أطلس فوق جيني ضخم يكشف مفاتيح مقاومة الشيخوخة

Nature Masterclasses

2025-09-27 04:34

كشفت دراسة ضخمة لعملية مثيلة الحمض النووي في الأنسجة البشرية عن أهداف علاجية جديدة لمقاومة الشيخوخة. يُعزى جانب من التغيرات الظاهرة المرتبطة بالشيخوخة في أجسادنا إلى تغيرات خفية في النشاط الجيني. فمع تقدمنا في العمر، يتسلل القصور إلى عملية مثيلة الحمض النووي فوق الجينية، وهي العملية التي تجري خلالها إضافة أو حذف واسمات جينية تُسمى بمجموعات الميثيل. وكنتيجة، تطرأ تغيرات على التعبير الجيني، ترتبط بضعف وظائف الأعضاء وزيادة قابلية الإصابة بالأمراض مع تقدم العمر بالفرد.

من هنا، قدمت دراسة إحصائية تجميعية للتغيرات فوق الجينية في 17 نوعًا من الأنسجة البشرية على مدى فترة الحياة البالغة الصورة الأوضح والأشمل إلى اليوم للكيفية التي تغير بها الشيخوخة جيناتنا.

إذ قيَّمت الدراسة أنماط مثيلة الحمض النووي في عينات أنسجة بشرية، ليتكشف منها أن بعض هذه الأنسجة يشيخ على ما يبدو بوتيرة أسرع من غيره. على سبيل المثال، تراكِم أنسجة شبكية العين والمعدة تغيرات مرتبطة بالشيخوخة وناجمة عن مثيلة الحمض النووي أكثر من تلك التي تراكمها أنسجة عنق الرحم والجلد. كذلك أسفر تحليل الدراسة النقاب عن مؤشرات فوق جينية مرتبطة بالشيخوخة مشتركة بين أعضاء الجسم المختلفة. وقد يساعد هذا "الأطلس فوق الجيني" الباحثين على دراسة العلاقة بين مثيلة الحمض النووي والشيخوخة، كما قد يُعين على اكتشاف مستهدفات جزيئية تخدم العلاجات المقاومة للشيخوخة.

وعنه، يقول جواو بيدرو ماجاليس، اختصاصي البيولوجيا الجزيئية من جامعة برمينجهام في المملكة المتحدة: "أعتقد أنه مورد رائع" لفهم عملية الشيخوخة. فهذا التحليل التجميعي الإحصائي لبيانات عملية مثيلة الحمض النووي في أعضاء الجسم على اختلافها، هو، على حد علمي، أكبر مورد جُمع إلى اليوم. وأنا موقن من أنه سيكون ذا قيمة كبيرة للباحثين".

يجدر التنويه هنا إلى أن هذا العمل البحثي أُعلن عنه على خادم المسودات البحثية «ريسيرش سكوير» Research Square، ولم يخضع بعد لمراجعة أقران.

أطلس للتغيرات فوق الجينية المرتبطة بالشيخوخة

في الوقت الحالي، يُمكن للباحثين بالفعل تحليل أنماط مثيلة الحمض النووي في الجينومات البشرية للخروج بساعة تحسب تقدُم العمر أو تقيس العمر البيولوجي للمرء. إلا أنه تبقى أمامهم أسئلة جوهرية لا تزال عالقة بلا جواب حول ما إذا كانت عملية الشيخوخة تترك البصمات نفسها في مختلف أنسجة الجسم. 

وللوصول إلى فهم واضح لطبيعة العلاقة بين المثيلة وشيخوخة الجسم، أجرى نير إينون من جامعة موناش في ملبورن بأستراليا مع فريقه البحثي دراسة تجميعية إحصائية لأكثر من 15 ألف عينة من 17 نوعًا من الأنسجة البشرية، جُمعت من بالغين من أعمار شتى. ووضع الفريق البحثي خريطة للتغيرات الناجمة عن عملية المثيلة في 900 ألف موقع من الحمض النووي يُحتمل أن تطرأ فيه هذه التغيرات، ثم أنشأ أطلس مفتوح المصدر لمواقع هذه العملية. وهو ما يوضحه قائلًا: "كانت لدينا عينات من أشخاص تتراوح أعمارهم من 18 عامًا إلى 100 عام أو نحو ذلك، ما أتاح لنا دراسة المؤشرات فوق الجينية والاختلافات التي تطرأ عليها على مدى عمر الفرد"

وإجمالًا، وجد الفريق البحثي أن متوسط نسبة مثيلة الحمض النووي يختلف اختلافًا كبيرًا باختلاف نوع النسيج البشري، فيتراوح متوسط هذه النسبة ما بين 35% في عنق الرحم، إلى 48% في الجلد، و51% في العضلات، و53% في القلب، و57% في المعدة، ليصل إلى 63% في شبكية العين.

في هذا الإطار، تقول ماكسويه جاك المؤلفة المشاركة للدراسة، وهي بدورها تنتمي إلى جامعة موناش الأسترالية، إن جميع الأنسجة تقريبًا قد أظهرت زيادة في مجموعات الميثيل بالحمض النووي الخاص بها مع التقدم في العمر. بيد أنه تُستثنى من ذلك الأنسجة العضلية الهيكلية وأنسجة الرئة "التي طرأ عليها بدرجة أكبر نقص في مجموعات الميثيل". كذلك وجدت الدراسة أن أنماط مثيلة الحمض النووي المرتبطة بالشيخوخة تختلف اختلافًا ملحوظًا باختلاف أعضاء الجسم. فتقول جاك: "كل نوع من الأنسجة تطرأ عليه تغيرات مختلفة".

استهداف مثيلة الحمض النووي لمقاومة الشيخوخة

بالإضافة إلى دراسة الفروقات بين الأنسجة، أجرى الفريق البحثي مسحًا لمواقع جينية محددة داخل الجينوم الخاص بكل نسيج. وتعلل جاك لذلك قائلة: "سعينا إلى اكتشاف آلية مشتركة تستخدمها عملية الشيخوخة في جميع أنواع أنسجة الجسم".

وقد وقف الفريق البحثي على عدة جينات طرأت عليها اختلافات ناجمة عن مثيلة الحمض النووي وتبين أنها مؤشرات بيولوجية قوية على الشيخوخة في عدة أنواع من الأنسجة. ومن أمثلة هذه الجينات، جين HDAC4 وجين HOX، وكلاهما ينظمان عملية النمو ويرتبطان بشيخوخة الجسم والتدهور المصاحب لتقدُم العمر، وجين MEST، الذي تعزى إليه الإصابة بداء السكري والسمنة، وهما من العوامل المعروف عنها إسراعها لوتيرة شيخوخة الجسم 2.

كذلك تبين للفريق البحثي أن ارتفاع نسبة مثيلة عائلة الجينات protocadherin gamma (اختصارًا PCDHG) تحفز عملية الشيخوخة في أعضاء شتى من الجسم. ويذكر هنا أن دراسات أخرى كانت قد أظهرت أن فرط مثيلة عائلة الجينات تلك يرتبط بانخفاض نسبة المادة البيضاء في الدماغ، وهو انخفاض يؤشر على تسارع التدهور الإدراكي3.

الهدف: مقاومة شيخوخة الجسم ككل

ترى جاك أن الأطلس يخدم كمورد يُسرع من وتيرة اكتشاف أهم الآليات الجزيئية المسببة للشيخوخة، سواء في شتى أنحاء الجسم، أو في أنسجة بعينها. وتأمل أن يصبح أداة تعزز البحث عن علاجات مقاومة للشيخوخة؛ إذ إنه يعد بتحقيق النقلة من علاج أمراض محددة مرتبطة بالشيخوخة - مثل أمراض القلب والأوعية الدموية أو الكبد - إلى علاج الشيخوخة ككل.

أما هولجر بيرهوف، العالم المتخصص في الوراثة فوق الجينية من معهد لايبنتز لأبحاث الشيخوخة التابع لمعهد ليبمان في مدينة يينا بألمانيا، فيرى أن اللغز الأكبر الذي شغل الأبحاث فيما يتعلق بقياس العمر البيولوجي من السمات فوق الجينية لطالما تمثل في السؤال التالي: "ما الذي يُسبب الشيخوخة؟". ويضيف: "هذه الدراسة تبحث في الأهمية الوظيفية لعملية المثيلة، عوضًا عن الاكتفاء باستخدامها كأداة لقياس تقدُم العمر بالجسم".

لكنه يستدرك قائلًا إن الدراسة على ضخامتها، لم تتناول إلا جزءًا صغيرًا من حوالي 30 مليون موقع للتغيرات فوق الجينية التي تطرأ على الحمض النووي في الجينوم البشري، لذا يُحتمل ألا تقدم صورة وافية عن عملية مثيلة الحمض النووي المرتبطة بالتقدم بالعمر.

ويقر إينون بذلك، لكنه يرى أن البيانات التي يقدمها الأطلس قد تساعد برغم ذلك في اكتشاف الآليات وراء الشيخوخة وفي الوقوف على طرق لإبطاء وتيرتها.

على سبيل المثال، يٌذكر أن إينون كان قد شارك آنفًا في أبحاث أثبتت أن مزاولة التمارين الرياضية ترتبط بأنماط مثيلة معينة في الأنسجة العضلية الهيكلية تظهر لدى الشباب4. ويقول حول ذلك: "جميع أنسجة الجسم تقريبًا تتأثر بالتمارين الرياضية". من هنا، فإن هذا العمل البحثي قد يفضي بنا إلى نموذج يوضح كيف أن التمارين الرياضية وعوامل، مثل النوم والنظام الغذائي، تغير مسارات بيولوجية بعينها في العديد من أنسجة الجسم وفي مختلف أنحائه لنبقى بيولوجيًا أكثر شبابًا.

ذات صلة

الوعي بالزمن.. تثمين للذات وتقدير للعمرإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبدهالتثقيف الانتخابي المفقودغياب الذوق في المشروعات المنفذة: أزمة تذوّق لا أزمة مواردعامٌ على حربٍ لم تنته