معارف مجتمعات السكان الأصليين ضرورية لبناء منظومة غذائية مستدامة

دورية Nature

2023-03-29 06:13

بقلم: أليكساندر أنتونيلي

ظلت العلوم الزراعية لوقت طويل جدًا تتجاهل المعارف التي توارثتها المجتمعات المحلية حول المحاصيل النباتية، وحول أفضل طرق زراعة هذه المحاصيل. ولا مفر من تغيير ذلك التوجه لضمان تحقيق الأمن الغذائي مستقبلًا.

ترعرت في كامبيناس، وهي مدينة تقع جنوب شرق البرازيل، حيث بَدَأت منذ ستينيات القرن الماضي زراعة أصناف أوروبية من التفاح حلو المذاق. غير أنني، متى أتيح لي الاختيار، كنت دائمًا أميل إلى التقاط فاكهة الببايا المزروعة في حديقتنا. ولما كان والدي قد وعى إلى أن زراعة أشجار فاكهة المناطق المعتدلة في بلد استوائي نادرًا ما تُكلل بالنجاح، عمد بدلًا من زراعة التفاح إلى ملء حديقتنا بأشجار الفاكهة الاستوائية، ومن بينها صنفان من فاكهة الببايا. أما والدتي، فقد زرعت في الوقت ذاته، أنواعًا شتى من الأعشاب في أصص حول المنزل، معتمدًة على معارف مستمدة من جذورها المحلية، واستخدمت تلك الأعشاب في علاج أمراض كالإسهال وعسر الهضم.

فمجتمعات السكان الأصليين وغيرها من المجتمعات المحلية، التي ربما استوطنت مناطق لآلاف ثم مئات السنين، لطالما اشتغلت بجمع الغذاء، والزراعة، وشكَّلت ملامح الطبيعة من حولها. وفي كثير من أنحاء العالم، كانت منظومات إنتاج الغذاء التي أسستها، بدءًا من المحاصيل المروية، ووصولًا إلى أنظمة الحراجة الزراعية، هي الأبرز في دعم الاقتصادات الإقليمية، وتوفير الغذاء للمناطق الريفية والحضرية على السواء.

وتجدر الإشارة إلى أنه على مدار العقود الثلاثة الماضية، بُذِلَت جهود شتى، أسهمت فيها تحالفات بين الدوائر الأكاديمية والصناعية بهدف بحث سبل استطلاع موارد التنوع الحيوي الجديدة في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل للانتفاع بهذه الموارد تجاريًا، سعيًا إلى اكتشاف مستحضرات صيدلانية ومحاصيل جديدة، والنظر في كيفية تقاسم ثمار هذه الجهود على نحو يحقق الإنصاف. غير أنه في الوقت نفسه، البلدان الغنية والشركات الكبرى الساعية إلى الوصول إلى هذه الموارد تفصلها فجوة عدم تكافؤ هائل عن البلدان والمجتمعات التي تتمتع بثروة من التنوع الحيوي لكن تعاني عوزًا على الصعيد الاقتصادي والتكنولوجيً. فمن الناحية العملية، نادرًا ما تصل المنافع والمكاسب إلى أيدي أصحاب الخبرات، وجهات حماية التنوع الحيوي والتنوع الزراعي الحيوي.

واليوم، تُعد عمليات إنتاج الغذاء المُحرك الأكبر للخسائر على صعيد التنوع الحيوي، وتسهم على نحو فادح في الضرائب التي نتكبدها من أثر التغير المناخي والتلوث. وهي العناصر الثلاثة التي تصنع معًا ما يسمى بـ"الأزمة العالمية ثلاثية الحدود". وهي أزمة أقرت الأمم المتحدة بأنها تستدعي وضع حلول كي يتسنى للبشرية التأسيس لحياة مستدامة على سطح كوكبنا مستقبلًا. ولذلك، نحن اليوم في أمس الحاجة، أكثر من أي وقت مضى، إلى الوقوف على السبل التي يُمكن أن تسهم بها معارف مجتمعات السكان الأصليين والمجتمعات المحلية في بناء منظومات غذائية تتمتع بالمرونة والاستدامة وبالثراء بالعناصر الغذائية، وتتساوى جميع أطرافها في جني ثمارها.

وفضلًا عن الأمم المتحدة، لفتت أطراف أخرى إلى أن شعوب السكان الأصليين والمجتمعات والمحلية، التي تزود الجهود البحثية بخبراتها، يجب أن تسهم في المشروعات البحثية منذ إرساء النواة الأولى لها، وأن تضطلع بأدوار ريادية بها متى أمكن، وأن تحصد مكاسب ملموسة وطويلة الأمد من هذه المشروعات. غير أن عملي كمدير لقسم أبحاث العلوم في حدائق كيو النباتية الملكية في لندن حملني على الاقتناع بأن هذه الأهداف ليست كافية. (تتعاون حدائق كيو النباتية الملكية مع ما يقرب من 400 منظمة في أكثر من 100 بلد سعيًا إلى تطوير حلول غير صناعية لمشكلات انعدام الأمن الغذائي وخسائر التنوع الحيوي وتأثيرات التغير المناخي).

ففي المقام الأول، ثمة حاجة إلى أن تشهد آليات إجراء البحوث الزراعية تحولات، وأن تشمل تلك التحولات البحوث بأنواعها كافة. فلا بد من إعادة النظر في الافتراضات المتعلقة بما نقبله علميًا5. ومن الضرورة بمكان إيلاء مزيد من التقدير والاهتمام بالثروة المعلوماتية التي يتحصل عليها البشر من معايشة الأنواع الحية والانتفاع بها على مدار مئات أو آلاف السنين. كما يجب الوصول إلى فهم أفضل للاحتياجات المتنوعة للبلدان والمجتمعات في مختلف أنحاء العالم.

الانتقال إلى الزراعة أحادية المحصول

حول العالم، انخفض عدد أساليب استخدام المجتمعات للنباتات انخفاضًا بالغًا على مدار القرون الخمسة الماضية6. ويرجع ذلك في جانب كبير منه إلى المساعي الرامية إلى زيادة الغلات والمكاسب إلى أقصى حد ممكن، وهي مساع بُذِلَت دون مراعاة تُذكَر لشعوب السكان الأصليين ومنتجي المحاصيل من صغار المزارعين وما يمتلكونه من خبرات.

ويعود هذا الانخفاض في أساليب إنتاج الغلات في جزء كبير منه إلى الصدامات التي نشبت بين شعوب السكان الأصليين والقوى الاستعمارية. على سبيل المثال، في الأمريكتين فقط، لقي حوالي 90% من السكان الأصليين للقارتين، أي ما يقدر بنحو 56 مليون شخصًا، مصرعهم جراء الصراعات والأمراض في الفترة بين عامي 1492 و1600 (انظر المرجع 77). وخلال القرون التالية، استعبدت هذه القوى الاستعمارية ما صمد من مجتمعات السكان الأصليين أو تسببت في نزوحه وتهجيره عن طريق إزالة نباتات قطاعات من الأنظمة الإيكولوجية الاستوائية من أجل زراعة قصب السكر والقطن والبن والذرة، وغيرها من السلع الزراعية8 التي "اكتشفتها" هذه القوى في مستعمراتها9. وقد تجاهلت هذه القوى، خلال سعيها الحثيث إلى الحصول على أكبر قدر من غلات القطن وأطيب مذاق من الذرة، وما إلى ذلك، كثيرًا من الممارسات الزراعية التي كانت شعوب السكان الأصليين قد أرستها لجني حصاد غني بالمحاصيل القادرة على التكيف مع الظروف المحلية.

وخلال القرن الماضي، أُغفلت خبرات مجتمعات السكان الأصليين من نواح شتى. إليك الثورة الخضراء مثالًا، بما جسدته من زيادة شاسعة في إنتاج الحبوب الغذائية خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية. نتجت هذه الثورة الخضراء بصورة أساسية عن إدخال أصناف من المحاصيل وفيرة الغلات، وعن تغيرات طرأت على الممارسات الزراعية، كاستخدام الآلات وإضافة المغذيات الكيميائية.

وهذه التقنيات الزراعية أسهم انتشارها في التخفيف من وطأة الجوع والفقر في بعض المناطق من خلال مضاعفة إنتاج الحبوب ثلاث مرات في غضون أربعة عقود. بيد أن هذا الانتشار أسفر في مناطق أخرى عن انعدام الأمن الغذائي، وتسبب في تفاقُم التلوث وإزالة الغابات ونبذ منظومات الزراعة صغيرة النطاق التي تقوم عليها شعوب السكان الأصليين.

على سبيل المثال، فلنتأمل منطقة سيرادو في أمريكا الجنوبية، حيث عاش بعض من أسلافي من السكان الأصليين للمنطقة على مدى آلاف السنين، وهي الآن موطن لحوالي 100 ألف منهم، يمثلون أكثر من 80 عرقًا. منذ سبعينيات القرن الماضي، تحول أكثر من 40% من تربة سيرادو ذات الطبيعة الحمضية إلى أراض زراعية. وكان مما أسهم في هذا التحوُل إضافة خمسة أطنان من الطبشور أو الحجر الجيري المسحوق لكل هكتار، إلى جانب مواد أخرى. وتجدر الإشارة إلى أن 20% تقريبًا من تلك الأراضي يُستخدم لزراعة فول الصويا من أجل توفير العلف لمزارع الماشية التي يقع أغلبها خارج البلاد10. ونظرًا إلى الاعتماد الكثيف على ماكينات الزراعة، لا يعمل في الحقول سوى عدد قليل نسبيًا من أفراد المجتمعات المحلية. كذلك عُزيت حالات وفاة بين المزارعين إلى تسرب كميات من مبيدات الآفات الزراعية إلى مياه الشرب11.

وفي الفترة بين ستينيات وثمانينيات القرن العشرين، هيمن نتاج زراعة ثلاثة فقط من المحاصيل الغنية بالطاقة على التجارة الدولية؛ أولها القمح، فالأرز، فالذرة. وحلت زراعة هذه المحاصيل محل زراعة أنواع وأصناف إقليمية من البقوليات والحبوب والفاكهة والخضراوات (في الوقت الذي واصل فيه صغار المزارعين زراعة هذه الأنواع والأصناف وتوفيرها للمناطق الريفية والحضرية6-8).

وقد أضيفت في نهاية المطاف محاصيل، مثل الكاسافا وذرة السورجم وأنواع معينة من الدخن إلى برامج الزراعة في عدد من المناطق الاستوائية. فعلى سبيل المثال، منذ ثمانينيات القرن العشرين، تناولت عدة مراكز بحثية وطنية بالدراسة الأصناف التي نشأت زراعتها في إطار شراكة عالمية باسم «المجموعة الاستشارية للأبحاث الزراعية الدولية» Consultative Group for Agricultural Research (ويشار إليها اختصارًا باسم CGIAR). وهو ما مكّن المزارعين من إدخال تحسينات على هذه الأصناف، بحيث تصبح أقدر على التكيُف مع الظروف المحلية. رغم ذلك، كثيرًا ما يلفت شعوب السكان الأصليين إلى أن منظومات إنتاج الغذاء التي يقومون عليها، خلافًا لمنظومات إنتاج الغذاء التي جاءت بها الثورة الخضراء، دائمًا ما تميزت بإمكان إعادة تدوير مواردها وبالتنوع والمرونة والاستدامة، وهو ما يعني أن هذه الموارد يُدار استخدامها بكفاءة، بما يُقلل المُهدر منها، ويحقق مستويات معتدلة من استهلاكها.

فالثورة الخضراء، حسبما أشار ناقدون لهذه الأوضاع، جاءت بممارسات لإدارة الزراعة فرضتها الدول لا مركزيًا، ورسم ملامحها في المقام الأول الأولويات والأيديولوجيات الأمريكية التي حطت من قيمة وجدوى معارف شعوب السكان الأصليين والمجتمعات المحلية. بل إن نورمان بورلاوج، الخبير الزراعي الأمريكي، الذي قاد الثورة الخضراء، تحدث خلال المحاضرة التي ألقاها لدى تسلمه جائزة نوبل للسلام عام 1970عن حلول "لعلاج جميع آفات الزراعة التقليدية التي يتسم طابعها بالجمود".

حلول قديمة لمشكلات جديدة

يواجه مزارعو المحاصيل حول العالم تحديات هائلة، فقد بدأت النباتات تغدو أقل قدرة على مقاومًة الآفات والأمراض. كما ازدادت احتمالية تعرض المحاصيل للتلف أو لفشل زراعتها جراء موجات الجفاف والحر والفيضانات والملوحة وارتفاع مستويات مياه البحر. فضلًا عن ذلك، تدهورت التربة، وأثَّر التلوُث سلبًا في الأنهار وأحواض تجمُع المياه، ناهيك عن التراجع الحاد في تنوُع مُلقحات المحاصيل ووفرتها. وفي الوقت ذاته، تسهم أنشطة إنتاج الغذاء بما يقرب من 37% من انبعاثات غازات الدفيئة، وتشكل التغيرات التي تطرأ على استخدام الأراضي المصاحب لهذه الأنشطة التهديد الأكبر على التنوع الحيوي البري.

وتشير البيانات حاليًا بما لا يحتمل الشك أنه لكي يتسنى للبشرية المضي قدمًا نحو عالم تتحقق فيه الاستدامة البيئية التي تكفل استمرار إمدادات الغذاء، فعلينا تغيير منظومة حصولنا على الغذاء وتقليل المُهدر منها، وتنويع أنظمة إنتاج الغذاء في المناطق الزراعية، سواء القائمة أو المتضائلة مساحتها، وابتكار أساليب تحقق بدرجة أكبر منظومة إنتاج غذاء دائرية17،16. كذلك بات جليًا أنه من الممكن الانتفاع بالنباتات غير المُستغلة بالدرجة الكافية وبالأقارب البرية للنباتات المحصولية للحصول على مصادر غذاء تتسم بـ "الذكاء المناخي" وبالاستدامة بيئيًا. وتجدر الإشارة إلى أن الجهود المبذولة للعثور على هذه الموارد الغذائية واستغلالها ينبغي أن تسترشد بمعارف المجتمعات المحلية التي طالما انتفعت بهذه الموارد، وربما تكون أكبر المستفيدين منها18. (أغلب الأعمال البحثية التي تتناول المحاصيل الزراعية لا يدخل فيها وضع خرائط لجينات الأنواع المحصولية ووظائفها والتعديلات الجينية الممكنة لها، إلا فيما تعلق بما لا يزيد عن بضع عشرات من الأنواع).

ويُعد الموز أحد الأمثلة الدالة على ذلك. على سبيل المثال، مرض بنما، الذي تتسبب فيه عدوى فطرية تبدو مستعصية العلاج، وتصيب مزارع كثيفة من الموز في مختلف أنحاء المناطق الاستوائية، يشكل خطرًا كبيرًا على تجارة الموز العالمية، التي يسيطر عليها حاليًا صنف الكافندش من الموز. غير أن هذا المرض لا يصيب محاصيل الموز في إفريقيا وجنوب شرق آسيا، حيث تزرع شعوب السكان الأصليين والمجتمعات المحلية مئات الأصناف المقاومة طبيعيًا له. وفي أوغندا وحدها، يسهم حوالي 100 صنف من الموز في سبل العيش المستدامة لملايين البشر.

وبالمثل، فإن نبات الإنست، المعروف أيضًا باسم الشجرة المكافحة للجوع (Ensete ventricosum)، تعرفه بالكاد الزراعة خارج جنوب غرب إثيوبيا، مع أن سيقانه الغنية بالنشا هي المصدر الرئيسي للحصول على السعرات والعناصر الغذائية بين أكثر من 20 مليون شخص في هذه المنطقة التي شهدت زراعته لآلاف السنين. فضلًا عن ذلك، تُستخدم أوراقه في إطعام الماشية وتأمين ظلال وارفة، وبناء الأسقف. كما توفر سيقانه الألياف اللازمة لصنع السلال. وعند زراعته في صفوف، يستعاض به عن السياج للدلالة على حدود ملكيات الأراضي والحد من التنازُع عليها، لكن لعل أهم مزاياه في مواجهة آثار التغير المناخي تتمثل في قدرته المذهلة على تحمُل الجفاف وتغيرات درجات الحرارة التي تطرأ في أمد قصير.

وتجدر الإشارة إلى أن حوالي 500 مليون شخص من شعوب السكان الأصليين، لا تقل لغاتهم عن 4000 لغة، يشغلون أكثر من 25% من مساحة الأراضي على مستوى العالم. وغالبًا ما تتمتع هذه الشعوب بالمعرفة الأكبر والأفضل لإيكولوجيا المنطقة التي تعيش فيها، وبدراية بأهم الأنواع لمجتمعاتها. وإضافًة إلى كل ما سبق، تملك شعوب السكان الأصليين معرفة بأصناف زراعية أغفلها العلماء خارج هذه المجتمعات.

على سبيل المثال، لطالما وعى شعبا الإيبان والدوسون، وهما من شعوب السكان الأصليين في جنوب شرق آسيا، إلى أن فاكهتي «اللوموك» lumok و«البينجان» pingan المتشابهتين ينتجهما نباتان مختلفان، رغم أن علماء النبات الغربيين ظلوا على مدار قرنين تقريبًا مخطئين في تصنيفهما على أنهما ينتميان إلى النوع ذاته من الأشجار.

ويمكن، من حيث المبدأ، لمعارف شعوب السكان الأصليين والمجتمعات المحلية أن تساعد في تأسيس قواعد بيانات تدريبية، وهو ما قد يساعد الباحثين وجهات زراعة المحاصيل في اكتشاف مصادر غذاء تحتوي على عناصر غذائية معينة، ويمكنها الصمود في وجه التحولات المناخية المتوقعة فضلًا عن التمتع بمقاومة للآفات والمُمرِضات . ومن ثم، يمكن لنماذج التاريخ التطوري الجينومي والذكاء الاصطناعي، التنقيب في هذه البيانات للتنبؤ باكتساب الجينات للسمات الوظيفية التي تقف وراء الخواص المفيدة للنباتات على امتداد شجرة تطورها. وهكذا، مع توفُر أساليب تعيين التسلسل الجينومي والتحرير الجيني وتيسر تكلفتها، فإن مزيدًا من الجهود اللازمة لإدخال تحسينات على الأنواع والأصناف الزراعية وزراعتها يمكن أن تُبذَل على الصعيد المحلي والإقليمي.

الطريق إلى التنوُع الحيوي الزراعي

قد يتساءل البعض عن السبب الذي يدفع شعوب السكان الأصليين وغيرها من المجتمعات المحلية إلى الرغبة في المشاركة في المشروعات المنصبة على تطوير المحاصيل الغذائية بعد قرون من تعرض هذه المجتمعات للاستغلال وسوء المعاملة والإهمال.

وقد بُذِلَت جهود عديدة في هذا الإطار البحثي على مدار العقود الثلاثة الماضية، وأثارت إشكاليات لأسباب شتى. فأولًا، لم توفّ الوعود المقطوعة بتقاسم المكاسب على نحو مُنصف، نتيجة لانعدام تكافؤ قوى الأطراف المشاركة في هذه الجهود، وعدم وضوح التشريعات المتعلقة بإتاحة الاطلاع على موارد البيانات البيولوجية والجينية وتشارك الانتفاع بالمكاسب، علاوة على تعقد الآليات المالية المستخدمة في جلب هذه المكاسب.

ولا تزال المضار التي تلحق بشعوب السكان الأصليين والمجتمعات المحلية مستمرة. على سبيل المثال، حازت شركة هولندية عام 2007 حقوق براءة الاختراع المرتبطة بتخزين ومعالجة نوع من الحبوب استخدمه الشعب الإثيوبي لآلاف السنين، يسمى الأثب الطيفي. ورغم توقيع اتفاقية مع أفراد من الشعب الإثيوبي لإتاحة بيانات هذه البحوث وتشارُك ثمارها معه في عام 2005، لم يعُد ذلك على هؤلاء الأفراد بالمنافع التي أملوا في جنيها نظير ما قدموه من خبرات، وظل الحال كذلك إلى أن قضت محكمة هولندية عام 2019 بأن براءة الاختراع لاغية.

وأرى أن ما يتطلبه الوصول إلى بناء تعاوُن حقيقي مثل ذلك على نطاق واسع، سواء مع أفراد من هذه المجتمعات أو مع منظوماتهم المجتمعية، جلي ولا لبس فيه. وقد وجدت مرارًا وتكرارًا سماحة ورغبة في التعاوُن مثيرين للإعجاب من شعوب السكان الأصليين.

وصحيح أن شعوب السكان الأصليين لم تحظ إلى اليوم بالتقدير والاهتمام اللذين تستحقهما، غير أن ورش العمل حول الأمن الغذائي، التي تضم أفرادًا من شعوب السكان الأصليين والمجتمعات المحلية شرعت في تشكيل أجندات مشروعات البحث العلمي25 ورسم ملامحها. ومن أمثلة هذه الورش، تلك المُنظَّمة تحت لواء برنامج «كولومبيا بيو» Colombia Bio الذي يضم عدة أطراف معنية كولومبية وبريطانية وشارك في إدارته زملاء باحثين في حدائق كيو النباتية. ومن خلال تبني رؤى أوسع منظورًا حول إدارة موارد الطبيعة، بما يحقق المزيد من الاستدامة، ويركِّز على علاقة البشر بغيرهم من الأنواع4، تتحدى الشعوب الأصلية الوضع الراهن المتمثل في النمو الاقتصادي على حساب رأس المال الطبيعي. أضف إلى ذلك أن بعض مجتمعات شعوب السكان الأصليين والمجتمعات المحلية تلعب دورًا نشطًا بالفعل في النقاشات الدولية الدائرة بشأن الأمن الغذائي والتنوع الحيوي والتغير المناخي. كما ينبري كثير من أفراد هذه الاجتماعات لوضع تقارير بالغة الأهمية والتعبير عن آرائه في محافل مثل منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة2-13 وخلال فعاليات مؤتمر الأمم المتحدة للتنوع الحيوي (COP15) الذي انعقد الشهر الماضي في مدينة مونتريال الكندية.

وبدعم من مبادرات متعددة الأطراف، كبرنامج الأغذية العالمي، ومنظمات إقليمية، كالمجلس الأفريقي، يمكن للهيئات التمويلية الترويج للتعاون بين شعوب السكان الأصليين وغيرها من المجتمعات المحلية وعلماء تطوير المحاصيل من أوروبا والولايات المتحدة والصين وغير ذلك من البلدان. على سبيل المثال، يمكن أن تطلق مؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية أو برنامج «هورايزون يوروب» Horizon Europe، دعوات موجهة لتمويل الأبحاث البيولوجية الثقافية المتعلقة بالأمن الغذائي والمحاصيل الغذائية غير التقليدية. علاوًة على ذلك، يمكن تقييم المنح البحثية في جزء منها على أساس مقدار ما ينطوي عليه المشروع البحثي من خطط تتضمن شراكات مع شعوب السكان الأصليين والمجتمعات المحلية، أو استنادًا إلى ما إذا كانت هذه المنح يطلقها أو يقودها شركاء من شطر الكرة الجنوبي، أم لا.

كذلك بإمكان حكومات البلدان مرتفعة الدخل رصد جزء من أموال المساعدات الإنمائية الرسمية أو غير ذلك من الموارد لدعم تبادل المعارف بين البلدان، وبين شطري الكرة الشمالي والجنوبي. إضافًة إلى ذلك، يمكنها أن تنشئ بنية تحتية محلية وإقليمية داعمة لبرامج زراعة النباتات، مع العمل على تنقيح سياسات الزراعة وبرامج الإعانات الزراعية بحيث تدعم قيام منظومات غذائية أكثر تنوعًا في أصنافها، تتميز بالاستدامة والتكيف مع الظروف المحلية وتنبني على المحاصيل التقليدية وغير التقليدية.

بيد أن الدفع إلى موجة تغيير حقيقي على نطاق واسع يقتضي من العلماء حول العالم إعادة النظر في أهم ما يفترضونه وفي سبل بناء الشراكات مع مختلف الثقافات والهياكل السلطوية26.

على سبيل المثال، تأمل قضايا الحفاظ على الطبيعة. حسبما أشار باحثون، غالبًا ما تتمحور المنهجيات المتبعة لحماية الأنظمة الإيكولوجية حول مفهوم معين، قائم على افتراض وضع أمثل بعض الشيء لـ "الحياة البرية"، لكننا من جانب آخر نجد أن شعوب السكان الأصليين والمجتمعات المحلية ظلت تدير معظم البيئات الطبيعية وتشكلها على مدار آلاف السنين. ومن المؤسف أن نرى أن الخطابات السائدة حول الوصول إلى طبيعة "خالصة النقاء"، خالية من أي أثر بشري، لا تعير اهتمامًا يُذكر لتقاليد شعوب السكان الأصليين والمجتمعات المحلية لدى فهم هذه البيئات الطبيعية واستخدامها والعيش في أحضانها.

ويجب أن ينعكس مفهوم العدالة البيئية على قوائم أهداف واضعي الدراسات وجهات منح حقوق الملكية الفكرية وبراءات الاختراع وغيرها من صور تقاسم المكاسب النقدية وغير النقدية المستمدة من البحوث العلمية، بل يجب كذلك أن نعيد النظر في اللغة المستخدمة في البحث العلمي، والتي تعكس مظاهر متأصلة من التحيز ضد مجتمعات السكان الأصليين واختلال في موازين القوى بين أطراف هذه المعادلة.

على سبيل المثال، كثيرًا ما يشير القائمون على تربية النباتات وغيرهم من الأطراف المعنية إلى الحاجة إلى بناء القدرات الزراعية في البلدان منخفضة الدخل. بيد أن الطريقة التي يُستخدم بها مصطلح "القدرات" هنا يتجاهل حقيقة مفادها أن سكان هذه البلدان يملكون بالفعل معارف وخبرات واسعة4، وهي "قدرات" ينفردون بها، حتى وإن افتقروا إلى البنية التحتية والمعدات وبعض المعارف التقنية. كذلك لا ينفك الباحثون عن الإبلاغ عن "اكتشافات" لأنواع جديدة (بعضها تورده هذه الدورية)، حتى وإن كانت المجتمعات المحلية قد فطنت إلى هذه الأنواع منذ مئات أو آلاف السنين.

وقد أخذت مبادرات عديدة بالفعل تسهم في تسهيل الوصول إلى الأبحاث المعنية بالتنوع الحيوي والزراعة وتمثيل شتى الأطياف البشرية في هذه الأبحاث. على سبيل المثال، شرعت المنصة القارية الإفريقية للنشر مفتوح الوصول منذ عام 2021 في إتاحة الدراسات التي أجريت في إفريقيا مجانًا، وهي سياسة تهدف في المقام الأول إلى نفع الباحثين في إفريقيا. كذلك يسعى «مشروع الجينوم البيولوجي الإفريقي» African BioGenome Project إلى بناء مورد ضخم للبيانات الجينومية في إفريقيا بغية دعم جهود القائمين على الزراعة وتربية الحيوانات والعاملين في ميدان الحفاظ على الطبيعة.

وتسعى الحدائق النباتية ومتاحف التاريخ الطبيعي ومنظمات البحث والتطوير الخاصة والحكومية حول العالم إلى إيجاد سبل أفضل للبناء على هذه النجاحات.

ونحن في حدائق كيو النباتية نسلك النهج ذاته؛ فقد جمع زملائي، بالتعاون مع ما يقرب من 210 باحثين من أكثر من 40 بلدًا، معلومات حول ما يزيد عن 7000 نوع من النباتات لها استخدامات موثقة كغذاء للبشر، في إطار دراسة تغطي بيانات تمتد لأكثر من 20 عامًا مضت28،21. ونعكف حاليًا على تحويل مجموعات البيانات التي حصلنا عليها إلى صيغة رقمية. وهي تشمل حوالي 7 ملايين نوع من النباتات و1.2 مليون نوع من الفطريات، بحيث يتسنى للمستخدمين في أي بقعة من العالم الاطلاع مجانًا على صور عالية الوضوح لهذه الأنواع وما يتصل بها من بيانات. فضلًا عن ذلك، نقدم دورات تدريب شخصي مباشر في علم الحفاظ على الطبيعة وحول مستودعات البذور وصور التنوع الحيوي في أكثر من 30 بلدًا وإقليمًا، ونتيح هذه الدورات لتصل إلى عدد أكبر من الأشخاص والمناطق عبر الإنترنت.

ختامًا، في كل مرة أعود فيها إلى البرازيل دائمًا ما أحرص على زيارة أحد أسواق الفاكهة والخضراوات المحلية، وأمضي ساعات في تبادل أطراف الحديث مع المزارعين والاستمتاع برائحة المنتجات الزراعية المحلية ومذاقها والتعرف على المزيد حول طرق زراعة المجتمعات المحلية لهذا الطيف الشاسع المذهل من النباتات القابلة للأكل. وما يرويه المزارعون من قصص حول زراعتهم، والأهم من ذلك حماسهم، يغرس في آمالًا بعودة التنوع الحيوي إلى حياتنا مجددًا، وبأنه سوف يبقى.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي