الظلم التكويني والقصور الذاتي
في علمي الكلام والاجتماع
2014-10-16 12:33
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى، محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
يقول تعالى:
(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)([1])
توطئة
في هذه الآية الشريفة مواطن كثيرة للاستلهام والاستضاءة والتدبر والتزود، ومنها ما سنطرحه تحت عنوان مستحدث سيكون كثير الفائدة في علم الكلام وعلم الاجتماع وغيرهما كما انه يشكل حلاً آخر وجواباً جديداً على بعض المشاكل الكلامية أيضا، إضافة الى انه مفيد أخلاقيا واجتماعيا، وسننطلق في ذلك كله من التدبر في كلمة (الظالمين) الواردة في الآية الشريفة وعلى حسب علم (فقه اللغة) وبعض القواعد الاخرى.
اشارة الى حقيقة الظلم ونوعه الثاني
ان الظلم كما هو المتصور في الأذهان هو نوع واحد، وهو الذي يُبحث عنه في مباحث التحسين والتقبيح العقليين والذي هو القبيح عقلا بلا شك والحرام شرعا ايضاً بناءا على جريان قاعدة الملازمة في المستقلات العقلية كما هو الحق المنصور.
كما ان هذا هو الظلم معروف عند عامة الناس، قال الشاعر:
والظلم من شيم النفوس فان تجد
ذا عفة فَلِعلةٍ لا يظلم
وقد اكتشفنا معنى آخر للظلم وهو معنى مغفول عنه عادةً، لكنه يُعرف بعد التدبر في الآيات والروايات وفي لغة العرب وعبر تصفح ودراسة عدد من الأمثال والحكم السائدة.
وهذا المعنى الجديد لا يقل أهمية عن المعنى الأول المعروف وهو منشأ ابحاث وأثار كثيرة مع انه لا يدخل في دائرة التشريع وليس للحرمة والكراهة دخل فيه، وهنا وجه الدقة في الكلام كما سيتضح ان شاء الله.
اختيار الاسماء والألقاب في تعاليم الإمام الباقر(عليه السلام)
لكن قبل ذلك سوف نستعرض كلمة قصيرة معبِّرة بمناسبة استشهاد الامام الباقر(عليه السلام) فانها تلقي الضوء إجمالا على بعض جوانب المبحث، والقصة رغم بساطتها تحتوي وتكشف عن بحر من المعاني وعن الإنسانية المذهلة للائمة ص: اذ نقرأ في تعليمات الامام الباقر (عليه السلام) لاصحابه قوله:
"لاتقولوا للسائل: ياسائل خذ هذا... لان نفس هذه الكلمة فيها نوع من الذلة؛ لان السؤال ذل ولو اين الطريق؟... بل قولوا: يا عبد الله بورك فيك.... إلفاتا له كي يأتي فتعطيه..... ثم قال الامام (عليه السلام): سموهم بأحسن أسماءهم([2])... وهي التفاتة إنسانية رائعة. فان من الواضح ان السائل الفقير المستعطي له مرتبة نازلة في نظر المجتمع، ولذلك يُنظر اليه عادة بعين الاحتقار او الضِّعة لذلك كان لابد من نوع من التعويض، وهذا من طرق التعويض.
وهذا الكلام كلام سيال.. وعلينا ان ننطلق من توجيه الأمام في هذا المورد الخاص الى مختلف التسميات الاجتماعية فاذا ما كانت في بعض التسميات دلالات سلبية فان علينا ان نغيرها الى الافضل كما في الكلمة المتداولة في هذه الاعصر: (الاجانب) ويقصد بها من لم يكن مواطناً وان كان مسلماً؛ فإن فيها الشيء الكثير من الدلالات السلبية المخالفة لشرع الله تعالى، وكذلك امثال كلمة (المعوقين)([3])؟ وهذا ما يحتاج الى بحث وتدبر نتركه الى وقت اخر.
بين الظلم التشريعي والظلم التكويني:
وعودا على بدء نقول: ان الآية الشريفة تصرح: (... قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)([4]) وعلينا ان نبحث عن ما المراد من (الظالمين) في الآية؟
المحنا فيما سبق الى وجود نوعين من الظلم، ولم نفصل في ذلك، وقد حان أوان التفصيل فنقول:
إن الظلم على قسمين([5]):
1) الظلم التشريعي: ونقصد به: هو ما كان محط الامر والنهي او البعث والزجر، أي ما كان في دائرة الحرمة والذي يقع في مقابل العدل الواجب. والظلم بمختلف أنواعه حرام، ولعله العنوان الوحيد الذي هو علة تامة للحرمة، فكل ما صدق عليه انه ظلم فهو قبيح وحرام شرعا، وقبيح عقلا حرام. وهو الظلم الذي عادة ما يتحدث عنه.
2) الظلم التكويني: وفرقه عن الظلم التشريعي انه لا يدخل في دائرة التحريم ولا الكراهة ولا يرفعه القصور الذي يرفع التكليف([6]) لكنه يبقى ظلماً الا انه من النوع التكويني منه فلو كسر شخص رقبة أخر فانه فعل حراما لو لم يكن بحقه كما في القصاص بشروطه، اما لو سقط من سطح قهرا فوقع على رقبة شخصٍ فكسرها فانه لم يفعل حراما اذ لم يكن باختياره وليس ذلك ظلماً تشريعياً الا انه ظلم تكويني.
والظلم التكويني لا يدخل في دائرة التشريع الا انه مندرج تحت عنوان الظلم بالمعنى الاعم، والآية والشريفة باستنباطنا تشمله.
توضيح ذلك: انه قد يقال ان مفاد الآية الشريفة لا ينحصر بالمعنى المتداول للظلم والمعروف لدى الجميع، بل هي ناظرة ايضا الى معنى ادق واعمق([7]) ولتوضيح المطلب وبرهنته لابد من ان نذكر بعض الشواهد والامثلة، ثم نعقب ببعض الايات الشريفة كي يمكن نستخلص النتيجة النهائية:
الظلم التكويني في الامثال والحِكَم
يقال في المثل: "ظلمت اللبن او ظلمت السقاء " وذلك اذا شربته او سقيته غيرك قبل ادراكه وقبل ان تؤخذ زبدته، مع أن اللبن ليس محل قابلا لأن يُظلم ولا يقع عليه الظلم بالمعنى التشريعي، لكنه محل قابل لان يُظلم بالمعنى التكويني.
ويقال في مثال اخر من امثلة العرب: " اظلم من حية " مع ان عملها لا يندرج في دائرة الظلم التشريعي لمكان حيوانيتها وعدم تكليفها، لكنها لما كانت انتهازيةً تحتل الجُحر المعد سلفا لغيرها قيل انها ظالمة، فيدخل ظلمها في الظلم التكويني لا التشريعي من غير حاجة لدعوى التجوّز.
وتقول العرب ايضا: " ظلم السيل الارض " اذا خدّ فيها اخاديد على خلاف مقتضى الطبيعة كما لو كان سيلا عارما عرمرماً فاحدث فيها ما احدث... وهو ظلم تكويني ايضا، بل هو اوضح من سابقه في الحيوان دون الجماد ونظائره.
المثال الاخر: يقال: " ظلم الأرض " اذا حفر فيها في غير الموضع الذي ينبغي ان يحفر فيه، ويقال ايضاً: (المظلوم)([8]) ويراد به الارض والبلد الذي لم يصبه غيث ولا كان فيه مرعى حتى انه روي او هو مثل عربي: " اذا اتيتم على مظلوم فأغذّوا السير " وقد توهم بعضهم ان المقصود هو المظلوم من الانسان، في حين ان المراد هو الارض المظلومة أي الجرداء والتي لا ماء فيها ولا كلأ، فينبغي للمسافر ان يهرب منها؛ لانها مهلكة وليست مفازة.
كما يقال: الارض المظلومة وهي التي لم تحفر قط ثم حفرت ويسمى ذلك التراب ظليماً كما يسمى تراب لحد القبر ظليماً بهذا الوجه او نظره.
ومن الامثلة المعروفة:
" ومن يشابه أبه فما ظلم " عندما يراد به المشابهة في الخلقة فانه ليس المراد الظلم التشريعي اذ ليس مشابهة الابن لابيه مما هي تحت اختياره، بل هو اشارة الى الظلم التكويني نعم لو اراد به الشبه في الاخلاق الفاضلة كما هو مورد الشعر المعروف فانه من دائرة العدل والظلم التشريعي.
والأمثلة على ذلك كثيرة، فنخلص من ذلك كله الى ان الظلم والظالم والمظلوم لها اطلاقات اخرى غير الاطلاقات المعروفة.
واما كونها حقيقة كما هو المستظهر فقد يستدل عليه بصحة الحمل دون عناية وبالاطراد ولعله يمكن الاستدلال على ذلك ايضاً بقوله تعالى:
الظلم التكويني في الآيات القرانية
(كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا)([9]) مع ان الجنة غير مكلفة ولا عاقلة ولا مأمورة بشيء فلا يراد الظلم التشريعي، بل هو الظلم التكويني وقد يستظهر ان هذا الاطلاق بلا عناية.
تعاريف اللغويين وعلماء الكلام للظلم تشهد
وقد يستدل على ذلك: بالتعاريف التي ذكرها علماء اللغة وعلماء الكلام عن الظلم والعدل فانها تعيننا وتسعفنا على ما ذهبنا إليه فمن التعاريف:
العدل: اعطاء كل ذي حق حقه([10]).
والظلم: منع ذي الحق من حقه.
ولكن هناك تعاريف أخرى للعدل ([11]) والظلم، ومنها: العدل هو: وضع الأشياء مواضعها، وإلا فهو ظلم([12]) كما قالوا: (واصل الظلم الجور ومجاوزة الحد) وقالوا(الظلم: الميل عن القصد)([13])
وقولهم (مواضعها) يشير الى (الانبغاء) حسب الاصطلاح الأصولي المفصل في محله([14]) وهذا المعنى اعم من المعنى السابق فان مجاوزة الحد امر ثبوتي غير مرتهن بالقصد والارادة فكل ما جاوز الحد فهو ظلم وكل ما لم يوضع موضعه فهو ظلم فان اقترن بالقصد والارادة فهو ظلم تشريعي يستحق عليه العقاب والا فتكويني فقط كما يقال: (بالعدل قامت السماوات والأرض)، إذ كل شيء فيها بميزان، وكل ركن من أركانها عدل، موضوع في محله، أي كما ينبغي، وكما هو مقتضى الطبع الاولي له.
فالظلم والعدل ليس المراد منهما ما يقع في دائرة التشريع فحسب، بل ما يشمل الظلم والعدل التكوينيين ايضا.
وهذه التعاريف وان كان ظاهر بعضها الظلم والعدل التشريعيين نظراً لان ظاهر الافعال القصدية لكن بعضها لم يذكر فيه الفعل([15]) فتشمل العدل والظلم التكوينيين، والانصراف لو كان فبدوي ناشئ من كثرة الاستعمال في التشريعي لاغير.
ولعله يشهد لذلك قوله تعالى كما سبق: (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) فان المراد هو الظلم التكويني اذ الجنة ليست فاعلا مختاراً ولا قاصداً، ويمكننا ان نعّبر عن ذلك بتعبير آخر فنقول: أي لم يصدر منها مايخالف مقتضى طبعها الاولي وما ينبغي ان يصدر منها وذلك رغم ان الثمار غير قابلة للانظلام ([16]).
كما قد يستدل على المدّعى بقوله تعالى: على لسان لقمان الحكيم وهو يعظ ابنه (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)([17]) فهل الشرك هو ما صدر عن التفات فقط وانه هو الظلم دون غيره؟ الجواب: كلا، بل ان الشرك ثبوتا أي بما هو هو وبمقياس الواقع هو ظلم عظيم حتى لو كان يعتقد المشرك انه اول الموحدين كما يرى بعض المسيحيين ذلك مع انهم واقعا مشركون، كذلك القائل بوحدة الموجود سواءا التفت لمعنى ما يقول ولوازمه ام لم يلتفت، وقال الشيخ الانصاري([18]): (ويؤيد ما ذكرناه ان التارك للتدين ببعض الدين، خارج عن الدين. والسيرة المستمرة من الاصحاب في تكفير الحكماء المنكرين لبعض الضروريات مع العلم او الظن بان لم يكذب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك، لا اقل من الاحتمال).
وما ذلك الا لأن الأمور الواقعية([19]) لا تتغير بالقصد او بغير القصد، بل حتى العلم او بالجهل او بالارادة وعدمها نعم بالقصد تدخل الامور في دائرة الحكم التشريعي، لكن يبقى الشرك ظلماً عظيماً بالمعنى التكويني حتى لمن لا يعتقد بانه مشرك ولا يقصد الشرك، وحتى اذا كان قاصرا فهو ظالم حيث لم يضع الاشياء مواضعها، وحيث لم يصدر منه ما كان ينبغي ان يصدر من المخلوق اتجاه خالقه وان كان قاطعاً بالعكس.
والحاصل: ان الشرك ظلم، سواء أعلم بانه مشرك ام لا وسواء أعلم انه ظلم ام لا، وسواء اكان قاصراً ام مقصراً فانه ظلم بمعنى (الميل عن القصد) أي قصد السبيل وسوائه وبمعنى (مجاوزة الحد) وبمعنى (وضع الشيء في غير موضعه) نعم ليس ظلماً بالمعنى الاخص أي (مجاوزة الحد عن علم او عن قصد والتفات او عن تقصير) او(الميل عن القصد عن علم او تقصير او التفات، وبعبارة اخرى:)الظلم) كـ(الجهل) فانه صادق بالحمل الشائع الصناعي سواءاً أعلم الجاهل انه جاهل ام لا وسواء أراد ان يكون جاهلاً ام بقي جاهلاً دون اختيار وقصد، او هو (كالكسر) فان كاسر الزجاج كاسر له في كل الحالات ويصدق عليه بالحمل الشائع الصناعي انه كسر الزجاج وان كان غير قاصد لكسره او كان غير مختار او غير ذلك
شبهة دلالة الآيات على عدم عصمة بعض الانبياء (عليهم السلام)
بعد ما تبين لنا هذا الامر بوضوح يتضح لنا وجه جديد للجواب عن شبهة كلامية قديمة وهي:
ان ظاهر بعض الآيات: ان آدم ويونس (عليهما السلام) وبعض آخر من الانبياء ظلموا، والظلم حرام فلم يكن فعلهم من باب ترك الاولى الذي تجيب به الامامية عن الشبهة؛ فقد قال تعالى: (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)([20]) لكنهما اقتربا من الشجرة فهما من الظالمين بنص القران الكريم فآدم ليس معصوما بالتفسير الذي نفسر به العصمة؟
كذلك تجري الشبهة في كلام نبي الله يونس (عليه السلام) حيث يقول تعالى على لسانه (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)([21]) وقد قرّره تعالى ولم يكذبه في هذا القول.
الجواب الاول: لم يصدر منهم (عليهم السلام) الظلم التشريعي
الجواب: هناك عدة إجابات ذكرت في المقام لسنا بصدد استعراضها فضلا عن استقصائها([22]). لكن سوف نذكر هنا اجابتين خطرتا بالبال احداهما على ضوء ما ذكرناه من بيان اقسام الظلم، فنقول:
ليس المقصود من الظلم الذي صدر من ادم او يونس (عليهما السلام) الظلم التشريعي والذي هو في دائرة الأمر والنهي، فهما لم يكونا منهيين شرعا ولو بنحو الكراهة عن الاقتراب من الشجرة بالنسبة الى ادم وحواء(عليهما السلام)، او مغادرة القوم ساخطا عليهم بالنسبة الى يونس (عليه السلام)، وإنما (تكوينا) لم يكن ماكان منهما في محله أي لم يكن ذا سنخية مع نحوِ وجودهما ونورانيتهما، وما كان مقام يونس (عليه السلام) ومقتضى احد المتزاحمين وهو الرأفة بالرعية ينسجم مع صدور ذلك منه فلذا فانه ظالم بالمعنى التكويني والذي ينطبق على المباح([23]) بل حتى على غير الممكن أي غير المقدور ايضاً. فتأمل
ولنضرب لذلك مثلا: فان مقتضى العدل ان يكون الكرسي مثلا قائما على أرجله الأربع، لكن لو قلبناه بالعكس وجعلناها الى الأعلى فاننا وان لم نرتكب حراما ولا مكروها، لكن هذا بمقاييس العدل التكويني يعتبر ظلم وعلى خلاف كون الشيء على مقتضى طبعه وأصله وأصوله، لكنه ليس بظلم تشريعي واما النهي فهو ارشاد للابتعاد عن من يرتكب هذا الظلم التكويني([24]) وليس مولوياً فلا كراهة ولا حتى ترك اولى تشريعي بل هو مجرد ترك اولى تكويني، وفرق هذا الارشاد عن الارشاد المطروح عادة هو ان ذاك الارشاد يراد به الارشاد الى ما فيه المصلحة والمفسدة، والارشاد الذي نعنيه هو الارشاد الى مقتضى طبع الشيء التكويني ومضاده، وفي ذاك الارشاد طلب لكنه لا طلب في هذا الارشاد بل واقعه الاخبار فهو مجاز او الارشاد الى العلل البعيدة للشيء الممكّنه عليه دون وجود قدرة فعلية حالياً. فتأمل
الجواب الثاني: كانا من الظالمين ولم يكونا ظالمين
ويمكن ان يقال بأن آدم وادريس لم يكونا ظالمين حتى بالمعنى التكويني بل كانا من الظالمين فقط استناداً الى وجود كلمة (من) في الاية الشريفة (...وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)([25]) او قوله تعالى (...فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)([26]) في حين انه تعالى لم يذكر كلمة (من) في الآية مدار البحث (...قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)([27]) الامر الذي يشير الى ان ادم وحواء ويونس (عليهم السلام) كانوا فقط منتمين الى دائرة الظالمين ولم يكونوا منهم حقيقةً.
وتقريب ذلك ان تقول: انا (من) مكة او النجف الاشرف، فان معنى ذلك انك منتمي الى ذلك البلد وليس كونك جزء منه فالشخص لا يكون جزءاً من مكة او أي بلداً آخر او جزئياً لها اذ البلد جماد لا غير([28]).
وكذلك قول الرسول (صلى الله عليه وآله) (سلمان منا اهل البيت (عليهم السلام)) فليس المراد كون سلمان من اهل البيت نسبا، فيصبح ويمسي قرشيا هاشميا بأن نطفته منتسبة الى تلك السلسلة النورية المباركة، بل المراد ان سلمان المحمدي منتمٍ إلينا، ومحسوب علينا، أي حتى كأنه منا اهل البيت ولك ان تعبر بالوجود التنزيلي.
ويوضحه قوله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)([29]) فمن جعل نفسه ضمن مجموعة خاصة، فان احكامها تشمله وان لم يكن منهم، وادم ويونس (عليهما السلام) جعلا نفسيهما بتصرفهما هذا من هذه الدائرة ولم يكونا بهم فهما ليسا ظالمين حقيقةً.
وقد يقال: ان (من) في (من الظالمين) بمعنى (في) كما قاله البعض في (من) في الاية الشريفة (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ)([30])
والحاصل: ان الاية الشريفة عبرت بـ (لاينال عهدي الظالمين) ولم تعبر بـ(لا ينال عهدي من كان من الظالمين) فيما لم ترد الايات الاخرى الا مع (من): (فتكونا من الظالمين) ولم تقل الاية (فتكونا ظالمين)، ومن الواضح ان كل حرف في القران فانه بدقة وحكمة بالغة فلماذا ذكرت (من) هناك ولم تذكر هنا؟
من الثمرات الاجتماعية لنظرية الظلم التكويني
لو جعلتم شخصا غير كفء معلما في قرية ما مثلا، وكنتم مضطرين الى ذلك، كما لو لم يكن هناك معلم كفوء في القرية، لكن هذا الشخص كان على الاقل يقرأ ويكتب ويعرف بعض المسائل، فان قاعدة الأهم والمهم تجري بلا شك فان وجود هذا الشخص هو افضل من الحرمان المطلق والذي يكون معه اطفال القرية صفرا.
فهنا نقول: صحيح اننا لم نظلم الطلاب بالمعنى التشريعي، بل قد يقال اننا نِعم ما صنعنا في هذه الدائرة، ولكن المسلم به أننا ظلمناهم بالمعنى التكويني !! اذ ارسلنا إليهم المعلم غير الكفء والذي لا يستطيع ان يحلق بهم الى المستوى الذي ينبغي لأمثالهم واقرانهم ان يتمتعوا به، فلم نضع الأشياء مواضعها تكوينا وان كنا قد وضعناها مواضعها تشريعاً اذ كنا مضطرين لذلك.
مثال آخر: اذا لاحظنا بعض بلادنا وما تعيشه من فوضى في الإدارة والخدمات الأساسية فهو ظلم واضح، وان لم يكن عن تقصير من العاملين المباشرين ومن المسؤول الذي كبّلته القيود فلم يعد يستطيع ان يفعل اكثر مما فعل.
والحاصل: انه يصح ان يقال مثلاً اننا ظلمنا النجف كمدينة او الحوزة العلمية وان كان لم يكن بمقدورنا فرضاً ان نفعل اكثر مما فعلنا، وهذا الظلم لو اريد به التشريعي فمجاز او التكويني فحقيقة.
وجه آخر في حقيقة ما طلبه ابراهيم من الله تعالى
والآن نعود الى آيتنا الشريفة (...قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)([31])، فهل يعقل ان يطلب ابراهيم الامامة لواحد من ذريته وقد ظلم ظلما تشريعيا حتى في بعض غابر ايام حياته؟!! ان هذا المستوى من التفكير ومن الطلب لا يصدر عن خليل الرحمن ابراهيم (عليه السلام).
ويتضح ذلك اكثر بملاحظة ان التقابل بين العدل والظلم التشريعي هو تقابل يكون في ادنى المستويات، فامام الجماعة مثلا ينبغي ان يكون عادلا بمعنى ان لا يكون ظالما او فاسقا، فكيف الحال في مرجع التقليد؟ وكيف الحال في النبوة؟ ثم تأتي الامامة الخاصة التي لا ترقى الى معرفتها العقول؟ فلا يعقل ان يكون طلب ابراهيم (عليه السلام) وجواب الباري تعالى عن المستوى المنخفض من العدالة وهو عدم الظلم التشريعي حتى لو فسر بالمعنى الغابر الماضي، وإنما الاية الشريفة تشير الى رتبة جدا عالية من العدل في مقابل الظلم: أي لا ينال عهدي من كان فيه أي نوع من القصور التكويني ليكون مهبط رحمة الله تعالى بأعلى تجلياتها، ولكي يكون قادرا على إدارة الكون كله.
وهذا المعنى معنى سام جدا يتلائم ومستوى ابي الانبياء والمرسلين ابراهيم (عليه السلام)؛ لان من الواضح ان أ- امامة صلاة الجماعة (والتي تتحقق بأدنى مستويات العدالة) لا تنال الظالم فكيف بأعلى رتبة يمكن ان ينالها الانبياء والأئمة (عليهم السلام)، ب- وان بعض المناصب لدى العقلاء في الدنيا لا تعطى حتى لمن ظلم ظلماً واحداً في غابر ايام حياته وان تاب عنه وأصلح او انهم يجدون في ذلك حزازة، فكيف يتوقع ان ينال مثل هذا الشخص مرتبة الإمامة([32])
استشهاد برواية عيون اخبار الرضا (عليه السلام) على العدل التكويني
وقد وجدت رواية تكاد تفيد ما ندعيه وهي رواية معروفة عن الامام الرضا (عليه السلام) والمذكورة في كتاب (عيون اخبار الرضا (عليه السلام)) وغيره: قال (عليه السلام):
هَلْ يَعْرِفُونَ قَدْرَ الْإِمَامَةِ وَمَحَلَّهَا مِنَ الْأُمَّةِ فَيَجُوزَ فِيهَا اخْتِيَارُهُمْ إِنَّ الْإِمَامَةَ أَجَلُّ قَدْراً وَأَعْظَمُ شَأْناً وَأَعْلَى مَكَاناً وَأَمْنَعُ جَانِباً وَأَبْعَدُ غَوْراً مِنْ أَنْ يَبْلُغَهَا النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ أَوْ يَنَالُوهَا بِآرَائِهِمْ أَوْ يُقِيمُوا إِمَاماً بِاخْتِيَارِهِمْ إِنَّ الْإِمَامَةَ خَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ (عليه السلام) بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَالْخُلَّةِ مَرْتَبَةً ثَالِثَةً وَفَضِيلَةً شَرَّفَهُ بِهَا وَأَشَادَ بِهَا ذِكْرَهُ فَقَالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً فَقَالَ الْخَلِيلُ (عليه السلام) سُرُوراً بِهَا وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فَأَبْطَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِمَامَةَ كُلِّ ظَالِمٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَصَارَتْ فِي الصَّفْوَةِ....."
فلو تدبرنا في كلمة (الصفوة) لانكشف لنا الكثير ومن ذلك: ان الصفوة هم الذين اصطفاهم الله سبحانه وتعالى من كل جهاتهم نفسياً، روحياً، جسدياً، ومن حيث النطفة وغير ذلك، والا فان الذين لا يظلمون كُثّر، لعل اعدادهم تصل الى الملايين من الناس كما ان من لم يظلموا ظلماً تشريعياً طوال حياتهم اوسع دائرة وأكثر ممن منحوا مرتبة الامامة فلماذا لا ينالون الامامة؟
الجواب: لان الكلام او الملاك ليس خاصاً بالظلم التشريعي المعروف بل ذلك الظلم والعدل التكويني والذي هو اصطفاء تكويني قبل ان يكون امراً تشريعياً.
وذلك لان الامامة تعني فيما تعني: (لولا الحجة لساخت الأرض بأهلها) وهي مرتبة لا تنال بوصول الانسان الكامل الى مرتبة العدل التشريعي فقط، بل بوصوله الى مرتبة العدل الاعلى التكويني اي ان وراء ذلك عالم التكوين والذي تم فيه الاصطفاء من الله تعالى لصفوة وثلة من الأنبياء والأئمة لاترقى الى معرفة مستوياتهم لطائف اوهام اولي الالباب ولا تعرف كنه حقائقهم ومقاماتهم عباقرة العلماء والفقهاء.
وللتقريب للذهن نقول: ان موقع الامامة تكوينا هو اعظم من قوة الجاذبية، فالقوة الجاذبة والقوة الطاردة يقوم على اساسهما نظام العالم الشمسي، بحيث لولاهما لانهار كل شيء وتدمر، اذ اذا ازدادت الجاذبة – اي جاذبية الشمس- فان الكون يندك، بينما اذا ازدادت الطاردة تبعثر وانفصل وتباعد بعضه عن بعض.
وفي الروايات الكثيرة ان موقع الامامة اهم من ذلك ولولا الصفوة من الأئمة لانهار كل شيء، ليس في عالمنا الشمسي وحسب، بل في جميع عوالم الملك والملكوت وغير ذلك، فالإمام هو الذي لا يوجد في وجوده ذرة من الظلم التكويني اي الذي قامت السماوات والأرض بالعدل التكويني على مرتبة امامته من مراتب وجوده.
فالأئمة الصفوة بعد اصطفائهم تكويننا، منحهم الله تعالى الولاية التكوينية العظمى([33]) ويؤيد ذلك ان لم يدل عليه آيات التفضيل كـ(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) وأحاديث الطينة وأحاديث مثل (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة) ومئات الروايات التي تدل على التفضيل التكويني.
والحاصل: ان العدل التكويني الالهي إبتنى على ان يكون اشرف الانبياء واعلى الاولياء على الكون هو محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) وان يكون خليفته امير المؤمنين (عليه السلام)، ومن العدل ان تختم الاوصياء بالإمام المنتظر عجل الله فرجه الشريف وبالعدل قامت السماوات والأرض، وذلك لان الامامة لا تعني مجرد الخلافة الظاهرية والتي قد يغصبها فلان او فلان بل انها ولاية على الكون كله عن الله تعالى....
وللكلام تتمة وبقية بإذن الله تعالى
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/mortadashirazi.htm
.................................................