أدب الخيال العلمي وتأصيل المعرفة

موقع للعلم

2022-12-13 04:01

بقلم د. شريف فنديل

أقام مجلس الثقافة والمعرفة بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا بالقاهرة ملتقى حول أدب الخيال العلمي والتراث، حضره مزيجٌ من المهتمين بقضايا العلم والأدب، استعرض فيه العلماء إلى جانب الأدباء والشعراء رؤاهم حول أهمية الخيال العلمي، مؤكدين حاجتنا إلى توظيف أدب الخيال العلمي في لغتنا العربية ليكون رافدًا لتأصيل المعرفة ومصدرًا تعليميًّا إضافيًّا للصغار والكبار، كان اللقاء مثيرًا وأثار في نفسي شجونًا، فسرحت مع الخيال العلمي على الصعيد الدولي والمحلي.

أدب الخيال العلمي

أدب الخيال العلمي هو أحد أنواع الفن الأدبي الذي يتسم بالخيال مع اعتماده على العلم، فهو خيالٌ مبني على الحقائق والنظريات والمبادئ العلمية، وهذا ما يميزه عن الخيال الأدبي؛ إذ إنه يستخدم أحد أشكال الخيال ليستشرف تأثير العلم على المجتمع أو الأفراد، سواءٌ أكان تأثيرًا فعليًّا أم مُتخيَّلًا.

والمثير أن عالِم الفضاء والجيولوجيا المصري، الدكتور فاروق الباز، أكد الدور المهم الذي أداه الخيال العلمي في إلهام رواد «برنامج أبوللو» في تصميم مركبات أبوللو والهبوط على سطح القمر من خلال رواية رائد الخيال العلمي المبدع "جول فيرن" التي كُتبت عام 1865م «من الأرض إلى القمر»، والتي تحدث فيها عن غزو الفضاء، ولقد أصدرت مجلة "لايف "Life الأمريكية ألبومًا جمعت فيه رسومات الرواية القديمة وصور مركبات «أبوللو» الحديثة فكان التشابه واضحًا.

ويمثل الخيال العلمي إحدى المبادرات الأدبية الفريدة، فهو يضيف الكثير إلى حب التمعُّن والتساؤل الذي يشجع الصغار والكبار على البحث عن مزيد من المعرفة، إذ توجد همزة وصل بين الخيال العلمي ودراسات المستقبل، يقول البعض إن «قراءة الخيال العلمي أمرٌ لازمٌ للمستقبل»، فالخيال هو القوة الأساسية الفعالة وراء كل إبداع واختراع، ولولا الخيال لما وصلت البشرية إلى ما هي عليه الآن، إذ لا إبداع من دون خيال.

ولذا أُطلق على أدب الخيال العلمي أدب المستقبل، كما أُطلق عليه العديد من التسميات الأخرى، منها أدب الأفكار، وأدب التوقع والتنبؤ، وأدب التغيير، والأدب الذي يهتم بحال الجنس البشري ومصيره، إذ إن الخيال العلمي في تلك الحالة هو مرآة تعكس أحدث الإنجازات في مجال العلم فضلًا عن توقعات المستقبل وتمنياته، ويزود الخيال العلم والعلماء بأفكار يتم استثمارها وإحالتها إلى ابتكارات واكتشافات جديدة، كما أنه يحذر البشرية من مخاطر المستقبل التي قد يحملها في طياته.

والطريف أن خيال بعض الأدباء الجامح قد يتحقق دون قصد أو توقع، أذكر أني قرأت إحدى قصص "نجيب محفوظ" القصيرة التي استيقظ بطلها ليجد لديه قدرات هائلة على التحكم في الأمور من خلال التخاطر، فهو حين يفكر في تشغيل التليفزيون أو تحويل القنوات فإنه يستجيب، ووظف قوته تلك في أعمال الخير وتسهيل أمور الناس، ولكنه فقدها حين استخدمها في أعمال الشر والتحكم في عقول الناس، تذكرت القصة وأنا أشهد بعدها بعقود في مكتبة الإسكندرية عرضًا لأحد العلماء الذي زرع شريحةً إلكترونيةً في ذراعه، وجعلها تستجيب لأوامره العقلية بتشغيل الحاسب الآلي الخاص به، الذي قام بتوليفه ليستجيب للموجات الصادرة من تلك الشريحة ليعمل الحاسب، فهكذا تنبأ أديب نوبل المبدع بأحد تطورات العلوم الحديثة، فهم الآن يتحدثون عن زرع الشرائح الإلكترونية في داخل المخ!!

الخيال العلمي وتطوير العلوم

وللخيال دورٌ مهم في تطوير المنهج العلمي، أو ما يسمى بالتجارب العقلية في العلم، إذ يمكننا اعتبار الخيال العلمي «معملًا أدبيًّا»، يمكن من خلاله التفكر في حلول للكثير من المسائل والمشكلات القائمة، فعلى سبيل المثال تنبأ رائد الخيال العلمي البريطاني، هـ. ج. ويلز، في روايته «العالم تحرر» عام 1914م، باكتشاف الطاقة الذرية وتحرُّرها، وكان أول مَن صاغ مصطلح القنبلة الذرية واستخدمه قبل تصنيعها بسنوات طويلة، وبعد ذلك أسس عالِم الفيزياء الأميركي، ليو زيلارد، معادلات نظرية قامت على تنبؤات ويلز هذه، وكانت الأساس في مشروع مانهاتن الأمريكي لإنتاج القنبلة الذرية عام 1945م.

وفي تطابق مدهش، قدم الكاتب الأمريكي كليف كارتميل، في روايته «الموعد النهائي» عام 1944م تصورًا مثاليًّا للخيال العلمي الجاد، تمثل في وصف صناعة قنبلة ذرية، تنفجر بقوة شديدة، يمكنها أن تُنهي الحرب العالمية الثانية التي كانت مُستعِرةً وقتها، مما أثار شك المخابرات الأمريكية في أن يكون الكاتب قد تسلل إلى المعلومات السرية الخاصة بصناعة هذه القنبلة، ولكن ثبت من التحقيقات أنه لم يطَّلع على أسرار صناعة القنبلة، بل كان ذلك خيالًا علميًّا توقع فيه ما حدث في الواقع.

ولهذا يقول كاتب الخيال العلمي البريطاني، آرثر سي. كلارك: تتلخص رسالة الخيال العلمي ووظيفته في تنمية مخيلات الأفراد ومنحهم القدرة على التفكير بالمستقبل وتحذيرهم من المخاطر الخافية عليهم وتنبيههم إليها، فالكثير من أعمال الخيال العلمي تثير العديد من القضايا العلمية وجوانبها الاجتماعية وأبعادها النفسية وآثارها المستقبلية.

الخيال العلمي والتعليم ونشر المعرفة

يُعد الخيال العلمي إحدى أهم وسائل نشر المعرفة وتبسيط الثقافة العلمية بأسلوب مبتكر وشائق، فهو ينمي أسلوب التفكير العلمي ويزيد من قدرة الأفراد على إدراك المفاهيم العلمية واستيعابها، وإيجاد اتجاهات وقيم إيجابية لدى الأفراد تجاه العلم والعلماء، مما يدفعهم لتمثُّل خطاهم وإتاحة الفرصة للمزيد من الاكتشافات والابتكارات.

ويُسهم الخيال العلمي في استشراف آفاق الحاضر والمستقبل، فالكثير من الاكتشافات والإنجازات العلمية والتكنولوجية التي تحققت خلال النصف الثاني من القرن العشرين قد سبق التنبؤ بها في أعمال الخيال العلمي منذ أواخر القرن التاسع عشر، مثل أشعة الليزر والذكاء الاصطناعي، وصناعة الروبوت، وصناعة القنبلة الذرية، وبطاقات الائتمان، وغزو الفضاء، وزراعة الأعضاء البشرية واستبدالها، وأطفال الأنابيب، والهندسة الوراثية، والعلاج الجيني والاستنساخ، وغيرها، وتدور البحوث حاليًّا حول رؤى المستقبل لاحتمالات واتجاهات العلم والخيال العلمي في الكثير من المجالات في المستقبل، مثل شكل وسائل النقل والمواصلات، والأجهزة والآلات الذكية وأدوات التواصل في المستقبل، وأيضًا الحديث عن الآفاق الواعدة لثورة النانوتكنولوجي، وكذلك رؤى الخيال العلمي للرعاية الصحية والطب والعلاج، ورؤى المستقبل في مجال اقتحام الفضاء.

كما بينت الدراسات الحديثة الدور المهم للخيال العلمي في تدريس العلوم، إذ توصلت إلى أن قراءة قصص وأفلام الخيال العلمي وتدريسها تُعد ضرورةً تربويةً مستقبلية، فهي تمكِّن الطلاب من إدراك المفاهيم والحقائق العلمية واستيعابها وفهمها بطريقة أسهل، كما تمثل تلك القصص والأفلام والألعاب القائمة على الخيال العلمي أهميةً خاصةً وضرورةً مهمةً من ضرورات توسيع الأفق وتنمية التفكير العلمي وشحذ مهارات التفكير الإبداعي، وتدعم التوجه نحو دراسة العلوم وإشاعة المنهج العلمي في المجتمع وإكسابه الرؤية المستقبلية الواعية، فالخيال العلمي يُلهب خيال الطلبة ويثير فكرهم، وبخاصة الموهوبين منهم، ويشجعهم على التفكير في تحويل الخيال إلى الممكن، فالسفر في الفضاء كان في ماضي الأيام ممكنًا فقط في الخيال العلمي، ثم أصبح في الحاضر حقيقةً واقعةً يعيشها الناس.

ويرى الكثير من العلماء أن استخدام أفلام الخيال العلمي التي تجسد أدب الخيال العلمي في تدريس موضوعات العلوم أمرٌ ضروري لإثارة دافعية الطلاب نحو حب العلم ودراسة العلوم بدرجة أفضل من طرق التدريس التقليدية، كما أن استخدام الخيال العلمي لمناقشة السؤال «ماذا يحدث لو..؟» يساعد على جذب اهتمام الطلبة للمقررات الدراسية ويُثري المناقشات العلمية، وينمِّي قدرات التفكير العلمي الابتكاري، والتنبؤ بما سيكون عليه المستقبل، والاستعداد لمواجهته.

إن أدب الخيال العلمي فرصة ثمينة لغرس حب العلم في نفوس الأفراد، الصغار والكبار، بل هو أيضًا من المداخل الضرورية والمهمة لإعداد الموهوبين والمبدعين في شتى المجالات، فقد أصبح من الضروري الاهتمام بتنمية الخيال العلمي بما يجعل تعلُّم العلوم يصل إلى درجة الإبداع، وهو أحد أهم أهداف التربية العلمية الحديثة.

حوار بين مكونات الطبيعة

في تجربة للتعليم ونشر المعرفة باستخدام أدب الخيال العلمي، جرت الاستعانة من خلال البرنامج المصري لتطوير التعليم ببعض الإصدارات المحتوية على حوارات بين عناصر الطبيعة لتعليم مبادئ العلوم للأطفال، فتمت ترجمة مجموعة من القصص للكاتب المبدع جونتر بولي، وتجربتها في تدريس العلوم، ففي قصة "أقوى شجرة" هناك حوار بين أقوى شجرة في الغابة والدودة الصغيرة التي تحوم حولها، الشجرة المغرورة بقوتها، المتباهية بأغصانها المترامية وثمارها اليانعة تنظر إلى الدودة الضعيفة باستعلاء واحتقار، وتسألها لماذا هي في الجوار، يدور الحوار فتدرك الشجرة أن الدودة تفتت العناصر الغذائية لتذوب في الماء الذي يروي الشجرة وتصعد إلى الأغصان وتكوِّن الثمار، وأنه لولا وجود الدودة لما أمكنها الحياة فضلًا عن أن تصبح أقوى شجرة، هكذا يتم شرح الأسس العلمية لنظريات الخاصية الشعرية وصعود الماء المحتوي على الغذاء في الجذور والأنسجة الرفيعة، ويتم شرح التمثيل الضوئي للغذاء وتكوين الإشعاع الشمسي للسكاكر في الثمار، ويتم فهم أهمية التنوع الأحيائي وتكامل الوظائف بين الكائنات.

وفي قصة "ملك القلوب"، يتحدث طائر النورس إلى الحوت، وتتم المقارنة بين قلب الحوت الكبير الذي يماثل غرفةً سكنية، ويدق دقات قليلة في الدقيقة الواحدة، ويضخ عشرات اللترات من الدم في كل دقيقة، أما قلب النورس فيشبه البندقة الصغيرة ويدق مئات المرات في الدقيقة ويضخ في كل مرة عدة ملليلترات، ولكن المبدأ واحد، فهي الشحنة الكهربية التي تصل إلى هذه المضخة الحيوية التي لو توقفت عن العمل لتوقفت الحياة، ويدور الحوار ليدرك الحوت والنورس أن مصدر الطاقة هو الغذاء الذي يتحلل إلى أيونات كهربية سالبة وموجبة تمنح الطاقة وتستمر الحياة بإذن الله، ويدرك التلاميذ مبادئ الكيمياء الكهربية، وفي قصة "هل يطير التفاح؟" يدور الحوار بين التفاحة والعصفور، ويتعجب العصفور لماذا لا يطير التفاح، ويتفهم التفاح والعصفور نظريات الجاذبية الأرضية التي جعلت التفاح غير قادر على الطيران؛ إذ لا يمتلك أجنحة تقاوم قوى الجاذبية وتُمكِّنه من الطيران.

والأمثلة على الحوار تتنوع وتبدع.

والتجارب تحتاج إلى رعاية وحكمة.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي