أثر تقسيم وتفكيك العراق
د. عز الدين المحمدي
2018-07-07 07:40
البحث المقدم من الباحث المستشار الدكتور عز الدين المحمدي الى المؤتمر العلمي الدولي حول (مستقبل العلاقة بين حكومة إقليم كردستان والحكومة الاتحادية العراقية)-نيسان 2017
المقدمة
العلاقات الواضحة لانهيار الصراع السياسي تعود الى التفكير في انها ليست من فعل واقع راهن عابر، انها تكشف التعارض ما بين نمط معين من المجتمع وبين الاشكال التقليدية للنشاط السياسي، اذا قبلنا هذا التحليل والذي في الاحوال الحالية - مع انه معقول - الاّ انه يظل مجرد فرضية، فان مما لا يمكن تفاديه انه يعود الى اعادة النظر في مفهوم الدولة باعتبارها تلك التي كانت في الحياة السياسية رهانا وفاعلا معا، فإنها تتوقف عن ان تكون رهانا لأنه ليس هناك تنافس، لكن في المقابل دورها كلاعب يتسع، لأنها تصير المُعبر عن كل القوى الاجتماعية.(1)
الدولة الوظيفية تقدم على فكرة والتي قاعدتها المجتمع، الاّ ان هذه الفكرة هي في الحقيقة مطلب، وانها لا تولد عن صورة يصنعها الأفراد عن مستقبل مرغوب وانما تصدر مباشرة عن البنى الاجتماعية القائمة المستبعد منها كل ذاتية، لأنها لا تضع غير تسجيل المطالب الموضوعية التي تقود الأداء الجيد للمجتمع، بالتأكيد ان هذه الفكرة يمكن ان يفكر فيها أعضاء الجماعة، لكنها أبعد من أن تُعبر عن تفضيلاتهم، انها تشهد على فهمهم وقبولهم المعايير التي تفرض نفسها عقلانيا من أجل ان المجتمع يوفر للجميع الخيرات التي ينتظرونها، ويجب ان يُترك للشعوب كافة حق اختيار طريقها والتصرف بمصيرها وأراضيها ومواردها البشرية والطبيعية، واذا ما انتهى هذا الفهم لدى السياسيين في جميع الدول، فلن يكون بالوسع توجيه العلاقات الدولية في طريقها الطبيعي، فما أوجه الاختلاف والتمييز الايديولوجي والاجتماعي، أي التمييز في الانظمة السياسية الا نتيجة الخيار الذي ارتضته الشعوب لنفسها، ومن غير الجائز أن يُشكل هذا الخيار ذريعة لظهور أحداث أو اتجاهات تنجم عنها نزاعات أو مجابهات.(2)
أهمية البحث
تأتي أهمية البحث في الوقت الذي تتعرض المنطقة العربية والشرق الأوسطية صراعا مريرا داخليا في الدول التي تعرضت للتغييرات البنيوية والأيديولوجية، وإقليميا ودوليا لرسم خارطة جديدة للسيطرة على مجريات الشرق الأوسط بين القوى الإقليمية والدولية لرسم سياسة جديدة واتفاقية سايكس بيكو جديدة للمنطقة ومحاولة الوصول الى خلق هويات للدول التي أصابتها هزات عنيفة في بنيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبحث يُعبر عن محاولة لتقديم رؤية وأثر لسيناريو تقسيم وتفكيك العراق.
مشكلة البحث
نبحث عن مشكلة بناء دولة العراق من جديد، مشكلة إيجاد هوية ومنهجية وفلسفة بناء هذه الدولة، مشكلة إيجاد الأرضية المشتركة، أثر تقسيم وتفكيك العراق وفق السيناريوهات المرسومة وأسباب وقوع العراق في مستنقع الدولة الفاشلة.
منهجية البحث
يحتاج موضوع البحث أن نخوض في المنهجية التاريخية والتحليلية والوصفية لمجريات الاحداث التي نناقشها خلال هذا البحث لرسم خلفيات وأسباب مخطط تقسيم العراق الى دويلات قومية واثنية وأثر تقسيم العراق ومواقف الصراعات الداخلية والإقليمية والدولية.
تقسيم البحث
البحث عبارة عن دراسة موجزة مقدمة للمؤتمر والموسومة بـ (أثر تقسيم وتفكيك العراق) أوجزناها كالاتي:
مبحث تمهيدي: جغرافية العراق المادي والبشري والمؤسساتي ومؤشرات الدولة الفاشلة
المبحث الأول: الأثر السيادي والقانوني لتقسيم وتفكيك العراق
المبحث الثاني: الأثر الجغرافي والديموغرافي لتقسيم وتفكيك العراق
المبحث الثالث: الأثر الاقتصادي والاجتماعي لتقسيم وتفكيك العراق
المبحث الرابع: أثر الصراعات الداخلية والإقليمية والدولية لتقسيم وتفكيك العراق
الخاتمة:
مبحث تمهيدي
جغرافية العراق المادي والبشري والمؤسساتي ومؤشرات الدولة الفاشلة
في مجتمع الاستقرار الذي ارتبط فيه الفرد وارتبطت الأسرة بالأرض وتشبثت بها وصحيح ان اكتساب الانتماء الوطني والتفاني في حب الوطن أقدم من اكتساب دواعي الانتماء القومي والتفاني في سبيل القوم وصحيح ان الاستقرار والمصلحة المشتركة هي التي استوجبت ورسّخت مفهوم الانتماء القومي، فلا يقل حب الوطن والتغني به عن حب القوم والتباهي به.
عندما يولد النظام في المكان والزمان تحت مظلة التوازن البديع بين الانتماء الوطني على وجه، والانتماء القومي على الوجه الآخر، تكتمل مقومات الدولة وتجمع هذه المقومات بين الناس وهم الشعب الذي يرتبط بالأرض وله السيادة عليها والأرض التي تضم الناس وتجاوبهم وتعطيهم وتضم رفاتهم، والنظام الحاكم الذي يفرزه اختيار الناس أو الشعب، لكي يؤمّن الحق والسيادة والوجود في الوطن في المكان والزمان، وتكتمل مقومات الدولة والاعتراف بها التي تعلنها الدول في المجتمع الدولي.
هكذا نفهم كيف تولد الدولة وهي تجاوب ارادة شعب في المكان والزمان، والشعب هو الذي يُجلس الحاكم على كرسي الحكم وهو الذي يضع في يده عصا السلطة، وهو الذي يمتثل لحكمه ولا يعصي له امرا، بل قل تكون ارادة الشعب وحيويته وراء استمرار وجود الدولة، بمعنى أن في وسع ارادة الشعب ان تجدد شباب الدولة، ولا تترك لها فرصة أن تشيخ، فتضيعها الشيخوخة أو التقسيم والتفكيك.(3) وما من شك ان الدول المنتشرة في الارض المعمورة، ليست متماثلة أو متناظرة من حيث الملامح والخواص الجغرافية والطبيعية، ولا من حيث السمات والملامح البشرية ومع ذلك فإنها في جملتها تتفق من حيث موضوعية المضمون الكلي لوجودها في المجتمع الدولي ويتمثل التوافق في ثلاثة أمور وهي:
أولا: الكيان المادي للدولة
ذلك ان لكل دولة من الدول كيان، قوامه مساحة من الارض وتمثل هذه المساحة المسرح الجغرافي الخاص الذي يحتويه وجود الدولة، وتكتسب هذه المساحة أو هذا المسرح الجغرافي قيمته من الموقع الجغرافي في المكان لِما يتوفر فيه من موارد طبيعية ينتفع بها أو مصادر طبيعية يتاح للناس التعامل معها والانتفاع بمعطياتها بأية صورة، ويحدد امتداد هذه المساحة والشكل الذي يحتويه هذه المساحة على المسرح الجغرافي والحدود السياسية المقررة، وهي حدود معترف بها دوليا، وهي تمثل الاطار العام للموضوع والموثق والمتفق عليه، وتضم الدولة الحدود السياسية الفصل الملزم بين الدولة وكل الدول الاخرى على قاعدة من المعاهدات والاتفاقيات الدولية في الجوار الجغرافي والاعتراف الدولي بهذه الحدود، وهو الذي يكسبها المنعة الشرعية، وهي بعد ذلك كله الاطار الحاكم لسيادة الدولة، التي هي في نفس الوقت سيادة لكل مواطن من مواطني الدولة.
ثانياً: الكيان البشري للدولة
ان في كل دولة كيان بشري قوامه شعب عاش ويعيش في أرضها، وهذا الشعب هو صاحب ما فوق التراب وصاحب ما تحت التراب، وما فوق التراب حق ومصالح وأمن وأمان، وما تحت التراب جذور وأجداد وأسلاف، وقد اكتسب الشعب على صعيد الارض حق الوجود، وحق السيادة، وحق التملك وهو يلتمس من سيادته سيادة الدولة مثلما يلتمس من سيادة الدولة حقه الاصيل في السيادة.
ويعيش الشعب في الدولة وفي يمينه الولاء للأرض، وهذا هو معنى الانتماء الوطني والتفاني في حب الوطن، وفي شماله الولاء للقوم، وهذا هو معنى الانتماء القومي، والتباهي بشرف النسب، ويستظل الشعب بسيادة الدولة، ويجد فيها ذاته ويباشر الحياة المطمئنة والاستقرار، وهو يسخّر من أجله جهده وخبرته ومهاراته ومكتسباته ونشاطه العلمي، ويكون عطاء الشعب بلا حدود، عندما يجود بالنفس، ويضحي بالنفس والمال والولد دفاعا عن التراب والكرامة في مواجهة العدوان، وكلما ينعم الشعب بالتجانس تماسك نسيجه، وقويت بنية الدولة، ولا مشاكل تهدد وجودها من الداخل.
ثالثا: النظام في الدولة:
وهو الذي يحكم ويضبط ايقاعات حركة الحياة ونبضها الفاعل في الدولة، وهو الذي يجسد السلطة التي تحافظ وتعلي وتكفل السيادة للشعب، والتي توفر الأمن والأمان وترعى مصالح الشعب، وهو الذي يتحمل مسؤولية توفير الخدمات السيادية على وجه الخصوص حتى لو منح للقطاع الخاص فرصة المشاركة في تقديم هذه الخدمات مثل الخدمة التعليمية والصحية والقضائية وغيرها، وهي في الوقت ذاته لا تفرط ابدا في توفير الخدمة الأمنية في الداخل من خلال المنظومة الأمنية والشرطة والخدمة الامنية من مخاطر العدوان من خلال الجيش والقوات المسلحة.
وصحيح أن الشعب هو الذي يطلب النظام وهو الذي يقع اختياره على من يوكل اليه أمر النظام والسلطة، وصحيح أن الشعب هو الذي يضع الدستور وهو الذي يسن القوانين، ولكن الصحيح بعد ذلك كله أن النظام والسلطة يصبح مسؤولا وفي يده السلطات وحق اصدار الأمر وحق تنفيذ حكم القانون، ويكون على الشعب واجب الامتثال للسلطة وعلى من توضع السلطة في يده وهي أمانة أن يتولى مسؤولية علاقة الدولة بمجتمع الدول بصفة عامة ودول الجوار المباشر بصفة خاصة بل عليه توظيف هذه العلاقة لحساب المصلحة العليا للشعب. (4)
هنا اكتملت صورة الدولة ذات السيادة والعراق ولد دولة قوية ذات سيادة بعد أن اكتملت فيها النضج السياسي والقاعدة الاقتصادية القوية ونظم المؤسسات الى جانب الموروث الحضاري الانساني الضارب في جذوره في أعماق الأرض، ولكن عوامل التعرية اجتمعت قبل سنوات لتجعل من العراق دولة وحضارة ومجتمعا ومؤسسات وتأريخا وسيادة معتلة ومشوهة وهي تشكل تحديات وحدة العراق وعوامل تقسيمه وهي:
1. عدم صلاحية الدستور والمنظومة القانونية وأصبح الدستور عامل تفكك الشعب العراقي.
2. فشل السياسيون في تعزيز نظام الحكم الديمقراطي وبناء دولة المؤسسات في العراق.
3. نمو ثلة أمراء الحرب والفساد المالي والاداري والسياسي في العراق.
4. نمو وازدهار المليشيات والمجموعات المسلحة واستمرار العنف الطائفي.
5. استقواء الهويات الطائفية والمذهبية والاثنية على هوية المواطنة.
6. هشاشة التنمية الاقتصادية.
7. فقدان العدالة الاجتماعية وحقوق الانسان والحريات الاساسية.
8. فشل عملية البيريسترويكا واعادة بناء العراق.
9. فشل الاحتلال لوضع وطرح الحلول لاستقرار العراق.
10. فقدان الجيش والمنظومة الأمنية للعقيدة الوطنية في القتال.
11. مؤامرات دولية ودول الجوار على وحدة العراق.
من الاستقراءات السالفة الذكر وقعت الدولة العراقية منذ 2003 في مستنقع ما توصف بـ (الدولة الفاشلة) وتعتمد مؤثرات الدولة الفاشلة على معايير محددة يتم القياس على أساسها، وتعد قدرة الدولة على القيام بوظائفها الاساسية العامل الاساسي لنجاحها أو فشلها، وأن العراق في عام 2014 تراجع 11 مرتبة عن تصنيف 2007 الذي احتل فيه المرتبة الثانية في تصنيف الدول الفاشلة (5)، ولعل من أهم الأسباب التي أبقت العراق ضمن قائمة الدول الفاشلة فشل مشروع (اعادة بناء العراق) كدولة المؤسسات بعد سقوط النظام السابق نيسان 2003.
وتُعرف الدولة الفاشلة في ضوء الخصائص التي تتصف بها، ومن أهمها ارتفاع في معدلات العنف الاجرامي والسياسي، فقدان السيطرة على الحدود، ارتفاع العدائية بين المكونات العرقية والدينية والطائفية والثقافية، الحرب الاهلية، الارهاب، ضعف المؤسسات، ضعف البنى التحتية أو عدم ملائمتها، مستويات عالية من الفساد المالي والاداري والسياسي، نظام صحي منهار، ارتفاع نسبة وفيات الاطفال وانخفاض متوسط عمر الفرد، انخفاض مستويات الناتج المحلي الاجمالي للفرد وتزايد نسبة التضخم الاقتصادي. (6)
وتتمثل المؤشرات الرئيسية للحكم على فشل الدولة فيما يلي:
1. المؤشرات السياسية: شرعية نظام الحكم، عجز قدرة الدولة على تقديم الخدمات العامة، ضعف أو انعدام تطبيق حكم القانون، وانتشار انتهاك حقوق الانسان، ضعف الدولة في السيطرة على العنف، عدم الاستقرار السياسي، تزايد حدة التدخل الخارجي سواء من جانب دول أو فاعلين من غير الدول.
2. المؤشرات الاقتصادية: تذبذب معدلات التنمية الاقتصادية، استمرار تدهور وضع الاقتصاد الوطني بدرجات تدريجية متفاوتة أو حادة بالإضافة الى ازدياد معدلات الفساد وانتشار المعاملات العرفية.
3. المؤشرات الاجتماعية: تصاعد الضغوط الديموغرافية أي ارتفاع كثافة وحجم السكان في الدولة، وانخفاض نصيب الفرد في المجتمع من الاحتياجات الاساسية، تزايد حركة المهاجرين بشكل كبير الى خارج الدولة وانتشار ظاهرة هروب العقول والكفاءات، تهجير السكان من مناطق الى اخرى داخل الدولة بشكل قسري، ضعف وانعدام الاندماج الاجتماعي. (7)
المبحث الأول
الأثر السيادي والقانوني لتقسيم وتفكيك العراق
تتعرض الدولة في دورة حياتها الى كثير من التغييرات سواء تعلقت تلك التغييرات بالناحية الداخلية أو الناحية الخارجية، ففي حالة ما اذا طرأت تغييرات على سكان الدولة بالزيادة أو النقصان فان هذا التغيير لا يؤثر في شخصيتها أو التي تصيب الاقليم فإنها تطرأ على مساحته سواء بالزيادة او النقصان فان هذا التغيير أيضا لا يؤثر في شخصية الدولة أو وجودها، أو قد يمس عنصر الحكومة في الدول فإنها هي الاخرى لا تؤثر في المركز القانوني للدولة، سواء حدث هذا التغيير بالطرق الدستورية أو بالطرق الثورية والعنف وهذا ما يسمى بمبدأ استمرارية الدولة وهذا يعني ان الدولة قائمة برغم تغيير حكومتها.
أما بالنسبة لعنصر السيادة فأن أي تغيير فيها يؤثر في شخصية الدولة وذلك من حيث حلول سيادة جديدة محل سيادة كانت قائمة، فقد تفقد الدولة جزءا من اقليمها، وهذا الجزء يخرج من سيادتها لتصبح تحت سيادة دولة أخرى، وقد يكون فقدان الدولة لإقليمها كليا، أو يتم تقسيم الدولة الى دويلات عدة، فان هذا الفقدان للسيادة يخلق مسائل قانونية ذات طبيعة معقدة ويترتب عليه الفقدان أو التقسيم نتائج واسعة من حيث المدى والتأثير، وهذا الفقدان للسيادة يحدث نتيجة لأسباب عدة منها الضم أو التنازل وتحرر الشعوب الى مستوى الاستقلال وكذلك التسويات الاقليمية بين مختلف الدول.
لكن مهما تكن صور فقدان السيادة أو انتقالها وهذه الواقعة ترتب آثارا قانونية في نطاق العلاقات الدولية المتعلقة بدويلات الاقليم وفي نطاق تكوينه الاقتصادي والاجتماعي وأساسه القانوني والقواعد القانونية التي تعني بهذا التغيير في السيادة وتحديد أثره في نطاق القانون فهذه القواعد يطلق عليها اصطلاح "قواعد خلافة الدول" (8) فالحديث هنا عن الأثر السيادي والقانوني لتقسيم وتفكيك العراق كما هو مخطط له، فقد وردت في اتفاقية فينا لخلافة الدول في المعاهدات لسنة 1978 (9) أحكاما عن أثر انفصال الدول في المعاهدات ونوجزها بما يلي:
أما أحكام حالة الانفصال التي تبنتها اتفاقية فينا لخلافة الدول في المعاهدات، فقد تضمنتها المواد(34-37) المادتان (34-35) تضمنتا حالتين مستقلتين عن الاخرى تتمثل بانفصال أجزاء من دولة سواء استمر وجود الدولة السلف أم لم يستمر وحالة الدول التي تظل قائمة بعد انفصال اقليمها (هذه الحالة تسري عليها الاحكام الخاصة بالخلافة الجزئية)، فبالنسبة للحالة الاولى نصت المادة (34) من الاتفاقية على أن:"
1. إذا انفصل عن دولة جزء أو اجزاء من اقليمها لتكوين دولة أو أكثر سواء استمر وجود الدولة السلف أم لم يستمر (أ) فان أية معاهدة كانت في تاريخ خلافة الدولة نافذة ازاء كامل اقليم الدولة السلف، تظل نافذة ازاء أية دولة فلن تتكون على هذا النحو (ب) وأية معاهدة كانت في تاريخ خلافة الدولة، قاصرة النفاذ على ذلك الجزء من اقليم الدولة السلف الذي أصبح دولة خلفاً، تظل نافذة ازاء هذه الدولة الخلف وحدها.
2. لا تنطبق الفقرة(1) في الحالتين:(أ) إذا اتفقت الدول المعنية على خلاف ذلك (ب) أو إذا ظهر من المعاهدة أو ثبت على نحو آخر ان من شأن تطبيق المعاهدة على الدولة الخلف ان يتنافى مع موضوع المعاهدة وغرضها أو أن يحدث تغييرا جذريا في ظروف تنفيذها.
يلاحظ من هذه المادة انها نصت على القاعدة العامة في خلافة المعاهدات في حالة انفصال جزء أو أجزاء من اقليم الدولة ومن السوابق المتعلقة بهذه الحالة عديدة أهمها انفصال السويد والنرويج عام 1905، النمسا والمجر عام 1918.
أما الحالة الثانية التي تضمنتها الاتفاقية في حالة الدول التي تظل قائمة بعد انفصال أي جزء من اقليمها فقد نصت المادة (35) من الاتفاقية على ان:" إذا ظلت الدولة قائمة بعد انفصال أي جزء من اقليمها فأن اية معاهدة كانت، في تاريخ خلافة الدول، نافذة ازاء الدولة السلف، تظل نافذة ازاء ما بقي لها من اقليمها، الا في الحالات التالية:
أ. إذا اتفقت الدول المعنية على خلاف ذلك،
ب. أو إذا ثبتت ان المعاهدة تنصب حصرا على الاقليم الذي انفصل عن الدولة السلف.
ت. أو إذا ظهر من المعاهدة أو ثبتت على نحو آخر ان من شأن تطبيق المعاهدة على الدولة السلف ان يتنافى مع موضوع المعاهدة وغرضها أو ان يحدث تغيرا جذريا في ظروف تنفيذها.
اما القاعدة التي تضمنتها المادة (35) من الاتفاقية تتمثل في ان المعاهدة التي كانت سارية على الاقليم قبل حدوث الانفصال تبقى سارية على ما تبقى للدولة السلف من اقليم، لأنها لاتزال قائمة دون ان يحدث لها أي تغيير سوى ما يتعلق بتناقص الرقعة الإقليمية، ومن السوابق لهذه الحالة انفصال المستعمرات الامريكية عن بريطانيا واسبانيا، وانفصال كوبا عن اسبانيا عام 1898، أما حالات الانفصال في عهد الامم المتحدة فهي قليلة نسبيا وان من أهم الحالات انفصال باكستان عن الهند.
العضوية في المنظمات الدولية
استنادا الى ما تقدم ذكره فيما يتعلق بانفصال جزء من اقليم الدولة واستقلاله مكونا دولة قائمة بذاته وحالة الانفصال تثور مشكلة العضوية في المنظمات الدولية التي تكون الدولة السلف طرفا فيها، فهل يحق للدولة الخلف ان تخلف الدولة السلف في هذا المجال وبالتالي تصبح عضوا في المنظمة الدولية من خلال انضمامها الى المعاهدة المنشئة لها، أم ان على الدولة الخلف لكي تصبح عضوا في المنظمة عليها ان تسلك سبيلا آخر باتباع الاجراءات الخاصة بالانضمام، ويمكن الاجابة على هذه التساؤلات بالقول: ان القاعدة العامة المنبثقة في هذا الصدد أنه يجب على الدولة الجديدة اذا ما أرادت ان تصبح عضوا في المنظمة ان تطلب وبصورة خطية ومنفصلة عن الدولة السلف انضمامها الى الهيئة العامة للأمم المتحدة أو المنظمات الاقليمية وبالتالي اتباع الاجراءات اللازمة لمثل هذا الانضمام.
أثر خلافة الدول في ممتلكات الدولة ومحفوظاتها وديونها
احدثت مسيرة انهاء الاستعمار تغييرا عميقا في المجتمع الدولي ونظرا للحاجة الماسة الى التدوين والتطوير التدريجي للقواعد المتعلقة بخلافة الدول في ممتلكات الدولة ومحفوظاتها وديونها، وقد وضعت اتفاقية فينا لخلافة الدول في ممتلكات الدولة ومحفوظاتها وديونها لسنة 1983. (10) هذه الاتفاقية تعالج الآثار التي ترتبت على خلافة جزء من اقليم الدولة والاستقلال والاتحاد والانفصال نظرا لأن هذه الممتلكات والمحفوظات والديون لها أهمية خاصة بالنسبة للدولة سواء الدولة السلف أم الدولة الخلف.
نتناول هذه المفاصل بإيجاز آخذين بنظر الاعتبار المبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة والمتمثلة بـ (مبدأ المساواة في الحقوق، مبدأ حق تقرير المصير، استقلال جميع الدول وتساويها في السيادة، عدم التدخل في الشؤون الداخلية، حظر التهديد بالقوة أو استعمالها، احترام ومراعاة حقوق الانسان والحريات الأساسية)، وقبل الخوض في تفاصيل الخلافة الدولية وأثرها على الاموال والممتلكات والمحفوظات والديون لابد من تحديد بعض المفاهيم فالأموال كما نصت عليها القانون المدني العراقي على ان "المال هو كل حق له قيمة مادية (11) والحقوق المالية تكون أما عينية أو شخصية (12)".
"والحق هو الاستئثار بشيء أو بقيمة، استئثار يحميه القانون"(13).
أما اتفاقية فينا لخلافة الدول في ممتلكات الدولة فقد حددت مفهوم ممتلكات الدولة في الاتفاقية بقولها: " لأغراض مواد هذا الباب ايراد تعبير ممتلكات الدولة التي للدولة السلف الممتلكات والحقوق والمصالح التي كانت في تأريخ خلافة الدول، طبقا للقانون الداخلي للدولة السلف ملكا لهذه الدولة "(14) من هذا النص يتضح أن من أهم شروط انتقال الممتلكات من الدولة السلف الى الدولة الخلف هي:
1. ان تكون تلك الممتلكات في تأريخ حدوث الخلافة ملكا للدولة السلف، وان تكون تلك الممتلكات محددة على وفق القانون الداخلي للدولة السلف، وليس وفق قانون دولة الخلف، لان قانون الدولة الاخيرة قد يحدد حالات لا تعتبر ممتلكات على وفق قانون الدولة السلف.
2. انتقال ممتلكات الدولة السلف الى الدولة الخلف في تأريخ الخلافة، مالم يتم الاتفاق على خلاف ذلك، فقد يحدث في بعض الحيان ان تتفق الدول المعنية على اختيار تأريخ آخر لانتقال مال الدولة السلف الى الخلف غير تأريخ خلافة الدول.
3. انتقال الممتلكات من دون تعويض ايضا مالم يتفق على خلاف ذلك، أي انه يمكن تحلل من هذه القاعدة والسماح صراحة امكانية دفع التعويض الى الدولة السلف.
4. لا تؤثر خلافة الدول ممتلكات الدولة الثانية وهذا الحكم يقتصر فقط على معالجة خلافة الدولة.
اما المحفوظات أو كما تسمى بالأرشيف(15) فيراد بها " الوثائق التاريخية المحفوظة في مكتبة ايداع معترف بها "أو" هي الوثائق التي تمثل المعاملات الرسمية المحفوظة كمراجع للاستخدام الرسمي"(16) أما اتفاقية فينا فقد عرّفت المحفوظات " لغرض مواد هذا الباب، يراد التعبير "محفوظات الدولة التي للدولة السلف" كافة ما انتجته أو تلقته الدولة السلف في ممارسة وظائفها من وثائق، أيا كان تأريخها ونوعها والتي كانت في تأريخ خلافة الدول تخص الدولة السلف وفقا لقانونها الداخلي، وتم الحفظ عليها من قبل تلك الدولة مباشرة أو تحت اشرافها بوصفها محفوظات لأي غرض كان "(17)
ومن هذا النص يتضح ان أهم شروط انتقال المحفوظات الى الدولة الخلف ما يأتي:
1. ان تكون الوثائق والمحفوظات في تاريخ خلافة الدولة السلف وليس الدولة الخلف، وذلك لكي يمكن عند حدوث الخلافة نقل تلك الوثائق والمحفوظات الى الدولة الخلف بالنسبة لجزء أو كل الاقليم.
2. ان تكون تلك الوثائق والمحفوظات كذلك على وفق القانون الداخلي للدولة السلف وليس العكس وثم الحفاظ عليها من قبل تلك الدولة مباشرة أو تحت اشرافها بوصفها محفوظات لأي غرض كان.
3. انتقال تلك المحفوظات الى الدولة الخلف من دون تعويض، الا إذا تم الاتفاق على خلاف ذلك أو تقرر هيئة مختصة ما يخالف ذلك، أي ان الدولة السلف تستطيع أن تسهل قاعدة عدم الدفع.
4. لا تؤثر حدوث الخلافة الدولية وانتقال محفوظات الدولة السلف الى الخلف على ما يكون موجودا في اقليم الدولة السلف من محفوظات تكون تاريخ خلافة الدول ملكا لدولة ثالثة على وفق القانون الداخلي للدولة السلف، واستنادا الى ذلك فان المحفوظات تقسم الى أقسام عدة وهي:
أولا. المحفوظات الادارية: تشمل الوثائق الخاصة بالوزارات والمؤسسات والدوائر الحكومية بأنواعها وما يتعلق بالجامعات والمعاهد والهيئات المختلفة والشركات والمصالح التي تمارس مختلف الاعمال الادارية. (18)
ثانيا. المحفوظات السياسية: وتضم الوثائق المتعلقة بالأحزاب والهيئات السياسية والبارزين في النشاطات السياسية ويضم كذلك الاتفاقيات والمعاهدات المعقودة مع الدول الاجنبية ومحاضر الاجتماعات السياسية.
ثالثا. المحفوظات التاريخية: وتضم الوثائق المتعلقة بالدولة في كافة النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمهنية (19) وغيرها من الانواع الاخرى من المحفوظات. (20)
ديون الدولة
أما ديون الدولة، فهي تلك الالتزامات المترتبة بذمة الدولة السلف لدولة اخرى ويمكن تعريف هذا الالتزام "رابطة قانونية " بمقتضاها يجب على شخص، يسمى المدين ان يقوم بأداء مالي لمصلحة شخص آخر معين أو قابل للتعين الدائن، أو يكون المدين مسؤولا عن دينه - كقاعدة عامة - في كافة أمواله.(21)، أما اتفاقية فيينا فقد عرّفت الدّين بقولها: " لأغراض مواد هذا الباب، يراد تعبير" دين الدولة " أي التزام مالي ينشأ وفقا للقانون الدولي على دولة السلف ازاء دولة اخرى أو منظمة دولية أو أي شخص آخر من أشخاص القانون الدولي(22)، ولتطبيق هذا النص لابد من توافر الشروط التالية:
1. أن يكون الدين التزاما ماليا على وفق القانون الداخلي للدولة السلف، بمعنى ان هذا الالتزام المالي على الدولة السلف ازاء دولة اخرى أو منظمة دولية أو أي شخص آخر من أشخاص القانون الدولي العام الى ان يتم تحديده على وفق القانون الداخلي.
2. انتقال دين الدولة السلف الى الدولة الخلف في تاريخ خلافة الدول، الا إذا اتفقت الدولتان على خلاف ذلك، أو قررت هيئة دولية مختصة ما يخالف ذلك.
3. عدم تأثير خلافة الدول على حقوق الدائنين والتزاماتهم.
وتنقسم الديون الى قسمين:
أ. ديون خاصة: فالديون الخاصة هي تلك التي تتعلق بالأفراد، بحيث تنشأ رابطة قانونية بين شخصين أحدهما دائنا والآخر مدين للأول ويحكم هذا الدين القانون المدني.
ب. الديون العامة: فهي تلك التي تنشأ بين الدولة والأفراد أو بين الدول، ففي حالة ما إذا كانت مدينة وليست دائنة فهي ملزمة برد الدين الى الافراد أو الدولة الاخرى أو المنظمة الدولية الاخرى.
المبحث الثاني
الاثر الجغرافي والديموغرافي لتقسيم العراق
ان موقع الدولة الجغرافي هو الذي يضعها في قلب حركة الاحداث السياسية، تؤثر فيها وتتأثر بها احيانا، وهو الذي يضع الدولة على الهامش البعيد عن مسرح الاحداث السياسية، وهي تتقصى أهم الوظائف والاوضاع التي تتأثر بها الدولة، وقد يكون للموقع الجغرافي وزنه وأهمية، تنعكس آثاره المباشرة على وجود الدولة، وعلى الدول الفاعل الايجابي أحيانا، أو السلبي أحيانا اخرى وهو الذي تسهم به بالنسبة لكيانها المادي من ناحية، أو بالنسبة لعلاقاتها مع الدول الاخرى من ناحية أخرى، وان حسن وصدق وموضوعية تقديم الموقع الجغرافي للدولة، ويكون ذلك على اعتبار ان هذا الموقع الجغرافي يؤثر بشكل أو بآخر على وجود الدولة، وعلى سلوكها السياسي، وهي عضو فاعل في المجتمع الدولي بل قل وبثقة أن من شأن موقع الدولة الجغرافي أن يحدد مسارات دورها الايجابي أحيانا، أو دورها السلبي احيانا اخرى، في مجال العلاقات الدولية المتوترة في الحرب أو في مجال العلاقات الدولية الدافئة في السلم.(23)
وهناك اعتبار عن المفهوم المتغير وغير الثابت لقيمة الموقع الجغرافي وتداعياته من عصر الى عصر آخر، بمعنى ان الموقع الجغرافي يكون وضعه ثابتا في المكان، وتكون قيمته وتداعياته متغيرة في الزمان، وهذا معناه أن يكون الادراك الجغرافي لقيمة الموقع الجغرافي وتداعياته للدولة وهي في مكانها الجغرافي الثابت ادراكا مرنا، وهو في صحبة داعي التغيير في القيمة.
والواقع الطبيعي للدولة يفرضه عامل أو مجموعة عوامل جغرافية طبيعية وهي سائدة على ساحة الدولة في المكان ويكاد يتفوق قوة فعل معطيات هذا الواقع الطبيعي على ما عداه، وهو يلملم مساحات الارض ويجمع الناس على صعيدها وهو الذي تولد من رحم معطياته دواعي الارتباط لمصلحة مشتركة وترسخ ترابط الناس وتعظم فيهم وتبث روح حب التراب والوطن، وهم ينتفعون بعطائه ويعيشون، وهم في ترابه يموتون، ويكون ذلك من وراء ولاء أصيل يعلن عن حب الوطن، ومهما يكن من أمر ذلك كله التي تشهد قيام الدولة فان قيمة هذه المساحة لا ينبغي أن تقوم بالكيلومترات المربعة، بل قل ان تقويم المساحة الحقيقي يكون وثيق الصلة أو مبنيا على جملة مفاهيم، وتتمثل هذه العوامل فيما يلي:
1. التوازن بين المساحة في جانب وحجم السكان وحسن توزيعهم الجغرافي، الذي يحارب الحاجة الى حسن استخدام الارض والانتفاع بالموارد المتاحة.
2. حجم الموارد الطبيعية ومبلغ تنوعها، وحجم المصادر ومبلغ القدرة على استغلالها والاستغلال الاقتصادي المناسب، وتأمين الانتفاع بمعطياتها أو بإنتاجها تأمينا متوازيا ومتزامنا، لتلبية الحاجات لحساب البناء البشري في الدولة.
3. تأمين شبكات المواصلات والاتصالات بالقدر الذي يحقق الخدمات المناسبة والذي يواكب حاجة العصر ويكفل أن تتمم المساحات المتباينة بعضها البعض الآخر في الدولة لحساب الترابط والتواصل والتكامل على صعيد مساحة الدولة.
4. مبلغ تجانس التركيب الهيكلي للبناء البشري المنتشر في انحاء المساحة، تجانسا معقولا، لكيلا تتفاوت درجات الولاء الوطني، التي تشد أواصر هذا البناء البشري وتكفل له الحد الامثل احيانا، لحساب التعايش السوي في إطار حياة جماعية مناسبة في حضن الدولة الدافئ ومن غير المادة اللاحمة، التي تتماسك بها لبنات البناء البشري تماسكا قويا، قد يتأتى الصدع وتكون المتاعب التي تهدد جزء أو اجزاء من المساحة المتاحة لوجود الدولة.
5. وضع وحسن ترسيم الحدود السياسية، التي تضم مساحة الدولة وتكفل الوضع الأمثل من حيث توثيق الفصل، وهو يكتسب المنعة الشرعية بين مساحة الدولة ومساحات دول الجوار الجغرافي مرة، أو هو يحول دون أن تتضرر أي منهما من توظيف هذا الحد، ففي مجال الفصل بين سيادة دولة وسيادة دولة اخرى، أو من توظيف هذا الفصل الحدودي في مجال الفصل بين مصالح دولة، ومصالح دولة اخرى.
وهذا معناه ان القيمة الفعلية لأي مساحة تحتوي الدولة، وتؤمن وجود الشعب فيها، لا تقاس أبدا بعدد الكيلومترات المربعة، التي تتحدث عن الاتساع على المستوى الافقي، ولكنها تقدر وكأنها جسد مطلوب له توزيع النبض الفاعل فيه توزيعا متوازنا، يكفل الاستقلال الاقتصادي المناسب للموارد. (24)
لقد كان الأكراد – لكونهم أكبر شعب من دون دولة في الشرق الأوسط وربما في العالم – مصدرا دائما لعدم الاستقرار في المنطقة، ولقد فشلت الجهود في استيعاب الاكراد بالقوة – وبشكل ملحوظ في تركيا والعراق – لأن للأكراد أنفسهم شعورا متأصل الجذور بفرادتهم وكيانهم من جهة، ولأنهم كانوا مستعدين للدفاع عن انفسهم بدلا من الخضوع للقوات الأكثر تفوقا من ناحية أخرى، والاكراد هم أصحاب الثورات المتكررة في الشرق الأوسط، ولن تكون المنطقة كلها ابداً في سلام حتى يتم العثور على حل للقضية الكردية، ربما يكون الوضع الراهن في شمال العراق بداية لمثل هذا الحل، وأخيرا أصبح لدى الأكراد شيئا ملموساً يظهرونه يدل على معاناتهم الرهيبة، لقد صمدت تجربة الأكراد الهشة في الحكم الذاتي وازدهرت بالرغم من كل الاحتمالات، وبالرغم من كل الاهتمامات المؤذية للقوات المجاورة، ويتحدث زوار كردستان العراقية في الفترة الأخيرة بعبارات اطراء عن ظهور مجتمع تعددي حقيقي ومتسامح، بذلت فيه الحكومة الكردية جهودا شاقة لضمان الحقوق السياسية والثقافية لجميع المجموعات التي تسكن المنطقة.(25)
ان تقسيم العراق جغرافيا لا يمنح لأية دويلة تقدم على آثار الدولة العراقية من استقرار فدول الجوار جميعا لربما باستثناء ايران التي ترغب باطنا بتقسيم العراق الى دويلات ثلاث على أساس قومي واثني فالصراعات الجغرافية لازالت قائمة والحدود السياسية السيادية للعراق تتعرض يوميا الى الانتهاكات من دول الجوار من تركيا في الشمال وايران من الشرق والكويت من الجنوب والحدود المفتوحة مع سوريا والتوغل لعصابات داعش الى العراق من خلاله وهذه الدول جميعها تنتهك الحدود الجغرافية للعراق ما بعد 2003 لعدم قدرة الدولة العراقية بفرض سيطرتها على الحدود السيادية للعراق والمحاباة مع دول الجوار على حساب سيادة العراق.
ومن جهة الحالة الديموغرافية المنتشرة في العراق فأن كانت تقسيم العراق قوميا (دويلة كردية) بحدود اقليمها الحالي لإقليم كردستان رغم وجود مناطق متنازعة عليها فالأكراد القاطنين خارج اقليم كردستان وفي مقدمتها في العاصمة بغداد والمحافظات الاخرى ماذا سيكون مصيرهم؟واذا كان التقسيم مذهبيا دويلة شيعية وسنية فماذا سيكون مصير السنة القاطنين في الدويلة الشيعية او الشيعة الساكنين في المناطق التي تكون حدودا لدويلة سنية وهل يمكن خلع السكان من مناطق ولادتهم وعيشهم لسنوات وآثار قبور اسلافهم وأجدادهم، ان التقسيم ليس بقرار يعلن، التقسيم تركة دولة وشعب عاشت وعاش على ارضها شعب مختلف في انتماءه القومي أو الديني أو المذهبي فلا هي قطعة كعكة تقسمها ثلاثا انها أرض وسماء وحياة وتأريخ وصهر في بودقة دولة اسمها العراق.
المبحث الثالث
الاثر الاقتصادي والاجتماعي لتقسيم العراق
ان حق الوجود وحق السيادة مجتمعين وفي بيئات مناسبة اخفى نجاح الانسان في استئناس النبات ومباشرة الزراعة وانتاج المحاصيل الغذائية والى تأمين وتغطية حاجته من الغذاء وفي استئناس الحيوان وانتاج المنتجات الحيوانية واقدام الانسان على مباشرة الانتاج الزراعي والحيواني، ويعني ما يعني التحول في النقلة النوعية الاقتصادية وهي محصلة قوة فعل الانسان في موطنه، وفي الوقت الذي خففت فيه هذه النقلة النوعية الاقتصادية من ضغوط التحديات الطبيعية الصعبة والتي كانت تواجه الانسان، وأمسك الانسان بذلك بموجب هذا التحرر بأهم خيوط العملية الاقتصادية، وبذلك تحقق للإنسان في موطنه، قدرا مناسبا من التنعم بالأمن الاقتصادي، وقد كفل هذا الامن الاقتصادي وخفف من ضغوط الخوف والقلق على المصير في المكان والزمان.
وان هذا الأمن الاقتصادي قد رسخ حق الانسان في الوجود وفي السيادة وفي التملك وكان هذا التحرر الاقتصادي واستشعار كل دواعي الامن الاقتصادي من وراء تغيرات وتداعيات اجتماعية وحضارية شهدتها حركة الحياة، وتذوقت طعم معطياتها في المكان والزمان، وبمعنى ان اكسبت هذه التداعيات وهي تتوالى حركة الحياة ملامح واوضاع عظّمت مكانة الانسان وبكل ثقة على ركب التطور والتقدم، والثورة الاقتصادية في حياة الانسان والتي رفعت شأنه وأجلسته على عرش الانتاج الاقتصادي استوجبت نقلة نوعية اجتماعية مهمة بكل المقاييس وتعني هذه النقلة الاجتماعية فيما تعني انتهاء مرحلة طويلة تفرد فيها الانسان كليا في اطار اسرة خاصة وأدت الى تجميع وتداخل مجموعة من الاسر وهي تشكل بنية اجتماعية مركبة وهذه بفعل ثورة اجتماعية والثورة الاجتماعية التي ادخلت الاسر في توليفة التركيب الهيكلي للمجتمع الكبير والتي استوجبت نقلة نوعية حضارية وانهاء مرحلة الابداع الحضاري الفردي لحساب الذات الى بداية مشوار الابداع الجماعي، وينعم المجتمع بمعطيات وانجازات مشوار الابداع الحضاري الذي اضاف الادوات والوسائل وأساليب التكنولوجيا المناسبة.
كان من شأن الثورة الاقتصادية والسيطرة على الانتاج وهي تؤمن، وكان من شأن الثورة الاجتماعية والسيطرة على الاستهلاك وهي تجمع، وكان من شأن الثورة الحضارية والسيطرة على الابداع وهي تضيف، ان تشترك كلها في صياغة وتجسيد المصلحة المشتركة، ومعنى هذا الكيان البشري المتجانس ومباشرة التعاون والتكامل وهو يستشعر جدوى تداعيات الامن الاقتصادي، ويتمتع بدفء احضان التشكيل الاجتماعي المركب ويتنعم بإنجازات الابداع الحضاري على الوجهين المادي والمعنوي (26) بل قل استوجب مزيدا من التجانس الذي ازداد به البناء البشري رسوخا وقوة في المكان والزمان، والتمس هذا الكيان البشري المتجانس نقلة نوعية، ينتقل بموجبها من نظام تلقائي خارج نطاق السيطرة الى نظام حسن تحت السيطرة وهي تضبط وتنسق وتنظم لحساب الشركاء في المصلحة المشتركة وعلى صعيد الوطن.
فالوضع الاقتصادي والاجتماعي في العراق يعاني من مشاكل كبيرة نتيجة الظروف الصعبة التي مرّ بها العراق خلال العقود الثلاثة السابقة، فقد شهدت القطاعات الاقتصادية ومؤشرات الوضع الاجتماعي في العراق تدنيا ملحوظا في المستوى بحسب المؤشرات العالمية من حيث الكم والنوع نتيجة الحروب الطويلة الامد وكذلك الحصار الاقتصادي الجائر على الشعب العراقي كما ان العمليات الارهابية التي طالت ابناء الشعب العراقي خلّفت الكثير من الدمار بالبنى التحتية والمرافق العامة للبلد التي تعد الركيزة الاساسية للقطاعات الاقتصادية المختلفة، ومن جانب آخر تعاني القطاعات الاقتصادية في العراق من مشكلة سوء استخدام الموارد الاقتصادية المتاحة، وفي حالة تقسيم العراق فأن الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية تتفاقم اكثر في كل اقاليم العراق والتي تتمثل تلك المشاكل بما يلي:
أولا: أهم المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها العراق:
البطالة.
ضعف القطاع المالي والعجز في الحساب الجاري.
الديون المتراكمة المحلية والخارجية وعدم قدرة الدولة على سدادها.
ضعف الادارة الاقتصادية وخلل في تطبيق ادارة السياسة المالية والنقدية.
الانخفاض الحاد في الاحتياطي النقدي.
يعاني نظام الضرائب من عدم المرونة للسماح والتأقلم والتجاوب السريع للتغيير.
عمليات المضاربة المستمرة في اسعار الصرف.
التقلبات الشديدة في الموازنة العامة ما بين الفائض والعجز وعدم تنظيم الحسابات الختامية لها.
ثانيا: اهم المشاكل الاجتماعية التي يعاني منها العراق.
ارتفاع مستويات الفقر.
مشاكل القطاع الصحي (وفيات الأطفال، الرعاية الصحية للأمهات، الامراض الخطرة الانتقالية).
المشاكل البيئية (المياه الصالحة للشرب، الصرف الصحي).
انخفاض مستويات التعليم من حيث الكم والنوع. (27)
المبحث الرابع
الصراعات الداخلية والاقليمية أثر لتقسيم العراق
ان مشروع اعادة بناء الدولة العراقية يذهب باتجاه دولة المكونات فمن المعروف ان الشعب العراقي يتكون من تعددية قومية ودينية ومذهبية، وما قامت به قوات الاحتلال عند دخولها بإعادة تشكيل المنظومة المؤسسية للدولة بعدما قامت بحل مؤسسات الدولة الامنية والعسكرية وتدمير البنى التحتية الخدمية، وعمليات الاستقطاب الطائفي في عملية اعادة بناء الدولة العراقية وتشكيل معظم القوى والأحزاب السياسية العراقية على أساس ولائها للمكونات الطائفية، وعانت هذه القوى من غياب رؤية واضحة لمفهوم الدولة العراقية وتشبثت بالسلطة ونظام المحاصصة الطائفية، وعانى الشعب العراقي من ظاهرة عدم الاستقرار السياسي وتفكيك البناء الثقافي والاقتصادي والمجتمعي والتدخل الخارجي والتي أدت الى انعدام الثقة بين مكوناتها والعنف السياسي والتي تؤدي بالنهاية الى استمرار العنف المسلح وأما الى التقسيم.
وتتميز الدول بتعدد وتباين المجموعات العرقية فيها ومن خلال التعددية المجتمعية في العديد من دول العالم فلا يوجد مجتمع نقي، وقد عانت وما زالت تعاني من تجارب الاندماج والتحلل والانقسام والعامل الاساسي فيها هو الدين والتشدد والربط غير المحكم بين قضية الدين ومشكلات السياسة والتي تؤدي الى الكوارث السياسية والدينية التي تلحق اشد الاذى بالإنسان في المقام الاول. (28)
وفي ضوء الدراسات التي تبحث في مستقبل الدولة الفاشلة، فان استمرار فشل الدولة يمكن ان يؤدي الى انهيارها في حال التفاعل بين متغيرات خارجية (تتمثل في البيئة الدولية والاقليمية) ومتغيرات داخلية (من فشل النظام السياسي في احتواء العنف، وضعف قدرته على التوفيق بين مطالب الجماعات الداخلية المتعارضة وتحقق الاستقرار السياسي وتنامي الثروة الاقتصادية في مناطق جغرافية معينة من الدولة.(29)
وعليه يبقى السؤال الأهم هو الى متى يمكن ان يبقى العراق موحدا في ظل بقاء العراق في دوامة الدولة الفاشلة؟ والذي يحصل ان مستقبله كـ (دولة) مهددا بالانهيار، وذلك لأن المتغيرات الداخلية التي تؤدي الى الانهيار موجودة ومتفاعلة مع بعضها البعض، ولكن ممانعة البيئة الاقليمية والدولية لا زالت تعطل هذا الانهيار.
المطلب الاول
الصراعات الداخلية أثر تقسيم العراق
موقف الكرد
الخلافات بين بغداد وكردستان العراق جعلت بعض السياسيين المحليين دعاة لانفصال كردستان عن العراق ليصبح كيانا قائما بذاته، هذا السيناريو يبدو بعيدا عن الواقعية اليوم، فالاعتبارات التي تعني الجميع اليوم هما المال والنفط، أما الاعتبارات السياسية فهي في أدنى درجات الاهمية كما يعلق أحد السياسيين الاكراد، وفي الآونة الاخيرة تزايدت وتيرة التعليقات والتصريحات حول امكانية قيام كردستان العراق المستقل، ومع تفاقم حالة التوتر القائمة بين بغداد واقليم كردستان بدأ الاكراد يلعبون بورقة (الاستقلال)، وليس خافيا على أحد ان غالبية الاكراد يرغبون بقيام كيان كردستاني مستقل حيث اصبحت الدعوة لقيام مثل هذا الكيان المستقل احدى اسهل الطرق التي يسلكها السياسيون من أجل تدعيم شعبيتهم، الرئيس البارزاني أعطى مؤخرا بل وفي كل مناسبة قومية يعطي انطباعا بأنه يريد ان يرى دولة كردستان مستقلة، الا ان الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني بزعامة مام جلال وهما الحزبين الرئيسين في كردستان العراق كانا قاوما سابقا مثل هذه الاغراءات.(30)
والنتيجة هي ان معظم السياسيين الاكراد لايزالون يتحدثون عن "عراق موحد" على الرغم من عدم تأييد الرأي العام الكردي للفكرة، من الممكن ان تكون كردستان العراق وصلت الى درجة النضج السياسي الكافية للاستقلال ولكن يجب التفكير مليا، فالتجارب التي عاشها الاكراد مريرة مع الدول الاقليمية والكبرى، فاتفاقية آذار عام 1975 لا زالت في الاذهان وان رغبة الولايات المتحدة في دعمها للأكراد تتبع مصالحها فبعض الدول احتالت على الاكراد لتحقيق اهدافها السياسية.
موقف السنة
أما بالنسبة للسنة، فيبدو ان هنالك مطالب بدأت تتصاعد بضرورة اقامة اقليم يضم المحافظات ذات الاغلبية السنية، وواقع الحال ان هذه المطالب دستورية، لكن مشكلتها في محاولة نسخ تجربة اقليم كردستان مع الحكومة المركزية اذ تطالب بشراكة في الثروة وتقاسم السلطة مع الحكومة الاتحادية وتشكيل قوات عسكرية من ابناء مناطقهم ومن ثم اضعاف السلطات الاتحادية وتحويلها الى مؤسسة لتقاسم النفوذ السياسي وتوزيع المناصب السيادية في مقابل محاربة القوى المتطرفة والمتشددين السنة.
موقف الشيعة
الشيعة يعانون من عدم وضوح في الرؤية باتجاه المستقبل، وعلى الرغم من كونهم اصحاب مشروع الفيدرالية لكنهم لم يحققوا ذلك على ارض الواقع ولم يستطيعوا ان يقدموا نموذج للنهضة والعمران في محافظات الوسط والجنوب من العراق وفشلوا في الاستفادة من البيئة الامنية المستقرة لجذب الشركات الاستثمارية القادرة على تحقيق ذلك، ولا الاستفادة من الثروات النفطية الهائلة في الجنوب.
المطلب الثاني
مواقف الولايات المتحدة ودول الجوار من تقسيم العراق
رؤى امريكية
ان حديث الانفصال الكردي عن العراق لم يعد مهما لدى العراقيين فقط بل لدى الكثير في واشنطن والتصور كالآتي: الكرد لديهم صداقات وعلاقات مع شركات النفط والهيئات الدبلوماسية ونشاطات اقتصادية واسعة في الدول الغربية، وأنفقوا الملايين لأجل هذا النهج، أي الاعتماد على الذات، أما بالنسبة لموضوع البترول فالعديد من المسؤولين في واشنطن يؤمنون بأن تصدير الاقليم للنفط وعلاقاته مع تركيا هي خطوة نحو الاستقلال، الا أن موضوع الاستقلال تثير الاستغراب لأسباب عدة أهمها:
أولا: العامل الجيوبوليتيكي: فإقليم كردستان معتمد بشدة وليس مستقلا فالجغرافية السياسية للإقليم تعلمنا بأن على الاقليم ان ينشئ علاقات قوية مع تركيا وإيران وبغداد وسوريا لكننا نلاحظ ان إيران وتركيا غير مهتمة بذلك.
ثانياً: موارد الإقليم: وهي النقطة الاكثر أهمية وكما يعرف الكثيرون ان المهم في تكوين الدولة الكردية هي مسألة الموارد الذاتية ففي حالة استقلال اقليم كردستان عن حكومة بغداد عليه ان يعتمد على موارده الذاتية في الوقت الذي نعلم فيه ان الاقليم يعتمد بنسبة 95% على موارده من الحكومة الاتحادية (حكومة بغداد).
ثالثا: الازمات الداخلية: اذ تعد احدى التحديات التي تواجه اقليم كردستان فهناك أزمة كبيرة داخل الاقليم لم يخفف منها تصديره للنفط بشكل مستقل عن حكومة بغداد وقد تكون الازمة المالية أهمها.
رابعا: مشكلة المناطق المتنازع عليها: والتي تتعلق بحدود الاقليم واشكالية ضم كركوك أو الموصل ومعارضة التركمان والعرب لذلك فضلا عن المشاكل التي تتعلق بالمناطق الخاضعة للحزبين الكرديين، لأن هناك مشاكل ربما تنجم بين الحزبين الكرديين فيما يتعلق بالمناطق الخاضعة لسيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني والمناطق الخاضعة لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، كتلك المشاكل الناجمة عن المناطق المتنازع عليها بين العرب والاكراد.
خامسا: تأرجح القيادة الكردية بين المركز والاقليم: والاعتقاد السائد ان القادة الكرد لا يريدون الاستقلال، انهم يستفادون حين يضعون قدما داخل الاقليم وقدما أخرى داخل بغداد فهم يأخذون عائدات من المركز فضلا عن عائدات الاقليم، لذا لا يعتقد ان رئيس الاقليم السيد مسعود البرزاني سيعلن الاستقلال لكنه بحاجة الى تكرار التوعد بذلك للحصول على مكاسب سياسية وانتخابية.(31)
سادسا: التحولات في المنطقة: ان النقطة الاساسية هنا تتعلق بالتحولات في المنطقة فعندما يثار الحديث عن تفتيت العراق وهذا لا يتعلق بالكرد وحدهم وانما بالشيعة والسنة وهذه المسألة المعقدة بسبب وجود تغييرات ديمغرافية كثيرة فالمهجرون السنة 20% من المكون السني موجودون في اقليم كردستان فهناك ايضا انقسام كبير بين الاحزاب الكردية داخل الاقليم كما ان هناك علاقة خاصة بين الرئيس التركي اردوغان ورئيس اقليم كردستان مسعود بارزاني فهل اصبح الاقليم تابعا لأنقرة؟! لذا يقال ان اقليم كردستان أصبح أكثر اعتمادا على الجانب التركي والايراني.
موقف إيران
ان الموقف الايراني يدعى الرفض لمشروع تقسيم العراق، فان معارضة السياسة الايرانية من مشروع تقسيم العراق لا يمكن للمرء ان يأخذه على ظاهره ففي الواقع ان وراء هذه المعارضة رغبة النار تحت الرماد في تثبيت هذا الواقع المقسم، صحيح انها اعلنت معارضتها للتقسيم، ولكن متحمسة في نفس الوقت لتشكيل بما يشبه دويلة شيعية معهودة من تسع محافظات جنوب العراق ووسطه منها 6 محافظات متاخمة لحدودها وهذا ما يعمل من أجل اقامتها او اقامة اية تشكيلة فيدرالية موسعة الصلاحيات، وعليه فان هذا الامر بلا ريب تؤدي الى ضعف الحكومة المركزية مما يسهل لها النفاذ الى داخل البلاد ومن شأنه ان يغير بذلك من المعادلات السياسية والمذهبية على ارض العراق والمنطقة عموما ان لم ترسخها.
موقف تركيا
ان مشروع تقسيم العراق من غير المنطقي أن لا يثير اهتمام تركيا، لما يمس ذلك بمصالحها واستراتيجيتها في المنطقة في اكثر من جانب، فتركيا وقياداتها دائم التأكيد على بقاء العراق موحدا وقويا، كرد فعل لمشروع بايدن لتقسيم العراق، لا يخلوا من اهداف ظاهرة أو باطنة منها الاّ يصبح العراق لقمة سائغة لأطماع ايران وان يقع تحت نفوذها والذي ليس ببعيد عن استراتيجيتها باتجاه تصدير مفاهيم الثورة الايرانية، خاصة وان جزءا كبيرا وواسعا من اراضي العراق تعد قاعدة مهمه لتحقيق اهدافها الاستراتيجية، هذا من جهة ومن جهة اخرى ابقاء كردستان وان كان اقليما ضمن الفيدرالية العراقية وبسلطات وصلاحيات محدودة مقطوع الجناحين للحيلولة دون تحقق نزعة الكرد نحو الاستقلال بأية صيغة كانت من خلال تمكين العراق بالمساهمة في الجهود المبذولة عسكريا وسياسيا للقضاء على الحركة المسلحة (PKK) الذي تحاربه الحكومة التركية ولأكثر من ثلاثة عقود، والتي تتخذ من بعض اراضي الاقليم قاعدة لها، وبهذا تستوجب المصالح التركية بان يعود العراق الى دولة مركزية فحسب لكنها مركزية ضعيفة، من دون ما يعرف بالنظام الفيدرالي.
الموقف العربي المتمثل بالسعودية والاردن وسوريا والخليج العربي
تشعر هذه الدول عن خشيتها عن امكانية تقسيم العراق الى دويلات موزعة في الشمال والوسط والجنوب العراقي، ولا سيما وان العراق يضم في نسيجه الاجتماعي مجموعات عرقية وطائفية مختلفة يمكن تأجيجها برسائل مختلفة، وهكذا الحال بالنسبة لسوريا وان كانت تربطها بإيران علاقات وطيدة على اكثر من صعيد عسكري أو تجاري فضلا عن تفاهمها المشترك لكثير من القضايا التي تخص منطقة الشرق الاوسط غير انها بلا ريب قلقة من رؤية تعاظم النفوذ الايراني في المنطقة وبهذا وقفت كل من سوريا والاردن والسعودية ودول الخليج معارضة لأي تقسيم للعراق والفيدرالية نفسها ليس فقط بسبب سياستها ومواقفها القومية، بل ايضا بسبب ما تعود عليها فكرة التقسيم من اضرار في اثارة مواقف الاقليات الشيعية لديها من مطالبتها بنفس السياسة.(32)
من خلال تحليل هذه المواقف تظهر ان هناك كثير من التحديات التي ما زالت تعيق اقليم كردستان اذا ما اراد الاستقلال، وربما بعض التحديات لا يتيح للإقليم فرصة الاستقلال واعلان الدولة الكردية، لآن القضية الكردية والحديث عن الانفصال هي ليست مسالة كردية داخلية فقط فقد تتداخل فيها عوامل كثيرة، سواء العوامل التاريخية أو الدينية أو الجغرافية أو الاقتصادية فضلا عن العامل الاقليمي والدولي، ولا سيما موقف الدول المحاذية لإقليم كردستان (تركيا، ايران، سوريا) وقد يكون للعامل الجيوبوليتيكي دور كبير في عدم قدرة الاقليم على الاستقلال حتى وان كانت تركيا هي اليوم صديق جديد وقوي لأكراد العراق، الا ان ذلك لا يعني انها ستمنح الاكراد حقوقهم القومية في تقرير المصير، لأن التقارب التركي الكردي - اكراد العراق - هو تقارب براغماتي من جانب تركيا لجعل منطقة اكراد العراق منطقة نفوذ جديدة ودائمة لتركيا تضاهي به الدور الايراني في العراق والمنطقة.
كذلك هناك مشكلة موارد الاقليم والذي يعتمد بشكل كبير على موارد الحكومة الاتحادية والحصة السنوية للإقليم من الموازنة العامة للدولة العراقية البالغة 17% وان أي قطع أو انخفاض في تلك الموارد ستسبب مشاكل كثيرة وكبيرة وتحديات اقتصادية في الإقليم، فضلا عن المناطق المتنازع عليها بين الاقليم والمركز وكذلك داخل الاقليم (بين الاحزاب الكردية نفسها) وعلى ما يبدوا فإن مشكلة المناطق المتنازع عليها لا يمكن ان تحل وتمثل تهديدا دائما ومستمرا بين الاقليم والمركز، وسيكون للعشائر العربية السنية التي تسكن تلك المناطق دورا كبيرا في النزاع بين الاقليم والمركز وكذلك سكوت للمكونات الاخرى مثل المكون التركماني دور في هذا الصراع كما حصل سابقا واخرها في قضاء طوز خورماتو من مواجهات بين المكون التركماني وعناصر البيشمركة وبهذا ستكون هناك تداعيات كبيرة مترتبة على استقلال الاقليم. (33)
التقسيم الناعم Soft Partition
ويعمل في دوائر صنع القرار ومراكز البحوث الامريكية تحاول نيابة عن العراق التفكير في الخطوة القادمة وما الذي يجب عمله لتجاوز الأزمة ومحاولة طرح سيناريوهات للمستقبل ومن أبرز الطروحات اطروحة التقسيم الناعم (Soft Partition) الذي بات حاضرا وبقوة.
والتقسيم الناعم لا يعني تفكك العراق الى ثلاث دول بل هو يعني تقاسم للسلطة من خلال انشاء الاقاليم والدستور العراقي يعطي الحق بتشكيل الأقاليم، وعليه يمكن تشكيل ثلاثة اقاليم في العراق اضافة الى اقليم كردستان اقليمين في الجنوب واحد يضم المحافظات الوسطى، وآخر يضم المحافظات الجنوبية، واقليم يضم المحافظات الغربية والشمالية الغربية وايجاد صيغة توافقية للمحافظات المختلطة كركوك وديالى.
انتهى
الخاتمة
بعد البحث والدراسة لمحل البحث أثر تقسيم وتفكيك العراق توصلنا الى جملة من النتائج أولا والتوصيات ثانياً ونوجزها بالآتي:
أولا: الاستنتاجات
1. ان السياسات الخاطئة والمستبدة للنظام السياسي قبل 2003 كانت سببا للأزمات والتفاقم التي عاشها العراق منذ ثلاثة عقود مما ادى الى تدهور الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والصحي في العراق.
2. كانت سياسة الاحتلال الامريكي للعراق بإلغاء مؤسسات الدولة واعادة بناءها على أسس الطائفية والاثنية أثرها المباشر في تفاقم الصراعات المذهبية والقومية في العراق.
3. ان الحكومات الضعيفة التي توالت الحكم منذ تغيير النظام السابق 2003 كانت تفتقر للإرادة الوطنية مما وقعت تحت ولاءات طائفية اضعفت قدرتها على التعامل مع دول الجوار وبالتالي سبّب تفاقم مسارات السياسة العراقية.
4. أثر تفشي الفساد المالي والاداري والسياسي في مفاصل الدولة ازدهرت اوضاعا اقتصادية واجتماعية شاذة تسببّت بهدر المال العام وتفشي الصراعات السياسية من أجل السيطرة على مراكز القوى في الدولة.
5. ان انفلات الاوضاع الأمنية ونمو المليشيات والمجموعات المسلحة أفقد القانون أسس ردعه واصبحت الاوضاع خارج السيطرة مما سهّل ارتكاب الجرائم والارهاب وانتهاكات حقوق الانسان والحريات الاساسية في العراق.
6. عدم نفاذ التشريعات والقوانين لتنظيم الحياة السياسية وتقاسم السلطات ما بين الحكومة المركزية والاقليم والحكومات المحلية مما أضعف نظام اللامركزية في ادارة الدولة والتي ادت اقليم كردستان ومجالس المحافظات في الرغبة لإقامة دويلات وفدراليات على أساس قومي وجغرافي.
7. في حالة تحقق سيناريوهات التقسيم هناك آثار سيادية وقانونية تكون الدويلات ملزمة بها من حيث المعاهدات الإقليمية والدولية والانضمام الى المنظمات الدولية بما فيها الأمم المتحدة.
8. في حالة تقسيم العراق الى دويلات على أساس القومي والاثني تتحمل ديون الدولة السلف العراق ملزمة الدفع للدول او المنظمات الدولية او الأشخاص.
9. ان المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية التي يعانيها العراق الدولة السلف ستتحمل تبعاتها الدويلات التي تشكل على تقسيم وتفكيك العراق.
ثانياً: التوصيات
نوصي المؤتمر ومن خلاله اصحاب القرار في الرئاسات الثلاث ورئاسة اقليم كردستان وكل من له شأن في ادارة الدولة العراقية:
1. احترام الدستور والقوانين النافذة فيما يخص العلاقات ما بين الحكومة المركزية وحكومة اقليم كردستان والنظام الديمقراطي الفيدرالي.
2. منح الصلاحيات الدستورية في ادارة الاقاليم والمحافظات الغير منتظمة بإقليم بما تؤهلها القيام بإدارة المناطق والمحافظات من قبل ابناءها ودعمها بما تساعدها القيام بتقديم أفضل الخدمات لأبنائها.
3. اصدار التشريعات المهمة والضرورية التي تنظم الحياة السياسية فيما يخص بالتداول السلمي للسلطة بعيدا بما تسمى بـ (التوافقات) السياسية والطائفية والمحاصصة الحزبية بما تؤمن تقاسم السلطات بين الحكومة المركزية الاتحادية والاقاليم والحكومات المحلية.
4. تقاسم الواردات التي تأتي من صادرات النفط -المصدر الوحيد والحصري حاليا للموازنة العامة للدولة – بما تؤمن تطبيق الخطط الاستثمارية لإعادة بناء البنى التحتية للعراق
5. إذا استحال استقرار العراق واعادة بناءه وفق متطلبات الحاجة امكانية الذهاب لتشكيل الاقاليم وفق الدستور وتنظيم تقاسم السلطات والصلاحيات والموارد بالشكل الذي يؤمن الحياة الحرة الكريمة لأبناء العراق في جميع محافظات.
6. بما ان لتقسيم العراق وتفكيكه وفق السيناريوهات المطروحة على اساس طائفي واثني لا تخدم أي من المكونات العراقية فالبديل الذي يؤمن الحفاظ على ما بقي من قدرات العراق هو اللجوء الى ما يسمى بالتقسيم الناعم الذي يدعمها الولايات المتحدة الامريكية ولربما دول الاقليم وجوار العراق هو تشكيل عدة اقاليم بما تتوافق بين المحافظات لتأمين استقرار العراق.