استراتيجية مواجهة الفساد للنهوض بالتنمية الاقتصادية في العراق
د. عز الدين المحمدي
2018-07-03 06:47
المقدمة
المبحث الأول: مفهوم الفساد المالي والإداري وصوره والرؤى والفكرية له
المبحث الثاني: الآثار السياسية والاقتصادية والاجتماعية للفساد المالي والإداري
المبحث الثالث: استراتيجية مواجهة الفساد المالي والإداري للنهوض بالتنمية الاقتصادية في العراق
المقدمة
الفساد آفة مجتمعية عرفتها المجتمعات الانسانية منذ فجر التاريخ، وهو مرض عضال تحمله كل الدول والمجتمعات سواء اكانت غنية ام فقيرة، متعلمة ام جاهلة، دكتاتورية ام ديمقراطية، قوية ام ضعيفة، ويرتبط ظهوره واستمراره برغبة الانسان في الحصول على مكاسب مادية او معنوية يعتقد في قرارة نفسه انه ليس له حق فيها ومع ذلك يسعى اليها، لذا فهو يلجأ الى وسائل سرية للوصول اليها ومنها اقصاء من له الحق فيها.
ويعد الفساد اليوم ظاهرة عالمية شديدة الانتشار، ذات جذور عميقة تأخذ ابعادا واسعة تتدخل فيها عوامل مختلفة يصعب التمييز بينهما، والفساد هو التحدي الاهم والوريث المتوقع للإرهاب والذي ستجد الحكومات والمجتمعات نفسها في مواجهته وفي حرب معه، وستكون على الاغلب اكثر شراسة وتكلفة من مكافحة الارهاب (1)
وسنبحث - في هذه الورقة البحثية – ظاهرة الفساد في ثلاثة مباحث نخصص الاول منها لمفهوم الفساد المالي والإداري وصوره والرؤى الفكرية له ، فيما نخصص المبحث الثاني للبحث في الآثار السياسية والاقتصادية والاجتماعية للفساد المالي والإداري، اما المبحث الثالث سنخصصه للبحث عن استراتيجية مواجهة الفساد المالي والإداري للنهوض بالتنمية الاقتصادية في العراق.
أولا: اهداف البحث:
يهدف البحث الى معرفة الاسباب التي تقف وراء ظهور الفساد المالي والاداري في العراق ومعرفة صوره ومدياته وآثاره تمهيدا لاقتراح الحلول والمعالجات الضرورية للتصدي اليه وازالة آثاره على الاقتصاد والمجتمع .
ثانيا: مشكلة البحث:
تتحدد مشكلة البحث بجسامة الآثار السلبية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للفساد المالي والإداري والمتمثلة بالهدر الواسع للثروات الوطنية وضياع فرص التنمية الحقيقية وتلكؤ مشاريع البناء والاعمار وظهور فوارق طبقية في المجتمع.
ثالثا: اهمية البحث:
تكمن اهمية البحث في كونه يمثل محاولة على طريق محاربة الفساد المالي والإداري في العراق عموما وكركوك على وجه الخصوص من خلال تسليط الانظار على اسبابه وصوره وتداعياته وطرق وآليات مواجهته ومعالجته للوصول الى الإصلاح الشامل.
رابعا: فرضية البحث:
ينطلق البحث من فرضية رئيسية مؤداها ان ظاهرة الفساد المالي والاداري في العراق تقف وراءها اسباب ذاتية تتعلق بشخصية العناصر المفسدة وأسباب موضوعية تتمثل بظروف الاحتلال وضعف المسائلة القانونية للمفسدين وقلة الرقابة والمتابعة للمشاريع.
منهجية البحث:
ارتأينا ان نتخذ المنهجية العلمية في الجانب الوصفي والتحليلي لمشكلة البحث الموجز عن شيوع الفساد المالي والإداري من حيث أسبابه وصوره وآثاره السلبية على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية واجمال للنقاط التي يمكن من خلالها وضع استراتيجية مواجهة الفساد ومكافحته للوصول الى الإصلاح الشامل.
تقسيم البحث:
نظرا لإيجاز موضوع البحث فاقتضى الامر منا تقسيمه الى المقدمة وثلاثة مباحث، المبحث الأول تم تخصيصه لمفهوم الفساد المالي والإداري وصوره والرؤى الفكرية له، وفي المبحث الثاني مناقشة اهم الآثار السلبية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للفساد المالي والإداري في العراق، اما في المبحث الثالث وضعنا اهم العوامل التي يمكن الاعتماد عليها لوضع استراتيجية مواجهة الفساد المالي والإداري للنهوض بالتنمية الاقتصادية في العراق وخاتمة البحث بالاستنتاجات والتوصيات.
المبحث الأول
مفهوم الفساد المالي والإداري وصوره والرؤى الفكرية له
يعد الفساد آفة خطيرة تهدد الكيان المؤسساتي للدول، وتضرب في عمق التنمية، وتهدد المجتمعات. وتسعى كثير من الدول إلى محاربة الفساد من خلال إنشاء الأجهزة الرقابية وسن القوانين والأنظمة الرقابية، ومع ذلك يبقى الفساد مطلاً بوجهه القبيح كلما أمكنه ذلك، مستغلا ضعف نظر الرقابة وقصر أذرعتها، أو تهاونها وغفلتها، أو ضعف الأنظمة وعدم فعاليتها. وينمو الفساد ويستشري كلما غابت الشفافية في بيئات العمل، فالعلاقة عكسية بين الطرفين؛ كلما ازداد حضور أحدهما فذلك مؤشر على تراجع الأخر. وبدأت تظهر مؤسسات تعنى بمحاربة الفساد من خلال نشر مفهوم الشفافية والنزاهة.
أولا: مفهوم الفساد لغة:
يقتضي البحوث والدراسات العلمية والأكاديمية على تحديد معنى المصطلحات والمفاهيم المستخدمة في البحث وتوضيح مضمونها في الاطار الموضوعي للبحث وهنا يمكن تعريف الفساد لغة:
الفساد في معاجم اللغة هو في ( فسد ) ضد صلح والفساد لغة البطلان فيقال: فسد الشيء أي بطل وأضمحل، ويأتي التعبير على معان عدة بحسب موقعه في سياق الكلام فهو( الجدب او القحط ) كما قال تعالى: ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت ايدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ) (2) أو ( الطغيان والتجبر) كما في قوله تعالى: ( للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً ) (3) وهنا التأكيد ان الفساد بين الناس ومن انفسهم.
ثانياً: مفهوم الفساد اصطلاحا:
تعد ظاهره الفساد الإداري والمالي من الظواهر الخطيرة التي تواجه البلدان وعلى الأخص الدول النامية حيث أخذت تنخر في جسم مجتمعاتها بدأت بالأمن وما تبعه من شلل في عملية البناء والتنمية الاقتصادية والتي تنطوي على تدمير الاقتصاد والقدرة المالية والإدارية وبالتالي عجز الدولة على مواجهة تحديات أعمار أو إعادة أعمار وبناء البنى التحتية اللازمة لنموها .
فقد وردت تعاريف ومفاهيم عديدة للفساد منها:
• فقد عرفته موسوعة العلوم الاجتماعية بـ (الفساد هو سوء استخدام النفوذ العام لتحقيق أرباح خاصة) ولذلك كان المفهوم شاملاً لرشاوى المسؤولين المحليين أو الوطنيين، أو السياسيين مستبعدة رشاوى القطاع الخاص .
• وعرفته كذلك (هو خروج عن القانون والنظام العام وعدم الالتزام بهما من اجل تحقيق مصالح سياسية واقتصادية واجتماعية للفرد أو لجماعة معينة) .
• إما تعريف منظمة الشفافية العالمية فقد جاء بـ (إساءة استخدام السلطة العامة لتحقيق كسب خاص)(4)
• اما تعريف صندوق النقد الدولي (IMF) بانه (علاقة الأيدي الطويلة المعتمدة التي تهدف إلى استحصال الفوائد من هذا السلوك لشخص واحد أو مجموعة ذات علاقة بين الأفراد) (5) .
• اما القانون الدولي فعرفه بـ (بأنه منصب ثقة يتطلب العمل بما يقتضي الصالح العام )(6)
• وخرج تعريف آخر عن الصيغ المذكورة آنفا فعرف الفساد بأنه ( الخروج عن القواعد الأخلاقية الصحيحة وغياب او تغييب الضوابط التي يجب ان تحكم السلوك، ومخالفة الشروط الموضوعة للعمل وبالتالي ممارسة كل ما يتعارض مع هذه وتلك ) (7)
• ويرى آخرون أن الفساد علاقة تعاقدية غير مشروعة بين فاعلين يقع فعلهما تحت طائلة القانون، وهما ( الفسَّاد) و (المفسد) حيث أن الأخير هو كل شخص يحوز سلطة ويستعملها استعمالاً احتيالياً (والفاسد) هو كل من يحوز وسيلة مادية لشراء تلك السلطة، أو بالأحرى شراء قرار بعينه يمكن أن يصدر عن تلك السلطة.(8)
بعد ان عرجنا على اهم المفاهيم والتعاريف للفساد المالي والإداري لابد لنا ان نرسم اهم سمات هذا الوباء المنتشر كالنار في الهشيم في المجتمع الاداري والاجتماعي والوظيفي في العراق:
ثالثاً: سمات الفساد المالي والإداري في العراق
ويتسم الفساد الاداري والمالي بعدة سمات نجملها بما يلي
1. اشتراك أكثر من طرف في ممارسة الفساد الإداري .
2. السرية التامة في ممارسة الفساد الإداري .
3. يجسِّد المصالح المشتركة والمنافع التبادلية لمرتكبيه .
4. يعبرّ عن اتفاق بين إرادتي صانع القرار ومرتكبي الفساد الذين يضغطون على الطرف الأول لإصدار قرارات محددة تخدم مصالحهم الشخصية.
رابعاً: الرؤى النظرية والفكرية للفساد المالي والاداري
ومع تطور ظاهرة الفساد الإداري والمالي وانتشارها فقد تباينت الرؤى النظرية والفكرية لهذا المفهوم وظهرت مداخل عديدة لتحديده يمكن إجمالها فيما يأتي:
أ. المدخل الأخلاقي: في إطار هذا المدخل يعد الفساد ظاهرة قيمية وسلوكية تتجسد بحالات سلبية وممارسات ضارة وهدامة يتطلب الأمر الوقاية منها ومعالجتها
ومكافحتها بشتى الطرق والأساليب.
ب. المدخل الوظيفي: يطلق البعض عليه اسم المدخل العملي أو التبريري، وعلى وفق
هذا المدخل فان الفساد الإداري لا يفترض بالضرورة أن يكون انحرافا عن النظام
القيمي السائد بل هو انحراف عن قواعد العمل وإجراءاته واشتراطاته وقوانينه وتشريعاته ويأتي هذا الانحراف نتيجة أسباب عديدة ليشكل خرقا لهذه القوانين المعتمدة في النظام الإداري.
ج. المدخل الثقافي: ضمن هذا المدخل فان الفساد الإداري يمكن أن يشكل ظاهرة متعددة الأبعاد والأسباب والنتائج، ولكونها ظاهرة فإنها يمكن أن تأخذ طابعا منظما له القدرة على الاستمرار والبقاء، و يخلق مجموعة كبيرة من النظم الفرعية الفاسدة سواء أكان ذلك على وفق المعايير القيمية أم الوظيفية
د. المدخل الحضاري: يرتبط مفهوم الفساد بمنظور حضاري بكل مكوناته السياسية والثقافية والقيمية والاجتماعية والسلوكية، اذ يفترض أنَّ الفساد الإداري ظاهرة مركبة تتكرس من خلال التخلُّف بشكل واسع ومجمل الممارسات الفردية والجماعية تؤدي إلى خيارات يشوبها كثير من النقص والتقصير.
ه. وهناك مدخل خامس مهم يستحق الدراسة بتعمق يقوم على أساس حصر الفساد الإداري بالوظيفة العامة العليا فقط واستغلال المناصب الرفيعة لغرض تحقيق المكاسب المادية والوجاهة الاجتماعية وإيصال المنافع إلى الحاشية والأقارب بعيدا عن أي اعتبارات أخلاقية، وتنفيذا لقناعة قائمة على أساس أنَّ هذا المنصب الرفيع هو مؤقت وزائل لا يستمر لفترة طويلة .(9)
خامساً: صور الفساد المالي والاداري في العراق:
لقد برزت صورتين للفساد المالي والإداري بشكل ملفت للنظر في العراق
الأولى: اخذ مبالغ من الراغبين في التعيين في الوظائف العامة وهو خلل أخلاقي قانوني وتأتي من تعدد الجهات التي لها السلطة في التعيين ( الوزير والمدير العام والأحزاب السياسية ) .
الثانية: لجان المشتريات في دوائر الدولة وهي من أسوء صور اهدار المال العام مع ملاحظة ان القواعد والتعليمات المعمول بها حاليا في تشكيل لجان المشتريات ولجان التخميين وبقية مسميات اللجان لا يمكن من خلالها غلق مداخل ومخارج الفساد الموجود .
ويظهر الفساد المالي والاداري بصور متعددة يجمعها عامل مشترك يتمثل في انها نتاج لاستغلال غير مشروع للوظيفة العامة، وقد اشارت الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد لعام ٢٠٠٣ صور الفساد المالي والإداري بالصور التالية:
1. الرشوة: وهي صورة واضحة للموظف الذي يريد استغلال وظيفته للحصول على منافع مادية، وهي معروفة لدى كبار وصغار الموظفين وقد اطلقت عليها تسميات متنوعة منها اكرامية او مساعدة او هدية الغاية من ذلك تلطيف شكلها لكن هي في جوهرها رشوة يحاسب عليها القانون بوصفها جريمة . وقد تدفع الرشوة من صغار الموظفين الى كبيرهم للتغطية على تصرفاتهم غير قانونية.
2. اختلاس الاموال العامة: وهي صورة من صور جرائم الفساد المالي والاداري ولها انعكاسات اقتصادية خطيرة تتمثل في كونها تبديدا لأموال وممتلكات المجتمع وتعتبر ضربا من ضروب خيانة الامانة للموظف الذي عهدت اليه الاموال العامة بحكم توليه الوظيفة العامة.
3. الاتجار بالنفوذ: اشارت الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد لعام ٢٠٠٣ الى صورة ثالثة للفساد المالي والاداري وهي جريمة الاتجار بالنفوذ وتتمثل في قيام الموظف او اي شخص اخر باستغلال نفوذه الفعلي المفترض للحصول على مزية غير مستحقة .
4. اساءة استغلال الوظيفة: نصت المادة ١٩ من الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد على ضرورة اعتماد كل دولة طرف في الاتفاقية ما يلزم من تدابير تشريعية وتدابير اخرى لتجريم الموظف الذي يتعمد اساءة استغلال وظيفته او موقعه وذلك من خلال القيام او عدم القيام بفعل لغرض الحصول على مزية غير مستحقة لصالحه او لصالح شخص اخر او كيان اخر وهو ما يشكل اهانة للقوانين.
5. الاثراء غير المشروع: وهي صورة من صور الفساد المالي والاداري وفيها يستغل الموظف الثغرات الموجودة بالقوانين او التعليمات او الانظمة لينفذ من خلالها مما يعود عليه بالنفع الكثير فتزداد امواله واصوله بشكل لا يتناسب مع مدخلاته الحقيقية، لذا نصت الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد على ضرورة محاربة الثراء غير المشروع من خلال توجيه الدول باتخاذ ما يلزم من تدابير تشريعية ودستورية لتجريم الاثراء غير المشروع.
6. اخفاء الاموال المتحصلة من جرائم الفساد: ان اخفاء الاموال المتحصلة من جرائم الفساد المالي والاداري يشكل بحد ذاته جرما وفسادا يجب المحاسبة عليه لان الشخص الذي اخفى تلك الاموال مع علمه بمصدرها يكون بذلك قد سهل للجاني الاستفادة من تلك الاموال وعرقلة سير العدالة في الكشف عنها.
7. غسيل الاموال المتحصلة من جرائم الفساد: ان غسيل او تبييض الاموال المتحصلة من جرائم الفساد تمثل صورة من صور الفساد الخطرة جدا لأنها تضمن للجاني استمرارية الاستفادة من تلك الاموال دون الخوف من المسائلة القانونية لأنها ستظهر بصورة الاموال المشروعة .
8. عرقلة سير العدالة: وهي صورة اخرى من صور الفساد المالي والاداري التي تضمنتها الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد وتتمثل بتهديد الشهود والموظفين المنوط بهم تنفيذ القانون وذلك من خلال العنف او التهديد او الترهيب.
9. الاحتيال والنصب: وتعني القيام بالأفعال الاحتيالية التي تنطلي على الاخرين بممارسة عمل وظيفي هام ليستغل به الاخرين ويعمل على ابتزازهم.
10. المحاباة والمحسوبية: وتتمثل هذه الظاهرة برعاية الاقارب والمعارف وتفضيلهم في مجال التعيين او ابرام العقود وهذا يمثل نوعا خطيرا للفساد لأنه يعني اعطاء حق لمن لا يستحقه.(10)
المبحث الثاني
الآثار السياسية والاقتصادية والاجتماعية للفساد المالي والإداري في العراق
يعد الفساد الإداري إحدى القضايا الشائكة في أي مجتمع من المجتمعات، ولقد وعت المجتمعات الى خطورة هذه المشكلة وسنت الأنظمة والقوانين من أجل مكافحتها، حيث تؤثر هذه المشكلة في حدوث الكثير من الآثار السلبية كشيوع البطالة في المجتمعات، وزيادة عمليات التضخم، وظهور عمليات الاحتكار، وزيادة مستويات الفقر في المجتمعات، لذلك تسعى الحكومات الى مكافحة الفساد باستخدام العديد من الأساليب عن طريق الرقابة على الأجهزة الحكومية، وعلى العاملين وعلى تدعيم مبادئ الشفافية في الإدارة وعلى القضاء على المحسوبية والمحاباة في العمل.
نظرة اولية في الفساد المالي والإداري في العراق
تشير الكثير من الاحصائيات الصادرة عن المنظمات العالمية المعنية بشؤون النزاهة ومكافحة الفساد المالي والإداري الى ان العراق يحتل الصدارة بنسبة الفساد بين دول العالم بقوة واقتدار وإصرار ولعدة سنوات متتالية على الرغم من وجود الكثير من الدوائر الرقابية كهيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية ومكاتب المفتشين العموميين ودوائر الرقابة الداخلية في الوزارات التي يفترض ان تعمل جميعها على مراقبة الاداء الحكومي في المجالات المالية والادارية.
ويحتل العراق هذه المراكز المتقدمة في مجال انتشار الفساد على الرغم من ان ما يتم تناوله بالتدقيق والتحقيق من قبل هيئة النزاهة لا يصل في احسن الاحوال ولدى اكثر المتفائلين الى نسبة (5%) من حالات الفساد المالي والاداري والمهني الموجود فعلاً في دوائر الدولة، ولو تم التبليغ والاعلان عن غالبية حالات الفساد فان موقع العراق يقفز الى الأعلى في سلم انتشار الفساد وبفارق شاسع جداً عن غيره من الدول.(11)
وقد كان لنظام التوافقية المتبع في نظام حكم العراق الدور الرئيسي في انتشار الفساد المالي والإداري فضعف مجلس النواب بسبب المساومات المتبعة في علاقات الكتل البرلمانية التي تجعلها متفاهمة اتفاقاً أو ضمناً على عدم محاسبة المفسدين من أي طرف لأنه يعرض المفسدين من الأطراف الاخرى للمساءلة ايضاً وكذلك الحماية التي توفرها الاحزاب الحاكمة للمفسدين المنتمين اليها قد ساعد – اضافة الى عوامل اخرى – على شيوع ثقافة ارتكاب الفساد ومحاربة النزاهة والنزيهين والمخلصين وممارسة هذه الثقافة في واقع العمل الوظيفي في دوائر الدولة العراقية وبشكل كبير جداً طولاً وعرضاً من دون رادع قانوني ولا رقابي فنهب المال العام وانتشر الفساد بصور متعددة كالسرقة والرشاوى والاحتيال والاختلاس والهدر ومن خلال المشتريات والعقود الوهمية أو غير السليمة ولم يجد المفسدون من يردعهم فصاروا مثالاً يحتذى من قبل الكثير من الموظفين الأدنى منصباً أو مسؤولية حتى تحول العراق الى بؤرة للفساد المالي والاداري تتربع على عرش الفساد العالمي.
ويُعد الفساد الإداري من الموضوعات المهمة لما لهُ من جذور تاريخية انتشرت في مجتمعاتنا الحاضرة سواء النامية منها والمتقدمة وشاع في كل النظم السياسية ويمثل الفساد بالسلوك غير القانوني للمسؤول كاستغلال الصلاحيات والنفوذ والابتزاز في خدمة المصالح الشخصية.
أولا: أسباب شيوع الفساد المالي والإداري في العراق
واذا بحثنا عن اهم أسباب انزلاق العراق الى هاوية الفساد المالي والإداري يمكن اجمالها وايجازها بما يلي:
1- انحلال البناء القيمي وضعف الضوابط الاخلاقية في مؤسسات الدولة والمجتمع عموما مما يؤدي الى تغليب المصلحة الفردية على المصلحة العامة.
2- الظروف السياسية الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي ترجح توجه الناس الى الافراط في الفردية مع تنامي سطوة التأثير المادي على المجتمع.
3- غياب المساءلة بكل او معظم صورها، وهو اما غيابي قانوني أي ان المنظومة القانونية لا تتضمن تنظيما لأليات المساءلة فلا وجود لرقابة دستورية او مساءلة برلمانية ولا وجود لمؤسسات للرقابة الداخلية وقد تكون المساءلة منظمة قانونا ولها وجود في المنظومة القانونية ولكنها غير فاعلة ولا تؤدي دورها المرجو منها فوجودها كعدمها .
4- اختزال مفهوم النزاهة والصلاح والاستقامة لدى الانظمة الدكتاتورية والقمعية في الولاء للنظام او الحزب بدلا من القيم المبدئية وقيم المجتمع .
5- اختلال موازين توزيع الثروة على افراد المجتمع، وغلبة الشعور بالغبن لدى غالبية افراد المجتمع مما يدفع ببعضهم الى ابتداع وسائل التربح والارتشاء واختلاس الاموال العامة كمحاولة فردية او منظمة غير مشروعة لإعادة التوازن المفقود .
6- عدم كفاءة ونزاهة القيادات الادارية وكبار المسؤولين من وزراء ووكلائهم ومدراء عامين لان اختيارهم يتم على اساس التزكية او الولاء للحزب او الكتلة او الطائفة او على اساس القرابة والصداقة والمحسوبية دون مراعاة لمبدأ التقييم العلمي المبني على الكفاءة والخبرة والنزاهة، واحيانا تصل الحال في مثل تلك المناصب الى بيعها على الراغبين بما يتناسب مع ما يتصور استزاره منها تأتيه من موارد مالية نتيجة الممارسات غير المشروعة .
7- انعدام الشفافية في مؤسسات القطاع العام ومفاصل القطاع الخاص، والعمل بسرية ومنع المعلومات والاحصائيات من التسرب الى الجمهور او الاعلام او مؤسسات المجتمع المدني .
8- الرواتب غير المجزية لموظفي القطاع العام مما يلجئهم الى البحث عن مصادر اخرى للدخل، فأن لم يجدوا مصادر مشروعة، اضطروا الى التوسل بالمصادر غير المشروعة سواء اكان محله المال العام او اموال المواطنين .(12)
يؤدي الفساد المالي والإداري إذا ما انتشر في مجتمع ما إلى انخفاض معدلات النمو الاقتصادي، وتراجع مستويات التنمية الاقتصادية، كذلك يعمل الفساد على إضعاف الدولة خارجياً وافتقار العقلانية للمسؤولين الحكوميين الفاسدين في اتخاذهم للقرارات السياسية مما يؤول إلى زيادة حدة الفقر وتفاقم التفاوت الطبقي وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي وكما يلي.
ثانياً: الآثار السياسية للفساد الإداري والمالي
تتجلى الآثار السياسية للفساد الإداري والمالي بما يأتي:
1. عدم الاستقرار السياسي:
عندما يشيع الفساد في الدول المرتبطة بمعاهدات أو قروض خارجية فهي تكون ملزمة بشروط جزائية إذا ما أخلت بها يترتب عليها نتائج وخيمة منها فقدان الدولة لسيادتها من خلال تحكم وتدخل تلك المؤسسات أو الدول المقرضة بسيادة تلك الدولة فالمفسدون يوجهون القروض إلى مشاريع لا تمت بالصلة إلى التنمية والتطور أو قد توجه إلى حسابات خاصة لأعضاء النخب السياسية وتشير الإحصاءات إلى أن الدول النامية توجه ( ٢٥ %) من القروض للتسليح فقط، مما يؤدي إلى خسارة كبيرة للأموال المقرضة ومن ثم إملاء المؤسسات والدول المقرضة شروطها على الدول المقترضة تحسباً لأي تسرب لهذه الأموال. وأدى ذلك إلى تعالي الأصوات المنادي بالإصلاحات الهيكلية التي تهدف إلى تقليل دور الدولة وأسقاط ثقل هذه الإصلاحات على كاهل المواطن.(13)
2. التأثير على صانع القرار السياسي:
يؤدي الفساد إلى افتقار العقلانية للمسؤولين الحكوميين الفاسدين في اتخاذهم للقرارات السياسية التي تؤثر في مصير الوطن، وهذا ناجم عن تركز السلطة لدى قمة جهاز الدولة وغياب حكم القانون مما يؤدي إلى اتخاذ القرارات السياسية الخطيرة من جانب رئيس الدولة من دون تشاور أو الاستفادة من أجهزة ومراكز البحث التي يمكن أن تقدم معلومات مفصلة عن الواقع الذي تواجهه الدولة في مجال محدد، وعن بدائل صنع القرار، وعن تكلفة كل منها، وعن النتائج المترتبة على أي منها مما قد يكلف الدولة عقوبات دولية، وسمعة دولية سيئة، أو دفع تعويضات مادية يكون الشعب بأمس الحاجة لها مثال على ذلك قرارات النظام السابق التي دفع ثمنها الشعب العراقي وقرارات الحكومات المتعاقبة منذ 2003.
3. الانكشاف أمام القوى الخارجية:
يعمل الفساد على إضعاف الدولة ويجعلها أكثر انكشافاً أمام القوى الخارجية، فهو يقلل من قدرتها التساومية مع الشركات الدولية، ويفتح الباب أمام تمرير هذه الشركات لعقود غير متوازنة مع كبار المسؤولين في هذه الدولة مما يحرم الدولة من التأييد في المحافل الدولية، فليس من مصلحة دولة أخرى أن تقيم معها علاقات تكون بعيدة الأمد ، لعدم استقرار نظام الحكم فيها، وصعوبة التنبؤ بقرارات حكامها.
ثالثاً: الآثار الاقتصادية للفساد المالي والاداري
إن أهم الآثار الاقتصادية للفساد المالي والإداري هي:
1. تخفيض معدلات الاستثمار:
تشير الكثير من الدراسات النظرية والتطبيقية إلى أن للفساد الإداري تأثيرات سلبية على النمو الاقتصادي من خلال خفضه لمعدلات الاستثمار الأجنبي والمحلي على حد سواء، فالمستثمر يتجنب البيئة التي يشيع فيها الفساد لأنه يضطر على سبيل المثال لدفع الرشاوى المادية والعينية التي تمثل للكثير من المستثمرين ضرائب تزيد من تكاليف تنفيذ الأعمال مما يدفعهم إلى تقليل الاستثمار في هكذا بيئة، ومن ثم ينخفض الطلب الكلي الذي يعمل بدوره على تخفيض معدل النمو الاقتصادي.
2. تفاقم وعجز الموازنة العامة:
يعمل الفساد على تقليل الايرادات العامة ويزيد من النفقات العامة وذلك من خلال التهرب الضريبي، أو محاولة الحصول على إعفاءات ضريبية غير مشروعة، كما يزيد من تكلفة بناء وتشغيل المشروعات العامة، مما يؤثر سلباً على الموازنة العامة للدولة حيث لا تستطيع الحكومة القيام بممارسة السياسات المالية السليمة وتزداد حدة مشكلة العجز إذا ما تم تمويله بواسطة الجهاز المصرفي إذ يولد معه تضخماً وعدم استقرار اقتصادي الأمر الذي يعيق النمو الاقتصادي.
3. ضعف كفاءة المرافق العامة ونوعيتها:
يعمل الفساد على تقليل نوعية المرافق العامة وكفاءتها عندما يتم إرساء العطاءات بصورة فاسدة، لأنه سيؤدي إلى منح عقود قادرة على رفع الرشاوى فيقلل بذلك من نوعية وكفاءة الخدمات العامة ولا يشجع المشروعات الإنتاجية والتحويلية على الاستفادة من وفورات الحجم من هذه المشروعات والنمو الاقتصادي الناجم عنها.
4. تشويه الأسواق وسوء التخصيص في الموارد:
يحدث ذلك من خلال تخفيض قدرة الحكومة على فرض الرقابة ونظم التفتيش لتصحيح فشل السوق، مما يفقد الحكومة سيطرتها الرقابية على البنوك والتجارة الداخلية والمستشفيات والنقل والأسواق المالية.. الخ مما يشوه الوظيفة الأساسية للحكومة في تنفيذ العقود وضمان حماية حقوق الملكية، فضلاً عن توجيه الفساد لطالبي الوظائف نحو المجالات التي تتيح لها فرصة توليد دخل إضافي عن طريق الارتشاء كالجباية الضريبية والرسوم الجمركية على الرغم من انخفاض أجورها، كما أن اجراء التوظيف والترقية في القطاع العام يخضع للمحسوبية مما يخفض من نوعية الإدارة ويزيد من القرارات الخاطئة، الأمر الذي يقلل من همة العناصر البشرية المؤهلة والكفوءة ويشوه سوق العمل ويضعف كفاءة الموارد المخصصة للتنمية.
5. زيادة حدة الفقر وسوء توزيع الدخل:
يحدث ذلك من خلال استغلال أصحاب النفوذ لمواقعهم المميزة في المجتمع والنظام السياسي، مما يتيح لهم الاستئثار بالجانب الأكبر من المنافع الاقتصادية التي يقدمها النظام، فضلاً عن قدرتهم على مراكمة الأصول بصورة مستمرة مما يؤدي إلى توسيع الفجوة بين هذه النخبة وبقية افراد المجتمع.(14)
ويمكن القول مما سبق إن للفساد الإداري آثارا سياسية واقتصادية تتمثل بفقدان الاستقرار السياسي والاقتصادي ويعود ذلك بدرجة أو بأخرى إلى إخضاع القرارات الاقتصادية لأهواء القيادات السياسية، كذلك فساد وضعف معظم الأنظمة السياسية في وضع استراتيجية سياسية اقتصادية تأخذ بنظر الحسبان التدخلات الخارجية المحتملة في حالة ارتباطها مثلاً بمعاهدات أو قروض تؤول إلى الانتقاص من سيادتها فضلاً عن انتشار الفاسدين في المؤسسات المدنية والسياسية للافتقار إلى نظم الرقابة والتفتيش مما انعكس سلباً على البلاد والطبقات الفقيرة في المجتمع.
رابعاً: الآثار الاجتماعية للفساد المالي والإداري
إن أهم الآثار الاجتماعية للفساد المالي والإداري هي:
1. اثر الفساد المالي والإداري في تدني التعليم.
تخصص اغلب الدول ميزانيات ضخمة للتعليم من اجل بناء القدرات البشرية التي تعتبر حجر الزاوية في عملية التنمية البشرية ورفع مستوى التعليم والتحضر في المجتمع، غير ان سلوك الفساد الإداري والمالي بدأ يمتص كثيرا من أموال هذه الميزانيات ويحرف المتبقي منها عن أهدافها وبالتالي يساهم في انحدار التعليم الى ادنى مستوياتها، وقد بدأ ذلك واضحا منذ التغيير السياسي عام 2003 حيث يعكس الواقع العملي عزوف الكثير من المعلمين والمدرسين عن أداء واجباتهم التربوية والتعليمية في المدارس من اجل الضغط على الطلبة لدفع الرشاوى عبر واجهة الدروس الخصوصية وبالتالي تدهور المستوى التعليمي بكافة مراحله.
وفي اطار التعليم الجامعي فان تخصيص الدراسات العليا والمنح الدراسية على أساس الانتماء الحزبي والمحسوبية او مقابل رشاوى ساهم في استبعاد أصحاب الكفاءات الحقيقية الذين يمكن ان يقدموا انجازات علمية حقيقية للبلد واحلال مواقعهم حملة شهادات عليا لا يملكون قدرات الخلق والابداع شيئا يذكر. وعلى اثرها اصبح العراق بسبب الفساد المالي والإداري خارج تصنيف التعليم العالمي.
2 .اثر الفساد المالي والإداري في تدني المستوى الصحي .
تهدف عملية التنمية الى ضمان حقوق الافراد على القدر الكافي من الاهتمام والرعاية الصحية اذ ان هذا المؤشر يعتبر معيارا من المعايير التي تؤخذ بنظر الاعتبار عند الحكم على مدى تقدم وتطور الدول، وفي العراق كانت الخدمات الصحية توفر لغالبية السكان بأجور رمزية في المؤسسات الحكومية حتى بات العراق خاليا بشكل تام من الامراض المستعصية التي تشكل مصدر قلق لكثير من الدول المتقدمة كالإيدز وغيرها.
لكن هذا الوضع في الميدان الصحي تدهور مع بداية عام 2003 فإلى جانب التدمير الذي حصل للبنى التحتية بفعل الحرب وبضمنها المؤسسات الصحية فأن الفساد المالي والإداري في القطاع الصحي ساهم بشكل كبير في تدهور مستوى الخدمات الصحية في المستشفيات الحكومية التي تكاد تكون خالية من الادوية وان توفرت فإنها تتعرض للسرقة من قبل الكادر الوظيفي لتباع الى المستشفيات الاهلية بأسعار مضاعفة، كذلك يتم استبدال الادوية ذات الجودة العالية بأخرى أقل جودة أو مغشوشة مما تسبب الكثير من حالات الوفاة .
3.أثر الفساد المالي والإداري في تعزيز التفاوت في الدخول
عمقت حالة الفساد المالي والإداري من التفاوت في مستويات الدخول بين فئات المجتمع، فقد تحول المنصب الوظيفي الى شأن شخصي تخدم مصلحة الفرد ( الموظف ) وخاصة بعد عام 2003 مما عزز من عملية الترابط بين المسؤولية والثروة حيث أصبحت غاية المسؤولية ضمان مصالح القلة المهيمنة على مقاليد السلطة السياسية وليس الصالح العام وهذا انعكس باتجاه تهميش الأغلبية فان استشراء الفساد أدى الى ظهور احتجاجات واسعة من قبل المهمشين وصل الى استعمال العنف كآلية لمواجهة التهميش والحرمان ومن ثم انتشار الفوضى وانعدام الاستقرار ولعل ما يشهده العراق من عنف وتذمر هو احد مخرجات الفساد، فأصحاب النفوذ يستغلون مواقعهم في المجتمع وفي النظام السياسي للحصول على الجزء الأكبر من المنافع وتراكم الاصول مما يوسع من حجم التفاوت بين دخولهم ودخول فئات المجتمع.
المبحث الثالث
استراتيجية مواجهة الفساد المالي والإداري للنهوض بالتنمية الاقتصادية في العراق
إن خطورة ما يطرحه الفساد من مشاكل ومخاطر على استقرار المجتمعات وأمنها والذي يقوض المؤسسات الديمقراطية وقيمها والقيم الأخلاقية والعدالة، ويعرض التنمية المستدامة وسيادة القانون للخطر وما يترتب على الفساد المالي والإداري من آثار اقتصادية وسياسية واجتماعية سيئة تؤثر بشكل مدمر على المجتمع، وآثار مدمرة تطال كل مقومات الحياة في الدولة، فتضيع الأموال والثروات والوقت والطاقات وتعرقل سير الأداء الحكومي وانجاز الوظائف والخدمات، وتقود إلى تخريب وإفساد ليس على المستوى الاقتصادي والمالي فحسب، بل في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية، ناهيك عن التدهور الخطير في مؤسسات ودوائر الخدمات العامة المتصلة بحياة المواطنين.
ويعد الفساد المالي والإداري المعرقل الرئيسي لخطط وبرامج التنمية إذ تتحول معظم الأموال المخصصة لتلك البرامج لمصلحة أشخاص معينين من خلال استغلال مراكزهم أو الصلاحيات المخولة لهم وبذلك تتعرقل عملية التنمية ويتفشى التخلف والفساد وينعكس بدوره على مجالات الحياة كافة وفي ذلك خسارة كبيرة للمال والجهد والوقت وضياع فرص التقدم والنمو والازدهار.
وتأسيسا على ما تقدم فان وضع استراتيجية لمواجهة الفساد المالي والإداري في العراق وفي كركوك على وجه الخصوص يتطلب خطوات جريئة للإصلاح الشامل في مفاصل مؤسسات الدولة من التشريعات القانونية والاستعانة من الخبرات الدولية واجراءاتها لمواجهة شيوع الفساد وتحصين النزاهة وترسيخ الشفافية.
أولا: الجهات المسؤولة على مكافحة الفساد عالمياً:-
1. الجهات الدولية:
حددت الجهات التالية كجهات دولية مهمتها مكافحة الفساد الإداري على نطاق عالمي وهي:
أ- منظمة الأمم المتحدة
أصدرت الأمم المتحدة عدد من القرارات لمحاربة ومكافحة الفساد للقناعة التامة بخطورة الفساد وما له من مخاطر وتهديد على استقرار وامن المجتمعات وأصدرت أيضاً اتفاقية لمكافحة الفساد سنة 2004 وقد انضمت إليها كثير من دول العالم .
ب- البنك الدولي
وضع البنك الدولي مجموعة من الخطوات والاستراتيجيات لغرض مساعدة الدول على مواجهة الفساد والحد من أثاره السلبية على عملية التنمية الاقتصادية .
ت- صندوق النقد الدولي
لجأ صندوق النقد الدولي إلى الحد من الفساد بتعليق المساعدات المالية لأي دولة يكون فيها الفساد عائق في عملية التنمية الاقتصادية .
ث- منظمة الثقافة العالمية
أنشأت هذه المنظمة سنة 1993 وهي منظمة غير حكومية (أهلية) تعمل بالشكل الأساسي على مكافحة الفساد والحد منه من خلال وضوح التشريعات وتبسيط الإجراءات واستقرارها وانسجامها مع بعضها في الموضوعية والمرونة والتطور وفقاً للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية .
2. الجهات الوطنية
اما محلياً في العراق فهناك ثلاث مؤسسات رقابة تعمل على مكافحة الفساد الإداري والمالي وهي:-
أ. هيئة النزاهة العامة
هي هيئـة حكوميـة (رسمية) مستقلة تأسست قانون رقم 30 لسنة 2011 معنيـة بالنزاهـة العامة ومكافحـة الفسـاد، وانشأت في العراق باسم ( مفوضيـة النزاهة العامة ) بموجب القانون النظامي الصادر عن مجلس الحكم العراقـي وفقاً للتخويل الممنوح من سلطة الائتلاف المؤقتـة المنحلـة بالأمر (55 لسنة 2004). وعدّها الدستور العراقـي الدائم لعام 2005 احدى الهيئات المستقلة وجعلها خاضعة لرقابة مجلس النواب وبدل اسمها إلى (هيئة النزاهة) بموجب المـادة (102) منـه مهمتها التحقيق في حالات الفساد المشكوك فيها كقبول الهدايا والرشاوي والمحسوبية والتمييز على الأساس العرقي أو الطائفي واستغلال السلطة لتحقيق أهداف شخصية أو سوء استخدام الأموال العامة من خلال:-
(1) وضع أسس ومعايير للأخلاق الواردة في لائحة السلوك التي يستوجب الالتزام بتعليماتها من قبل جميع موظفي الدولة .
(2) عقد ندوات وإعداد برامج توعية للتثقيف وتبني ثقافة مبنية على الشفافية والنزاهة والشعور بالمسؤولية .
ب. المفتشون العامون
أنشأت مكاتب المفتشون العامون بموجب الأمر 57 لسنة 2004 في الوزارات كافة مهمتها المراجعة والتدقيق لرفع مستويات المسؤولية والنزاهة والإشراف على الوزارات ومنع حالات التبذير وإساءة استخدام السلطة والتعاون مع هيئة النزاهة من خلال التقارير التي تقدم عن حالات الفساد في الوزارات المختلفة .
ت. ديوان الرقابة المالية
وهي الجهة المسؤولة عن التدقيق المالي في العراق أنشأت بموجب الأمر 77 لسنة 2004 مهمتها تزويد الجمهور والحكومة بالمعلومات الدقيقة الخاصة بالعمليات الحكومية والأوضاع المالية لغرض تعزيز الاقتصاد من خلال مهمة التدقيق المالي وتقييم الأداء ولغرض مكافحة الفساد المالي .
ثانياً: آليات ومعالجات الفساد للوصول الى الاصلاح الشامل:
ان وجود سياسة جادة وفاعلة للتصدي للفساد مقرونة بعزم لا يحيد على تنفيذها ومتابعتها من شأنه ان ينهي ذلك الفساد ويزيل اثاره ، لذا فان وجود مثل تلك السياسة وذلك العزم والارادة امران ضروريان لأي منهجية للإصلاح تريد الدولة اتباعها للتخلص من الفساد واثاره ، وتشكل النقاط التالية ملامح تلك السياسة الضرورية:
1. دعم المنظومة السياسية الفاعلة لبرامج الإصلاح واختيار العناصر الكفؤة والمخلصة لتولي قيادة الادارات والمشاريع المؤثرة في الاقتصاد.
2. اعتماد وتعزيز قيم الشفافية في المنظومة الحكومية والمؤسساتية في التعامل مع موضوع الفساد والمفسدين والكشف عنهم ومساءلتهم.(15)
3. زيادة فعالية المؤسسات الرقابية كديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة ومفتشي الوزارات واختيار العناصر الكفؤة والشجاعة والنزيهة لإدارة تلك المؤسسات.
4. اشاعة ثقافة محاربة الفساد والمفسدين بين اوساط المجتمع.
5. تفعيل دور المؤسسات الاعلامية في الكشف عن مواطن الفساد والعمل على متابعة ما ينشر عن المؤسسات الاعلامية بخصوص الفساد.
6. نشر ثقافة احترام المال العام واعتبار ذلك من ضرورات الوطنية.
7. اصدار القوانين والتعليمات التي لا تقبل اي تفسير او تأويل يشجع على التلاعب والتهرب من المسؤولية.
8. تفعيل الدور الذي يمكن ان تلعبه منظمات المجتمع المدني في مراقبة وكشف عمليات الفساد والجهات التي تقف وراءه.
9. ارساء المبادئ والقيم الاخلاقية للإدارة والمجتمع وتعزيزها وتحصين النظام القيمي للمجتمع وذلك من خلال النهوض ببرامج التوعية الاجتماعية وبناء السلوكيات الايجابية والاخلاقيات السليمة.
10. الاستفادة من الجهود الدولية في محاربة الفساد والمتمثلة بالاتفاقية الدولية لمحاربة الفساد لعام ٢٠٠٣ وقرارات المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة ، وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية ومنظمة التعاون الاقتصادي والاجتماعي ومنظمة الشفافية الدولية.
الخاتمة:
في ختام عرض الورقة البحثية عن استراتيجية مواجهة الفساد المالي والإداري للنهوض بالتنمية الاقتصادية في العراق توصلنا لمجموعة من الاستنتاجات والتوصيات وكما يلي
أولا: الاستنتاجات:
من خلال العرض والمناقشة توصلنا الى ابرز الاستنتاجات التي توضحت صورها بما يلي:
1. يعد العراق من أكثر الدول فساداً ويعزى ذلك إلى غياب سيادة القانون وتعرض
المؤسسات الرقابية للضغوط السياسية، فضلاً عن وقوع العراق تحت الاحتلال الأمر الذي أفضى إلى إهدار المال العام وسرقة مليارات الدولارات من قبل سلطة الاحتلال والسياسيين العراقيين.
2. رغم إحلال دورتين تشريعيتين لمجلس النواب الا انه لازال لم يشرع العديد من القوانين المهمة التي تمس الواقع الإداري والاقتصادي الضروري في العراق وفي مقدمتها قانون مجلس الخدمة الاتحادية للعراق بالرغم من تأكيد الدستور العراقي النافذ لسنة 2005 عليه والذي يمس جانب مهم من جوانب شيوع الفساد الإداري في العراق بما يتعلق بالتعينات واجراءاتها وشروطها.
3. تبديد الاموال العامة وزيادة الانفاق على قطاعات غير منتجة سيؤدي الى اتاحة مجال اكبر للسرقة والاختلاس وسيكون داعم لجوانب عديدة من الفساد.
4. تقيد صلاحيات اجهزة الرقابة الادارية والمالية ساهم في ضعف هذه الاجهزة وابتعادها عن الهدف الذي وضعت من اجله.
5. غياب المنهج العلمي في ممارسات اجهزة الرقابة الادارية والمالية لأعمالها سيساهم في جعل المجال اكبر لممارسات غير صحيحة في الدوائر والشركات التي تقوم على مراقبتها وفي داخل جهاز الرقابة ايضا.
6. ان مستوى الوعي الثقافي والتعليمي والاجتماعي ودرجة التحضر فضلاً عن مستوى ادراك خطورة الفساد وابعاده يقلص من فرص انتشار الفساد الاداري في أي دولة والعكس في ذلك سيجعل فرص تأصل وتجذر الفساد اكبر في كل مؤسسات الدولة والقطاع الخاص وسيصبح جزء من ثقافة هذه المؤسسات وبالتالي يمتد ليصبح جزء من ثقافة المجتمع.
7. عدم وضوح القواعد والنظم والتعليمات والاختلافات في تفسيرها وتغلب الاجتهادات الشخصية على روح القانون ساهم في إعطاء الفرصة لتغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة في عمليات اتخاذ القرارات وفي انجاز المعاملات من خلال تكيف النصوص القانونية حسب طبيعة المعاملة وليس حسب القواعد والنظم والتعليمات.
ثانياً: التوصيات:
بعد البحث والدراسة لمجمل ما تم عرضها من خلال الورقة البحثية الموجزة يوصي الباحث جملة من التوصيات لعلها تساهم في مواجهة ومكافحة الفساد المالي والإداري لتعزيز استراتيجية البناء والتنمية الاقتصادية في العراق وكركوك على وجه الخصوص وكما يلي.
1. إعادة تشكيل مجلس الخدمة العام وهو الجهة المختصة بتعيين الموظفين في دوائر الدولة وعدم منح صلاحية التعيين للوزير او المدير العام او الأحزاب.
2. إتمام إجراءات انتخابات مجلس محافظة كركوك وفق قانون انتخابات مجالس المحافظات رقم 36 لسنة 2008 المعلقة منذ سنوات وذلك لتمتع مجلس محافظة كركوك وادارتها المحلية الصلاحيات الدستورية للنهوض بالتنمية الاقتصادية والاستثمارية اسوة بمحافظات العراق.
3. تشكيل لجنة من القانونيين من قبل مجلس النواب لوضع آليات لعمل لجان المشتريات ووضع قانون لعملها بما يؤمن سد جميع الفقرات التي ينفذ منها الفاسدون لسرقة المال العام .
4. العمل بمبدأ ( من اين لك هذا ) وتفعيل اللائحة التنظيمية رقم 1 لسنة 2004 التي الزمت فيها الموظفين في الدرجات الخاصة بالكشف عن مصالحهم المالية وازواجهم واولادهم .
5. ضرورة وضع الخطط الاقتصادية والتنموية الاستراتيجية العشرية والخمسية وانعاش المشاريع التنموية الإنتاجية والاستعانة بخبراء التنمية الاقتصادية الإنتاجية لانتعاش السوق العراقي.
6. ضرورة وضع القواعد والضوابط الأساسية والإجراءات بقوانين لكل مؤسسات الدولة وخاصة في كركوك واعلانها للجمهور بوضوح ليكون معلوما للجمهور لغلق باب استغلال الموظفين للمواطنين وممارسة الابتزاز بحقهم باسم الضوابط والوثائق وتأخير إتمام معاملاتهم اليومية.
7. ضرورة الاستعانة بالخبرات القانونية والفنية واللوجستية الدولية والمؤسسات ذات الاختصاص بمكافحة الفساد المالي والإداري في العالم من اجل الاستفادة الفاعلة لمواجهة ومكافحة الفساد في العراق.
8. تعزيز مشاركة منظمات المجتمع المدني والمؤسسات المستقلة بالكشف عن عمليات الفساد المالي والإداري في مؤسسات الدولة ومكافحتها بالتنسيق مع الجهات الرقابية الرسمية في العراق وفي كركوك.
9. منح الحرية والفرصة للصحافة والاعلام الملتزم وتمكينها من الوصول إلى المعلومات ومنح الحصانة للصحفيين للقيام بدورهم في نشر المعلومات وعمل التحقيقات التي تكشف عن قضايا الفساد ومرتكبيها في العراق وكركوك.
انتهت