الإمام علي في الأدب المصري الحديث
مجلة الكلمة
2019-07-18 04:35
بقلم: زكي الميلاد
-1-
ثلاثة أعمال
حفل الأدب المصري الحديث بالعديد من الكتابات والتأليفات الفكرية والتاريخية المدوّنة حول الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ومن أشهر هذه التأليفات وأكثرها حضورًا في النطاقين المصري والعربي ثلاثة، وبحسب تعاقبها الزمني في الصدور هي: كتاب الأديب عباس محمود العقاد (1306-1383هـ/ 1899-1964م) الموسوم بعنوان: (عبقرية الإمام) الصادر سنة 1949م، الثاني كتاب الأديب الدكتور طه حسين (1306-1393هـ/ 1899-1973م) الموسوم بعنوان: (علي وبنوه) الصادر سنة 1953م، والثالث كتاب الأديب عبدالرحمن الشرقاوي (1920-1987م) الموسوم بعنوان: (علي إمام المتقين) الصادر في جزأين خلال منتصف ثمانينات القرن العشرين.
إلى جانب هذه التأليفات الثلاثة، هناك تأليفات أخرى جادة ومهمة، يأتي في مقدمتها موسوعة الأديب عبدالفتاح عبدالمقصود الموسومة بعنوان: (الإمام علي بن أبي طالب) المكوّنة من تسعة أجزاء، الصادرة خلال النصف الأول من القرن العشرين، ولعلها أول وأكبر موسوعة تدوّن حول الإمام في تاريخ تطور الأدب المصري الحديث، وعدها الدكتور طه حسين في قائمة مراجعه القليلة لكتابه (علي وبنوه) التي وثقها في نهاية الكتاب، ومن هذه التأليفات كذلك، كتاب الشيخ عبدالكريم الخطيب (1328-1406هـ/ 1910-1985م) الموسوم بعنوان: (علي بقية النبوة وخاتم الخلافة) الصادر سنة 1966م، إلى جانب تأليفات أخرى.
اكتسبت التأليفات الثلاثة المذكورة أهمية من ثلاث جهات متصلة ومتشابكة هي:
أولًا: الشهرة الفائقة لأصحابها الذين لا ينازعهم عليها أحد، ويعترف لهم بها كل أحد تقريبًا، سواء من المعاصرين لهم أو من المتأخرين عنهم، ودلت على ذلك الألقاب المميزة التي أطلقت عليهم، وظلوا يعرفون بها، مثل عملاق الأدب العربي اللقب الذي تفرد به العقاد، وعميد الأدب العربي اللقب الذي تفرد به طه حسين، ورائد المسرح الشعري اللقب الذي تميز به الشرقاوي.
أسهمت هذه الشهرة الفائقة في جعل تأليفات هؤلاء الأدباء تتخطى وضعية الغفلة والنسيان، وتصبح في دائرة الضوء والتذكر دومًا، متقدمة على تأليفات الآخرين، وتكون سابقة عليها عادة، الوضع الذي جعل جميع تأليفات العقاد على كثرتها تكون معروفة تقريبًا مع تفاوت في شهرتها، وهكذا الحال حصل مع تأليفات طه حسين والشرقاوي.
ثانيًا: النزعة الحرة والمستقلة التي ميزت تأليفات هؤلاء الأدباء الثلاثة، وكانت سمة ظاهرة في هذه التأليفات ومتجلية، رفعت من منزلتها الفكرية، وفارقت بينها وبين التأليفات الأخرى التي تراجعت فيها هذه النزعة وتقلصت، وفي الدراسات التاريخية تتأكد الحاجة لمثل هذه النزعة التي لا يقوى عليها إلَّا أصحاب العقول الكبيرة الذين ينتصرون للحقيقة قدر استطاعتهم.
وقد عبر العقاد عن هذه النزعة، حين اعتبر نفسه صاحب مذهب في هذا النسق من التأليف حول الشخصيات، مبرزًا لها بعنوان العبقريات التي عرف بها، وأصبحت لقبًا له، وبات يكنى بصاحب العبقريات.
وهكذا الحال حصل مع طه حسين الذي اختط لنفسه نهجًا تاريخيًّا أراد منه أن يكون متجردًا عن الأهواء وبعيدًا عن التحيزات، ولم يكن الشرقاوي أقل شأنًا في التعبير عن هذه النزعة والالتزام بها، وقد عرف بهذه النزعة كذلك عبد الفتاح عبدالمقصود.
ثالثًا: الحضور الممتد، فقد عرفت هذه التأليفات الثلاثة حضورًا بقي ممتدًا لم ينقطع أو يتوقف، عابرًا الأزمنة والأمكنة، متخطيًّا المذاهب والطوائف، وظلت هذه التأليفات محتفظة بهذه السمة، متميزة بها على بقية التأليفات الأخرى.
ومن العلامات الدالة على ذلك، طبعاتها التي ظلت متوالية بلا توقف، ومن العلامات أيضًا الإشارة المستمرة إليها في تأليفات الآخرين، خصوصًا كتابي العقاد وطه حسين، باعتبار أن كتاب الشرقاوي جاء متأخرًا عنهما بما يزيد على ثلاثة عقود، إلى جانب علامات أخرى دالة على هذا الحضور الممتد لهذه التأليفات الثلاثة.
لهذه الاعتبارات وغيرها، يأتي هذا التركيز على هذه التأليفات الثلاثة بوجه خاص.
-2-
عبقرية الإمام
كشف العقاد في مقدمة كتابه (فاطمة الزهراء والفاطميون) الصادر سنة 1953م عما أسماه أثر عامل الوراثة في عنايته بالكتابة عن الموضوعات الإسلامية وما اتصل منها بالعترة النبوية على التخصيص، فقد فتح أذنه كما فتح عينه على عبارات الحب الشديد للنبي عليه السلام وآله، فمولد النبي كان حفلة سنوية تقام في بيتهم، ويترقبها مع بقية الصغار في سنه ويفرحون بها، لأنهم القائمون بالخدمة فيها.
ويذكر العقاد أن أسماء النبي وآله كانت تتردد بين جوانب بيتهم ليلًا ونهارًا، لأنها أسماء إخوته جميعًا، معدّدًا لهم بهذا النحو: محمد وإبراهيم والمختار ومصطفى وأحمد والطاهر وياسين، وفاطمة وهي شقيقته الوحيدة، ولم يكن لأبيه أخوة وكانت له شقيقتان واحدة اسمها نفيسة والثانية اسمها زينب، وأما اسمه فهو منسوب إلى العباس عم النبي، لا إلى عباس حلمي الثاني كما كان يتوهم بعض معارفه.
وقد وصف العقاد ما ورثه من أسرته بالحب الشديد للنبي وآله عليهم سلام الله ورضوانه، وليس من المستغرب في نظره هذا الحب الشديد من أهل السنة، ولكنه كان في بيتهم أشبه بالعاطفة النفسية منه بالآداب المذهبية، معتبرًا أنه استفاد منه كثيرًا في دراسة تاريخ الإسلام، وجعله شديد التريث في سماع كل دعوى من دعاوى السياسة القديمة التي كانت تقوم على إنكار حق، أو إنكار فضل، أو إنكار نسب، أو ما أشبه من ضروب الأفكار التي تمس تواريخ أهل البيت النبوي وسيرهم من بعيد أو قريب[1].
ويندرج في هذا النطاق كتاب (عبقرية الإمام)، الذي جاء متصلًا بما قبله من كتب العبقريات من ناحية المنهج، العبقريات التي أراد منها العقاد أن يكون صاحب أدب متفرد، يصك باسمه، ويتفارق به عن غيره ويتمايز، محققًا إنجازًا بات يؤرخ له ليس في تاريخ تطور الأدب المصري الحديث فحسب، وإنما في تاريخ تطور الأدب العربي الحديث أيضًا.
يفهم من نصوص العقاد أنه أراد من العبقريات فكرةً ومنهجًا، الالتزام بأمرين متلازمين هما:
الأمر الأول: له علاقة بالمنهج، ويتحدد بالمفارقة ما بين المنهج التاريخ والمنهج النفسي، فحسب رؤية العقاد أنه ليس بصدد اتباع المنهج التاريخي القائم على السرديات والحوليات، وتعقب الحوادث والأخبار، وإنما هو بصدد اتباع منهج آخر يعرف في الأدب بالمنهج النفسي، ويراد منه رسم صورة نفسية لصاحب السيرة، تجلو من خلالها الخلائق والصفات وبواعث الأعمال، وليس كتابة تاريخ يجري في سرد الحوادث وتعقب الوقائع بما هي وقائع، وتتبع الأخبار بما هي أخبار.
وقد فرّق العقاد في كتاباته بين الدراسات التاريخية التي يعنى بها المؤرخ، وبين الدراسات النفسية مثل دراساته التي يعنى فيها بخلائق صاحب السيرة وصفاته.
الأمر الثاني: له علاقة بالخطاب، ويتحدد بالمفارقة بين الخطاب الذي يتجه إلى إنسان بعينه كالإنسان المسلم، وبين الخطاب الذي يتجه إلى كل إنسان، فحسب رؤية العقاد أنه أراد أن يقدم أدبًا لا يخاطب به المسلم ولا يتجه إليه فحسب، وإنما يخاطب به كل إنسان بالاحترام والتقدير والإعجاب للعبقريات أينما ظهرت في أي مجتمع وفي أي زمان ومكان، بما تمثله هذه العبقريات من مناقب وفضائل ومثل يتوق إليها الناس كافة، ويتعلقون بها حبًّا وإعجابًا وتقديرًا.
وتجلى هذا الأمر بوضوح حين تحدث العقاد عن كتابه (عبقرية محمد) الذي هو من بواكير أدبه في العبقريات، شارحًا منهجه قائلًا: إن «عبقرية محمد عنوان يؤدي معناه في حدوده المقصودة ولا يتعداها، فليس الكتاب سيرة نبوية جديدة تضاف إلى السير العربية والإفرنجية... إنما الكتاب تقدير لعبقرية محمد بالمقدار الذي يدين به كل إنسان ولا يدين به المسلم وكفى، وبالحق الذي يثبت له الحب في قلب كل إنسان، وليس في قلب كل مسلم وكفى، فمحمد هنا عظيم لأنه قدوة المقتدين في المناقب التي يتمناها المخلصون لجميع الناس، عظيم لأنه على خلق عظيم»[2].
ولاحقًا اعتبر العقاد أنه صاحب مذهب في هذا اللون من الأدب، مُطلقًا صفة المذهب منسوبة إلى ذاته، لافتًا الانتباه لهذا المعنى عند حديثه عما يتوخاه من العبقريات قائلًا: «ومذهبنا الذي نتوخاه في الكتابة عن العظماء الذين حسنت نياتهم في خدمة الإنسان، أن نوفيهم حقهم من التوقير، وأن نرفع صورهم إلى مكان التجلة»[3].
وفي زمنه كان العقاد يحسب أن الالتزام بهذا المذهب أوجب مما كان في الأزمان الغابرة، وذلك بعد أن تكاثرت في نظره الأسباب التي تغض من وقار العظمة منذ القرن الثامن عشر، وتحدث في بعض الأحيان عفوًا، وقصدًا في أحيان أخرى، الوضع الذي وجد فيه العقاد أن العظمة في حاجة إلى ما يسمى في لغة القانون برد الاعتبار.
بهذا يتكشف لنا أن العقاد يعد من أكثر الأدباء العرب المعاصرين تنبهًا لفكرة العبقرية، وأكثرهم كذلك توظيفًا لها في الأدب واستثمارًا، وتحديدًا في أدب السير والتراجم، كما أنها الفكرة التي مثلت نموذجًا تفسيريًّا لهذا النسق من الكتابات، واكتسبت صفة العلامة الدالة ثقافيًّا في أدبه، وجاء اختياره لها كونها من الكلمات المحتفى بها على المستوى الإنساني، باعتبارها تبرز جوانب العظمة والتفوق، وتثير الدهشة والإعجاب، وأراد منها العقاد أن تكون مدخلًا لتقديم بعض الشخصيات الإسلامية إلى الأدب الإنساني عامة.
هذا موجز القول حول مقولة العبقرية عند العقاد، توقفنا عندها بيانًا لأدبه الذي ينتسب إليه من ناحية المنهج كتاب (عبقرية الإمام)، وكون أن هذه المقولة تمثل الكلمة الأولى في عنوان الكتاب فهي مفتاح الولوج إليه، بقيت الإشارة إلى الكلمة الثانية في العنوان وهي كلمة (الإمام) التي اختارها العقاد قاصدًا، ومدركًا لحقلها الدلالي، وناظرًا إلى أنها أحق بالانتساب لعلي بن أبي طالب الذي كان متفردًا بها على سواه.
يرى العقاد أن لقب الإمام قد اختص به علي، وإذا أطلق فلا ينصرف إلى أحد غيره بين جميع الأئمة الذين وسمو بهذه السمة من سابقيه ولاحقيه، فالإمام أحق لقب به، وهو أحق الأئمة بلقب الإمام.
فقد كانت للإمام علي -في نظر العقاد- من خواص الإمامة ما ينفرد بها، ولا يجاريه فيها إمام غيره، معددًا بعض هذه الخواص، منها اتصاله بكل مذهب من مذاهب الفرق الإسلامية منذ وجدت في صدر الإسلام، كما اتصلت الحلقات بينه وبين علماء الكلام والتوحيد، وكذا الحلقات بينه وبين علماء الفقه والشريعة وعلماء الأدب والبلاغة، فهو أستاذ هؤلاء جميعًا بالسند الموصول[4].
ومن خواص الإمامة التي ينفرد بها علي بن أبي طالب كذلك -في نظر العقاد- انتساب العلوم الإسلامية إليه، وحسب قوله: «فقلَّ أن سمعنا بعلم من العلوم الإسلامية أو العلوم القديمة لم ينسب إليه... وقلَّ أن توجَّه الثناء بالعلم إلى أحد من الأوائل إلَّا كانت له مساهمة فيه... له الهداية الأولى في التوحيد الإسلامي والقضاء الإسلامي والفقه الإسلامي، وعلم النحو العربي، وفن الكتابة العربي، مما يجوز لنا أن نسميه أساسًا صالحًا لموسوعة المعارف الإسلامية في جميع العصور، أو يجوز لنا أن نسميه موسوعة المعارف الإسلامية كلها في الصدر الأول من الإسلام»[5].
لهذه الخواص وغيرها، انفرد الإمام علي -في تصور العقاد- بلقب الإمام وحازه دون سواه، ومن هنا جاء عنوان كتابه: (عبقرية الإمام).
أشار العقاد في كتابه إلى العديد من النظرات والانطباعات الدالة في نظره والكاشفة عن عبقرية الإمام، من هذه النظرات والانطباعات ما دلت عليه الولادة التي انفرد بها الإمام، وعدت من الكرامات التي ذكرت له وعرفت، وامتاز بها على غيره شرفًا وفضيلةً، وأشار العقاد لهذا الأمر قائلًا: «ولد علي في داخل الكعبة، وكرم الله وجهه عن السجود لأصنامها، فكأنما كان ميلاده ثمّة إيذانًا بعهد جديد للكعبة وللعبادة فيها، وكاد علي أن يولد مسلمًا، بل لقد ولد مسلمًا على التحقيق إذا نحن نظرنا إلى ميلاد العقيدة والروح؛ لأنه فتح عينيه على الإسلام، ولم يعرف قط عبادة الأصنام... فبحق ما يقال: إن عليًّا كان المسلم الخالص على سجيته المثلى، وإن الدين الجديد لم يعرف قط أصدق إسلامًا منه، ولا أعمق نفاذًا فيه، كان المسلم حق المسلم في عبادته وفي علمه وعمله، وفي قلبه وعقله، حتى ليصح أن يقال: إنه طبع على الإسلام فلم تزده المعرفة إلَّا ما يزيد التعليم على الطباع»[6].
ومن هذه النظرات والانطباعات ما دلت عليه سيرة الإمام، إذ يرى العقاد أن في كل ناحية من نواحي النفوس الإنسانية ملتقى بهذه السيرة، لكونها ملتقى بالعاطفة وبالخيال وبالفكر وبالذوق الأدبي، وحسب قوله: «في كل ناحية من نواحي النفوس الإنسانية، ملتقى بسيرة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه؛ لأن هذه السيرة تخاطب الإنسان حيثما اتجه إليه الخطاب البليغ من سير الأبطال والعظماء، وتثير فيه أقوى ما يثيره التاريخ البشري من ضروب العطف ومواقع العبرة والتأمل»[7].
وعن ملتقى السيرة بالعاطفة، تحدث العقاد قائلًا: «في سيرة ابن أبي طالب ملتقى بالعاطفة المشبوبة والإحساس المتطلع إلى الرحمة والإكبار، لأنه الشهيد أبو الشهداء، يجري تاريخه وتاريخ أبنائه في سلسلة طويلة من مصارع الجهاد والهزيمة، ويتراءون للمتتبع من بعيد واحدًا بعد واحد شيوخًا جلّلهم وقار الشيب ثم جلّلهم السيف الذي لا يرحم، أو فتيانًا عولجوا وهم في نضرة العمر يحال بينهم وبين متاع الحياة، بل يحال بينهم أحيانًا وبين الزاد والماء، وهم على حياض المنية جياع ظماء، وأوشك الألم لمصرعهم أن يصبغ ظواهر الكون بصبغتهم وصبغة دمائهم، حتى قال شاعر فيلسوف كأبي العلاء لا يظن به التشيع، بل ظنت بإسلامه الظنون:
وعلى الأفق من دماء الشهيدين
علي ونجله شاهدان
فهما في أواخر الليل فجران
وفي أولياته شفقان
وهذه غاية من امتزاج العاطفة بتلك السيرة قلّما تبلغها في سير الشهداء غاية، وكثيرًا ما تتعطش إليها سرائر الأمم في قصص الفداء التي عمرت بها تواريخ الأديان»[8].
وعن ملتقى السيرة بالخيال، تحدث العقاد قائلًا: «وفي سيرة ابن أبي طالب ملتقى بالخيال حيث تحلق الشاعرية الإنسانية في الأجواء أو تغوص في الأغوار، فهو الشجاع الذي نزعت به الشاعرية الإنسانية منزع الحقيقة ومنزع التخيل، واشترك في تعظيمه شهود العيان وعشاق الأعاجيب... ألم يوشك من وصفوه ووصفوا وقعاته وفتكاته أن يلحقوه بأبطال الأساطير، وهو هو أصدق الأبطال في أصدق مجال»[9].
وعن ملتقى السيرة بالفكر، قال العقاد: «وتلتقي سيرته عليه رضوان الله، بالفكر كما تلتقي بالخيال والعاطفة؛ لأنه صاحب آراء في التصوف والشريعة والأخلاق سبقت جميع الآراء في الثقافة الإسلامية، ولأنه أحجى الخلفاء الراشدين أن يعد من أصحاب المذاهب الحكيمة بين حكماء العصور، ولأنه أوتي من الذكاء ما هو أشبه بذكاء الباحثين المنقبين منه بذكاء الساسة المتغلبين، فهو الذكاء الذي تحسه في الفكرة والخاطرة قبل أن تحسه في نتيجة العمل ومجرى الأمور»[10].
وعن ملتقى السيرة بالذوق الأدبي، قال العقاد: «وللذوق الأدبي أو الذوق الفني، ملتقى بسيرته كملتقى الفكر والخيال والعاطفة؛ لأنه رضوان الله عليه، كان أديبًا بليغًا له نهج من الأدب والبلاغة يقتدي به المقتدون، وقسط من الذوق مطبوع يحمده المتذوقون، وإن تطاولت بينه وبينهم السنون، فهو الحكيم الأديب، والخطيب المبين، والمنشئ الذي يتصل إنشاؤه بالعربية ما اتصلت آيات الناثرين والناظمين»[11].
ومن نظرات العقاد وانطباعاته ما تعلق بالصفات الشخصية التي ميزت الإمام وعرف بها، ومنها الشجاعة النادرة، وعنها قال العقاد: «فكانت شجاعته من الشجاعات النادرة التي يشرف بها من يصيب بها ومن يصاب، ويزيدها تشريفا أنها ازدانت بأجمل الصفات التي تزين شجاعة الشجعان الأقوياء، فلا يعرف الناس حلية للشجاعة أجمل من تلك الصفات التي طبع عليها علي بغير كلفة ولا مجاهدة رأي، وهي التورع عن البغي، والمروءة مع الخصم قويًّا أو ضعيفًا على السواء، وسلامة الصدر من الضغن على العدو بعد الفراغ من القتال»[12].
ومن الصفات الأخرى التي امتاز بها الإمام وعرف، صفة الزهد، وعنها قال العقاد: «فلم يعرف أحد من الخلفاء أزهد منه في لذة دنيا أو سيب دولة، وكان وهو أمير للمؤمنين يأكل الشعير وتطحنه امرأته بيديها، وكان يختم على الجراب الذي فيه دقيق الشعير فيقول: لا أحب أن يدخل بطني ما لا أعلم، قال عمر بن عبدالعزيز وهو من أسرة أمية التي تبغض عليًّا وتخلق له السيئات وتخفي ما توافر له من الحسنات: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب. وقال سفيان: إن عليًّا لم يبن آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة، وقد أبى أن ينزل القصر الأبيض بالكوفة إيثارًا للخصائص التي يسكنها الفقراء، وربما باع سيفه ليشتري بثمنه الكساء والطعام... وعلى هذا الزهد الشديد كان علي (رضي الله عنه) أبعد الناس من كزازة طبع وضيق حظيرة وجفاء عشرة»[13].
ومن هذه الصفات كذلك التي امتاز بها الإمام وعرف، صفة الفطنة النافذة، وعنها قال العقاد: «والحق الذي لا مراء فيه أنه كان على نصيب من الفطنة النافذة لا ينكره منصف، وأنه أشار على عمر وعثمان أحسن المشورة في مشكلات الحكم والقضاء، وأنه كان أشبه الخلفاء بالباحثين والمنقبين أصحاب الحكمة ومذاهب التفكير، وعنه أخذ الحكماء الذين شرعوا علم الكلام قبل أن يتطرق إليه علم فارس أو علم يونان، وكان يفهم أخلاق الناس فهم العالم المراقب لخفايا الصدور، ويشرحها في عظاته وخطبه شرح الأديب اللبيب»[14].
كما امتاز الإمام بصفة النخوة، وعنها قال العقاد: «وقد كانت النخوة طبعًا في علي فطر عليها، وأدبًا من آداب الأسرة الهاشمية نشأ فيه، وعادة من عادات الفروسية العملية التي يتعودها كل فارس شجاع متغلب على الأقران، وإن لم يطبع عليها وينشأ في حجرها؛ لأن للغلبة في الشجاع أنفة تأبى عليه أن يسف إلى ما يخجله ويشينه، ولا تزال به حتى تعلمه النخوة تعلمًا، وتمنعه أن يعمل في السر ما يزري به في العلانية. وهكذا كان علي (رضي الله عنه) عنه في جميع أحواله وأعماله، بلغت به نخوة الفروسية غايتها المثلى، ولا سيما في معاملة الضعفاء من الرجال والنساء، فلم ينسَ الشرف قط ليغتنم الفرصة، ولم يساوره الريب قط في الشرف، والحق أنهما قائمان دائمان كأنهما مودعان في طبائع الأشياء، فإذا صنع ما وجب عليه فلينس من شاؤوا ما وجب عليهم، وإن أفادوا كثيرًا وباء هو بالخسار»[15].
وبعد أن أشار العقاد إلى هذه الصفات التي عرف بها الإمام، وجد أنها تنتظم في نسق موصول، وحسب قوله: «هذه صفات تنتظم في نسق موصول، رجل شجاع لأنه قوي، وصادق لأنه شجاع، وزاهد مستقيم لأنه صادق، ومثار للخلاف لأن الصدق لا يدور بصاحبه مع الرضا والسخط والقبول والنفور، وأصدق الشهادات لهذا الرجل الصادق أن الناس قد أثبتوا له في حياته أجمل صفاته المثلى، فلم يختلفوا على شيء منها إلَّا الذي اصطدم بالمطامع وتفرقت حوله الشبهات، وما من رجل تتعسف المطامع أسباب الطعن فيه ثم تنفذ منه إلى صميم»[16].
ومن نظرات العقاد وانطباعاته ما تعلق بحب النبي إلى الإمام، وحسب قوله: «إن عليًّا كان من أحب الناس إلى النبي، إن لم يكن أحبهم إليه على الإطلاق... حب النبي لهذا الإنسان حقيقة لا حاجة بها إلى تأويل الرواة ولا إلى تفسير النصوص؛ لأنها حقيقة طبيعية، أو حقيقة بديهية قائمة من وراء كل خلاف، ومما لا خلاف فيه كذلك أنه (عليه السلام) كان لا يكتفي بحبه إياه، بل كان يسره ويرضيه أن يحببه إلى الناس، وكان يسوؤه ويغضبه أن يسمع من يكرهه ويجفوه»[17].
ومن نظرات العقاد وانطباعاته ما تعلق بسياسات الإمام وإدارته، إذ يرى أن الإمام اتبع «من اليوم الأول في خلافته أحسن السياسات التي كان له أن يتبعها، فلا نعرف سياسة أخرى أشار بها ناقدوه أو مؤرخوه ثم أقاموا الدليل على أنها خير من سياسته في صدق الرأي وأمان العاقبة، أو أنها كانت كفيلة باجتناب المآزق التي ساقته الحوادث إليها، فمن اللحظة الأولى، أخذ في تجنيد قوى الخلافة الدينية التي لا قوة له بغيرها... فكل ما صنع فهو الحكمة كأحسن ما تُراض له الحكمة، وهو السداد كأقرب ما يتاح له السداد... وأن أحدًا لم يثبت قط أن العمل بالآراء الأخرى كان أجدى وأنجح في فض المشكلات من العمل برأي الإمام، وإن أحدًا لم يثبت قط أن خصوم الإمام كانوا يصرفون الأمور خيرًا من تصريفه، لو وضعوا في موضعه واصطلحت عليهم المتاعب التي اصطلحت عليه... فما استطاع أحد قط أن يحصي عليه كلمة خالف فيها الحق الصراح في سلمه وحربه، وبين صحبه أو بين أعدائه»[18].
هذه لعلها أبرز ملامح الصورة النفسية التي حاول العقاد رسمها للإمام في إظهار خلائقه ومناقبه وما تفرد به شخصًا وسيرة.
-3-
علي وبنوه
افتتح الدكتور طه حسين كتابه (علي وبنوه) من دون الإشارة إلى طبيعة منهجه، لكونه أشار إليه في كتابه السابق الذي مثّل الجزء الأول من كتاب (الفتنة الكبرى)، وحمل عنوان (عثمان)، وجاء هذا الكتاب متممًا له، ومتصلًا به، خاصًّا الحديث فيه عن الإمام علي وبنيه.
في الجزء الأول أفصح طه حسين بوضوح كبير عن منهجه، معلنًا تمسكه الصارم بهذا المنهج، متحريًا الصواب مستطاع، ومتجردًا من نزعات العواطف والأهواء، حاملًا نفسه على الإنصاف، مفضلًا الحياد بلا مشايعة لأحد.
مباشرة وبلا مقدمات، ومن السطر الأول ولج طه حسين في الحديث عن موقفه وطريقته وما يريد الالتزام به، والسير عليه، قائلًا: «هذا حديث أريد أن أخلصه للحق ما وسعني إخلاصه للحق وحده، وأن أتحرى فيه الصواب ما استطعت إلى تحري الصواب سبيلًا، وأن أحمل نفسي فيه على الإنصاف لا أحيد عنه، ولا أمالئ فيه حزبًا من أحزاب المسلمين على حزب... وأنا أريد أن أنظر إلى هذه القضية نظرة خالصة مجردة، لا تصدر عن عاطفة ولا هوى، ولا تتأثر بالإيمان ولا بالدين، وإنما هي نظرة المؤرخ الذي يجرد نفسه تجريدًا كاملًا من النزعات والعواطف والأهواء مهما تختلف مظاهرها ومصادرها وغاياتها»[19].
بخلاف العقاد ومنهجه النفسي، اختار طه حسين المنهج التاريخي، متقمصًا نظرة المؤرخ، متقصيًا الوقائع، متفحصًا الأخبار، مازجًا بين السرد والتحليل، وبين التوثيق والنقد، مناقشًا الأقوال ومجادلًا، معلنًا موقفه بلا خشية وبلا مواربة، مقدمًا نفسه بوصفه صاحب رأي في دراسة التاريخ الإسلامي، متحررًا من الضغوط، متعاليًا على الحساسيات، منفكًا من الإكراهات، واثقًا بنفسه ثقته المعهودة بذاتيته.
ليس من غرضنا تتبع الحوادث التاريخية التي سردها بطريقته طه حسين لأنها لا حصر لها، لكننا سوف نتتبع نظراته المتعددة حول الإمام، وما سجل من انطباعات عنه، على الطريقة التي سلكناها من قبل مع العقاد.
من هذه النظرات والانطباعات ما تعلق بالسيرة العامة للإمام، فقد تحدث عنه طه حسين قائلًا: «وسيرته التي لم تعرف العوج قط، وشدته في الدين، وفقهه بالكتاب والسنة، واستقامة رأيه في كل ما عرض من المشكلات... وقد عاش علي قبل الفتوح كما عاش بعد الفتوح، عيشة هي إلى الخشونة والشظف أقرب منها إلى الرقة واللين، فلم يتّجر ولم يتّسع، وإنما اقتصر على عطائه بعيش منه ويرزق أهله... ولما مات لم تحصَ تركته بالألوف فضلًا عن عشراتها أو مئاتها أو الملايين، وإنما كانت تركته كما قال الحسن ابنه في خطبة له: سبعمائة درهم»[20].
ومن نظرات طه حسين وانطباعاته، ما أشار إليه حين اضطربت الأحوال بعد مقتل عثمان، مميزًا الحال الذي كان عليه الإمام، قائلًا: «أمام هذه الأمور العظام، وفي قلب هذه الفتنة المظلمة الغليظة، وجد علي نفسه كأحسن ما يجد الرجل نفسه، صدق إيمان بالله، ونصحًا للدين، وقيامًا بالحق، واستقامة على الطريق المستقيمة، لا ينحرف ولا يميل، ولا يدهن من أمر الإسلام في قليل ولا كثير، وإنما يرى الحق فيمضي إليه لا يلوي على شيء، ولا يحفل بالعاقبة، ولا يعنيه أن يجد في آخر طريقه نجحًا أو إخفاقًا، ولا أن يجد في آخر طريقه حياة أو موتًا، وإنما يعنيه كل العناية أن يجد أثناء طريقه وفي آخرها رضا ضميره ورضا الله»[21].
ومن نظرات طه حسين وانطباعاته كذلك، ما أشار إليه حين تولى الإمام الخلافة بوصفه أجدر الناس إليها، قائلًا: «فقد كان خليفتهم الجديد، أجدر الناس بأن يملأ قلوبهم طمأنينة، وضمائرهم رضا، ونفوسهم أملًا، فهو ابن عم النبي، وأسبق الناس إلى الإسلام بعد خديجة، وأول من صلّى مع النبي من الرجال، وهو ربيب النبي قبل أن يظهر دعوته ويصدع بأمر الله... وأخذ النبي عليًّا فكفله وقام على تنشئته وتربيته، فلما آثره الله بالنبوة كان علي في كنفه لم يجاوز العاشرة من عمره إلَّا قليلًا، فنستطيع أن نقول: إنه نشأ مع الإسلام، وكان النبي يحبه أشد الحب، ويؤثره أعظم الإيثار، استخلفه حين هاجر على ما كان عنده من ودائع حتى ردها إلى أصحابها، وأمره فنام في مضجعه ليلة ائتمرت قريش بقتله، ثم هاجر حتى لحق بالنبي في المدينة، فآخى النبي بينه وبين نفسه، ثم زوّجه ابنته فاطمة، ثم شهد مع النبي مشاهده كلها، وكان صاحب رايته في أيام البأس، وقال النبي يوم خيبر: «لأعطين الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله»، فلما أصبح دفع الراية إلى علي، وقال النبي له حين استخلفه على المدينة يوم سار إلى غزوة تبوك: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي»، وقال للمسلمين في طريقه إلى حجة الوداع: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه»»[22].
ومن نظرات طه حسين وانطباعاته أيضًا، ما أشار إليه حين تحدث عن عناية الإمام بوعظ المسلمين وتعليمهم، قائلًا: «وكان يعظهم جالسًا على المنبر أو قائمًا، وكان يجلس لهم في المسجد فيسألهم عن أمورهم، ويجيب من سأله منهم عمَّا يهمه من أمر دينه أو أمر دنياه، ثم لم يكن يعظهم ويعلّمهم بما كان يقول لهم حين يخطبهم أو يحاورهم فحسب، وإنما كان يعلّمهم ويعظهم بسيرته فيهم، كان لهم إمامًا، وكان لهم معلمًا، وكان لهم قدوة وأسوة... وكان يخالطهم حين كانوا يضطربون في حياتهم، فكان يمشي في الأسواق ويأمر الناس بتقوى الله ويذكّرهم الحساب والمعاد»[23].
ومن نظرات طه حسين وانطباعاته، ما أشار إليه متحدثًا عن المساواة بين الناس في سيرة الإمام، قائلًا: «وكان شديد الحرص على أن يحقّق المساواة بين الناس في قوله وعمله وفي وجهه، وفي قسمته لما كان يقسم فيهم من المال، بل كان يحرص على هذه المساواة حين يعطي الناس إذا سألوه. جاءته امرأتان ذات يوم تسألانه وتبيّنان فقرهما، فعرف لهما حقهما، وأمر من اشترى لهما ثيابًا وطعامًا وأعطاهما مالًا، ولكن إحداهما سألته أن يفضّلها على صاحبتها لأنها امرأة من العرب وصاحبتها من الموالي، فأخذ شيئًا من تراب فنظر فيه ثم قال: ما أعلم أن الله فضل أحدًا من الناس على أحد إلَّا بالطاعة والتقوى»[24].
يضاف إلى هذه النظرات والانطباعات، ما أشار إليه طه حسين متحدثًا عن ترفّع الإمام وعدم استباحته للمكر والدهاء، قائلًا: «لم يكن علي يستبيح لنفسه مكرًا ولا كيدًا ولا دهاء، كان يؤثر الدين الخالص على هذا كله، وكان يحتمل الحق مهما تثقل مؤونته، لا يعطي في غير موضع للعطاء، ولا يشتري الطاعة بالمال، ولا يحب أن يقيم أمر المسلمين على الرشوة، ولو شاء علي لمكر وكاد، ولكنه آثر دينه، وأبى إلَّا أن يمضي في طريقه إلى مُثله العليا من الصراحة والحق والإخلاص والنصح لله والمسلمين، عن رضا واستقامة لا عن كيد والتواء»[25].
هذه لمحة عن بعض نظرات طه حسين وانطباعاته حول الإمام وسيرته قبل تولي الخلافة وبعد توليتها.
-4-
علي إمام المتقين
عرّف الشرقاوي كتابه (علي إمام المتقين) إلى القراء بصورة متدرجة ومتاولية من خلال نشره في حلقات أسبوعية في صحيفة الأهرام المصرية، حصل ذلك بعد انضمامه إليها كاتبًا ملتزمًا بمقالة مطوّلة تغطي صفحة كاملة، كانت تنشر يوم الأربعاء من كل أسبوع في منتصف ثمانينات القرن العشرين.
ونقل الكاتب المصري محمد شمروخ أن حلقات الشرقاوي في الأهرام لقيت ذيوعًا عظيمًا بين القراء الذين كانوا يحجزون نسخهم لدى الباعة، ليطالعوا بشغف ما يسطّره الشرقاوي، أما حلقاته عن الإمام علي فكان يتابعها القراء متابعة عشّاق الدراما للمسلسلات التلفزيونية[26].
وفي وقت لاحق جمع الشرقاوي هذه الحلقات، وأصدرها في كتاب حمل العنوان المذكور، مكوَّنًا من جزأين، أراد في البداية أن يفارق بينهما من جهة العنوان، واعدًا في نهاية الطبعة الأولى من الجزء الأول، أن يكون الجزء الثاني بعنوان (علي إمام المساكين)، لكنه تلقّى نصائح وصفها بالصادقة، فضّلت العدول عن هذا العنوان، خشية تأويله تأويلًا قبيحًا منكرًا، إما عن جهل بمعنى المساكين، وإما عن سوء قصد، وإما عن غفلة الكريم.
عندها نظر الشرقاوي في هذا الأمر، مستمعًا للنصح عسى أن يستنقذ كتابه مما قد يثار عليه من غبار ينبغي أن تتنزه عنه حياتنا الفكرية والثقافية، فارتأى البقاء في الجزء الثاني على عنوان الجزء الأول من دون تغيير أو تبديل.
وعن فكرة الكتاب ومنهجه، تحدث الشرقاوي في مفتتح مقدمته قائلًا: إن هذا الكتاب ليس بحثًا تاريخيًّا، ولا هو كتاب سيرة، ولا هو مفاضلة بين الصحابة، ولا هو دفاع عن حق أحد في الخلافة قبل الآخر، فمن يلتمس في هذا الكتاب شيئًا من ذلك فليعدل عنه إلى غيره.
وما أراده الشرقاوي هو أن يصنع شكلًا فنيًّا يكون أقرب إلى الفن القصصي اعتمادًا على حقائق التاريخ الثابتة، وسعيًا منه لعرض مبادئ الإسلام وقيمه، من خلال تصوير فني للإمام علي بوصفه بطلًا خارقًا، ومفكرًا وحكيمًا وعالمًا وزاهدًا، وإنسانًا عظيمًا، كان يواجه بنبالة الفروسية، وبعظمة الزهد، وبسمو الفكر كل ما طالعته به الحياة الجديدة من أطماع وجحود ودسائس وحيل وأباطيل.
هذا الربط بين قيم الإسلام والإمام علي، أوضحه الشرقاوي قائلًا: «ذلك أن الإمام عليًّا تجسدت فيه أخلاق الإسلام ومثله، فقد تعهده الرسول طفلًا، وربّاه صبيًّا، وثقفه فتى، وقال عنه: أنا مدينة العلم وعلي بابها، ثم إن عليًّا قد كرَّم الله وجهه لم يسجد لغير الله تعالى، وما دخل قلبه منذ الطفولة شيء غير الإسلام، ثم كان هو المجاهد العظيم في سبيل الله، وما صارع أحدًا إلَّا صرعه، وقد علم الصحابة (رضي الله عنهم)، مكانة علي عند الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنهم ومعهم المسلمون في كل مكان وزمان ليقولون في كل صلاة: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد»[27].
ما بين الجزء الأول والجزء الثاني، أشار الشرقاوي إلى مفارقة لها علاقة بالأقوال والتوثيقات، هي الوحيدة التي تقصد لفت الانتباه إليها بنوع من الاهتمام، وقد حددها قائلًا: «ثم إني في هذا الجزء الثاني من كتاب علي إمام المتقين، قد خرجت عمَّا ألفته من قبل كلما رسمت صورة قلمية فنية من تراثنا الجليل معتمدة على الحقائق الثابتة في التاريخ، خرجت في هذا الكتاب عمَّا ألفته وعمَّا تعوده القراء مني، ذلك أني أوردت من الوقائع والأقوال ما قد يصدم بعض العقول، فأثبت أوثق المراجع من كتب أئمة أهل السنة، وعذري في ذلك أن من الناس من تحداني أن أذكر المراجع التي تثبت ما لم يقبله لأنه في الحق يناقض مصالحه! ثم لأن من الناس من يتهم بدلًا من أن يفكر ويبحث ويتعلم، ومن الناس من يجادل بغير علم ولا هدى ولا سراج منير»[28].
وسيرًا على الطريقة المتبعة، سوف نقتبس من الشرقاوي بعض نظراته عن الإمام، وما دوّن حوله من انطباعات تواكب سيرته الطاهرة، من هذه النظرات والانطباعات ما تعلق بنشأة الإمام، إذ يرى الشرقاوي أن عليًّا لم يكن يحنِ وجهه لصنم أو وثن قط، فقد كرم الله وجهه، فلم يحنه لغير الله تعالى، وانفرد بهذه الخصلة إذ كان أول من أسلم من الذكور، وأول من صلى منهم خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)... ولأنه أسلم وهو صبي لم يبلغ الحلم، ولأنه لزم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد كان يشعر إلى أغوار قلبه بكرامة الإنسان الذي علا على الشهوات، والتزم مكارم الأخلاق... وَلَكَم عفا عمَّن ظلمه، ووصل من قطعه، وأعطى من حرمه، وَلَكَم كظم من غيظ، وَلَكَم ناضل لكي يوفي الأُجراء أجورهم، قبل أن يجفَّ عرقهم، وواجه بكل هذه الفضائل التي تعلمها من النبي عليه الصلاة والسلام عصرًا شرسًا تنهار فيه قيم لتسود قيم جديدة[29].
ومن نظرات الشرقاوي وانطباعاته ما تعلق بزهد الإمام، إذ يرى قائلًا: «وما كان زهد علي في الدنيا زهد هارب منها، ولكنه زهد المنشغل عن إسعاد نفسه بمتاعها إلى إسعاد الآخرين، من أجل ذلك أحب من اللباس أخشنه وهو الصوف، وإنه في أغوار نفسه ليشعر بالرضا كلما أمكنه أن يسد حاجة لمحتاج، ولو بكل ما عنده، واثقًا في أن الله سيعوضه خيرًا، فما هو زهد العازف عن الحياة ولكنها تقوى العارف بالله»[30].
ومن نظرات الشرقاوي وانطباعاته ما تعلق برعاية الإمام إلى المحتاجين، إذ يرى قائلًا: «وما كان علي لينتظر حتى يسأله سائل، بل كان يبحث هو نفسه عن صاحب الحاجة، والمسكين واليتيم والفقير والمحروم، يمضي إليهم هو ويعطيهم من ماله ما يعتقد أنه حق لهم معلوم، وكان يقول: السخاء ما كان ابتداء أما ما كان عن مسألة فحياء وتذمم –فرار من الندم-... ولشدَّما كان يرضى إذ يسعد الآخرين، وكان عند ربه مرضيًّا»[31].
ومن هذه النظرات والانطباعات ما تعلق بذكاء الإمام، إذ يرى الشرقاوي قائلًا: «وكان علي يملك هذا الذكاء اللمّاح النفاذ الذي يمكنه من استقراء أعماق القلوب، وقراءة صفحات الوجوه، وتقصّي فلتات الألسنة، وكان هذا الذكاء -مع علمه الغزير العميق- أداته في الاجتهاد والفتيا والقضاء، من أجل ذلك كان لا يحكم بظاهر الأشياء ولا ينظر لها، وإنما يتحرى ما وراء الظاهر، ويعمد إلى جوهر الحقيقة نفسها، وكم ثبت له أن الباطن يخالف الظاهر، وأن من الظواهر ما يخدع»[32].
ومن نظرات الشرقاوي وانطباعاته كذلك، ما تعلق بحضّ الإمام على التعقل والتفكر، إذ يرى قائلًا: «وكان من هم الإمام أن يحضّ الناس على التفكير والتدبر، وعلى ألَّا يطيعوا بلا فهم كالأنعام، وألَّا يخرّوا على آيات الله إذا ذكّروا بها صمًّا وعميانًا، وإلَّا كانوا شر الدواب، إن الله خلق لهم الحواس والمشاعر والعقل ليروا ويسمعوا ويتدبروا، فيعرفوا الحسن والقبيح بذاته وبالعقل، وهو هكذا يعرف قبل أن يحدده الشرع، فالإمام همه أن يرتفع بمستوى العقل والإرادة في الإنسان»[33].
يضاف إلى هذه النظرات والانطباعات، ما أشار إليه الشرقاوي في خاتمة الكتاب متحدثًا عن الإمام بعد شهادته قائلًا: «وهكذا ووري التراب جسده النبيل، جسد رجل لم تعرف الإنسانية حاكمًا ابتلي بمثل ما ابتلي به من فتن، على الرغم من حرصه على إسعاد الآخرين، وحماية العدل، وإقامة الحق، ودفع الباطل! قُبض الشهيد، واستقر في وعي الزمن أنه كلما قيلت كلمة الإمام فهو الإمام علي، على كثرة الأئمة في الإسلام! ذلك أن ما امتلكه من علم وفقه في الدين، وما أوتي من الحكمة لم يتوفر قط لفقيه أو عالم. قُبض الشهيد الرائع البطولة، الأسطوري، المثالي، واستقر في ضمير الزمن، أنه كلما نطق أحد باسم أمير المؤمنين فحسب فهو الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين... ذلك أن عليًّا اجتمع له من عناصر القدوة وشرفها، واجتمع فيه من مقومات القيادة ونبالتها وشرفها ما لم يجتمع قط لحاكم، وهكذا كان فريدًا حقًّا، عالمًا وحاكمًا!. فسلام عليه يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يبعث حيًّا، وسلام عليه إذ توارى جسده في التراب، وبقيت كلماته منارات إشعاع ومنابع حكمة، ومثار عزائم، وعدّة للمتقين والمساكين بعد كتاب الله والأحاديث النبوية الشريفة، وسيظل القلب ينبض بما قال، وتشرق به النفس، ويزهو به العقل»[34].
وآخر ما ختم به الشرقاوي نظراته وانطباعاته، ما أشار إليه في آخر سطور الكتاب قائلًا: «فقضى ولم يخلّف تراثًا غير الحكمة والقدوة الحسنة، وما مات أحد من رعيته إلَّا خلف من المال أكثر مما ترك الإمام، عاش يناضل دفاعًا عن الشريعة والعدل والحق والمودة والإخاء والسلام والمساواة بين الناس فسلام عليه.
سلام عليه يوم قال فيه رسول الله عليه الصلاة والسلام: «رحم الله عليًّا، اللهم أدر الحق معه حيث دار»، ودار الحق معه حيث دار، وما عاداه في حياته وبعد موته إلَّا البغاة، وفرسان الضلال، وعبيد الشهوات، وأهل البدع والشح والأهواء...!
سلام عليه يوم قال عنه رسول عليه الصلاة والسلام: «من اتّخذ عليًّا إمامًا لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى».
وعبر أجيال متطاولة تعاورت فيها الأحداث والمآسي العظام، والهزائم التي تقصم الظهر وتكسر القلب، والانتصارات التي تثير الكبرياء في النفس، عبر تلك الأزمان اتخذه المتقون إمامًا، فقد كان دعاؤه مع عباد الله الصالحين: واجعلنا للمتقين إمامًا، واتخذه المساكين إمامًا، واتخذه الفتيان والنساك والزهاد والعلماء والمجاهدون والشجعان إمامًا، سلام عليه (عليه السلام)»[35].
هذه مجرد لمحة مقتضبة من نظرات الشرقاوي وانطباعاته عن الإمام شخصًا وسيرةً ونهجًا من بين نظراته وانطباعاته المحبة والسخية.
-5-
موازنات ومفارقات
بعد أن تطرّقنا للتأليفات الثلاثة المذكورة بصورة مجزّأة يستقل فيها كل عمل عن العمل الآخر، وتعرّفنا إلى بعض النظرات والانطباعات حول الإمام، ننتقل بالبحث إلى ما بين هذه التأليفات من علائق، من موازنات ومفارقات تتعلق بالإمام تحديدًا لكونه موضوع البحث.
من هذه الموازنات والمفارقات:
أولًا: تمايزت هذه التأليفات الثلاثة وتفارقت من ناحية المنهج، ولم تتطابق من هذه الناحية وتتناغم، فكل عمل منها تفرّد بمنهج خاص به، كان ظاهرًا ومنكشفًا ولم يكن غامضًا أو مبهمًا، وكان متجليًا ومتحققًا ولم يكن متعثرًا أو متبددًا، وهذه علامة فارقة تسجل بين هذه التأليفات لأنها تتصل بالمنهج.
سبقت الإشارة إلى أن العقّاد اختار المنهج النفسي في الأدب، لرسم صورة نفسية تعرف بالإمام وتجلو خلائقه وبواعث أعماله، واضعًا نفسه في صورة الأديب، في حين اختار طه حسين المنهج التاريخي السردي والوثائقي، واضعًا نفسه في صورة المؤرّخ، بينما اختار الشرقاوي منهجًا عدّه أقرب إلى الفن القصصي، واضعًا نفسه في صورة الأديب تارة، وفي صورة المؤرخ تارة أخرى.
في نظر كل واحد من أولئك الأدباء الثلاثة، أنه كان وفيًّا لمنهجه، وأدى ما عليه من مقتضيات المنهج مقدمًا عملًا تظهر فيه ملامح المنهج، ويصدق عليه هذا الوصف، فالعقّاد اختار المنهج النفسي لأنه المنهج الذي جرّبه وكان ضليعًا فيه وبارعًا، واختار طه حسين المنهج التاريخي لأنه فضّل أن يتمثل دور المؤرخ ويتقمّص نظره، أما الشرقاوي فقد اختار منهجه لأنه بارع في الفن القصصي، ويميل إلى السرد والحكاية بوصفه أديبًا وروائيًّا.
ثانيًا: تمايزت هذه التأليفات وتفارقت من ناحية المزاج النفسي، أي إنها تفارقت في صور تمثّلات العلاقة بالإمام، وقد تجلت هذه المفارقة بوضوح أكبر بين طه حسين والشرقاوي، فطه حسين تمثّل هذه العلاقة بصورة يمكن وصفها بالباردة، وظلت على هذه الحال ولم تتغير، وامتدت من بداية الكتاب إلى نهايته، ولم يظهر عاطفة تجاه الإمام، وظل يعرفه دومًا باسمه مجردًا من الكنى والألقاب والصفات، ومنها صفة الإمام التي هي من أوضح الصفات وأقربها له، وحين أشار لهذه الصفة في مرات قليلة جردها من الاسم، فحين يذكر الاسم يكون متجردًا من لقب الإمام، وإذا ذكر اللقب يكون متجردًا من الاسم، ما جعل الكتاب يصبح خاليًا من اقتران الاسم واللقب، فلم ترد عبارة الإمام علي أبدًا في كتابه.
بخلاف الشرقاوي الذي تمثّل العلاقة مع الإمام بصورة دافئة وحميمية، امتدت من بداية الكتاب إلى نهايته، مظهرًا عاطفة قوية تجاه الإمام، مندفعًا بالكتابة عنه بدافع الحب الحميم، المنغرس في قلبه منذ الصغر، متوارثًا من أمه التي قال عنها: إنها غرست في قلبه حب علي والحسين، وظل يكنّ له حبًا عظيمًا، لا يستطيع أحد أن يلومه عليه.
بهذا الحب الحميم افتتح الشرقاوي كتابه في الإهداء الذي خصّ به شقيقه الأكبر الدكتور عبدالغفار قائلًا: «إنها صفحات عن إنسان عظيم، تعوّدنا أن نحبه منذ الصغر، وحفظنا عنه كلماته الجليلة، وما زالت قلوبنا تخفق بحبه، لا لأن آباءنا علّمونا أننا من ذرية الحسين فحسب، ولكن لأننا حين تعرّفنا عليه، أكبرنا فيه تلك الفضائل الرائعة التي تجعل الإنسان قادرًا على أن يدافع عن الحق والحرية والعدل، مهما تكن المعاناة، ومهما تكن صولة الباطل»[36].
أما العقاد فقد تمثّل علاقة بالإمام لا هي باردة على طريقة طه حسين، ولا هي دافئة وحميمية على طريقة الشرقاوي، ويبدو أنه لم يكن معنيًّا بهذه الناحية، بقدر ما كان معنيًّا بتقديم صورة نفسية تكون لائقة بالإمام حسب وجهة نظره.
ثالثًا: تمايزت هذه التأليفات وتفارقت من ناحية القبض والبسط في السرد والكلام، وبهذا اللحاظ فإن كتاب العقّاد يمكن وصفه بالكتاب الوجيز، ويمكن وصف كتاب طه حسين بالكتاب الوسيط مقارنة بكتاب العقّاد، أما كتاب الشرقاوي الذي جاء في جزأين فيمكن وصفه بالكتاب المطوّل فهو يعادل تقريبًا ضعف كتاب طه حسين.
كتاب العقاد جاء وجيزًا ينطبق عليه صفة القبض؛ لأنه تجنب الاستغراق في سرد الحوادث والوقائع والأخبار، باعتباره ليس كتابًا في التاريخ، ولا ينتمي لحقل الدراسات التاريخية المعروفة عادة بالبسط في السرد والكلام. وجاء كتاب طه حسين وسيطًا؛ لأنه تقصّد أن يكون شديد الاقتصاد في ذكر الحوادث والأخبار، متبنيًا هذه الطريقة سياسة في التعامل مع الحوادث التاريخية، وداعيًا لتعليم مادة التاريخ لطلبة المدارس وفق هذه السياسة التي لا إسراف فيها ولا غلو في عرض الحوادث التاريخية.
أما الشرقاوي فقد بسط الكلام؛ لأنه كتب بدافع الحب لمن يكنّ له حبًّا عظيمًا، فكان قلمه سخيًّا، وكل من يحب يكون سخيًّا لمن يحب، ولأنه اعتمد منهج الفن القصصي فكان معنيًّا بسرد ما يستطيع من الحوادث والأخبار، ومن المواقف والوقائع، منتجًا أكبر كتاب له بين مجموع مؤلفاته الروائية والمسرحية والتاريخية والفكرية.
رابعًا: تمايزت هذه التأليفات الثلاثة وتفارقت من ناحية التثبّت التاريخي، وتجلت هذه المفارقة تحديدًا بين كتابي العقّاد وطه حسين، وتمثلت بصورة رئيسة في قضيتين مثيرتين للجدل هما: قضية ابن سبأ والسبئية، وقضية إحراق الغلاة الذين ألَّهوا الإمام في الكوفة.
بشأن القضية الأولى، حضرت قضية ابن سبأ والسبئية بصور مختلفة ومتفارقة في كتابي العقاد وطه حسين، وغابت هذه القضية كليًّا من كتاب الشرقاوي، وهي من القضايا الغامضة والملتبسة والمختلف عليها بين المؤرخين، ظلت وما زالت تثير الجدل، ومن تنبّه لها توقف عندها حائرًا لما يحيط بها من إشكاليات ملتبسة.
حضرت هذه القضية في كتاب العقاد وتكررت في أربعة موارد، امتدت في أربعة فصول، أعاد فيها العقّاد ما كان متداولًا، راكنًا له، ومتسالمًا معه، من دون فحص ولا تدقيق ولا تحقيق، أمام قضية فيها من الغموض ما فيها، وفيها من الالتباس ما فيها، وفيها من الضعف والوهن ما فيها، فلم يكن تطرق العقاد موفقًا في طريقة تناول هذه القضية.
بين الموارد الأربعة التي تطرّق فيها العقّاد للسبئية وابن سبأ، يمكن الإشارة إلى موردين، الأول يعرف فيه العقاد الرجل قائلًا هو: «عبدالله بن سبأ المشهور بابن السوداء، وهو يهودي ابن زنجية مولود في بلاد اليمن، ومذهبه الذي اشتهر به هو مذهب الرجعة الذي يجمع فيه بين قول اليهود بظهور المنقذ من أبناء داود، وقول غيرهم بظهور الإله الذي يتقمص جسم إنسان، وقول النصارى بظهور المسيح، وقول أهل فارس بتقديس الأوصياء من أقرباء الملوك والأمراء»[37].
المورد الثاني جاء في سياق الحديث عن حرب الجمل، وكيف أن ابن سبأ وجماعته لم يقبلوا التوسّط في الصلح، وحسب قول العقّاد: «فقد كان علي يميل كدأبه إلى مفاتحة الخارجين عليه في المهادنة أو المصالحة، وكان معه جماعة السبئية أتباع عبدالله بن سبأ، وهم أخلص الناس له، وأغيرهم عليه، ولكنهم لفرط غيرتهم ولددهم في عداوتهم لم يقنعوا بما دون القضاء على خصومه، ولم يقبلوا التوسط في الصلح دون الغلبة التي لا هوادة فيها، فدهموا القوم وأوقدوا جذوة الحرب، قبل أن يفرغ علي من حديث المهادنة والتقريب بينه وبين أصدقائه الذين خرجوا عليه»[38].
أما طه حسين وبخلاف العقّاد فقد أظهر شكوكًا تجاه هذه القضية، مناقشًا فيها ومجادلًا، مقدمًا رأيًا يستحق التبصّر والانتباه، مرتكزًا على الفحص والتدقيق العقلاني والتاريخي، متتبعًا تمثّلات القضية وصورها التاريخية المتقلبة، متعجبًا ومستغربًا من تذكرها تارة ونسيانها تارة أخرى، كاشفًا عن توظيفاتها المذهبية والأيديولوجية والسياسية.
وتفصيلًا للقول والمناقشة يمكن تلمّس جهات عدة، فمن جهة يرى طه حسين أن الرواة المتأخرين قد أكبروا هذه القضية وأسرفوا فيها، وحسب قوله: «وهناك قصة أكبر الرواة المتأخرون من شأنها وأسرفوا فيها، حتى جعلها كثير من القدماء والمحدثين مصدرًا لما كان من الاختلاف على عثمان، ولما أورث هذا الاختلاف من فرقة بين المسلمين لم تُمحَ آثارها بعدُ، وهي قصة عبدالله بن سبأ الذي يعرف بابن السوداء... ويخيّل إليَّ أن الذين يُكبرون من أمر ابن سبأ إلى هذا الحد يسرفون على أنفسهم، وعلى التاريخ إسرافًا شديدًا»[39].
من جهة ثانية، ناقش طه حسين فرضية خطر ابن سبأ إن كان له خطر فعلًا، مخالفًا وبشكل قاطع من يذهب إلى هذا الرأي، وحسب قوله: «ولست أدري أكان لابن سبأ خطر أيام عثمان أم لم يكن، ولكني أقطع بأن خطره إن كان له خطر ليس ذا شأن، وما كان المسلمون في عصر عثمان ليعبث بعقولهم وآرائهم وسلطانهم طارئ من أهل الكتاب أسلم أيام عثمان، ولم يكد يُسلم حتى انتدب لنشر الفتنة وإذاعة الكيد في جميع الأقطار»[40].
ومن جهة ثالثة، وضع طه حسين هذه القضية في إطار الخصومات المذهبية من ناحية، وفي إطار الصراعات السياسية من ناحية أخرى، شارحًا رأيه قائلًا: وأكبر الظن «أن خصوم الشيعة أيام الأمويين والعباسيين قد بالغوا في أمر عبدالله بن سبأ هذا، ليشكّكوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولاته من ناحية، وليشنّعوا على علي وشيعته من ناحية أخرى، فيردوا بعض أمور الشيعة إلى يهودي أسلم كيدًا للمسلمين، وما أكثر ما شنّع خصوم الشيعة على الشيعة»[41].
من جهة رابعة، وتأكيدًا لعقلانيته التاريخية دعا طه حسين إلى اتخاذ موقف التحفظ من هذه القضية، قائلًا: «فلنقف من هذا كله موقف التحفّظ والتحرّج والاحتياط، ولنُكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم، رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهوديًّا وكانت أمه سوداء، وكان هو يهوديًّا ثم أسلم لا رغبًا ولا رهبًا، ولكن مكرًا وكيدًا وخداعًا، ثم أتيح له من النجح ما كان يبتغي، فحرض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه، وفرقهم بعد ذلك أو قبل ذلك شيعًا وأحزابًا، هذه كلها أمور لا تستقيم للعقل، ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أن تقام عليها أمور التاريخ»[42].
ومن جهة خامسة، أبدى طه حسين استغرابًا من مفارقة تحددت ما بين إكثار ونسيان، إكثار في ذكر ابن سبأ في قضية مقتل عثمان، ونسيان في قضية حرب صفين، شارحًا رأيه قائلًا: «والغريب أن المؤرخين الذين أكثروا من ذكر ابن السوداء عبدالله بن سبأ وأصحابه حين رووا أمر الفتنة أيام عثمان، وأكثروا من ذكرهم بعد مقتل عثمان قبل أن يشخص علي من المدينة للقاء طلحة والزبير وأم المؤمنين، ثم أكثروا من ذكرهم حين كان علي يسفر إلى طلحة والزبير، وأمّ المسلمين في الصلح، ثم زعموا أنهم ائتمروا على حين غفلة من علي وأصحابه بإنشاب القتال، ثم زعموا أنهم أنشبوا القتال فجأة حين التقى الجمعان عند البصرة، وورطوا المسلمين في شر عظيم، الغريب أن هؤلاء المؤرخين قد نسوا السبيئة نسيانًا تامًّا، أو أهملوها إهمالًا كاملًا حين رووا حرب صفين»[43].
ومن جهة سادسة، وإمعانًا في التشكيك ربط طه حسين مجددًا قضية ابن سبأ بالخصومات المذهبية، معتبرًا أنها جاءت بقصد الإمعان في الكيد والنيل من المسلمين الشيعة، وحسب قوله: «إن أمر السبئية وصاحبهم ابن السوداء إنما كان مُتكلَّفًا منحولًا، قد اختُرع بأُخرة حين كان الجدال بين الشيعة وغيرهم من الفرق الإسلامية، أراد خصوم الشيعة أن يدخلوا في أصول هذا المذهب عنصرًا يهوديًّا إمعانًا في الكيد لهم والنيل منهم. ولو قد كان أمر ابن السوداء مستندًا إلى أساس من الحق والتاريخ الصحيح، لكان من الطبيعي أن يظهر أثره وكيده في هذه الحرب المعقدة المعضلة التي كانت بصفين، ولكان من الطبيعي أن يظهر أثره حين اختلف أصحاب علي في أمر الحكومة، ولكان من الطبيعي بنوع خاص أن يظهر أثره في تكوين هذا الحزب الجديد الذي كان يكره الصلح، وينفر منه، ويكفر من مال إليه أو شارك فيه»[44].
وآخر ما ينتهي إليه طه حسين في هذه القضية، يقرره قائلًا: إن «ابن السوداء لم يكن إلَّا وهما، وإن وجد بالفعل فلم يكن ذا خطر كالذي صوره المؤرخون، وصوروا نشاطه أيام عثمان، وفي العام الأول من خلافة علي، وإنما هو شخص ادّخره خصوم الشيعة للشيعة وحدهم»[45].
أما بشأن القضية الثانية، قضية الغلاة الذين ألَّهوا الإمام فقام بإحراقهم في الكوفة، الحادثة التي ثبتت عند العقاد، ولم تثبت عند طه حسين، وسكت عنها الشرقاوي.
أشار العقّاد لهذه القضية في موردين، المورد الأول جاء في المقدمة بصورة عرضية ومقتضبة، عند حديثه عن الذين أفرطوا في حب الإمام، والمورد الثاني جاء في الفصل الذي خصّه العقّاد للحديث عن حكومة الإمام، وكان الحديث فيه مقصودًا، ولم يكن باقتضاب المورد الأول.
لهذا سنكتفي بالإشارة إلى المورد الثاني، إذ رأى العقّاد أن الإمام قد حاد عن سنته المتبعة في القصاص وفي تفسير الشريعة، وخالفه فيه بعض فقهاء عصره ومنهم ابن عباس، شارحًا رأيه قائلًا: «غير أنه قد حاد عن هذه السنة في أمر واحد، خالفه فيه بعض فقهاء عصره، ومنهم ابن عمه عبدالله بن عباس، وذلك هو إحراقه الروافض الذين عبدوه ووصفوه بصفات الآلهة، وأبوا أن يتوبوا عن ضلالتهم مرة بعد مرة، وقيل: إنهم أصرّوا على عنادهم وهم يُحرقون، فاتخذوا من تعذيبه لهم بالنار دليلًا على أنه هو المعبود؛ إذ لا يعذب بالنار إلَّا الله. فهؤلاء المفسدون المفتونون قد استحقوا عقوبة الموت بقضاء الشريعة وقضاء الدولة التي لا يقوم لها نظام على هذه الضلالة، ولكن الإحراق بالنار صرامة لا توجبها ضرورة العقاب، وليس في اجتنابها خطر على الشريعة، ولا على النظام. إنما شفيع الإمام في هذه الصرامة أنه كان هو المستهدف لتلك الضلالة، وهو مظنة الريبة في الهوادة فيها، فهو ينزّه عدله عن كل ظن حيث تظن بالهوادة جميع الظنون، وقد أحرق الذين ألَّهوه، ونهى عن قتال الخوارج الذين حكموا بكفره، إلَّا أن يفسدوا في الأرض، أو يبدؤوا بالعدوان على بريء، وفي هذا الإنصاف بين مؤلّهيه ومكفّريه شفاعة من تلك الصرامة في العقاب»[46].
أما طه حسين فقد أشار لهذه القضية في مكانين من كتابه، ضمن سياق يتداخل بقضية ابن سبأ، في المكان الأول اتجه طه حسين بنظره الشكّي والنقدي إلى كتب التاريخ التي غفلت عن ذكر هذه القضية، ولم توثق تفاصيلها، معتبرًا أن المحدثين وأصحاب الجدل ينفردون بهذه القضية من دون الطبري وأصحابه، شارحًا رأيه قائلًا: «إلَّا أن المحدثين وأصحاب الجدل ينفردون من دون الطبري وأصحابه بشيء آخر، فيزعمون أن ابن السوداء وأتباعه ألّهوا عليًّا، وأن عليًّا حرقهم بالنار. ولكنك تبحث عن هذا في كتب التاريخ فلا تجد له ذكرًا، فلسنا نعرف في أيّ عام من أعوام الخلافة القصيرة التي وليها علي كانت فتنة هؤلاء الغلاة. وليس تحريق جماعة من الناس بالنار في الصدر الأول للإسلام، وبين جماعة من أصحاب النبي ومن صلحاء المسلمين، بالشيء الذي يغفل عنه المؤرخون فلا يذكرونه ولا يوقّتونه، وإنما يهملونه إهمالًا تامًّا. وكل ما رواه المؤرخون هو ما ذكره البلاذري في حديث قصير وقع إليه، من أن قومًا ارتدّوا بالكوفة فقتلهم علي، وحكم الإسلام فيمن ارتدّوا معروف، وهو أن يستتاب فإن تاب حقن دمه، وإن لم يتب قتل، فلا غرابة إذا في أن يقتل علي نفرًا ارتدّوا ولم يتوبوا، إن صح لهذا الخبر، وإن كان البلاذري لم يسمِّ أحدًا، ولم يوقّت لهذه الحادثة وقتًا، وإنما رواها مطلقة إطلاق من لا يطمئن إليها»[47].
في المكان الثاني من كتابه، اتجه طه حسين بنظره إلى خصوم الشيعة، الذين أكثروا في رواية هذه القضية، وحملوها أكثر ممّا تحتمل، وحسب قوله: «وقد روى المؤرخون أن ناسًا من أهل الكوفة ارتدّوا فقتلهم ثم حرقهم بالنار، وقد ليم في ذلك من ابن عباس، وأظن أن هذه القصة هي التي غلا خصوم الشيعة فيها، فزعموا أن هؤلاء الناس ألَّهوا عليًّا. ولكن المؤرخين والثقات منهم خاصة، يقفون من هذه القصة موقفين: فمنهم من يرويها في غير تفصيل كما رويتها، ومن هؤلاء البلاذري، ومنهم من لا يرويها ولا يشير إليها كالطبري ومن تبعه من المؤرخين. وإنما يكثر في هذه القصة أصحاب الملل والمخاصمون للشيعة، وما أرى إلَّا أن القوم يتكثرون فيها، ويحملونها أكثر مما تحتمل، كما فعلوا في أمر ابن السوداء»[48].
وخلاصة القول: إن طه حسين تفوّق على العقاد في ناحية التدقيق والتحقيق التاريخي، لأنه تقمّص نظر المؤرخ المتبصر والناقد، بخلاف العقاد الذي تقمّص نظر الأديب فتفوّق في ناحية الأدب، ولم يظهر تفوّقًا في ناحية التحقيق التاريخي.
-6-
تشكيكات واعتراضات
تباينت وجهات النظر تجاه هذه التأليفات الثلاثة وتغايرت في ساحة النقاد وعند المشتغلين بالدراسات الفكرية الإسلامية في داخل مصر وفي خارجها، بين من امتدحها واستحسنها فكرةً ومنهجًا، وبين من قابلها بالتشكيك والاعتراض فكرةً ومنهجًا.
لكن اللافت في الأمر، أن أشد مواقف التشكيك والاعتراض جاءت من أشخاص ينتمون إلى المجال الفكري الإسلامي، ويبرز من هؤلاء الكاتب الفلسطيني الدكتور غازي التوبة، والكاتب المصري أنور الجندي (1335-1422هـ/ 1917-2002م)، إلى جانب آخرين.
وبعيدًا عن الإسهاب والتطويل، سنكتفي بالإشارة إلى آراء هذين الكاتبين تمثيلًا لأصحاب هذا الاتجاه الاعتراضي، مبتدئين من الدكتور التوبة الذي شرح موقفه في كتابه: (الفكر الإسلامي المعاصر.. دراسة وتقويم) الصادر سنة 1969م، متحدثًا عن العقّاد وطه حسين في إطار الحديث عمَّا أطلق عليه المدرسة التاريخية، التي جاءت حسب تصنيفه إلى جانب مدرستين أخريين هما: المدرسة الإصلاحية والمدرسة التربوية، منتخبًا شخصيتين مراجعًا تراثهما الفكري، تمثيلًا لكل مدرسة من المدارس الثلاث.
في حديثه عن العقّاد لم يقترب التوبة من كتاب (عبقرية الإمام) تفصيلًا، لكنه شمله بالنقد إجمالًا، متّجهًا إلى العقّاد مصوّبًا نقده إلى فكرة العبقريات، متطرقًا إلى جانبين، جانب يتعلق بالذات، وجانب يتعلق بالموضوع.
في جانب الذات، يرى التوبة أن العقّاد قد تأثر ببعض الاتجاهات الفكرية الأوروبية التي تضخم الفرد وتبالغ في المواهب الفردية، جاعلًا من عبقرياته حقلًا لتطبيق نظرياته في الفرد، وشاهدًا على دوره الفعّال في المجتمع والتاريخ.
ومن هذه الجهة، اعتبر التوبة أن العقاد قد اعتسف على الحقيقة في عبقرياته الإسلامية؛ لأنه أراد أن يقولب الشخصيات الإسلامية ضمن نظرياته الجاهزة في الفرد والطبائع الفردية، فجاءت جملة من الفتوق في الغالب، وحزمة من المزوق في الشخصية.
وفي جانب الموضوع، يرى التوبة أن العقّاد أراد محاربة تيار المد الإسلامي بسلاحه وشخصياته، وكتب العبقريات ليؤكّد صحة أفكاره في أولوية الفرد في التاريخ، وليطعن في جدوى تنظيمات المد الإسلامي الجماعية المتمثلة في الإخوان المسلمين، وليشوّه إيمانهم بهذا الجانب الجماعي من الإسلام، ويشكّكهم في دور العقائد والتربية في توجيه الأشخاص[49].
أما طه حسين، فيرى التوبة أنه كتب (الفتنة الكبرى) مشكّكًا في حكم الخلافة الإسلامية الأول وفي إمكانية استمراره، ناعيًا على الإسلام افتقاره للنظام المكتوب، معلنًا انبثاق مذهب جديد في السلطان يقوم على الجبر والقهر، مبيّنًا رضوخ المسلمين وارتضاءهم للمذهب الجديد، زاعمًا انسحاب الإسلام من مختلف قطاعات الحياة وسيطرة المال والأثرة، قاصدًا أن يقنع المسلمين بأن الحكومة الإسلامية لا وجود لها بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كي يصرف أنظار المسلمين عنها، مثنيًا عزائهم عن السعي إليها بتهويل الصعوبات، ومشكّكًا تيار المد الإسلامي المتعاظم في نهاية الأربعينات وأوائل الخمسينات بجدوى محاولته إرجاع الخلافة الإسلامية إلى الوجود استنادًا إلى تاريخ الماضي.
وخلاصة الرأي عند التوبة، أن كتاب (الفتنة الكبرى) هو فتنة كبرى في الفكر الإسلامي المعاصر؛ لأنه مملوء بالتشكيك والدس ومغالطة الحقائق، ودوّن بأسلوب هادئ سلس نافذ إلى النفس، وجاء في قالب تاريخي ديني إسلامي. ومعتبرًا أن طه حسين لم يتغير حين اتجه إلى الكتابة عن الإسلام في نهاية الأربعينات، فقد بقي هو نفسه طه حسين في الثلاثينات وما قبلها، معاديًا للدين ومحاربًا له، ومفتونًا بالحضارة الغربية»[50].
وعلى هذا النسق جاءت اعتراضات أنور الجندي وتشكيكاته، وأخفّها نصيبًا ما اتجه إلى العقّاد، فقد تركزت على فكرة العبقرية بوصفها فكرة غربية محضة، شارحًا رأيه قائلًا: إن «الأستاذ العقّاد بدأ عمله بمنطلق غربي محض، هو فكرة العبقرية التي تداولتها كتابات الغربيين شوطًا طويلًا، عن نوع من الامتياز أو الذكاء في مجال الفن والموسيقى والشعر والقصة في الغرب، ويسحب هذا الوصف على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المؤيّد بالوحي، وعلى العظماء من الصحابة دون تفرقة بين النبي والصحابي»[51].
واشتدت هذه الاعتراضات واتسعت على طه حسين؛ إذ رأى فيه الجندي أنه في كتابه (الفتنة الكبرى) قد قدم الإسلام من خلال التفسير المادي للتاريخ، وظل متابعًا المستشرقين في هذا المنهج، ولم تكن كتاباته عن الإسلام ومنها كتاب (الفتنة الكبرى)، إلَّا تفصيلًا لتلك الشبهات التي أثارها الاستشراق، معتبرًا أن ما قدمه طه حسين خلال حياته الطويلة ما هي إلَّا مجموعة من السموم التي حارب بها حقائق الإسلام، خاصًّا بها كتاب (الفتنة الكبرى)[52].
وامتدت هذه الاعتراضات وتواصلت بالشدة نفسها مع الشرقاوي؛ إذ يرى الجندي أن الشرقاوي في مقالاته المنشورة حول الإمام علي في جريدة الأهرام، قد جدّد خصومته القديمة للإسلام تحت أسلوب برّاق من الانتماء للإسلام، معتبرًا أنه يتابع مخطط طه حسين، وما كتابه عن الإمام إلَّا حلقة ثالثة من كتاب (الفتنة الكبرى)، فهو امتداد حقيقي وتجديد استشراقي لأفكار طه حسين المسمومة التي بثها في كتابه (الفتنة الكبرى) و(علي وبنوه)، وجددها الشرقاوي في الثمانينات، كما أنه يمضي في سلك واحد مع جورجي زيدان، ولا يصلح أن يكون مؤرخًا، وإنما هو قصّاص يغلبه الخيال والرواية المثيرة[53].
إلى جانب هذه الاعتراضات، ضمّن الجندي اعتراضات آخرين على الشرقاوي، جاءت من أشخاص ينتمون إلى الوسط الديني، وتركّزت بصورة رئيسة على تضعيف مصادر الكتاب (علي إمام المتقين)، والتشكيك في نوايا الكاتب، وسلب أهلية الشرقاوي في الكتابة التاريخية، معتبرين أنه تقصّد التهجم على بعض الصحابة، وقدّم صورة مغلوطة عن التاريخ الإسلامي، متأثرًا بنزعته اليسارية، إلى غير ذلك من تشكيكات واعتراضات.
لكن الملاحظ على هذه الاعتراضات، أنها من جهة تنحو منحى الاتّهام والتشكيك، ويغلب عليها حالة الانفعال وضيق الصدر، وليست بعيدة عن التعالي وسوء الظن، وتصرف النقد عن مجاله العلمي، وتميل إلى الأحادية في الرأي، ولا تعطي الآخرين حق الاختلاف، وتسد طريق التواصل المعرفي، وتكرس الخصومات، ولا تسهم في تقدم المعرفة ولا في ازدهار الفكر.
ومن جهة ثانية، أن التاريخ لا عصمة له، وطريق العلم إليه مفتوح وليس مغلقًا، والحقيقة فيه مشاعة وليست حكرًا على أحد، والروايات التاريخية ما زالت بحاجة إلى فحص وتدقيق وتحقيق بلا هيبة ولا رهبة، ولا قمع ولا اضطهاد، فالتاريخ الإسلامي في تقدير الكثيرين إسلاميين وغير إسلاميين أنه بحاجة إلى إعادة كتابة من جديد.
ومن جهة ثالثة، أن هذه الاعتراضات جاءت متأثرة بالصراعات الأيديولوجية الحادة التي شهدتها الساحة المصرية، ودل على ذلك تصوير أن العقاد وطه حسين إنما اتجها نحو الكتابة في الإسلاميات بقصد محاربة تيار المد الإسلامي حسب عبارة التوبة، ومواجهة اليقظة الإسلامية حسب عبارة الجندي، وهكذا الحال مع الشرقاوي الذي اعتبره الجندي أنه جدد خصومته القديمة للإسلام!
هذه الأحكام بعيدة كل البعد عن الواقع، وتثير الاستغراب، وتدل على قصور في الفهم، وتنتمي إلى ما يعرف بالتفسير الأيديولوجي وهو نمط من التفسير لا يكون متجردًا في أحكامه وتقييماته، ويكون عادة محكومًا بذهنية النوايا والمسبقات، وبعقلية الصراعات والنزاعات، ولا يمكن فهم تلك الاعتراضات بعيدًا عن هذا التفسير الأيديولوجي الذي ينتكس فيه منطق العلم والفهم.
وأكثر من تأثر بهذه الاعتراضات ولامسها هو الشرقاوي، وشرح ذلك متألمًا في مقدمتي كتابه، وحسب وصفه: فقد تعرض لافتراءات واتهمامات جائرة، وكابد حماقات، ولقي عنت وشغب، ليس هذا فحسب، فقد انفجرت ضده ثورة وصفت بالظالمة، في دلالة على حجم وقوة ما تعرض له من هجوم المخالفين والمعترضين.
وحسب رواية الشرقاوي، فقد بدأت القضية بخلاف هادئ لكن سرعان ما التهب واتسع وخرج عن إطاره، وشرح ذلك قائلًا: «كنت أنشر هذا الكتاب في جريدة الأهرام كل أربعاء، وعندما وصلت إلى موقف علي وأبي ذر من المال، كتب الصديق ثروت أباظة معلنًا خلافه معي حول هذا الموقف من المال، وزعم أنه موقف الشيوعية لا موقف الإسلام، فرددت عليه، وكان هذا الخلاف في ظل ظليل من الاحترام والود المتبادل، ولكن الصديق ثروت لم يكد يعلن رأيه، حتى انفجرت ضدي ثورة سماها الأستاذ الجليل الدكتور محمد الطيب النجار ثورة ظالمة! وكأن الذين أشعلوها كانوا ينتظرون إشارة البدء، فقد استغلوا كلام الصديق ثروت أباظة وأوّلوه ضدي، مما اضطره إلى أن يكتب مرة أخرى ليزجرهم وينهاهم عن سوء استغلال خلاف الرأي فيما بيننا»[54].
وأخذ الشرقاوي يعدد بعض هذه الاعتراضات مناقشًا فيها ومجادلًا، متعجبًا ومنصدمًا من طريقة الفهم وطريقة المحاجة، وأول ما تعجب منه الشرقاوي اتهامه بتقصّد الإساءة لبعض الصحابة، وحسب قوله: «وإن تعجب فعجب أن يتخيل أحد مهما يكن حظه من الفهم، أني أتجشم هذه المشقة لأسيء إلى أحد من الصحابة أو لأشوّه صورته! ولكني أسوق ما لا بد أن أسوقه من قصص الخلاف بين الصحابة، لأن هنا الخلاف أثر تأثيرًا بالغًا في شخصية الإمام علي ومواقفه، وشحذ اجتهاده ليضع أحكامًا ما كان يعرفها المسلمون من قبل، وما كانوا ليعرفوها لولا هذا الخلاف! وقد ظلت هذه الأحكام هي التي تطبق حتى اليوم كلما تحاربت فئتان من المسلمين منذ الفتنة الكبرى»[55].
وعن اتهامه بالأخذ بالروايات الضعيفة أو الاعتماد على كتب غلاة الشيعة، عقّب الشرقاوي قائلًا: أود «أن أؤكد للذين اتهموني بالأخذ بالروايات الضعيفة أو بالاعتماد على كتب غلاة الشيعة، أود أن أؤكد لهم أنهم لم ينصفوا أنفسهم، إذ خالفوا الحقيقة، فقد تحريت ألَّا اعتمد إلَّا على المراجع الصحاح الموثوق بها من كتب وموسوعات أهل السنة وحدهم، لأسد الذرائع أمام من يحاولون إثارة الفرقة، أو إيقاظ الفتنة النائمة بين الشيعة والسنة، لا لأني أشك فيما كتبه مؤرخو الشيعة وفيهم مؤرخون ثقات. من أجل ذلك حرصت على أن أضع ثبتًا بالمراجع في آخر الكتاب، مخالفًا بذلك ما اتبعته من قبل، عسى أن يجهد المشككون أنفسهم في البحث فيعلموا ويتيقنوا، ويبذلوا في سبيل ذلك بعض العرق، بدلًا من أن يريحوا أنفسهم بتوجيه الاتهام ويتعبوا الآخرين، وبدلًا من أن يجهدوا القراء بإثارة الزوابع بغبارها الذي يخفي الحقيقة عن العيون... وعذري في ذلك أن من الناس من تحداني أن أذكر المراجع التي تثبت ما لم يقبله لأنه في الحق يناقض مصالحه، ثم لأن من الناس من يتهم بدلًا من أن يفكر ويبحث ويتعلم، ومن الناس من يجادل بغير علم ولا هدى ولا سراج منير»[56].
وكان الشرقاوي قد رأى أن الأمانة تحتم عليه أن يضم إلى الكتاب ما دار حوله من جدال، ويثبت رده عليها في آخر الجزء الأول من الكتاب، لكنه تلقى رسائل من القراء تتضمن بعض الملاحظات، وعلى إثرها رأى أن يحرر الكتاب من كل ما يحتمل سوء الفهم أو سوء التأويل، أخذًا بنصيحة قراء يعتز بتقديرهم، فاستحسن أن يجعلها في نهاية الجزء الثاني، ثم إنه أشفق على القارئ من ذلك، ففضل أن تستقل تلك المحاورات وما يدخل في بابها، بكتاب خاص اختار له عنوان (محاورات)، راجيًا أن يصدر قريبًا، لكني لا أعلم بصدوره.
مع كل ما تعرض له كتاب الشرقاوي من تشكيكات واعتراضات حادة وقاسية بقي كتابًا مميزًا ومؤثرًا، ومن الشهادات الدالة على تأثيره ما ذكره الطبيب والسياسي المصري حسام بدراوي في حوار معه قائلًا: «تأثرت كثيرًا بالكاتب عبدالرحمن الشرقاوي وخاصة بكتابه «علي إمام المتقين»، فعندما قرأت هذا الكتاب وقارنت ما جاء به من معلومات عن الإمام علي، وما يدرس لنا بالمدارس وجدت أن الهوة واسعة، وأن ما جاء في الكتاب يختلف كثيرًا عمَّا هو موجود بكتب الدراسة، وأن الإمام علي شخصية أسطورية تستحق الوقوف عندها كثيرًا؛ لذلك آليت على نفسي أن أقرأ كل ما كتب عن الإمام علي بن أبي طالب، بحيث أصبح الإمام علي وبمرور الوقت المثل الأعلى بالنسبة لي»[57].
هذه كانت لمحة كشفت عن طبيعة الاعتراضات التي واجهت التأليفات الثلاثة المذكورة، والمفارقة أنها جاءت من أشخاص ينتمون إلى المجال الفكري الإسلامي، لعلهم كانوا يظنون أنهم أحق من غيرهم بالكتابة التاريخية عن الإسلام وتاريخه.
-7-
ملاحظات وتحليلات
بعد هذه الجولة الاستطلاعية والاستكشافية، بقيت الإشارة لبعض الملاحظات والتحليلات النقاشية والنقدية، حتى تتكشف بعض الأبعاد الأخرى المضيئة عن تلك التأليفات الثلاثة، من هذه الملاحظات والتحليلات:
أولًا: إن هذه التأليفات التي لقيت مثل تلك التشكيكات والاعتراضات الحادة والقاسية من أشخاص ينتمون إلى المجال الفكري الديني السني، لقيت في المقابل رضا في المجال الإسلامي الشيعي وترحيبًا، ظهر في الإقبال عليها، والعناية بها، وتجلى في رفع قيمتها الأدبية والتاريخية، وتمييزها عن غيرها من التأليفات الكثيرة، خصوصًا أنها جاءت من أدباء لهم منزلتهم الأدبية الكبيرة.
وفي حياته التفت طه حسين لمثل هذا الانطباع الحسن المتشكل حول كتابه في ساحة المسلمين الشيعة، وتحديدًا عند شيعة العراق، وأشار لهذا الانطباع في أحاديثه الشفهية، عاطفًا عليه بكلام سيِّئ جاء عابرًا، وحسب قوله: «عندما ألّفت كتابي (علي وبنوه) أُنصفت عليًّا، وتحدثت عنه حديثًا طيّبًا فيما أظن، وقد رضيه كثير من شيعة العراق، ومع هذا جاءني من أحدهم رسالة كلها شتم وسب ودعاء عليَّ، ومن هذا الدعاء: أعمى الله بصيرتك كما أعمى بصرك، وذلك لأني لم أذكر في الكتاب حديث غدير خم»[58].
ومثل هذا الانطباع حصل كذلك عند شيعة إيران، وأشار إليه الباحث الإيراني المتخصص في الأدب العربي الدكتور آذرتاش آذرنوش في الكلمة التي ألقاها في مهرجان الذكرى الثانية لوفاة طه حسين المنعقد بالقاهرة سنة 1975م، قائلًا: «إن نظرة طه حسين إلى بدء الدعوة الإسلامية، وظهور الإسلام، ومنزلة علي ودوره في ذلك، وما كان يوجّه من نقد إلى الخلافة الأموية، جعل آثاره مستساغة لدى الشعب الإيراني الشيعي، فلقت حفاوة واهتمامًا بالغين»[59].
ويتأكد هذا الانطباع عند معرفة عناية الإيرانيين بهذا الكتاب (علي وبنوه) لطه حسين، وحرصهم المبكر على ترجمته، وتوالي هذه الترجمات وتعددها، فقد صدرت له ترجمة بالفارسية سنة 1961م يحتمل أنها من أسبق الترجمات، وبعد سنتين على تاريخ الترجمة الأولى ظهرت ترجمة أخرى سنة 1963م، وفي سنة 1964م ظهرت ترجمة ثالثة ضمّت الجزأين، ولا يستبعد أن تكون هناك ترجمات أخرى بعد هذه السنوات الطوال.
وبالنسبة لكتاب العقاد فالرضا به والترحيب كان واضحًا عند المسلمين الشيعة، ظهر متجليًا في العودة المستمرة إليه، والاقتباس منه، والاستشهاد به، والحديث الحسن عنه.
وأما كتاب الشرقاوي فهو الأكثر وضوحًا من هذه الناحية، لكون أن الشرقاوي فاق الآخرين وبلا قياس حبًّا وعاطفة للإمام، وقد توالت طباعة كتابه ولم تتوقف، ممتدة من لبنان إلى العراق وإيران وغيرها. وحين أعادت دار القارئ طباعته في لبنان سنة 2018م، ذكرت في مقدمة الناشر أن الأستاذ الشرقاوي أعطى شخصية الإمام (عليه السلام) حقها في هذا الكتاب.
ثانيًا: خضعت المطالعة التاريخية لطه حسين في كتابه (الفتنة الكبرى)، لتأويلات متعددة ومتباينة في الدراسات الفكرية العربية المعاصرة، تراوحت بين من رجّح التأويل الفكري أو الأيديولوجي، وبين من رجّح التأويل السياسي، إلى جانب من رجّح التأويل الاجتماعي الاقتصادي.
ذهب إلى التأويل الفكري، الكاتب التونسي الدكتور الحبيب الجنحاني الذي رأى أن طه حسين قدم تفسيرًا ماديًّا للتاريخ الإسلامي من زاوية الجدلية التاريخية، متلمّسًا من كلامه اضطرابًا وترددًا، وحسب قوله: «وبالرغم ممّا نلمسه من اضطراب وتردد في رؤية طه حسين التاريخية، فهو يعد دون ريب في طليعة المؤرخين العرب المعاصرين الذين حاولوا تفسير وقائع التاريخ الإسلامي تفسيرًا ماديًّا، ونظروا إليه من زاوية الجدلية التاريخية، ولا سيما في كتابه «الفتنة الكبرى»، وإن جاءت هذه المحاولة استهلالًا متأنيًا على استحياء، وتبرز محاولته هذه في جلاء في تصويره أولًا للصراع العنيف في المجتمع القرشي إثر ظهور الإسلام على أساس أنه صراع اجتماعي بين فئتين متقابلتين: فئة السادة الأغنياء من الأرستقراطية القرشية، وفئة الفقراء من المستضعفين في الأرض والرقيق، ثم ثانيًا: في الصراع الطبقي الذي اشتد أمره داخل المجتمع الإسلامي بعد الفتوحات، وما أدت إليه من تغيير كبير في حياة المسلمين الاجتماعية، وتجمع ثروات طائلة في أيدي طبقة اجتماعية جديدة»[60].
ويقترب من هذا التأويل الفكري أو الأيديولوجي من زاوية أخرى، الكاتب المصري الدكتور محمود إسماعيل الذي رأى أن طه حسين اعتمد في تفسير الفتنة الكبرى على رؤى مفكرين غربيين متباعدين فكرًا ومنهجًا، من دون اعتبار لما بين هذه الرؤى من اختلافات، فكان بالنسبة إليه مثالًا للتفسيرات التي تفتقر إلى الوحدة والشمول، وحسب قوله: «نسوق في هذا الصدد محاولة طه حسين لتفسير الفتنة الكبرى، حيث اعتمد رؤى كارل ماركس وفرويد ودركايم، دون اعتبار للاختلافات الجوهرية بينها»[61].
وذهب إلى التأويل السياسي الكاتب التونسي الدكتور عمر الجمني الذي وجد في كتاب (علي وبنوه) إشارات دالة على أن لهذا النص ظاهرًا وباطنًا، ظاهرًا يرتد إلى الماضي، وباطنًا يلامس الحاضر، وتحديدًا الحاضر المصري، فهذا الكتاب -في نظر الجمني- «قد كتب في مطلع النصف الثاني من هذا القرن –العشرين-، وربما شرع فيه قبل منتهى النصف الأول، ففيه إشارات دالة على أن لهذا النص ظاهرًا وباطنًا، فيه مثلًا: إنكار للظلم، وانكسار للإرهاب، وقمع الرأي... أفلا يكون هذا التركيز مقصودًا، ليشير به إلى الإرهاب الذي مارسته الحكومات المستبدة في أواخر الأربعينات؟ ألا يكون هذا إدانة لسياسة الإرهاب، وتحريضًا للناس على عدم السكوت؟ هذا أمر نرجحه أيضًا»[62].
وجزمًا بهذا الرأي في التأويل السياسي، فقد عمّمه الجمني على باقي كتابات طه حسين في الإسلاميات، وخلص إلى نتيجة قررها قائلًا: «ومعنى هذا كله أن طه حسين في إسلامياته المختلفة، يتخذ التاريخ وسيلة إلى أهدافه في الإصلاح السياسي والاجتماعي، وهو إن يفعل ذلك فلأن الظروف السياسية لم تكن تسمح له ولا لغيره أن يعبر بالجرأة اللازمة، وبالوضوح الكامل عن مشروعه الإصلاحي، فكان لزامًا أن يداور السلطان ويحتاط من شره، ويستخفي بأفكاره، ويعرب عنها في كثير من الإيماء والإيجاز، وفي كثير من الألغاز واصطناع المجاز، حتى لا يقع تحت طائلة القانون، وفي قبضة السلطان»[63].
أما التأويل الاجتماعي الاقتصادي، فقد ذهب إليه الكاتب المصري الدكتور محمود أمين العالم (1922-2009م)، الذي وضع محاولة طه حسين في الفتنة الكبرى في إطار المعالجة الاجتماعية الاقتصادية، عابرًا فيها من الماضي القديم إلى الحاضر المعيش، شارحًا رأيه قائلًا: إننا نلاحظ «أن هذا الجزء الأول من الفتنة الكبرى قد كتب بين يوليو وأغسطس عام 1947م، في مرحلة الانتفاضات الشعبية العديدة التي تفجرت آنذاك في مصر ضد حكومات الأقلية، وضد الاحتلال البريطاني، وهذا التعسف والاستبداد والفساد الملكي، وضد الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية المتردية، وكانت كتابة طه حسين لهذا الجزء الأول، امتدادًا على نحو مختلف لكتابات أخرى له في تلك المرحلة كانت القضايا الاجتماعية وخاصة قضايا الفقر والظلم محورًا لها، ومن أبرز هذه الكتابات كتاب: المعذبون في الأرض، والوعد الحق. ولهذا نستطيع القول بأن هذه المعالجة الاجتماعية الاقتصادية التي عالج بها طه حسين الفتنة الكبرى أيام عثمان، لم تكن مجرد تحليل وتفسير وتقييم لماضٍ تاريخي، بقدر ما كانت كذلك تحليلًا وتفسيرًا وتقييمًا لحاضر حي كان يعايشه. وكذلك كان –في تقديري- شأن الجزء الثاني من الفتنة الكبرى الذي تعرض فيه طه حسين لمحنة علي وبنيه، فلقد كتبه طه حسين في ظل معايشته لمحنة أخرى، كتبه بين أغسطس عام 1952 ومايو 1953م، أي بدأ كتابته بعد شهر واحد من قيام ثورة 23 يوليو، وأتمه خلال فترة الصراع الذي احتدم آنذاك تثبيتًا للسلطة الجديدة. ولم يكن منهجه في تحليل محنة علي وبنيه، يختلف في الجوهر عن تحليله لأسباب محنة عثمان، برغم اختلاف العناصر والعوامل والملابسات»[64].
هذه بعض التأويلات المتعددة التي وقفتُ عليها، وننظر إليها بصفتها قراءات تأويلية تُحسب على أصحابها، تقبل الموافقة كما تقبل المخالفة، الجزئية أو الكلية، ويصدق هذا الحال على عموم القراءات التأويلية غير الأحادية.
كما أن هذه التأويلات المتعددة جاءت لتؤكد أن المطالعة التاريخية لطه حسين لم تكن من نمط المطالعات الجامدة أو الساكنة، ولا من نمط المطالعات الهزيلة أو الضحلة التي لا تحرّك نقاشًا، ولا تُثير جدلًا، ولا تولّد تأويلًا، ولهذا فقد خضعت لفحص وتدقيق تولّدت منه مثل تلك التأويلات المتعددة.
من جهة أخرى، يمكن النظر لهذه التأويلات إما على أساس أن كل واحدة منها لامست جزءًا من المطالعة، ومن ثم فهي توافق هذا الجزء، لكنها لا تطابق كامل المطالعة، وإما على أساس أن هذه التأويلات هي أقرب إلى نمط التأويلات الانتقائية، فمن يميل إلى التأويل المادي ينتقي من المطالعة ما يوافق هذا الجانب، ومن يميل إلى التأويل الأيديولوجي ينتقي من المطالعة ما يوافق هذا الجانب، وهكذا.
أما حقيقة هذه المطالعة -في نظر طه حسين- فقد قررها قائلًا: «وأنا أريد أن أنظر إلى هذه القضية نظرة خالصة مجردة، لا تصدر عن عاطفة ولا هوى، ولا تتأثر بالإيمان ولا بالدين، وإنما هي نظرة المؤرخ الذي يجرد نفسه تجريدًا كاملًا من النزعات والعواطف والأهواء، مهما تختلف مظاهرها ومصادرها وغاياتها»[65].
ثالثًا: اعتنى العقّاد في عبقرياته بدراسة ما أطلق عليه مفتاح الشخصية، عملًا بمنهجه النفسي، معرّفًا هذا المفهوم بأنه «الأداة الصغيرة التي تفتح لنا أبوابها، وتنفذ بنا وراء أسوارها وجدرانها، وهو كمفتاح البيت في كثير من المشابه والأغراض، فيكون البيت كالحصن المغلق ما لم تكن معك هذه الأداة الصغيرة التي قد تحملها في أصغر جيب، فإذا عالجته بها فلا حصن ولا إغلاق، وليس مفتاح البيت وصفًا ولا تمثيلًا لشكله واتساعه، وكذلك مفتاح الشخصية ليس بوصف لها ولا بتمثيل لخصائصها ومزاياها، ولكنه أداة تنفذ بك إلى دخائلها ولا تزيد»[66].
وعملًا بهذا المفهوم، يرى العقاد أن مفتاح شخصية الإمام يتحدد فيما أسماه آداب الفروسية، ملخصًا هذه الآداب في كلمة واحدة هي «النخوة» التي كانت طبعًا في الإمام فطر عليه، شارحًا رأيه قائلًا: «آداب الفروسية هي مفتاح هذه الشخصية النبيلة الذي يفض منها كل مغلق، ويفسر منها كل ما احتاج إلى تفسير، وآداب الفروسية هي تلك الآداب التي نلخصها في كلمة واحدة وهي: النخوة، وقد كانت النخوة طبعًا في علي فُطِرَ عليه، وأدبًا من آداب الأسرة الهاشمية نشأ فيه، وعادة من عادات الفروسية العملية التي يتعودها كل فارس شجاع متغلب على الأقران، وإن لم يطبع عليها وينشأ في حجرها... وهكذا كان علي في جميع أحواله وأعماله، بلغت به نخوة الفروسية غايتها المثلى، ولا سيما في معاملة الضعفاء من الرجال والنساء، فلم ينسَ الشرف قط ليغتنم الفرصة، ولم يساوره الريب قط في الشرف»[67].
هذه هي وجهة نظر العقّاد، وعنده ما يسنده وما يؤيد قوله، لكني أرى أن مفتاح شخصية الإمام تتحدد في أمر آخر، هو أكثر انطباقًا، وأوضح مصداقًا على عموم شخصية الإمام وسيرته، ونعني به: الطهارة واتباع الحق، فسيرة الإمام من الولادة إلى الشهادة هي سيرة الإنسان المتطهر، فقد ولد في الكعبة، ولم يسجد لصنم قط، وليست له سابقية في الجاهلية، وأول من أسلم من الرجال، وأول من صلى مع النبي من الرجال، وتربى في حضن النبي وكان ربيبه وتلميذه ومحبه، والتزم بسيرته ولم يحد عنها قط، وهو القائل عن نفسه: «ولقد كنت اتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمه»، وليس هناك سيرة تطابق سيرة النبي إلَّا سيرة الإمام، وعلى هذا المنوال امتدت سيرته إلى أن ختمها بالشهادة.
والشواهد الدالة على هذا الأمر لا حصر لها، ونكتفي بشاهدين قديم وحديث، قديم يتحدد في قول شهير لأحمد بن حنبل موجّهًا كلامه لابنه عبدالله قائلًا: «اعلم أن عليًّا كان له كثير من الأعداء، ففتش أعداؤه له عيبًا فلم يجدوا»[68]. فهل يصدق هذا القول على إنسان من البشر لو لم يكن متطهرًا!
وشاهد حديث، تقصّدت أن يكون من العقّاد نفسه، ويتحدد في قول تتأكد حكمته أنه جاء في آخر ما ختم به العقّاد كتابه، ملخصًا فيه البداية والنهاية لسيرة الإمام، كيف أنها بدأت من الكعبة وختمت في المسجد، وما بين الكعبة والمسجد يتجلى عنوان الطهارة، وحسب قول العقّاد: «أي ختام أشبه بهذا الشهيد المنصف من هذا الختام، لقد ولد كما علمنا في الكعبة، وضرب كما علمنا في المسجد، فأية بداية ونهاية أشبه بالحياة التي بينهما من تلك البداية وتلك النهاية»[69].
وبين الطهارة واتباع الحق، هناك تلازم لا ينفك ولا ينقطع، فالطهارة تحيل إلى الذات بوصفها ملكة نفسانية مكانها النفس، واتباع الحق يحيل إلى الموضوع خارجًا باعتباره نهجًا يظهر في السلوك الخارجي، وتتجلى الطهارة خارجًا في اتباع الحق، وقد كان الإمام مثالًا لاتباع الحق، ومصداقًا له، لم تعرف سيرته إلَّا الحق، وما عرف إلَّا بالحق، وما كان إلَّا على الحق، في أقواله وأعماله، من بداية سيرته إلى شهادته، وصدّق ذلك ما روي من الفريقين عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار»[70].
رابعًا: وقف العقاد على مسألة حق الإمام في الخلافة بعد النبي، وصورها بطريقة ملتبسة وغير عادله، رابطًا هذا الحق بمزية قرابة الإمام من النبي، وحسب قوله: «إن الإمام أنكر إجحافًا أصابه في تخطّيه بالبيعة إلى غيره بعد وفاة ابن عمه صلوات الله عليه، وأنه كان يريد أن قرابته من النبي مزية ترشحه للخلافة بعده، لأنها فرع من النبوة على اعتقاده، وهم شجرة النبوة ومحط الرسالة كما قال، ومما لا شك فيه، أن شعوره هذا طبيعي في النفس الإنسانية كيفما كان حظها من الزهد والقناعة»[71].
وقد عقّب العقّاد على هذا الموقف قائلًا: «غير أن الخلافة الإسلامية مسألة عالمية لا توزن بميزان واحد، ولا يؤتم فيها برأي واحد ولا بحق واحد، وقد يُضحَّى في سبيلها بالعظيم والعظماء، إذا تعارضت الحقوق وتشعّبت الآراء»[72].
لا يمكن الاتفاق مع العقّاد في هذا الموقف، فلا شك ولا ريب أن الإمام لم يدع حقه في الخلافة لمزيّة قرابته من النبي بهذا العنوان فحسب، وإنما حاجج الآخرين بهذه المزية حينما قدّم هؤلاء أنفسهم بهذه المزية في سقيفة بني ساعدة، كونهم أولى بالخلافة من الأنصار لأنهم أقرب إلى النبي، وحسب منطقهم فهم أولياؤه وعشيرته، وأحق الناس بالأمر من بعده، وأن العرب لا ينبغي أن تولي هذا الأمر إلَّا من كانت النبوة فيهم، فالإمام حاجج هؤلاء النفر القليل بمنطقهم في إثبات حقه.
فإذا كانت قريش أولى بالخلافة من الأنصار لأنهم أقرب إلى النبي، فإن في قريش من هم أقرب إلى النبي من غيرهم، وليس هناك أحد -بشهادة الجميع ومعرفتهم- أقرب إلى النبي من جميع الجهات، نسبًا وعشيرةً ومنزلةً وفضلًا وسيرةً وحبًّا كالإمام (عليه السلام).
من جهة ثانية، عُرف عن الإمام في كل سيرته أنه ما وضع نفسه في غير موضع الحق، وما طالب بشيء إلَّا وكان الحق معه، وما خالفه أحد إلَّا وظهر أنه لم يكن على حق، وسيرة الإمام شاهدة على ذلك لكل من نظر فيها وتبصر، فحينما أعلن الإمام أنه أحق بالخلافة بعد النبي، كان يعلم يقينًا بأحقية موقفه، وأنه في هذا الموقف يطابق موقف النبي ويوافقه تمامًا، وهو الذي ما حاد عن سيرة النبي قط.
من جهة ثالثة، ظهر العقّاد كما لو أنه يقدم درسًا تعليميًّا وتوجيهيًّا لم يكن الإمام متبصّرًا به، ولا متنبّهًا له، أو ملتفتًا إليه، عندما قال: «غير أن الخلافة الإسلامية مسألة عالمية لا توزن بميزان واحد، ولا يؤتمّ فيها برأي واحد ولا بحق واحد، وقد يُضحَّى في سبيلها بالعظيم والعظماء، إذا تعارضت الحقوق وتشعبت الآراء».
وكان الأولى بالعقّاد أن يوجّه هذا الكلام الدرسي والتعليمي، لأولئك الذين حاجّوا الأنصار وقالوا: إن الخلافة في قريش، فإذا كانت الخلافة الإسلامية مسألة عالمية فإنها لا توزن بميزان الجماعة أو القبيلة، وإنما توزن بميزان الإسلام!.
خامسًا: في انطباع بعض أن المكانة الأدبية لكتابي العقّاد وطه حسين، قد اهتزّت وتغيّرت بعد صدور كتاب الأديب اللبناني المسيحي جورج جرداق الموسوم بعنوان: (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) الذي تتابع صدور أجزائه الخمسة ما بين أواخر الخمسينات ومنتصف سيتنات القرن العشرين، بناء على أن كتاب جرداق قد تفوّق على كتابي العقّاد وطه حسين من جهات عدة، منها: جهة البيان، وجهة المنهج، وجهة الكشف والتحليل، وهكذا من جهة الكم.
وفي هذا النطاق يمكن الإشارة لثلاثة أقوال ينتمي أصحابها إلى ثلاث بيئات عربية هي: لبنان وسوريا والعراق، القول الأول عبّر عنه العالم اللبناني الشيخ محمد جواد مغنية (1322-1400هـ/ 1905-1979م) الذي بالغ كثيرًا في مدح كتاب جرداق، وميّزه على غيره خاصًّا بالذكر كتابي العقّاد وطه حسين، وحسب قوله: «أين كل ما كتبه الأولون والآخرون بما فيهم عباس محمود العقّاد وطه حسين، ممّا كتبه الأديب اللبناني الشاب الأستاذ جرداق، الذي يُدهشك بسحر البيان، وقوّة العلم، وعظمة الفن، حتى يستولي عليك، ويسيطر على عقلك وشعورك، فلا تعود تشعر إلَّا بالكاتب وبالكتاب»[73].
القول الثاني عبّر عنه الأديب السوري إنعام الجندي، وجاء قوله مطابقًا لقول الشيخ مغنية، قائلًا: «علمت أن صاحبنا أنجز كتابه عن علي بن أبي طالب، الإمام العظيم الذي عاش أرقى العواطف الإنسانية، ومات شهيد العدالة الاجتماعية، فاغتبطت بهذا الخبر العلمي، أن عليًّا ما تزال حقيقته أبعد من شروح ابن أبي الحديد، ومن أبحاث عباس محمود العقّاد والدكتور طه حسين، ولعلمي أن جورج جرداق أقدر من يكشف عن هذه الحقيقة البعيدة؛ لأنه يتناول الأمور بمنطق العقل والقلب والوجدان جميعًا، وصدر الكتاب فإذا به آية من آيات الخلق والإبداع في العرض والتحليل والاستنتاج وسعة الاطلاع وعمق الثقافة، وآية من آيات الأسلوب الفني الذي يجعل صاحبه في القمة بين أدباء العربية قديمًا وحديثًا»[74].
القول الثالث عبّر عنه الأديب العراقي الدكتور جليل كمال الدين (1930-2014م) الذي نعت جرداق بالباحث الناجح في مقابل العقّاد الذي اشتدّ في نقده ناعتًا له بالفشل، وحسب قوله: «يمكننا أن نقول بلا تحرج ولا تردد: إن جرداق ينتصب باحثًا علميًّا ناجحًا، وفنّانًا خلاقًا، بينما يفشل عباس محمود العقّاد في هذا المجال، ويظل سابحًا في خضم من الأحكام الاعتباطية، والتعميمات والتجريدات، والفضل في ذلك للمنهج العلمي التاريخي الأدبي الذي التزمه جرداق وعاناه، ولعبقرية جرداق المبدعة في فهم الحوادث وإدراك النفوس»[75].
نتفق مع هذا الانطباع في اعتبار أن كتاب جرداق جاء متفوّقًا كما وكيفًا على كتابي العقّاد وطه حسين، علمًا أن جرداق لم يقنع بكتابيهما مع استفادته المحدودة منهما، وقد خطط سلفًا لإنجاز كتاب يتخطاهما ويتقدم عليهما ليعطي الإمام حقه من الإنصاف، وتمكن فعلًا من الوصول إلى ما كان يصبو إليه، وجاء كتابه متفوقًا عليهما أدبًا وبيانًا، حبًّا وعاطفةً، أفقًا وبعدًا، عدلًا وإنصافًا، لكنه لم يستطع أن يهزّ مكانتهما الأدبية أو يفوقهما شهرة، وذلك لأمرين: الأول له علاقة بالشهرة من ناحية الأشخاص، فشهرة العقّاد وطه حسين ظلت وما زالت تفوق شهرة جرداق، والثاني له علاقة بالكتاب من ناحية الكم، فكتاب جرداق يتكوّن من خمسة أجزاء، متخطيًا ألف صفحة، ما جعله يصبح في غير متناول الجميع قراءةً ومتابعةً وتداولًا، بخلاف الحال مع كتابي العقّاد وطه حسين.
هذه كانت محاولة استطلاعية وتحليلية تناولت دراسة منظورات الرؤية في الأدب المصري الحديث حول الإمام علي (عليه السلام) من خلال العودة إلى ثلاثة تأليفات هي الأشهر في هذا الموضوع، وإذا كانت لهذه المحاولة من فضيلة فلعلها تعدّ الأولى لا أقل في النطاق العربي، التي عُنيت بدراسة هذا الموضوع، فلم أجد أثناء البحث كتابات تناولت هذه القضية بهذا العنوان.