شركات التكنولوجيا العملاقة وحصاد الأحزان
بروجيكت سنديكيت
2019-08-27 04:00
بقلم: دارون أسيم أوغلو
كمبريدج ــ كانت التكنولوجيا الرقمية سببا في تحويل الكيفية التي نتواصل بها، وننتقل، ونتسوق، ونتعلم، ونرفه عن أنفسنا. وقريبا، من الممكن أن تعمل تكنولوجيات مثل الذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، وإنترنت الأشياء، على إعادة تشكيل الرعاية الصحية، والطاقة، والنقل، والزراعة، والقطاع العام، والبيئة الطبيعية، بل وحتى عقولنا وأجسامنا.
حقق تطبيق العِلم على المشكلات الاجتماعية أرباحا ضخمة في الماضي. فقبل فترة طويلة من اختراع رقاقة السليكون، عملت الإبداعات الطبية والتكنولوجية بالفعل على جعل حياتنا أكثر راحة ــ وأطول أمدا. لكن التاريخ عامر أيضا بالكوارث الناجمة عن استخدام قوة العِلم والحماس لتحسين الحالة الإنسانية.
على سبيل المثال، أفضت الجهود الرامية إلى تعزيز المحاصيل الزراعية من خلال التكبير العلمي أو التكنولوجي في سياق المنظمات الجمعية في الاتحاد السوفييتي أو تنزانيا إلى نتائج عكسية إلى حد مذهل. وفي بعض الأحيان، تسببت الخطط لإعادة بناء المدن من خلال التخطيط الحضري في تدميرها. وقد أطلق العالم السياسي جيمس سكوت على مثل هذه الجهود لتغيير حياة الآخرين من خلال ظواهر علمية مسمى "الحداثة السامية".
الواقع أن إيديولوجية الحداثة السامية، التي تتسم بالخطورة بقدر ما هي مفرطة في الثقة عقائديا، ترفض الاعتراف بأن العديد من الممارسات والسلوكيات البشرية تنطوي على منطق متأصل تكيف مع البيئة المعقدة التي تطورت فيها. وعندما يرفض أنصار الحداثة السامية مثل هذه الممارسات من أجل تأسيس نهج أكثر علمية وعقلانية، فإنهم يفشلون دائما تقريبا.
تاريخيا، كانت مخططات الحداثة السامية تحدث أشد الضرر عندما تستخدمها دولة استبدادية تسعى إلى تحويل مجتمع واهن منهك القوى. وفي حالة الجماعية السوفييتية، نشأت استبدادية الدولة من "الدور القيادي" الذي نسبه الحزب الشيوعي لنفسه، ولاحقت مخططاتها في غياب أي منظمات قادرة على مقاومتها بفعالية أو توفير الحماية للفلاحين الذين تسحقهم.
بيد أن الاستبداد ليس حِكرا على الدول وحدها. فمن الممكن أن ينشأ أيضا من أي ادعاء بمعرفة أو قدرة متفوقة مطلقة العنان. ولنتأمل هنا الجهود المعاصرة التي تبذلها الشركات، وقادة الأعمال، وغيرهم ممن يرغبون في تحسين العالم الذي نعيش فيه من خلال التكنولوجيات الرقمية. فقد عملت إبداعات حديثة على زيادة الإنتاجية بشكل كبير في مجالات التصنيع، وتحسين الاتصالات، وإثراء حياة المليارات من البشر. لكنها من الممكن أن تتحول بسهولة إلى اخفاق "سامي الحداثة".
تُقَدَّم التكنولوجيات الفائقة مثل الذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، وإنترنت الأشياء غالبا على أنها ترياق لتحسين العمل، والترفيه، والاتصال، والرعاية الصحية. ومن قبيل الغرور والغطرسة أن نتصور أننا لا يمكننا أن نتعلم إلا القليل من الناس العاديين والمواءمات التي طوروها في إطار سياقات اجتماعية مختلفة.
المشكلة هي أن الاعتقاد غير المشروط بأن "الذكاء الاصطناعي قادر على القيام بكل شيء على نحو أفضل"، على سبيل المثال، يخلق نوعا من الاختلال في ميزان القوى بين أولئك الذين يطورون تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي وأولئك الذين ستتغير حياتهم بفِعلها. ولا يملك المنتمون إلى الفئة الأخيرة أن يشاركوا بالرأي في كيفية تصميم هذه التطبيقات أو نشرها.
تُعَد المشكلات الحالية التي تؤثر على وسائط التواصل الاجتماعي مثالا معبرا للغاية عن ما يمكن أن يحدث عندما تُفرَض قواعد موحدة دون أي اعتبار للسياق الاجتماعي والسلوكيات المتطورة. فقد استعيض عن أنماط الاتصال الغنية والمتنوعة القائمة خارج شبكة الإنترنت بأوضاع اتصال نصية وموحدة ومحدودة على منصات مثل فيسبوك وتويتر. ونتيجة لهذا، انطمست المعاني الدقيقة التي كانت متأصلة في التواصل وجها لوجه، والأخبار المنقولة بواسطة منافذ جديرة بالثقة. وعلى هذا فقد أفضت الجهود الرامية إلى "ربط العالم" بالتكنولوجيا إلى خلق مستنقع من الدعاية، والتضليل، وخطاب الكراهية، والتنمر.
بيد أن مسار الحداثة السامية هذا ليس حتميا. فبدلا من تجاهل السياق الاجتماعي، يستطيع أولئك الذين يعملون على تطوير تكنولوجيات جديدة أن يتعلموا شيئا من تجارب واهتمامات أناس حقيقيين. والتكنولوجيات ذاتها من الممكن جعلها تكيفية بدلا من كونها متعالية، على أن يكون تصميمها حريصا على تمكين المجتمع وليس إخراسه.
من المرجح أن تعمل قوتان على دفع التكنولوجيات الجديدة في هذا الاتجاه. الأولى تتمثل في السوق، التي ربما تعمل كحاجز ضد المخططات المضللة المصممة من القمة إلى القاعدة. فما إن قرر المخططون السوفييت جعل الزراعة ممارسة جمعية، لم يكن بوسع القرويين الأوكرانيين القيام بأي شيء يُذكَر لوقفهم. ونشأ عن ذلك مجاعات ضخمة. ليس الأمر كذلك مع التكنولوجيات الرقمية اليوم، والتي يتوقف نجاحها على القرارات التي يتخذها مليارات من المستهلكين والملايين من الشركات في مختلف أنحاء العالم (مع استثناء محتمل للمستهلكين والشركات في الصين).
مع ذلك، لا ينبغي لنا أن نبالغ في تقدير القيود التي تفرضها السوق. فليس هناك ما قد يضمن اختيار السوق للتكنولوجيات المناسبة لنشرها على نطاق واسع، ولن تستوعب السوق التأثيرات السلبية المترتبة على استخدام بعض التطبيقات الجديدة. ومجرد وجود كيان مثل فيسبوك يجمع المعلومات حول 2.5 مليار مستخدم نشط في بيئة السوق لا يعني أننا نستطيع أن نثق في الكيفية التي قد تستخدم بها هذه البيانات. ومن المؤكد أن السوق لا تضمن أننا لن نواجه عواقب غير متوقعة نتيجة لاستخدام نماذج أعمال فيسبوك والتكنولوجيات التي تقوم عليها.
لكي تعمل قيود السوق، فيجب أن يجري تعزيزها بالاستعانة بضابط ثان أكثر قوة: السياسة الديمقراطية. إذ يتعين على كل دولة أن تلعب دورها اللائق في تنظيم النشاط الاقتصادي واستخدام ونشر التكنولوجيات الجديدة. تدفع السياسة الديمقراطية غالبا الطلب على مثل هذا التنظيم. وهي أيضا الوسيلة الدفاعية الأفضل ضد الاستيلاء على سياسات الدولة من خلال محاولة المصالح الشركاتية الساعية إلى تحقيق الريع تعظيم حصصها في السوق أو أرباحها.
تزودنا الديمقراطية أيضا بأفضل آلية لبث وجهات نظر متنوعة وتنظيم المقاومة لمخططات الحداثة السامية المكلفة أو الخطيرة. ومن خلال الحديث الصريح العلني، يمكننا أن نعمل على إبطاء أو حتى منع التطبيقات الأكثر خبثا للمراقبة والرصد والاستغلال الرقمي. والصوت الديمقراطي هو على وجه التحديد ما حُرِم منه القرويون الأوكرانيون والتنزانيون الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة المخططات الجمعية.
لكن الانتخابات المنتظمة لا تكفي لمنع شركات التكنولوجيا الضخمة من خلق كابوس الحداثة السامية. فبقدر ما تستطيع التكنولوجيات الحديثة إحباط حرية التعبير والتسوية السياسية وبقدر ما تعمل على تعميق تركيزات السلطة في الحكومة أو القطاع الخاص، فإنها قادرة على إحباط آليات السياسة الديمقراطية ذاتها، مما يخلق حلقة مفرغة. وإذا اختار عالم التكنولوجيا طريقة الحداثة السامية، فإنه قد يتسبب في نهاية المطاف في إلحاق الضرر الشديد بوسيلتنا الدفاعية الوحيدة ضد غطرسته وغروره: الإشراف الديمقراطي على الكيفية التي تتطور بها التكنولوجيات الجديدة وتنتشر. ويتعين علينا كمستهلكين وعمال ومواطنين أن نكون أكثر إدراكا لهذا التهديد، لأننا وحدنا القادرون على إيقافه.