها يصنّف فورًا بأنه انتقاد للإسلام ورجالاته، أو أنه يستهدف تقييد الأنشطة الدينية والدعوية والخيرية وغيرها من أنشطة عمومية، وهو أمر غير دقيق، وتصوّر يفتقر للموضوعية.
وعليه، فإن الضرورة العلمية والعملية تفرض هذا التمييز، والحركات الإسلامية التي تدّعي أنها لا تسعى إلى السلطة، وأن أدبياتها خالية من الأهداف السياسية، ولا تطمح للحكم أو للمشاركة فيه، إما أنها لا تمثّل الواقع أو لا تعكس الحقيقة كاملة، فهي إما تطلق ذلك كشعار مرحلي في العمل حتى تتكامل مقومات الدخول في المعترك السياسي، وتصل إلى ما يُسميه منظّري الحركة الإسلامية بـ«مرحلة التمكين» والتي يحين وقتها حال الظهور السياسي التام للحركة، أو أنها تلبّست ثوبًا ليس ثوبها، فهي جماعة دعوية أو خيرية أو تبشيرية، ولكنها أطلقت على نفسها أو أُطلق عليها (تجاوزًا) لسبب أو آخر، مسمّى الحركة الإسلامية.
لا بأس من الإشارة هنا إلى أن هذا الخلط كما يتمّ أحيانًا بدواعٍ تكتيكية من قبل الحركة ذاتها، أو تضليلية كما يجري في الدراسات المستفيضة –الغربية والشرقية- المتعجّلة، فإنه يتمّ أحيانًا أخرى بحسن نيّة نتيجة لطبيعة مسار بناء «الكيان الحركي» الاجتماعي والتاريخي، فالحركة الإسلامية تبدأ في الغالب أنشطتها واهتماماتها الأولية في المساجد والمدارس الدينية، وتظهر من خلال العمل الخيري والروحي التقليدي، ثم تتطوّر شيئًا فشيئًا لتأخذ صيغتها التنظيمية المعروفة، ويتمّ ذلك نتيجة تداعي جملة من العوامل كطبيعة الظروف السياسية والاجتماعية التي تدفع هذه المجموعات للتحوّل الحركي، وتصدّي بعض العلماء والمفكرين نحو تأسيس نظريات العمل والمواجهة مع الواقع الفاسد، لتأخذ تلك الأفكار بالتبلور على شكل برامج واتّفاقات ولقاءات تعمل على صناعة الجسد الحركي.
نلاحظ أيضًا أن شطرًا من الجماعات الدعوية والصوفية والخيرية تنتقل بسبب التحديات التي تعيشها إلى تكوينات حركية كما جرى أبان الاستعمار الأوربي في المغرب العربي، حيث خرجت الحركة الإسلامية من ثوب الجماعات الصوفية، وكذلك انتقال جزء من الجماعة السلفية التقليدية إلى العمل السياسي بعد أن كانت تحرمه على أثر الصراع الدائر في أفغانستان[9]، وعلى العكس من ذلك وجدنا أن شطرًا من الحركات الإسلامية في العراق ودول الخليج انتقلت بعد تحرير العراق إلى جماعات خيرية ودعوية و«مذهبية - تبشيرية» بعد أن أخفقت في الميدان السياسي، فلا يمكن والأمر كذلك إعادة أسباب هذا التزاوج بين المفهومين إلى عنصر واحد، بل يبدو لي أن أغلب المنتمين للحركة الإسلامية لا يفرّقون بين المجال الديني والحركي، ويعدّونه شيئًا واحدًا، بل ويرفضون محاولات التمييز بين الجانبين، وذلك لسببين رئيسين:
الأول: نتيجة لقناعة مترسّخة بأن الإسلام كل لا يتجزأ، وأن هذا التمييز إنما مبعثه نزعة غربية وعلمانية لا تريد الخير للإسلام ولا للمسلمين، فأطروحات الفصل بين الدين والسياسة، والإسلام والدولة كانت ولا تزال محلّ جدل واسع، والإسلاميون بصفة عامة اتخذوا موقفًا معاديًا لهذه الأطروحات لاعتقادهم الجازم بأن «الإسلام دين ودولة»، وتأكيدهم على شمولية الدين، وأنه دين وسياسية واقتصاد وفكر وثقافة وغيره، ولا يمكن حصره أو تأطيره في اتجاه واحد.
الثاني: الخشية من أن يكون الهدف من هذا التمييز هو تفرّد السلطة بالحركة الإسلامية بعد أن تنزع عنها الغطاء الديني؛ إذ إن تعريفها كحركة سياسية تستهدف الوصول إلى السلطة، من شأنه أن يكشف ظهرها أمام أعدائها، فتسهل عملية تصفيتها والقضاء عليها، لا سيما وأن التفاعل الجماهيري معها ودفاعه عنها لم يتمّ إلَّا لكونها إسلامية وعقيدية، ولأن هيكليتها التنظيمية تضمّ عددًا من رجال الدين والدعاة الإسلاميين، وهذه الصلة العقدية بين مجمل الأنشطة تشكّل السور الصلب لحمايتها من سطوة الأنظمة الحاكمة أو التخفيف منها.
ورغم ما يظهر من وجاهة المخاوف سالفة الذكر، إلَّا أنها لا تصمد كثيراً عند مشرط البحث والتحليل العلمي لا سيما في ظل تبدّل الظروف الراهنة، وليس لها مبرّر مع التطوّر السريع في طبيعة الحراك السياسي الذي يعمّ المنطقة، لجهات عدة:
الجهة الأولى: تبرز أهمية التمييز بين المفهومين من ضرورة دراسة عوامل الضعف والقوة التي تمتلكها الحركة الإسلامية في بلدانها، وتفحص إمكاناتها الحقيقية في الساحة السياسية، والتي تؤثّر بشكل مباشر على المهام والأدوار التي يمكن أن تلعبها في ظروف التحوّل؛ إذ كشفت العديد من التحولات الاجتماعية والسياسية أن ادّعاءات الحركة الإسلامية أكبر بكثير من إمكاناتها الفعلية، ومآل الثورات العربية أبلغ من أي إثبات.
الجهة الثانية: إن تمترس الحركة الإسلامية بالمقدس الديني لا يعدّ امتيازًا في كل الظروف، فعلى مستوى الأداء الداخلي تعاني الكثير من الفصائل الحركية من صعوبة إجراء التغييرات الداخلية بسلاسة ويسر، ومن سيطرة بعض الرموز القيادية على مقاليد الحركة لفترات طويلة إن لم تكن أبدية، نتيجة لتراتبية المقدس داخل الحركة بما يعيق من برامج الإصلاح الهيكلي والتنظيم الإداري، أما على مستوى الأداء الخارجي فتعاني بعض الفصائل الحركية من ارتفاع الأسوار الثقافية والفكرية بينها وبين غيرها من الفصائل، إذ يعتبر كل فصيل أن المخزون الثقافي لديه سماوي وتام، بما ينتهي إلى تضخّم الشعور بالحقانية، وانعدام فرص الوحدة والتعاون.
الجهة الثالثة: إن القول بالتمييز بين الحركة الإسلامية والأنشطة المتنوّعة لا يعني البتة ولا يستهدف فصل الدين عن السياسية، ولا إبعاد الدين عن الحياة العامة، ولا يعني هذا التمييز سلب الصفة الإسلامية من الحركة، ولا تجريدها من الشرعية الدينية، وإنما غاية ما ينتهي إليه، هو تحديد هوية الفعل الحركي من جهة، وفسح المجال أمام كافة الإسلاميين غير المنضوين تحت راية الحركة من العمل والنشاط السياسي بصفتهم الفردية، لكونه شأنًا عموميًّا، فتوجّهات الفرد ليست ذات صلة بأنشطته مهما تقدّم الفرد في خطابه ونضاله السياسي.
البشائر الحركية
منذ البدايات الأولى لنشأة الحركات الإسلامية السياسية، في مصر حيث انطلقت جماعة الإخوان المسلمين عام ١٩٢٨م، وفي باكستان مع الجماعة الإسلامية عام ١٩٤١م، والعراق مع حزب الدعوة الإسلامية عام ١٩٥٧م، وغيرها من الحركات والتيارات الإصلاحية، والإسلاميون يبشّرون بأن الإسلام هو الحل، وأنه المخرج الواقعي لكل المشكلات المعاصرة التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية، والمدخل الحقيقي لبسط عدالة السماء على الأرض، وتخليص الإنسان من ألم الاستبداد والسلطوية التي أرهقت كاهلهم، ويستندون في ذلك إلى جملة من النصوص القرآنية والحديثية التي تثبت علو شأن الحكم الديني، وأنه الاختيار الوحيد الذي يلبي احتياجات البشرية ويخلّصها من الشرور.
لكن لا يوضّح الحركيون الإسلاميون في الغالب كيف سيحقّقون تلك البشائر التي يرفعون لافتاتها دومًا، ولا يفصحون عن خططهم التفصيلية لإنجاز ذلك الأمر، بل إن الكثير منهم لا يعتقد أن إثبات ذلك يعدّ شيئًا ملحًّا، أو أنه يحتاج إلى بذل الكثير من الجهد الفكري، وذلك لسببين:
الأول: لطبيعة التحديات الخارجية والداخلية التي تعرّضت لها الدول الإسلامية، وذلك أن نشأة هذه الحركات إنما جاء كردّ فعل على التغريب والوجود الاستعماري في المنطقة، وكذلك على فشل النُّخب العلمانيَّة القوميَّة في الداخل، وبالتالي فإن كل فرد مسلم يحمل في وجدانه الاستعداد الكافي للدفاع عن الهوية الدينية والتصدّي لكل من يتعدّى عليها بشكل تلقائي، فالغيرة والحمية الدينية محرّك رئيس وحيوي حتى لأقل المسلمين تدينًا.
الثاني: للطبيعة العقدية للفرد والمجتمع، وهو أن الفرد المسلم يميل بالضرورة إلى حكم الإسلام، ويخضع بالفطرة إلى تعليماته المقدسة، وهو على هذا الأساس ليس مخيَّرًا بين انتخاب القانون الوضعي أو أن يحكمه أمر الله، فمن لم يرغب في حكم الله هو خارج عن ملة الإسلام، وهو على أحد حالتين: إما مسلم عاصٍ أو مرتد كافر، والمسلمون تحرّكهم العقيدة وهي جزء من موروثهم الثقافي، والحركة الإسلامية تتحرّك تحت تلك اللافتة، وتشكّل نفسها بوصفها جزءًا من هذا العنوان الديني الواسع.
ويميل المسلمون فعلًا إلى حكم الدين، لا سيما بعد أن عانوا من جور السلاطين الظلمة، والفشل المتتالي للأنظمة الوضعية، ويعتقد الكثير منهم أن الإسلام والإسلاميين أكثر حرصًا على حقوق الناس وحفظًا لكرامتهم من الحكومات الوضعية، لا سيما إذا قارب هؤلاء بين واقعهم المتخلّف والصورة التراثية للإسلام المطبّق في عصر النبي الأكرم والمنقول عن سيرة الصالحين، ورعايتهم لأدق الحقوق والمطالب الاجتماعية، وصيانتهم للكرامة الإنسانية، وسعيهم الدائم لتحقيق مصالح العامة وتقديمها على المصالح الخاصة.
لذا يعتقد الكثير من المسلمين أن المتدين في وصفه الأول هو الأكثر عفَّة من غيره؛ لأنه ملتزم بشرع الرحمن وبسيرة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن الإسلامي يسعى بالضرورة لإحراز التقوى في نفسه ومجتمعه وبيئته، قال تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[10]،ويقول تعالي في موضع آخر: {اِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}[11].
ومن كانت هذه صفاته الروحية والأخلاقية لا بد أن يكون الأكثر حرصًا على تجنّب الوقوع في الخطأ، ويستبعد منه السعي لتلبية مصالحه الخاصة على حساب مصالح عامة المجتمع، وتزداد هذه الكمالات عندما يشعر بثقل مسؤولية الإدارة السياسية أو الاجتماعية. وتنقل كتب التراث الكثير من الصور الرومانسية للعلاقة الودودة بين الحاكم والمحكوم في دار المسلمين، بغض النظر عن دقة بعضها، ويركّز الإسلاميون على تلك الصور ويغضون الطرف عن أضدادها، أو يجدون لها تفسيرات وتبريرات بحيث لا تخدش الصورة الجميلة لتطبيقات الإسلام، ويعتقدون بأن الحركة الإسلامية هي الوريث الشرعي لهذه الصورة بكلياتها الراقية.
وقد ساهمت النظريات التي طرحها المرشد المؤسس لجماعة الإخوان المسلمين الشيخ حسن البنا، بدورٍ رئيسٍ في الدمج بين الحركة الإسلامية والإسلام ذاته، فقد رفض البنا اعتبار جماعة الإخوان حزبًا سياسيًّا كبقية الأحزاب، مصرًّا على أن الإخوان جماعة الإسلام، وفي الرسائل يقول البنا: «لسنا حزبًا سياسيًّا.. ولكننا فكرة وعقيدة، ونظام ومنهاج، لا يحدّده موضع ولا يقيّده جنس، ولا يقف دونه حاجز جغرافي، ولا ينتهي بأمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ذلك لأنه نظام رب العالمين، ومنهاج رسوله الأمين.. أصحاب رسول، وحملة رايته من بعده، ورافعو لوائه كما رفعوه، وناشرو لوائه كما نشروه، وحافظو قرآنه كما حفظوه، والمبشّرون بدعوته كما بشّروا، ورحمة الله للعالمين»[12].
في عام ١٩٧٧م أصدر الأستاذ فتحي يكن كتابه المعنون بـ«ماذا يعني انتمائي للإسلام؟» وهو من قسمين، اجتهد في القسم الثاني منه على طرح نظرة تُوحِّد بين الحركة الإسلامية والإسلام، رافضًا التمييز بين الإسلام كدين وبين رؤية الحركة الخاصة واجتهاد قادتها، معتبرًا كل طرق العمل الأخرى لا تمثّل الخط الإسلامي، ويقول: «إن عليَّ أن أدرك حين أنتمي للحركة الإسلامية أن طرائق العمل الإسلامي الأخرى ومنظماته المختلفة، لا تمثّل الخط الإسلامي الأصيل.. وأن واحدة منها لا تلتزم بمنهج الرسول (صلى الله عليه وسلم) التزامًا كاملًا وإن كان بعضها يختلف عن بعضٍ اختلافًا كبيرًا في نسبة الالتزام ومدى جزئيته أو كليته»[13]. وفي عام ١٩٨٤م أصدر كتابه «المتساقطون على طريق الدعوة»[14] هاجم خلاله خصوم الحركة والمختلفين معها من أبنائها، ومثل أغلب كتابته سيطرت أفكار المرشد العام حسن البنا على البنية الفكرية للكتابين.
وعلى هذا المنوال تداعت بقية الأدبيات الحركية للتأكيد على هذا الشمول لمفهوم الحركة الإسلامية، وبعد سنوات قليلة أصبح هذا الفهم من الأمور الثابتة والمستقرة في الذهنية الحركية، حيث يصنّف منتقدوها في الخانة العلمانية أو المعادية لحضور الإسلام في الحياة العامة، وإن لم يكونوا كذلك، وتعدّ هذه القناعة هي من بين أهم الأسباب التي سلبت من فصائل الحركة الإسلامية القدرة على الوحدة أو التعاون الاستراتيجي فيما بينها، على الرغم من تعدّد المشتركات الفكرية والعقدية والحركية، وعلّة بقائها في حالة من التشتت، وتشظّي الحركة الأمّ إلى مجموعات حركية صغيرة كلما مرَّ عليها الزمن، وازدادت التحديات، وذلك لأن كل حركة فيهم تجد أنها التمثيل الحقيقي للإسلام دون الآخرين.
وقد تنبّه العديد من العلماء والمفكّرين إلى خطورة هذا الاعتقاد، وحذّروا من آثاره السلبية، سواء على الحركة الإسلامية ذاتها أو على المشروع الإسلامي ككل، وفي لقائه مع مجلة الشراع اللبنانية يؤكّد الشيخ محمد مهدي شمس الدين أن «أيّة دعوة بأن فئة من المسلمين هي التي تمثّل هذه الحالة -التمسّك بالإسلام- وتريد أن تجدّد للمسلمين إسلامهم، فهذه دعوة مرفوضة مهما كان الحزب أو الحركة التي تقوم بها، ونحن لا نخاف على الحالة الإسلامية في هذه المرحلة، وإنما نخاف عليها من نفسها»[15] معتبرًا أن هذه الاعتقادات والعجز عن التفاهم مع الآخرين وقبولهم «ليست حالة إسلامية، وإنما حالة سياسية متسترة بالإسلام»[16].
فإن كان المسلمون يعتقدون بأن الإسلام شامل لكل مناحي الحياة، فإن ذلك الاعتقاد لا يسري بالضرورة على شمولية الحركة الإسلامية، بل إن قوة الحركة الإسلامية وميزتها أنها أحد أدوات التنظيم والعمل التي تقوم بمهام حيوية وفقًا لاعتقاداتها واجتهادات رجالاتها، وذلك لخدمة المجتمع، فهي ليست ممثّل عن الدين، ولا ناطقًا باسم الإسلام، وإنما هي إلى جانب بقية المؤسسات والجماعات والشخصيات الفكرية والدينية والاجتماعية والسياسية والروحية تخدم مشروع الإسلام، وقد تكون في بعض برامجها ومناهجها موافقة لما يريده الخالق، وربما لا تحرزه.
التحوّل نحو السياسة
وفرت طبيعة الدين الإسلامي للحركة الإسلامية خاصية الانتشار والتغلغل التلقائي في نفوس المسلمين، ولعل ذلك هو السرّ وراء تمدّد وانتشار تيارات الإسلام السياسي بشكل سريع، فغالبية المسلمين يجدون أن الخطاب الإسلامي أقرب لهم من سائر الخطابات الأيديولوجية الأخرى المعادية لثقافتهم ومعتقداتهم ولغتهم، ولا سيما بعد أن تعمّدت الأخيرة تجاهل خصوصية المجتمع الإسلامي من حيث العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية، والتي يتمسّك بها الناس أكثر من الدين ذاته، بينما يحرص الحركيون على الانطلاق من تلك العادات والتقاليد والأعراف وتطويعها لخدمة أهدافهم.
يعتقد الكثير من المسلمين أن إسلامهم قادر على النهوض، وأنه صالح لكل زمان ومكان، أما التخلّف الحاصل فيُعيدونه إلى عوامل داخلية وخارجية أعاقت «العملاق الإسلامي» من الحضور والتمكّن، يقول الشيخ محمد عبدة: «لو رزق الله المسلمين حاكمًا يعرف دينه ويأخذهم بأحكامه لرأيتهم قد نهضوا والقرآن في إحدى اليديْن، وما قرَّرَه الأولون وما اكتشف الآخرون في اليد الأخرى، ذلك لآخرتهم وهذا لدنياهم يُزاحمون الأوربيين فيزحموهم»[17].
كما أن شعبية الخطاب الذي تبنته الحركة الإسلامية في سبعينات وثمانينات القرن المنصرم مكّنتها من الوصول إلى شرائح اجتماعية واسعة، حتى إن الكثير من القضايا الفكرية المعمقة اجتهد كتّابها من الإسلاميين على تبسيطها بالصورة التي تصل إلى أكبر قدر من الشرائح الاجتماعية[18]، أضف لذلك عناية الحركة بانتقاء الأماكن التي يألفها عامة الناس مثل المساجد ودور العبادة إضافة إلى القرى والأحياء الشعبية، وفي الوقت ذاته لم يتأخروا عن المنافسة في ميدان العمل الطلابي واستهداف فئة الشباب في المدارس والجامعات، وكانوا في طليعة المبادرين إلى تأسيس الروابط الطلابية والقوائم الانتخابية والأندية الاجتماعية.
وخلال مسيرتها قدّمت الحركة الإسلامية أو بعض فصائلها على الأقل عددًا من العلماء والمفكرين والدعاة الذين أغنوا الساحة الفكرية بالعديد من الأطروحات الحيوية، وساهموا جديًّا في عملية التغيير التي تنشدها شعوب المنطقة، إذ بدا أن الحركة الإسلامية في هذا المفصل الزمني كانت سبَّاقة على مستوى الفكرة والحركة معًا، لا سيما حين بادر علماؤها إلى الطرح العلمي والمناقشات الفكرية والفلسفية الساخنة في وقتها، فاستمالت الحركة الإسلامية العديد من المتعلّمين والمثقّفين عوضًا عن عامة الناس، وخلال سنوات قليلة وجدت الحركة الإسلامية نفسها الحاضن الأول للشعوب المسلمة، والأكثر قدرةً على التأثير في الحياة العامة والالتصاق بهموم الجماهير.
فمفاهيم البعث والتجديد والإحياء التي سوّقت لها الحركة تعدّ جزءًا أصيلًا من متبنياتها الحركية، وكذلك عنايتها بعدد من القضايا التي مثّلت ضرورة في وقتها، مثل الحث على تلقي الشباب للعلوم الدينية المواكبة لحاجات العصر الراهن، والسعي إلى تفعيل مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنظور حضاري، ودفع الشعوب نحو النضال دفاعًا عن الحقوق العامة والخاصة، وحمل هموم الإصلاح الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، والروح النضالية والتي تمظهرت بسيل انتقاداتها الموجّهة إلى الدولة والحكومات وتحميلها مسؤولية الإخلال في حق الشعوب المسلمة.
هذه المفردات وإن بدت بعضها اليوم مستهلكة إلَّا أنها مثّلت في وقتها مطلبًا وحاجة ملحّة للمجتمع المسلم، وقدّمت مساهمة بالغة في جذب الأنصار إليها وتفاعل الناس معها؛ وذلك لأن الكثير من هذه الأفكار كان لها قابلية التطوّر مع مرور الزمن، وتبشّر بمستقبل أفضل حال ما توفّرت لها فسحة التطبيق على الأرض، ومن بينها مفاهيم تنتمي لزمن التحدّي، وتحوز على إعجاب الجماهير، مثل قضايا المشاركة السياسية، والإصلاح الاجتماعي والثقافي، وسبل مواجهة الاستبداد، وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله، وغيرها من الأطروحات التي قاربها بعض قادة الحركة الإسلامية بالكثير من التفصيل.
إن مكمن قوة الحركة الإسلامية آنذاك يتلخّص في أن المرجعية التي استندت إليها عند انطلاقتها كانت في الغالب داخلية ودينية متوافقة مع البيئة التي تتحرّك فيها وإن لم تمالئها، وتعبّر عن اجتهاد يستند في الغالب إلى النصوص الدينية، وتوجّهت جهودها في المجمل إلى إصلاح شأن الأمة في شتى جوانبها، وبدا أن الكثير من أطروحاتها في لحظة ما سابقة لواقع المجتمع فكانت طلائعية في اهتماماتها وريادة أفكارها، كما نلاحظ أن الحركة آنذاك كانت إلى حدٍّ ما متصالحة مع اجتهادات العلماء والمفكرين النهضويين، وإن لم يكن هؤلاء فعلًا جزءًا من تكوينها التنظيمي.
من جهة أخرى، لا يمكن غضّ النظر عن دور القمع والإقصاء الذي تعرّضت له الحركة الإسلامية من قبل الأنظمة الحاكمة في تكثيف تفاعل الناس معها، فهم يتفاعلون تلقائيًّا مع المظلوم والشهيد، وهذا تحديدًا ما جرى مع الحركة الإسلامية التي استفادت من ظروف القمع والمنع في إقبال الناس للتعرّف عليها والتعاطف معها والتفاعل مع قادتها والاطّلاع على إصداراتها، وخلال فترة السبعينات والثمانينات، وفي أسوأ مراحل المنع والمصادرة، كان الكرّاس والكاسيت الإسلامي والحركي ينتشر في أغلب الدول الإسلامية والعربية بشكل واسع، متخطيًا ظروف وأساليب المنع الرسمية.
ولو تعاطت الأنظمة مع الاعتراضات والرأي الآخر بسياسات استيعابية، فلربما مال الكثير من الفاعلين الإسلاميين إلى اعتبار المطالبات جزءًا من الحراك المدني الطبيعي داخل المجتمع، ولتفاعل الكثير من أفراد المجتمع مع الوضع بصورة مختلفة، لكن حين لجأت الأنظمة إلى استخدام القوة المفرطة، وإنفاذ سياسة العنف والإقصاء، لم يجد النشطاء بدًّا من تنظيم مطالبهم في أطر حركية، فتحوّلت الأفعال السياسية المعتادة إلى أنشطة جمعية منظمة، وأصبح الهم (السياسي - التغييري) و (السعي للسلطة) جزءًا من منظومة العمل الأساسية في النشاط السياسي الإسلامي.
يشير المرحوم الغزالي في كتابه «من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي الحديث» إلى تأثير ظروف القمع في تحفيز العمل الحركي وتقوية المنظومة الحزبية، وهو على عكس ما سعت إليه الأنظمة، فيقول: إن «الأحزاب المناوئة للحكام عندما تفقد نعمة العلانية في التنفيس عن رغباتها والإبانة عن مقاصدها وغاياتها لا ترى بُدًّا من جمع فلولها في الظلام، ونشر تعاليمها في شكل رسائل أو منشورات مقتضبةٍ حاسمة، والوسيلة الوحيدة عندهم هي المقاومة السرية، حيث يتلقّى الأتباع الأوامر الصادرة من فوق على أنها نصوص واجبة الطاعة لا مجال البتةَ لمناقشتها أو التملّص منها»[19].
في مسارها التنازلي
لم تكن الحركة الإسلامية، لا سياسيًّا ولا فكريًّا، في أحسن حالاتها خلال الوقت الراهن، فهي عند لحظة انطلاقتها استطاعت بكل اقتدار أن تتناغم مع التحديات القائمة، وتحرز مكانة هامّة وسط تلاطم أمواج الحراك السياسي الذي عمَّ دول المنطقة، غير أن الموضوع ليس بهذا الجمال الذي يبدو عليه، فالتجارب العديدة للإسلاميين غيّرت من هذا الاعتقاد، أو قلّلت من بريقه إلى حدٍّ كبيرِ، فقد وجد الراصدون لحراك الفصائل الإسلامية، أن بعض الإسلاميين كغيرهم ينافسون على مكاسب الدنيا، ويستغرقون في صراعات جانبية مع إسلاميين أمثالهم فضلًا عن غيرهم، ويلجأ بعضهم لتصفية خصومهم إن اعترضوا مسارهم.
ولم يثبت الكثير منهم أنه أكثر حرصًا على حرية الناس وبسط العدالة التي ينادون بها، فالرأي الآخر يتمّ التعامل معه في الغالب بالكثير من التشدّد وضيق النفس داخل الأطر الحزبية، ولا تتردد بعض الفصائل عن وصف المختلفين معها بالكفر أو الانحراف، لا لكونهم اقترفوا كبيرة من الكبائر، ولا لأنهم تورّطوا في ارتكاب جرم لا يُغتفر في حق الإنسانية والوطن المشترك، بل لأنهم خالفوا تعاليم المرشد العام، أو خرجوا على أوامر مفتي الجماعة، أو لم يتَّفقوا مع هذه الحركة أو تلك في سلّم الأولويات والمهام التي أقرتها.
في سنوات لاحقة بدا جليًّا أن ثمة نزوعًا داخل أروقة الحركة الإسلامية يتَّجه إلى رفض استغلال الإسلام للوصول إلى مكاسب ذاتية، والاعتراض على حصول بعض الحركيين على امتيازات باسم الحركة، فمن أبرز علامات الاستفهام التي أثيرت داخل أروقة الحركات الإسلامية، والتي تسبّبت في تشظّي العديد منها إلى جماعات وأحزاب صغيرة هي علّة تحوّل أبناء القادة إلى قادة دون مؤهّلات تذكر؟ وكأن الحركة الإسلامية تحوّلت من «مشروع إصلاحي» إلى «إرث حركي» أو شيء من هذا القبيل، وتكاثرت الأسئلة عن السبب الذي يبرّر ذهاب أغلب الامتيازات السياسية والمالية والاجتماعية إلى أرحام وأقرباء القادة أو الرموز الحركية، فيما يظلّ بقية المناضلين جنودًا في الخنادق المغلقة والمظلمة؟
ظلّت هذه الإشكاليات تتداول بنطاق ضيّق، وأحيانًا في زوايا الغرف المغلقة، نظرًا لكون أغلب الفصائل الحركية تتحرّك خارج إطار السلطة والحكم، فتُحمَّل بعض أخطائها على الظروف الأمنية التي تعيشها الحركة الإسلامية، أو اعتبار تلك الادّعاءات فاقدة للمصداقية من الأساس، ويمكن عدّها مجرّد سلّة من «الاتهامات المغرضة» والتي ترد من خصوم الحركة الإسلامية وأعدائها والمتضرّرين منها، بغية النيل منها ومن قادتها نتيجة لاشتداد المعارك بين الإسلاميين وغيرهم، وبدا أن هذه المبررات والأعذار كانت من أشد أدوات تهميش الرأي الآخر والحد من الحركة النقدية داخل الحركة.
غير أن دخول بعض فصائل الحركة الإسلامية في تفاصيل العمل السياسي اليومي بقوة، ووصول بعض التنظيمات إلى سدّة الحكم في عدد من الدول، ومشاركتها السياسية في دول أخرى، والآثار التي ترتّبت على تصادم تيارات الإسلام السياسي مع بقية القوى المنافسة، وما أعقبه من تخفّف عدد من المفكرين والفقهاء من الانتماء الحزبي لاعتبارات عدة، من بينها النأي بالنفس عن التورط في الأخطاء التي وقعت فيها تلك الفصائل الحركية، كل ذلك أدّى إلى نشوء مخاوف حقيقية عند شريحة لا بأس بها من المجتمع.
وقد انتهت تلك المخاوف إلى تراجع ملحوظ في بريق الحركة الإسلامية، وتزايد علامات الاستفهام حول صلاحيتها فعلًا للحكم وتسلّم زمام الإدارة السياسية، حيث برز السؤال التالي بقوة على السطح: ما الفرق بين حكم المناضلين الإسلاميين وبين حكم غيرهم؟ وما هي مميّزات الحكم الإسلامي إن كان سيقمع الرأي الآخر ويضيق ذرعًا به، ويُقصي المرأة أو يهمّش دورها ومكانتها، ويُضيِّق مساحة الحريات العامة، وينتهك العدالة بتقديم أبناء الجماعة على غيرهم؟.
وكما كان للحداثة دور في تطوير نظرة الشعوب لأنفسهم، ورفع درجة الوعي العام بحقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتّصالهم الكوني مع العالم الآخر بكل ما يكتنزه من اعتزاز بالذات وتأكيدًا لوجودها، فإنها لعبت دورًا معاكسًا على مكانة الحركة الإسلامية وقادتها، فقد وضعتهم جميعًا (المحافظ والإصلاحي، المتسامح والمتشدّد) تحت مجهر النقد والتقييم، ولم يعد للخطاب الحركي الوهج ذاته الذي أحرزه منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، وعلة ذلك التحوّل يكمن في طبيعة التحديات التي تعرّضت لها الامة والتي كانت من طبيعة مغايرة تمامًا، وصادمة أحيانًا للعقل الإسلامي قبل غيره.
وهي تحوّلات عميقة تتّصل بعلاقة الدين بالحياة، والأخلاق بالتقنية، وموقع التراث في المدنية الحديثة، ما يعني أننا أمام تصوّرات جديدة تمامًا تتجاوز الكثير من الأطروحات التي اعتاد الإسلاميون خوض غمارها، وثبت قدرتها على اختراق عقول الأجيال المسلمة، حتى إنها اخترقت عقل الإسلاميين أنفسهم، وأثّرت في وعي وقناعات الكثير من القيادات الحركية والعلمائية، وقد استبطنت هذه التحوّلات نقاشات عميقة طالت البحث عن مدى أصالة الفكر الذي يحملونه، وعن قابليته للتطبيق في عالم مختلف عن زمن ولادته.
إن متتالية الإشكالات الفكرية والعقدية التي بدأت تطرح نظريات بديلة للكون والحياة أخذت بالاتساع، والجديد في هذه الأطروحات أن الحامل لها لم يعد الكراسات الفكرية، ولم تظل حلقة دورانها تقتنع بقاعات البحث العلمي في الجامعات وأروقة الكليات العلمية، ولا في معاهد الدراسات ومراكز الأبحاث، وإنما يحملها الأثير عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى كل فرد من أفراد الأسرة والمجتمع، وهو الأمر الذي غيَّر من درجة الصراع، وتغيّر معه وعي الأمة بذاتها، وتطوّرت طبيعة الأسئلة التي تلقي بنفسها على الإسلاميين، وتنتظر منهم إجابات مقنعة، دون أن تحصل عليها، نظرًا للجمود في التركيبة الفكرية والبنيوية والهيكلية داخل الحركة في سنواتها المتأخرة.
معادلة الفكر والحركة
وعلى عكس حقبة الميلاد الحركي، يظهر أن الحركة الإسلامية كلّما تقدّم الزمن بها كانت تقدّم القليل من المفكرين وعشرات الآلاف من المناضلين والثوريين، وهي في مسيرتها المتأخّرة لم تعتنِ بإيجاد وتوليد المفكرين المسلحين بالعدة المعرفية والعلمية لمواجهة التحديات الفكرية، وإنما انصبت جهودها على استقطاب الجنود الحركيين والمناضلين الذين يتكرّس دورهم في الدفاع عن الحركة وقادتها وأفكارها، ومن الفئة التي تتحلّى بأعلى مراتب الالتزام بالتعليمات الحركية، والذين لا يلامسون الفكر والتجديد إلَّا بشكل خجول يقع ضمن ضوابط حركية مسبقة، من أهم شروطها أَلَّا يخدش التجديد بفكر القائد، ولا يخرج عن سياق الأهداف التي استقرت عليها الحركة، ولا يخلّ بأولوياتها الحركية، فهو تجديد مشروط، وتطوّر بفرض المماثلة.
ويعرض مقال نقدي للدكتور أحمد الريسوني هذه الإشكالية بالتفصيل التالي «سار للحركة الإسلامية فكر وتنظير فكري وإنتاج فكري، لكنه فكر في خدمة الحركة ومتطلّبات المعركة، فكر يدافع عن خط الحركة وعن مواقف الحركة وعن تعليمات الحركة وعن اختيارات الحركة وعن مصلحة الحركة. فكر يواجه ما هو يومي وينهمك فيما هو آني، وينضبط للتوجيهات والتعليمات والمتطلّبات. فهذا هو «فكر الحركة»، وهو في الحقيقة أقرب إلى ما يسمى -بصفة عامة- بالفكر الحزبي أو العقلية الحزبية. وفكر الحركة بهذا المعنى هو فكر موجّه وتابع ومقيد، سواء في قضاياه وموضوعاته أو في مواقفه واختياراته»[20].
وقد انتهى هذا الوضع إلى خلخلة الكثير من الأفكار التي كانت تعدّ من المسلّمات، فالانغماس في الفعل السياسي وتضاؤل الاهتمام بالمسائل الفكرية ألقى ظلاله على جودة العمل الإسلامي وكثرة وقوعه في أخطاء قاتلة، لا سيما مع تهالك اللوائح الداخلية للحركة الإسلامية، فهي وفقًا لرأي عدد من المفكرين والباحثين «لا تتناسب مع الأوضاع الحالية، وتحوّل عناصر التنظيم لمجرّد أدوات تسمع وتطيع دون وعي أو إدراك لمجريات الأمور. وهي في الغالب لا تحمل رؤية تستشرف الواقع أو المستقبل، وإنما يقتصر هواها على بطانة تخون كل من يختلف مع توجهاتها ورؤيتها وأفكارها، وأنها أصبحت بعيدة تمامًا عن أي نقد أو تقييم لذاتها ولقادتها»[21].
ومن المعروف أن الضوابط المسبقة على الفكر لا يمكن ان تحرّر فكرًا حرًّا، بل خلاصة ما يمكن أن تقدّمه هو إعادة إنتاج الفكر السائد بحلة مستحدثة، إنتاج لا يصنع راهنًا متميّزًا ولا يثمر جديدًا؛ لذا فإن ما لدينا من مخزون ثقافي للحركة يمكن تصنيفه على نحوين:
الأول: الإنتاج الفكري الذي وضعه جملة من المفكرين ممّن يحقّ وصف إنتاجهم بالفكر والإبداع، والذي ساهم في شقّ الطريق لتقدّم الحركة الإسلامية وإنجازاتها في زمن سابق نظرًا لتلاؤمه مع احتياجات عصرهم، بعض هؤلاء كان منتسبًا إلى الحركة وبعضهم استفادت الحركة من إنتاجهم.
والثاني: الإنتاج الثقافي المتفرّع عن إنتاج فكر الأوائل، وأغلبه لا يعدو كونه تفريعات وشروحات فائدته إعلامية وتعبوية ولا يمكن عدّه إسهامًا فكريًّا يؤخذ به في حلّ المشكلات العصرية.
حتى في الحركات التي ضمّت عددًا من الكتّاب والأكاديميين، الذين كان من المتوقّع أن يساهموا في حركة التجديد الفكري، بقوا في الغالب أسرى للأطر والضوابط الحركية، ولم يكن دورهم أكثر من إعادة إنتاج ما يقوله القادة، أو تلخيصه، أو الاجتهاد في تفسيره، أو بذل الجهد للتعريف بفكره، فالمثقف الحركي يدور في فلك الزعيم ولا يخرج عن السياق العام لأفكاره ورؤاه النادرة بنظره، وبالمجمل تُكثِّف المؤسسة الحركية من الإشادة بالأفراد المطيعين في الحركة الإسلامية (النُّساخ) وتصفهم بالثبات والولاء، ويتلقّون عناية خاصة بهم من قبل القادة، بينما تتوجّه بالذم إلى الأفراد الذين يمتلكون حسًّا نقديًّا صارمًا، وإلى من كانت لديهم نزعة تجديدية مخالفة لفكر القيادة الحركية، ويتمّ تجاهل جهودهم الفكرية، أو محاربتها وتنفير الأتباع منها.
وبعد أن كانت الحركة الإسلامية حاضن المجددين المجتهدين في المجتمع الإسلامي، أصبح هؤلاء مضطّرون للبحث عن أقرب فرصة للتخلّص من قيود الحركة، والانفكاك من الروابط التنظيمية، حتى يحافظوا على قدرتهم الإنتاجية واستقلاليتهم الفكرية، فأصبح لدينا مفكرون وصناع أفكار مبدعون ولكنهم مغمورون بين طيّات الكتب والأبحاث العلمية، وحركات إسلامية خالية من أصحاب الفكر ودعاة التجديد، وهي نتيجة متوقّعة في ظل تقدّم قيم الطاعة على الحرية الفكرية.
وقد لاحظ الريسوني «أن معظم هذه الحركات -إن لم تكن كلّها- قد ركّزت على تكوين الدعاة المجادلين والجنود المجالدين والمجاهدين المضحّين، ولم تركّز على تكوين العلماء والمفكرين والباحثين. وإنما ظهر من ظهر من هؤلاء في صفوفها عرضًا إن لم نقل خطأ. وهكذا تشكّلت الحركات الإسلامية في قياداتها وصفوفها واهتماماتها وأولوياتها على أساس هموم الدعوة والتربية العملية، وعلى أساس الجهاد والجندية وما يتطلّب ذلك من بذل وتضحية»[22].
أنتجت هذه الوضعيات داخل الحركة الإسلامية كوادر حركية نشطة وميدانية ولكن فاعليتهم الفكرية محدودة وهامشية، ولا أدلّ على ذلك أن العديد منهم يخدمون الأفكار التي يعارضونها من حيث لا يشعرون، ويستجيبون للصراعات الثانوية على الرغم من صفتهم كطلائع مؤثرة، والأنكى من ذلك تنامي ظاهرة عزوف العديد من الفصائل الحركية عن أطروحاتها التجديدية للفكر الإسلامي واستجابتها لإملاءات الممارسات الخرافية والشعبية التي كانت تنتقدها وتعمل على تنقية الثقافة الإسلامية منها، وكل ذلك بهدف دغدغة عواطف الجماهير، وجلب الأنصار، وتمَّ ذلك على حساب خطاب الأفكار والدراسات والخطط، فتزايدت أعداد النصوصيين داخل الحركة، وتراجعت أعداد العقلانيين.
لم تكن الأسئلة والملاحظات سالفة الذكر تنمّ عن رفضٍ للدين وقيمه العليا، بل عبّرت عن استياء حقيقي ومتفاقم من نشوء الاستبداد بغطاء مقدّس، ومن استمرار الفساد السياسي بثوب ديني، فبغضّ النظر عن العناوين المستخدمة، فإن المجتمعات المسلمة اليوم لا تعنيها العناوين بقدر ما تنشد العيش الآمن، والحياة الكريمة، والتوزيع العادل للثروات الوطنية، والمشاركة في الحكم والإدارة مثل بقية الشعوب المتقدّمة، فإذا انعدم كل ذلك، فليس ثمة فرق لديهم بين أن يكون الحاكم قائد الشرطة أو إمام الجامع، ملكًا أو داعية، حليقًا أو ملتحيًا. والاعتراض هنا ليس على حكم الإسلام وتصوّراته وقيمه، وإنما على حكم الإسلاميين وتغليف الاستبداد والفساد بعناوين دينية وأوامر مقدّسة.
الإسلاميون ما بعد الثورات
ولم يَطل العهد قبل أن يطلّ عصر الثورات، وبروز حركات العنف التي تحرّكت جميعها باسم الإسلام وشعاراته، واتّخذت من «مشروع الخلافة» هدفًا عملانيًّا تسعى لتحقيقه على الأرض، واضطرّ الإسلاميون للانتقال من دور توجيه المجتمع إلى مواجهة الأسئلة الإشكالية التي يطرحها الناس على الحركة وكوادرها، وهو ما أوقع الحركة الإسلامية ورجالاتها في فخّ الجهود الحثيثة لتبرير الموقف الإسلامي وتنقية ثوبه ممّا علق به من تُهم وملاحظات، والسعي لإثبات براءتهم من عمليات القتل والعنف الجارية، والتأكيد على صفتها كجناح معتدل في الإسلام، وأنها لا تقبل بالعنف ولا تصنّف ضمن جماعاته واختياراته.
وممّا لا شك فيه أن التبرؤ من العنف وأصحابه لا يحتاج إلى الكثير من الجهد عند الجماعات الإسلامية المعتدلة، لكن سلوك العنف في الوقت ذاته تسبّب في وضع الكثير من المفاهيم والمقولات الإسلامية المشتركة تحت مجهر البحث والتقييم، لا سيما وأن الجماعات الموصوفة بالإسلامية تحتلّ المشهد الأكثر شراسة في سوح المواجهة، وقد توضّح ذلك من خلال الأحداث التي شهدها لبنان ومصر وبعض دول الخليج، وفي كلٍّ من العراق وسوريا سيطرت جماعات العنف الإسلامية حتى وقت قريب على مساحة واسعة من الأرض، ونادوا ببسط سلطان الدولة الإسلامية.
وفي ضوء تسييس الدين وأنشطته وبرامجه، أصبح الإسلام نفسه في موضع الاتّهام، وصنّف بأنه دين يشرعن العنف أو لا أقلَّ يُغذّي مثل هذه التوجّهات من خلال بعض تعالميه وتراثه وإرشاداته الفقهية والعقدية، لا أقلَّ من باب التَّصيُّد، وكمحاولة لتشويه صورة الإسلاميين ككل، «ولا نخال أحدًا يجهل أن ثمّة كثيرون جاهزون لتصيّد أخطاء هذه الحركات للنيل من الإسلام وتأليب الرأي العام ضدّه، وليس تقديمه من قبل بعض الأوساط الغربية بوصفه عقيدة معادية للتسامح والحرية، وداعية للعنف والشمولية، إلَّا واحدة من علامات ما يبيّت له باستغلال هفوات الإسلاميين»[23].
تبدو المعضلة في كون الثقافة الدينية والاجتماعية لعدد من فصائل الحركة الإسلامية أسّست لمعيارية صارمة في تحديد الصواب والخطأ، واعتبرت التباين العقدي أو الفقهي «إجازة شرعية» لوصم الآخر بالكفر والشرك وطرد المختلف وإقصائه من الساحة، هذه المعيارية سيطرت أيضًا على الخطاب السائد في الجامع والكتاب المدرسي والإعلام الديني والتي لا تكاد تختلف كثيرًا عن المعايير التي تنتجها الجماعات المتطرّفة والقاتلة في شتّى أنحاء العالم العربي والإسلامي، الأمر الذي ينتهي إلى الاعتقاد بأن جماعات التطرّف إنما هي حصيلة الثقافة الاجتماعية والدينية والسياسية، وليست كائنًا غريبًا عنه، فهي بضاعتنا التي ردّت الينا.
مع وصول بعض القطاعات الإسلامية إلى السلطة ازدادت حدّة الهلع في العالم العربي، فقد دبّ القلق في أوساط عديدة خشية من التغيّرات التي ربّما تطال الديناميات الاجتماعية وتهدّد الهويات الثقافية، لا سيما حين تقدّمت الصفوفَ الجماعاتُ المتشدّدة التي لا تعترف بمبادئ العمل السياسي، ولا تمتلك الخبرة اللازمة للتعاطي مع القوى الاجتماعية المختلفة معها، بل وتعتبر الاختلاف من صنوف الانحراف والخروج عن ملّة الإسلام، وهو ما يستوجب بنظرهم عقاب المجتمع أو بعض شرائحه لموقفهم المعادي للإسلام، وعزّز من تلك المخاوف أن كتابات بعض الإسلاميين قد ذهبت إلى تقويض المجتمع من الأساس، طالما لم ينضبط بضوابط الإسلام.
لا شك في أن هذه الإشكالات وأشباهها قابلة للردّ؛ إذ لا يمكن إطلاق تعميمات ضدّ كل فصائل الحركة الإسلامية، وقذفهم باتّهام واحد، فهم مثل غيرهم من الجماعات والتيارات تضمّ المعتدل والمتطرّف، المتسامح والمتشدّد، غير أن الإسلاميين في المقابل قصّروا خلال مسيرتهم الحركية في تبديد المخاوف التي رافقت دخولهم إلى الحقل السياسي، وكان من الواضح أن مجرّد الادّعاء بوجود إجابات وضمانات لم يعد كافيًا عند الجمهور، كما هو الأمر في السابق، نظرًا إلى تطوّر المحدّدات السياسية والاجتماعية والتي لم تعد ذات طابع محلي خالص، بل أصبحت المؤثرات الخارجية ذات حضور ضاغط على الداخل.
فمفهوم «العودة إلى دولة الخلافة»، التي تنادي به جلّ الحركات الإسلامية، لم يعد ينظر إليه بالبراءة ذاتها التي كان ينظر له في السابق بعد أن تبنّته جماعات العنف، وأعلنت ثلاثية: «الخليفة – الخلافة – الدولة»، ورفعت شعار «شمولية الإسلام - دين ودولة - عقيدة وشريعة»، حيث وجد الناس أن العودة إلى الخلافة حين التطبيق لا تعدو كونها إعلان سفك لدماء الأبرياء، وهتك للمنجز الحضاري والتاريخي للشعوب، وعودة إلى الوراء بل إلى ما قبل ذلك، فالصورة هنا هي الصورة المتخيلة ذاتها بما جرى في أفغانستان والجزائر والعراق وسوريا أو غيرها من البلدان التي اكتوت بنار جماعات نادت باستعادة الخلافة، فأغرقت البلاد بدماء الابرياء.
ومثله شعار «الإسلام هو الحل» الذي تبنّته جماعة الإخوان المسلمون، وانتشر في أدبيات العديد من الحركات الإسلامية، ولاقي قبولًا منقطع النظير على المستوى الشعبي، إلَّا أنه اليوم يواجه بالكثير من علامات الاستفهام والارتياب، لا سيما بعد فشل تجربة الإخوان المسلمين في قيادة الدولة المصرية، وعزوف الإسلاميون عن وضع رؤية تفصيلية للحل الإسلامي الموعود، وتباطؤهم في تحديد خارطة طريق واضحة المعالم «للمشروع الإسلامي».
فقد كانت خارطة الإصلاح عند الحركة الإسلامية كما بيَّنها المرشد العام الراحل حسن البنا وتبنّتها بقية الفصائل والقوى الحركية الأخرى فيما بعد، تبدأ بالفرد ثم الأسرة ثم المجتمع وتنتهي بإصلاح السلطة، لكن ليس بالضرورة أن خارطة الطريق الجديدة سوف تسير دومًا بهذه الانسيابية التي تحدّث عنها البنا ضمن سياقات اجتماعية وسياسية مختلفة، لا سيما وأن بعض الحركات بدأت مشروعها بالثورة قبل أن تمارس التربية وفقًا لرؤية حركية تتبنّي سياسة حرق المراحل، وقد وجدنا أن مرحلة السيد قطب وهي محايثة لمرحلة البنا عزفت عن هذه المرحلية المصفوفة.
وفي العراق حيث نادت الحركات الإسلامية آنذاك بـ«الحل الإسلامي» وبشّرت بالمشروع السياسي البديل عن نظام حكم البعث البائد، وطرحت الأفكار والنظريات التغييرية العملاقة، حتى تعلّق الشعب العراقي بالوعود البراقة، والشعارات الإصلاحية، وانتظر إنجازها على أحرّ من الجمر، ولكن بعد سقوط النظام لم تكشف أيٌّ من تلك الحركات عن برنامج سياسي مبتكر، ولم تثبت تجربتها أنها قادرة على وضع حلول لمشكلات العراق المتراكمة بفعل سنوات القهر والاستبداد والقهر، وفشلت في إقامة دولة العدالة والتنمية والكفاءة، وتحوّل العراق إلى دولة فاشلة وفاسدة، حيث تورّط الكثير من قادة الحركة الإسلامية العراقية في تفاقم الأزمات السياسية الداخلية، فيما اضطرّ آخرون لاعتزال العمل السياسي برمّته بعد أن كشف الواقع رداءة نظرياتهم، وتخلّف أطروحاتهم الفكرية والسياسية عن الواقع العملي.
مراجعات اللحظة الأخيرة
جاءت الأحداث المتسارعة خلال العقدين الأخيرين لتطيح بالكثير من النظريات والبراديغمات السياسية والاجتماعية، وتؤكّد عبثية استمرار الحركة الإسلامية على المناهج القديمة ذاتها في العمل والتفكير، وقد تزامن ذلك مع انتشار وسائل صنع القرار الديمقراطي[24]، وشعور الفرد المسلم بأنه قادر على التعبير عن رأيه والمشاركة في الحياة العامة دون الحاجة إلى وسائط حركية أو حزبية، وهو ما دفع قطاعات وازنة من الإسلاميين لصياغة مسارات جديدة مستقلّة سواء على مستوى النظرية أو المبادرات العملية تسير بموازاة المسار المركزي للحركة الإسلامية.
وبلحاظ أن أغلب الحركات الإسلامية قد تباطأت دورتها الفكرية، وهي اليوم أمام مفرق تاريخي هامّ، فإنها سوف تكشف حسب تعاطيها معه عن قدرتها على الاستمرار أو التآكل والفشل في أداء رسالتها المعلنة، ومهامها التي نذرت نفسها لتحقيقها، ومن جملة المراجعات التي ينبغي على الحركة القيام بها:
1. مقاربة التنمية بدلًا من مقاربة الهوية: لعل أبرز معضلة واجهت ولا تزال تواجه الحركة الإسلامية اليوم هو عجزها عن إيجاد علاقة تمايز بين الوظيفة الدعوية والوظيفة السياسية، وعدم تعيين هويتها بكونها جماعة «دينية – دعوية» أم تنظيم «مدني – سياسي» خاصة بعد تحرّر الجيل الحركي الجديد من الأطر التنظيمية السائدة، وتوثّبه مع جيل الشباب إلى واجهة الأحداث بعد إطلالة الربيع العربي، ولا بد أن نعترف أن أمام هذا التحديد الكثير من المشاق والصعوبات، إذ يعتقد الكثير من الحركيين أن هذا التمييز من شأنه أن يجرّد الحركة من الثوب الديني الذي يعتبر تذكرة قبول شعبي لها.
إن أغلب فصائل الحركة الإسلامية انطلقت -كما مر في الأسطر السابقة- من المساجد ودور العبادة، فالتمازج بين الدورين جاء في سياقه الطبيعي بما يمكّننا من القول: إن أكثر أبناء الحركة لا يكادون يدركون أهمية هذا التمييز أو ضروراته، إلَّا أن استمراره فيه من الخطر الكثير، وهو خطر الخلط بين دور التوجيه الديني والسياسة العملية، والقلق من نزوع الحركة السياسية إلى تغيير أفكار الناس وبسط يدها على معتقداتهم وشعائرهم الدينية عند لحظة التمكّن السياسي، بما يحوّلها إلى سلطة قهرية لا تفرّق بين الانتماء إلى الإسلام والانتماء إلى الرؤية السياسية التي تتبنّاها الحركة، وقد تنبّهت لذلك مؤخرًا حركة النهضة في تونس، والذي أعلن زعيمها الشيخ راشد الغنوشي أن النهضة تطوّرت من السبعينات إلى اليوم من حركة عقدية إلى حزب ديمقراطي وطني مسلم متفرّغ للعمل السياسي بمرجعية وطنية تنهل من قيم الإسلام، ملتزمة بمقتضيات الدستور وروح العصر، مؤكدًا أن التخصّص الوظيفي بين السياسي وبقية المجالات المجتمعية (ومنها الدعوة)، ليس قرارًا مسقطًا أو رضوخًا لإكراهات ظرفية، بل هو تتويج لمسار تاريخي، يهدف إلى تحييد المساجد عن خصومات السياسة وعن التوظيف الحزبي[25].
2. إحياء التجديد بمحور التفكير: نستطيع أن نقرّر سلفًا صعوبة تصوّر حركة لا فكر لها، ولكن الواقع يخبرنا أن غياب المفكرين في الحركة الإسلامية أصبح أمرًا ظاهرًا لكل المراقبين، حيث عجزت معظم الفصائل عن تأمين مسارات عمل لهؤلاء المفكرين سواء داخل الحركة أو من خلال الاستفادة من الإنتاج الفكري الرصين من خارجها، ويبدو أن انشغال الحركة الإسلامية بتمتين الجسد التنظيمي كان له بالغ الأثر في الأفول الفكري، ولا شك في أن قوة الحركة الإسلامية لا تنحصر في قدراتها التنظيمية فقط، وإنما تتمثّل في امتلاكها «نظرية متكاملة في التغيير» مدعومة بتنظيم يخدم هذه النظرية.
والمسألة الفكرية لا تكفي معها الشعارات العامة ولا الخطابات العاطفية ولا تنمو في ظلّ النوايا الحسنة فقط، وإنما تتطلّب دراسات عميقة ورصينة لصياغة المشروع الفكري البديل، فغاية كل «مشروع إسلامي» التقدمّ نحو تجديد الدين من حيث هو مشروع «اجتماعي/ سياسي» يتلخّص في إنجاز ثلاث محاور أساسية:
الأول: بناء النظرة المقاصدية المحايثة للواقع الإسلامي المعقّد وفي مقدّمتها الأمن الاجتماعي والحرية الفكرية والكرامة الإنسانية وما أشبه بوصفها مقاصد شرعية وفكرية.
والثاني: قراءة المتغيّرات باعتماد الأدوات العلمية الحديثة في العلوم الاجتماعية، وعلم الاجتماع الديني، وعلم النفس الاجتماعي.
والثالث: تقديم أطروحات فكرية تسدّ الفراغ الذي خلّفته الثورات العربية والمتمثّل في جملة القضايا الإدارية والسياسية من قبيل تحديد نمط العلاقة بين الحركة والفكر، والمؤسسة والتنظيم، والمحلية والعالمية، والفكرة والرسالة، بما يسمح بعلاقة متوازنة بين قوانين الحركة والغايات الإسلامية وحاجات المجتمع.
3. تفكيك الاطر القديمة للتضامن الحركي: من خلال الانتقال إلى العمل ككتلة مجتمعية وفقًا لأسس ومعايير أوسع نطاقًا، والبحث عن مجالات التجديد في هيكلية الحركة الإسلامية، وتجاوز الهياكل التقليدية التي تفتقر للقدرة على التعاطي مع المتغيّرات في ظروف بالغة التعقيد، لا سيما بعد أن تجاوز الحراك الإصلاحي دائرة الحركات والتجمعات الصغيرة، وأصبح المجتمع بكافة شرائحه جزءًا من حركة التغيير الشامل، حيث يلاحظ المتتبع أن فئة الشباب في دول الربيع العربي هم من قاد الساحة ودفع في اتّجاه التغيير، واضطرّت الحركة الإسلامية إلى التفاعل مع الاتجاه العام، والانغماس في الحراك الشعبي، فهي لم تكن الصانع الأوحد للتغيير، بل جاورت عددًا من الأحزاب الوطنية والعلمانية التي كانت تعاديها إضافة إلى حشد واسع من المستقلّين التي كانت تهملهم.
وفي أكثر من بلد عربي أخفقت المشاريع الحركية في صنع عملية التغيير السياسي، بينما تمكّن الشارع العربي من إحداث التغيير وفرضه على الواقع، ودخل الشارع بوصفه فاعلًا أساسيًّا على المستويين السياسي والاجتماعي ليساهم في إحداث التغيير وبأشكال سليمة رصينة في الغالب، هذه الحقائق تفرض على الحركة الإسلامية أن تتجاوز فكرة احتكار تمثيل الشارع، فالعمل متى ما دخل ساحة السياسة تحوّل لشأن عام من حق الجميع المشاركة فيه وتمثيله، لكن من المعلوم أن قضية التعدّدية في أبسط صورها لا تزال من الأمور التي يصعب تقبّلها داخل الحركة، لذا ينبغي التفكير جديًّا في الانتقال من احتكار الفعل الحركي، إلى ترسيخ مبدأ الشراكة في تدبير الشأن الوطني.
4. إشراك القواعد: استطرادًا للنقطة السابقة، ينبغي أن تدرك الحركة الإسلامية واقع المتغيرات فتكون أكثر انفتاحًا على كافة الشرائح الاجتماعية، فاسحة المجال لها للمشاركة الفكرية والإدارية، والقبول بمبدأ تولّي الكفاءات لمواقع قيادية داخل الحركة، باعتبار أن الإسلام إرث مشترك لكل الأمة، وليس امتيازًا لمجموعة أفراد، وأن الحركة الإسلامية ليست ملكًا لقائد مفكّر أو عائلة دينية أو جماعة حزبية، وإنما يعني كل من يتّفق مع الأهداف المعلنة للحركة، وهو تطوّر ينطوي على محاذير كثيرة لكنه أمر مطلوب للخروج من حلقة بناء الأطر الضيقة والمغلقة.
ومسألة القبول بالانفتاح الإداري عند الحركة الإسلامية أمر مستنكر قبل أن يتداول، أو تبحث أبعاده الإيجابية والسلبية؛ وذلك لأن أغلب الحركات تنتمي لفكر زعيم أوحد، ومدرسة فكرية واحدة منغلقة على ذاتها، على أن هذا الانغلاق هو مؤدٍّ لموت سريري للحركة وقادتها وكوادرها؛ ولذا فإن أحد الحلول المقترحة في هذا السياق هو التحوّل من الأطر التنظيمية المغلقة إلى الحركة الاجتماعية المفتوحة باعتبارها بديلًا يوازي التنظيمات والأحزاب، ويعني ذلك ضرورة إنتاج مناخ عملي جديد يفارق المنظور السائد للمؤسسات المتكلّسة إلى بناء مؤسّسات منفتحة يتمكّن الجميع من المشاركة في صناعة الأفكار وتطويرها وتولّي مناصب قيادية فيها، وفقًا لما يملكه كل فرد من إمكانات ومؤهلات ذاتية وموضوعية.
5. هندسة المشهد السياسي: من خلال صياغة نظرية سياسية متكاملة تستهدف صياغة نسق فكري يحدّد الموقف السياسي، وبناء نظام سياسي يقوم على الحرية والعدل والكرامة، ويخرج الحركة الإسلامية من فخَّين وقعت بهما ولا تزال رهينة فيهما، وأعني بهما، أولًا: فخ انتظار عطايا الديمقراطية ونفحاتها التي توسّلت بها الحركة حتى فقدت كل تميّزها، دون أن تعي أن الديمقراطية ليست هبة تمنح، وإنما هي آلية عمل رخوة لا تستقيم إلَّا بالرعاية الفكرية والإجراءات العملية؛ إذ لا يمكن للحركة أن تكون ديمقراطية على المستوى السياسي من دون أن تكون حداثوية على المستوى النظري الأيديولوجي.
وثانيًا: فخّ الثورة والعمل المسلح الذي أرهق الحركة وعصف بها وبالمجتمع، حتى أتقنت صناعة الموت لكنها أخفقت في صناعة الحياة، وتورّطت وورّطت مجتمعها في اصطناع صراعات لا طائل منها، ولم يكن ذلك إلَّا لانسياقها في تعزيز المواقع على حساب تحديد الرؤية والمراجعة والنقد والتصويب، بما يفرض على الحركة الخروج من سذاجة التعامل مع الشأن السياسي.
ولسنا في وارد أنكار حضور «تصورات سياسية» لدى بعض الفصائل لكننا نستطيع أن نُقرِّر بأنها غير منتظمة ضمن نظرية سياسية متكاملة، وانما هي تستند إلى الموروث الفقهي والعقدي الذي لم يعد قادرًا وحده على التصدي للتدافع السياسي، وهو ما انتهى بالحركة إلى مصادرة العمل السياسي باسم العقيدة، أو التعاطي معه بنظريات الحق المطلق أو الشر المطلق، وفكرة الولاء والبراء. ونستشف ذلك بوضوح عند رصد تجربة الفصائل التي وصلت إلى الحكم حيث لم تستوعب من العمل السياسي إلَّا مفهوم القوة والسلطة والتحكّم في مقدرات الدولة، إن الفعل السياسي لما لم ينهض على تجديد أنظمة التفكير الإسلامية فشل في توليد نظريته المتكاملة.
ملاحظات ختامية
إن مسألة الإصلاح الحركي، بما هو ضرورة من ضرورات المرحلة الراهنة، هو في الأساس مسألة إصلاح اجتماعي ونهضة ثقافية وتطوّر سياسي أوسع بكثير من مجرّد الحديث عن النصوص أو الخطابات الحركية، فهو يستهدف تقويم التجربة الحركية والاستفادة من ثمراتها من دون خسارة مميزاتها، وبالتالي فهو عملية عميقة وطويلة المدى، وتتطلّب بذل جهد معرفي، سواء من منظّري الحركة الإسلامية أو من خارجها، وذلك في سبيل تطوير رؤية عملانية لدور الحركة في الزمن الراهن عمادها التحرّر من بعض القيود التنظيمية، والانتقال من «التنظيم» إلى «المنظومة».
فثمَّة فرق بين أن تتحرّك الحركة الإسلامية باسم الدين وبين أن تأكل الدين فتصبح آلهة تفكّر وتختار وتقرّر بدلًا عن الناس، فقيم المشاركة والعدالة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، لم تعد مطالب تجميلية، وإنما ضرورة مجتمعية لا يمكن التنازل عنها، أو المساومة عليها، وإن كانت بعض الحركات نجحت في ترتيب أولياتها الحركية نسبيًّا، فإن ثمَّة حركات أخرى قدّمت الحركة على الإسلام، وكانت ضرورات الحركة بالنسبة لهم هي ضرورات إسلامية مقدّسة، وهو ما تسبّب في تضييع أوليات الحركة وتشتيت مهامها، وفي طور لاحق تسبّب في شعور المنتمين لها بأنهم «الصفوة» فهم جزء مغاير و «متمايز» عن المجتمع، الأمر الذي ينحو بها في اتّجاه رفض المجتمع والعزلة عنه وربما مفارقته وتكفيره.
وينتظر من الحركة الإسلامية المعاصرة في هذه المرحلة «تعزيز الحرية الفكرية في داخلها وتقبل آراء الغير من خارجها. واعتبار الحوار البنّاء الذي أكّده الإسلام قوام الحياة، واعتبار الشورى الحقيقية الفعّالة بمعني المشاركة في صنع القرار والاختيار الحر المسؤول للقائمين على ذلك أساسًا جوهريًّا لكل جماعة مسلمة حتى تكون ولاية الأمر بحق من الجماعة كما عبر القرآن {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}»[26]. وهو ما يفرض على الحركة الإسلامية بذل المزيد من الجهد لإعادة النظر في أطروحاتها ومبانيها الفكرية وهرميتها التنظيمية وهياكلها الإدارية، إذا قرّرت مواصلة الدور، وتحصيل موقع في عالم يموج بالأفكار ويتّجه للتكتّلات الاجتماعية الأكثر سعة من المذهبيات والعرقيات والامتيازات الحركية.
كما يقتضي مشروع الإصلاح في الحركة الإسلامية إعادة النظر في أسس المشروع السياسي سواء على مستوى التنظير أو الإجراءات التطبيقية، فالتحدّي الحقيقي لا يكمن في القدرة على استنساخ التجارب بعلّاتها وأزماتها، وإنما في القدرة على ابتكار مفاهيم جديدة تتجاوز الأخطاء الشائعة في مسيرتها، فالمجتمع لا يحتاج إلى استنساخ الديمقراطية فقط، بل إلى ابتكار وسائل جديدة في المشاركة تمنع استبداد الأكثرية، كما أن هذا العالم لا تنقصه القيم الكونية «حقوق الإنسان، الحرية، التعددية» لأنها قيم مجرّدة لا تصمد أمام الواقع الحي المتجدّد، وإنما هو أيضًا بانتظار قيم فاعلة تحوّل القيم الكونية إلى معطى تطبيقي.
المعنيون بالحركة الإسلامية إن كانوا يأملون الاستمرار بفاعليتهم، فإن عليهم إجراء مراجعة جذرية للتحديات التي واجهتها الحركة خلال السنوات الأخيرة، وبلورة حلول فكرية وعملية لهذه التحدّيات، هذه الإشكالات وغيرها لا يمكن أن تغطّيها الحركة الإسلامية دون أن تخوض غمار التجديد الكلي، وإعمال التفكير الجادّ في أبعاد الدور الذي يُمكِّن الإنسان المسلم من خلاله في البقاء داخل المشهد الحضاري كفاعل أساسي وعنصر حيوي، وكمساهم في صياغة المستقبل، وشريك أساسي في رسم مسارات التصحيح، وتمكينه من الأدوات التي تُعينه على مواكبة مجمل المتغيّرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والقدرة على التعاطي معها والتأثير فيها.
بما يعنيه ذلك من ضرورة التحوّل العميق في خطاب الحركة الإسلامية من الكلام باسم الدين والشريعة، إلى بناء خطاب سياسي يتقوَّم على النسبية بدل الحقيقة الدينية المطلقة، ومن العمل وفق «مسار المجموعة» إلى «مسار المجتمع»، والتأكيد على أن مسؤولية العمل والإصلاح منوطة بجميع الناس، وإنما وظيفة الحركة الإسلامية أن تنتظم معهم في المشروع الإصلاحي لا أن تعمل على مصادرة المشروع برمته، وهذا لا يتمّ إلَّا ببذل المزيد من الجهود الفكرية الرصينة لتوسعة الخيارات أمام الدور الذي يمكن أن يلعبه الإنسان المسلم في الزمن الراهن.