كيفية الإقلاع عن الأفكار غير المرغوب فيها

موقع للعلم

2022-11-28 07:39

بقلم: إنجريد ويكلجرين

في منتصف ثمانينيات القرن العشرين أجرى العلماء تجربةً مشهورة، طلبوا فيها من المشاركين محاولة تجنُّب التفكير في دب أبيض، وطيلة فترة قدرها خمس دقائق، كان على المشاركين في التجربة قرع جرس إذا وَرَدَ إلى خاطرهم دب أبيض، وقد قرعوا الجرس أكثر من مرة في الدقيقة في المتوسط، وفيما بعد، عندما طُلِب من المشاركين أنفسهم التفكير في دببة بيضاء، وَرَدَت هذه الحيوانات إلى خاطرهم على نحوٍ أكثر تواترًا من مجموعة الضبط التي لم يُطلب من أفرادها منذ بداية التجربة سوى التفكير في دببة بيضاء.

أشارت النتائج إلى أن حجب الأفكار غير المرغوب فيها أدى إلى وقوع تأثيرات عكسية زادت من صعوبة إبعاد تلك الأفكار، وفَسَّر العديد من الأشخاص هذه النتائج على أنها تدعم المفهوم الفرويدي القائل بأن الذكريات المكبوتة تظل باقيةً في العقل الباطن، حيث قد تؤرِّقنا، وصار المفهوم القائل بأن كبت الأفكار مُضِرّ معتقَدًا سائدًا، وقد أثَّر على ممارسة علم النفس الإكلينيكي، وحتى أشكال العلاج المعمول بها في يومنا هذا تقدم علاجًا مضادًّا لمخاطر كبت الذكريات من خلال توجيه المرضى نحو استعادة التجارب الصعبة والإسهاب في الكلام عنها على نحوٍ متكرر.

بَيْدَ أن الأبحاث المتراكمة حول "النسيان النشط"، الذي يتضمن حجب الأشخاص لذكرياتهم بالاستعانة بتذكيرات بيئية، يتحدى مباشرةً هذا المبدأ الذي طال أمده؛ إذ تُظهِر تجارب التصوير الدماغي وغيرها من التجارب النفسية التي أجرتها عدة مجموعات أكاديمية أن كبت الذاكرة ليس ممكنًا فحسب، بل هو آلية تكيُّفية كذلك، ربما يحمي الأفراد من الإصابة بالقلق والاكتئاب، بل قد يساعد أيضًا في تصفية الذهن من الذكريات الاقتحامية في أعقاب التعرُّض للصدمة، ودرء الإصابة باضطراب كرب ما بعد الصدمة (PTSD)، يقول دانييل شاكتر، الباحث في مجال الذاكرة في جامعة هارفارد: "لدينا الآن أدلة كافية تدفعنا للاعتقاد بوجود تأثير" للكبت على الذاكرة، ويضيف قائلًا: "الأشخاص الذين يُعانون من اضطراب كرب ما بعد الصدمة يواجهون صعوبات في عملية الكبت"، ويستطرد قائلًا: "وذلك، بالنسبة لي، دليلٌ على أن له بعض المنافع الإكلينيكية المُحتَمَلة".

برزت الأدلة الداعمة للفكرة القائلة بأن الناس بإمكانهم كبت الذكريات بنجاح منذ نحو 20 عامًا، عندما ابتكر اختصاصي علم النفس الإدراكي مايكل أندرسون -الذي كان يعمل حينها في جامعة أوريجون- بديلًا لاختبار الدب الأبيض يُسمى مهمة "التفكير/عدم التفكير"، وقد تولى هو وكولين جرين -أحد طلابه وقتها- تعليم 32 طالبًا جامعيًّا حِفظ 40 زوجًا من الكلمات مثل (حقنة-طبيب، ورحلة- بِنْطَال، وعشب-لحم بقري)، وكانت الكلمة الأولى تمثل تذكيرًا بالكلمة الأخرى أو إشارةً لها، ثم عرض الباحثون على الطلاب الإشارة فقط وطلبوا منهم إما التفكير في الكلمة الأخرى وقَولها بصوت عالٍ أو عدم التفكير فيها (كبت التفكير فيها)، وقد أدى الكبت إلى النسيان، وكلما زاد عدد تجارب الكبت التي خاضها الطلاب، ضعُف تذكُّرهم للكلمات التي أتت في المرتبة الثانية.

تضمنت المهمة "كبح الاسترجاع"، أو كبت الذكريات التي يستدعيها الذهن بفعل ارتباطها بإشارات بيئية، وهي تعكس الخبرة المعتادة التي يتعرض لها البشر عندما يواجهون تذكيرات بأفكار غير مرغوب فيها فيتقبلونها أو يدفعونها بعيدًا عن أذهانهم، وعلى النقيض من ذلك، تتطلب طريقة الدب الأبيض من الأشخاص التفكير مباشرةً في الدب الأبيض كلما ذَكَّروا أنفسهم بتعليمات المهمة، "في طريقة الدب الأبيض، يحاول المشاركون كبت ’الدب الأبيض‘ نفسه، ما يقتضي ضمنًا التفكير في ’الدب الأبيض‘، وذلك قد يهيئ فكرة الدب الأبيض للظهور لاحقًا [في الذاكرة] بطريقةٍ لا تحدث في مهمة التفكير/عدم التفكير"، وفق ما يقوله شاكتر، في حين تُمَكِّن مهمة التفكير/عدم التفكير من كبت الذكريات لأن استخدام الإشارات يعني عدم تذكير الأشخاص مباشرةً بالذكريات التي يحاولون درءها.

قد ينتج عن تمرين الدب الأبيض تأثيرٌ حقيقي، أي ذكرى باقية، وفق ما يقول الخبراء، لكن أندرسون -الذي يعمل حاليًّا في جامعة كامبريدج- يقول: "لقد أفرط الأطباء الإكلينيكيون في تعميم الأمر"، ويضيف: "يمكن ممارسة كبح الاسترجاع، وهذه الطريقة تعمل بآلية مختلفة تمامًا".

في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأ أندرسون، وفريق من جامعة ستانفورد، من بين آخرين، في كشف الأساس البيولوجي لهذا النوع من النسيان، إذ أظهرت تجارب التصوير الدماغي أن القشرة الجبهية الأمامية للمخ -والتي طالما عُرفت بأنها المسؤولة عن ضبط النفس السلوكي- ترسل إشارات تَثْبيطِيّة إلى الحُصَيْن، وهو أحد مركز الذاكرة، ولكن عقدًا آخر انقضى قبل أن يكتشف الباحثون أن التأثيرات على الحُصَيْن قد تستمر فعليًّا لإطار زمني صغير، 10 ثوانٍ على الأقل، لكنها تستمر أحيانًا مدةً أطول، متسببةً في فرض ما يصفه أندرسون بـ"ظل من فقدان الذاكرة" يعكس حالة وظيفية متدهورة مؤقتة في الحُصَيْن، يقول أندرسون إن هذه الحالة المتدهورة هي نتيجة الكبت وتؤدي إلى النسيان، وفي السنوات العديدة الماضية، تَوَصَّل الباحثون إلى أدلة إضافية على وجود آلية في الدماغ تُمَكِّن الأشخاص من كبت أفكارهم.

في دراسة أُجريَت عام 2022 بالتَّصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، وجد فريق أندرسون أن الأشخاص يستخدمون بنى الدماغ الجبهية الأمامية نفسها لتنفيذ مهمات كبح الأفعال وكذلك كبت الأفكار، ولكن فيما يخص مهمات كبح الأفعال، تُعَطَّل القشرة الحركية للدماغ بدلًا من الحُصَيْن، ووجد الباحثون أن أنماط نشاط الدماغ في القشرة الجبهية الأمامية متشابهة إلى حدٍّ كبير، إلى درجة أن جهاز الكمبيوتر الذي تدرّب على تمييز نمط النشاط الدماغي المرتبط بكبح فعل تَمَكَّن من استخدام هذا النمط للتنبؤ بما إذا كان قد تم كبت إحدى الأفكار أم لا.

وفي دراسة أخرى نُشرت هذا العام، أوضح العلماء في معهد ماكس بلانك لعلوم الإدراك البشري والدماغ في مدينة لايبزيج بألمانيا، أن هذه العملية تؤدي إلى تشويش الذكريات بالدماغ فعليًّا، بدلًا من تقليل إمكانية الوصول إليها فحسب، اشتملت الدراسة على 37 شخصًا علَّمهم العلماء ربط إشارات محايدة بصور كوارث أو حوادث أو إصابات، ثم جعلوهم يمارسون كبت تلك الروابط، وفي أثناء تنفيذ مهمة الكبت وفي اختبار لاحق للذاكرة، راقب الباحثون نشاط الدماغ لدى المشاركين بالاستعانة بالتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، واتضح أن كبت ذكريات هذه المشاهد المزعجة جعلها أقل وضوحًا في أذهان هؤلاء المشاركين، وعلاوةً على ذلك، أشار تحليل حاسوبي إلى أن أنماط نشاط الدماغ التي مثلت في الأصل ذكريات تلك المشاهد كانت في كثير من الحالات غير قابلة للتمييز تقريبًا؛ فكلما كان الشخص يتذكر مشهدًا على نحوٍ أقل وضوحًا، كان تمثيل هذه الذكرى في الدماغ أكثر تشوشًا.

وتتعارض النتائج مع فكرة أن الذكريات المكبوتة تختبئ في العقل الباطن، يقول رولان بينوا، اختصاصي علم الأعصاب الإدراكي، وأحد باحثي الدراسة: "غير صحيح أن الذكرى موجودة، ولكن لسببٍ ما، لم يعد بإمكان [الشخص] التعبير عنها شفويًّا، بل إن الدماغ لم يعد [قادرًا] على إعادة تفعيل نمط النشاط الذي يحتاج إليه لاستحضار ذكرى واضحة".

وكذلك تشير أدلة متزايدة إلى أن كبت الذاكرة مهارة تأقلُم مهمة فيما يبدو، وقد برز بعض من الأدلة الأولى الداعمة لذلك عام 2003، عندما أوضحت باولا هيرتل -اختصاصية علم النفس الإدراكي بجامعة ترينيتي- جنبًا إلى جنب مع ميليسا جيرستل، طالبتها آنذاك، أن الأشخاص المصابين بالاكتئاب واجهوا صعوبات في كبت الذاكرة، وأنه كلما زاد القصور في تلك الناحية، جَنَح الشخص إلى اجترار الأفكار غير المرغوب فيها أو التعرُّض لها، وخلصت هيرتل إلى أن مشكلات السيطرة على الذاكرة قد تفسر سبب اجترار الناس للذكريات، والعادات من هذا النوع قد يكون من الصعب تبديلها، تقول هيرتل: "إذا كنت تمارس التفكير في أحداث من ماضيك تزعجك، أو تقلق بشأن أمور قد تحدث، فتلك الممارسة ستؤدي إلى إتقان هذا السلوك"، وتضيف قائلةً: "من أفضل الطرق التي تُمكّنك من تذكُّر أمرٍ ما أن تمارس استعادة هذا الأمر إلى ذهنك".

وعلى مر السنين، كرر العلماء هذا البحث ووسّعوا نطاقه ليشمل أمراضًا عقليةً أخرى تحفل بالأفكار الاقتحامية، على سبيل المثال، في عام 2016، ربط أندرسون وزملاؤه قدرة الأشخاص على كبت أفكارهم بقدرتهم على التحمُّل والتعافي السريع، وذلك بعد مشاهدة مقاطع فيديو مزعجة تؤدي دون شك إلى ردود فعل مولدة للصدمة، فالأشخاص الذين استطاعوا النسيان تعرَّضوا لعدد أقل من الذكريات الاقتحامية في الأيام التالية، وأظهر تحليل إحصائي أُجريَ عام 2020 لـ25 دراسة أن الأشخاص الذين لا يعانون من اضطرابات صحية عقلية يمكنهم كبت الذكريات غير المرغوب فيها بنجاح، في حين أن الأشخاص الذين يعانون من القلق واضطراب كرب ما بعد الصدمة أو الاكتئاب لا يمكنهم ذلك، إذ يوجد ارتباط بين القدرة على النسيان عمدًا والتمتُّع بصحة عقلية أفضل، وفي هذا السياق يقول بينوا: "قد تحمينا آلية الكبت هذه من الإصابة بهذه الاضطرابات".

في عام 2020، أفاد بيير جانيبان، اختصاصي علم الأعصاب الإدراكي في المعهد الوطني الفرنسي للصحة والبحوث الطبية وزملاؤه باكتشاف نتيجة مشابهة لدى ناجين فعليين من الصدمات، ففي أعقاب الهجمات الإرهابية الفتاكة التي وقعت عام 2015 في مدينة باريس وما حولها، وضع فريق جانيبان 102 من الناجين من الهجوم وكذلك 73 من عناصر الضبط في جهاز تصوير الدماغ بالأشعة في أثناء ممارستهم لكبح الاسترجاع، فكان من الناجين 55 مصابين باضطراب كرب ما بعد الصدمة، لكن البقية لم يكونوا كذلك، وجد الباحثون أن الأشخاص الذين لم تصبهم ضغوط عصبية بعد الصدمة كانوا أفضل في كبت الذكريات من أولئك الذين يعانون من اضطراب كرب ما بعد الصدمة؛ إذ أظهر النشاط الدماغي -في القشرة الجبهية الأمامية، والحُصَيْن ومواضع أخرى- لدى الناجين ذوي القدرة على التحمُّل والتعافي السريع أن لديهم آليات تحكم إدراكية أكثر فاعلية، ويعلق جانيبان بقوله: "إن تعطُّل الآليات التي تُستخدم لكبت الذكريات قد يكون له دورٌ بالفعل في تشكُّل الذكريات المرتبطة بالصدمة".

كبح الاسترجاع ليس الطريقة الوحيدة لإخماد الذكريات المزعجة أو تلك المرتبطة بالصدمات، فهناك طريقة أخرى وهي " إعادة التوطيد المختلفة للذكريات"، في هذه الطريقة، يُطلب من الأفراد استحضار ذكرى، ما "يعيد تنشيطها"، ومن ثم يجعلها عُرضةً للتغيير، ثم يفعلون شيئًا -لنَقُل: تناول عقار- للتلاعب بهذه الذكرى، يضيف شاكتر أن الباحثين جربوا إعطاء الأشخاص دواء بروبرانولول، الذي يُعتقد أنه يمنع إعادة توطيد الذكريات بناءً على دراسات أُجريَت على القوارض باستخدام مركبات شبيهة، وأسفرت دراستهم عن نتائج متفاوتة، يمكن أن يؤدي السلوك أيضًا إلى إعاقة الذكريات؛ ففي تجربةٍ أُجريَت عام 2020، حاولت اختصاصية علم الأعصاب إميلي هولمز من جامعة أوبسالا في السويد وزملاؤها التدخل في الجوانب المرئية لذكريات عن فيلم فيه مشاهد مؤلمة من خلال جعل المشاركين يلعبون لعبة «تتريس» بعد وقت قصير من تذكيرهم بذلك الفيلم، وجد الباحثون أن المنهج الذي اتبعوه قلَّل من عدد الذكريات الاقتحامية التي تعرَّض لها الأشخاص بعد ذلك.

لم تتضح بعد كيفية استخدام كبت الذاكرة كعلاج، يقول أندرسون إن إحدى طرق استخدامه تتمثل في تعليم الأشخاص كيفية ممارسته فحسب؛ ففي التجارب، يتحسن أداء المشاركين في مهمة التفكير/عدم التفكير على نحوٍ يُعَوَّل عليه مع تكرار المحاولات، قد يتدرب الأفراد -على سبيل المثال- على كبح أفكارهم في أثناء التحديق في الإشارات المرتبطة بذكرياتهم المزعجة أو مخاوفهم.

علاوةً على ذلك، تقل المعلومات المؤكدة حول فاعلية التدريب على عدم التفكير مع الأشخاص الذين يعانون من قصور بالغ في السيطرة على الذاكرة، في حين تشير بعض أبحاث هيرتل إلى أن الحلول البديلة ضرورية للأشخاص المصابين بالاكتئاب، مثل تزويدهم بفكرة جديدة يربطونها بالإشارة كي تصبح بديلًا للفكرة المزعجة.

وقد يكون النوم عاملًا مساعدًا آخر؛ إذ اكتشف سكوت كايرني -اختصاصي علم الأعصاب الإدراكي بجامعة يورك في إنجلترا- أن الحرمان من النوم يُضعِف إلى حدٍّ كبير من قدرة الأشخاص على كبت الذكريات غير المرغوب فيها، ففي دراسة أُجريَت عام 2021، أظهر فريق كايرني أنه عندما عانى أشخاص من قلة النوم، تعرَّضوا لذكريات اقتحامية أكثر من الأشخاص الذين ناموا، ويعلق كايرني على ذلك بقوله: "على مدار فترة الإصابة بالحرمان المُزمِن من النوم، سوف يشهد المرء ذكرياتٍ اقتحاميةً أكثر، ما سيزيد من احتمالية إصابته بمشكلات صحية عقلية"، بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تؤثر زيادة الذكريات الاقتحامية في القدرة على النوم، "ومن ثم يصير الأمر حلقةً مفرغة"، وفق ما يضيف كايرني.

في العلاج الإدراكي السلوكي الكلاسيكي، يشجع المعالجون الأشخاص على إيجاد تفسيرات بديلة للتجارب الصعبة، ومع ذلك، تشير الأبحاث التي أُجريَت حول كبح الاسترجاع إلى أن إعادة تحليل التجارب على هذا النحو قد تكون غير ضرورية في كثير من الأحيان، يقول أندرسون: "يمكن تقليل تواتُر الأفكار بمجرد كبحها"، ويضيف: "ولا تعاود تلك الأفكار الظهور عادةً".

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي