أزمة حقوق الإنسان في ظل المعايير المزدوجة
جميل عودة ابراهيم
2024-09-15 06:41
في ظل الأزمات الدولية والإقليمية المتفاقمة تواجه منظومة حقوق الإنسان المعاصرة إشكالية كبيرة على مستوى التطبيق والأثر، هذه الإشكالية تسببت بها إلى حد كبير دول ومنظمات حقوق الإنسان التي تُعد راعية لهذه الحقوق، مثل دول أوربا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية.
إذ أصبح من المؤكد أن دعم الغرب لحقوق الإنسان يتسم بالانتقائية وتغليب المصالح الذاتية، وردود أفعاله غير المنطقية على كثير من الانتهاكات الأخرى لميثاق الأمم المتحدة، وهو ما أدى بدوره إلى مزيد من زعزعة الاستقرار، وتعزيز الإفلات من العقاب.
للأسف المنظمات الدولية المؤثرة في منظومة حقوق الإنسان هي جزء من هذه الدول، وهي تتبع سياساتها بطريقة وأخرى، وتتناغم مع مواقفها غير العادلة إزاء انتهاكات حقوق الإنسان المتزايدة. وأصبح من المسلم أن الدول والمنظمات والجماعات المناهضة للولايات المتحدة الأمريكية ولأوروبا الغربية هي الدول دائمة الانتهاكات لمبادئ حقوق الإنسان وحريته، مثل إيران والصين وروسيا، وبعض دول أمريكا اللاتينية، وبعض الدول العربية مثل سوريا، بينما الدول الصديقة لأمريكا والغرب رغم انتهاكاتها المتكررة لحقوق الإنسان فإنها غير مدرجة على قائمة منتهكي حقوق الإنسان إلا بالإشارة العابرة، لتوظيفها فيما بعد في عمليات الابتزاز والاستغلال لمواردها الطبيعية، مثل دول الخليج عموما.
ووفقا لمنظمة العفو الدولية، فإن تطبيق مثل هذه المعايير المزدوجة شجع الأنظمة في جميع أنحاء العالم على الانحراف عن انتهاكات حقوق الإنسان، وشجع على المزيد من القمع. وأنّ الولايات المتحدة أكثر دول العالم صخباً وضجيجاً بالحديث عن حقوق الإنسان وشعاراته، كما أنها الدولة الأكثر استخداما لورقة حقوق الإنسان في سياستها الخارجية، إلا أنها على صعيد الممارسة الفعلية تعد الدولة الأخطر على مر التاريخ التي انتهكت وتنتهك حقوق الإنسان.
الواقع أن المعايير المزدوجة للغرب تتجسد في صمته المطبق عن انتهاكات حقوق الإنسان في إسرائيل والسعودية ومصر، وفي رد فعله الذي يتسم بعدم الاتساق إزاء الآثار الجسيمة التي تخلفها نزاعات أخرى على حقوق الإنسان، وبعضها يرقى إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية، وكذلك في استجابته غير المتسقة فيما يخص حماية اللاجئين الفارين من تلك النزاعات، مما يعزز الانطباع أن حقوق الإنسان سلاح أخر مؤثر للغرب لا يقل عن أسلحة القتل والدمار التي تصدرها هذه الدول إلى دول ومناطق التوتر والنزاع.
إن الحرب كشفت وفضحت نية الغرب وشعاراته الكاذبة التي نادى بها مرارًا وتكرارًا من أجل حماية حقوق الإنسان، وأظهرت أيضًا موقف الإعلام الغربي وقدرته على نشر الأكاذيب والشائعات تحيزًا لإسرائيل. وتقف الكلمات عاجزة أمام تلك المشاهد الشنيعة التي نراها منذ اندلاع الحرب في غزة، وأمام ما يحدث من انتهاكات صريحة لكافة الأديان والأعراف والأخلاق والقوانين والاتفاقيات الدولية، وأمام هذا السكوت الذي يشارك في قتل الأبرياء في غزة، ورغم كل ذلك يقف العالم صامتًا أمام تلك المأساة دون أي تحرك فعال.
ففي مسألة الحروب بين الدول تقف الولايات المتحدة بقوة مع الدول والحكومات الصديقة لها بغض النظر عن انتهاكات حقوق الإنسان فيها، فهي تقف مع أوكرانيا بكل قوتها وتؤيدها ضد روسيا، وهي تقف مع إسرائيل وتساندها ضد الشعب الفلسطيني المغتصبة أرضه. وفيما يتعلق بالمحاكمات الدولة وتحقق العدالة الجنائية بشأن جرائم الحرب مدوية فان الولايات المتحدة دائما تستخدم حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ضد كل قرار دولي يهدف إلى استجلاء الحقائق ومسألة الجناة. وتقف الولايات المتحدة بالضد من كل قرارات المحكمة الجنائية الدولية للدفاع عن أصدقائها.
وفي موضوع اللاجئين؛ تجلت سياسة الكيل بمكيالين التي ينتهجها الغرب على نحو صارخ أيضًا عندما عمدت الكثير من دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية إلى إبقاء حدودها مغلقة في وجه الفارين من ويلات الحروب والقمع في سوريا وليبيا، وغيرهما من البلدان، في الوقت الذي فتحت فيه أبوابها أمام الأوكرانيين النازحين فرارًا من العدوان الروسي.
وأعيد الآلاف من الأشخاص بإجراءات موجزة من بلغاريا واليونان إلى تركيا؛ ومن تركيا إلى إيران وسوريا؛ ومن قبرص إلى لبنان؛ ومن كرواتيا إلى البوسنة والهرسك؛ ومن المجر إلى صربيا؛ ومن لاتفيا وليتوانيا وبولندا إلى بيلاروس. أما من تمكنوا من بلوغ أراضي الاتحاد الأوروبي فقد احتُجزوا تعسفًا، وظل بعضهم محتجزين فترات طويلة، أو تمّت إعادتهم بصورة غير مشروعة، وكثيرًا ما اقترن ذلك باستخدام أساليب عنيفة. وبعد عبورهم الحدود إلى ليتوانيا ولاتفيا وبولندا، أخضعوا مرة أخرى للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة.
وفيما يتعلق بالمشاكل البيئية؛ فبالرغم من هذه الكوارث، فقد تقاعس قادة العالم، عندما التقوا في مؤتمر المناخ (كوب 27) في مصر، عن اتخاذ الإجراءات اللازمة لإبقاء ارتفاع درجات الحرارة العالمية دون مستوى 1.5 درجة مئوية. كما رفضت الدول معالجة السبب الأول للاحترار العالمي، وهو إنتاج واستخدام الوقود الأحفوري. وفيما يتعلق باحتكار الأدوية فقد لجأت دول غنية إلى تخزين كميات من لقاحات كوفيد˗19، وإضعاف نظم إعادة التوزيع المتعددة الأطراف، فساهمت في تعميق عدم المساواة.
من جهة ثانية؛ لا تحظى منظمات حقوق الإنسان في الدول المناهضة للغرب بالتأثير الكبير في الساحة الدولية والإقليمية، فتقاريرها في العادة مشكوك بها، ولا يؤخذ بها، بحكم وقوعها في ساحة التأثير السياسي والاجتماعي للدول والحكومات المنتهكة لحقوق الإنسان، فضلا عن أن بعضها بالفعل منخرط بالدفاع عن الحكومات أكثر من دفاعه عن المظلومين والمنتهكة حقوقهم.
كما أدت ازدواجية المعايير والتناقضات في التعامل مع حقوق الإنسان إلى تقويض ثقة الأشخاص في المنطقة في المؤسسات الدولية والآليات الدولية لحقوق الإنسان، في الوقت الذي تكتسي فيه هذه المؤسسات والآليات أهمية حاسمة أكبر من أي وقت مضى نظرًا لغياب أي سبل محلية لتحقيق المساءلة.
والسؤال هنا؛ في ظل وجود ازدواجية المعايير؛ هل يُفترض بالشعوب أن تنتقد منظومة الحقوق والحريات ذاتها، لأنها فشلت في حماية الشعوب المستضعفة؟ ما الفائدة من هذه الحقوق إذا كانت حبراً على ورق ومجرد أداة سياسية بيد الدول؛ تستخدمها على وفق مصالحها بعيداً عن أي معيار أخلاقي أو قيمي؟
هل قضايا حقوق الإنسان التي تبنيانها أفرادا وجماعات وشعوبا، ونادينا بتطبيقها ودفعنا من أجلها أثمانا باهظة في الأرواح والأموال والعمر والكرامة هي فقط كذبة غربية خدعنا بها، أو هي فقط وسيلة يتقوى بها الأقوياء على الضعفاء، أو هي فقط شعارات يتسلى بها المتشدقون للحق والحرية والكرامة، يرفعوها متى ما شاءوا، ويخفونها متى ما شاءوا؟ وماذا ينبغي أن يعمل أحرار هذا العالم لكي يحصلوا ويحصل كل مظلوم على حقه وحريته دون اعتداء من الغير؟
نعم واضح أنه لا تكمن المصلحة العليا للأفراد في وجود منظومة الحقوق والحريات فحسب، وإنما في وجود آليات للتنفيذ والإلزام بها؛ فهنالك نصوص كثيرة على سبيل المثال تنصّ على ضرورة توفير الحصول على الدواء والغذاء والماء واللباس والمأوى لكل الأفراد، وعلى ضرورة أن يتمتع كل فرد بمستوى أساسي من الكرامة؛ إلا أن الوقع يشير إلى وجود الملايين من الأشخاص الذين لا يملكون هذه الضروريات، والأمر ذاته ينطبق على حرية الرأي والتعبير وحرية التجمع وإنشاء الأحزاب والجمعيات.. إلخ.
مع ذلك كله؛ لا يجب أن تكون ردة فعلنا على منظومة الحقوق والحريات ذاتها، فهي في العموم منظومة إنسانية وأخلاقية ودينية وعرفية لا يجب التنازل عنها، لأنها جزء من المبادئ الإنسانية المشتركة، وجزء من قيم الشعوب وإرثها. بناءً عليه يُفترض ألا تتمثل ردة الفعل إزاء ازدواجية المعايير بازدراء منظومة الحقوق والحريات أياً كانت فلسفتها بقدر ما نسعى لكشف زيف آليات تطبيقها من جهة، وللحشد من أجل تغيير الأخيرة وتحسينها، فالانتقادات المحقة لآليات التطبيق من جهة وعدالة المنظومة من جهة أخرى يجب ألا تطال أهمية وجود المنظومة ذاتها.
وبما أن الحقوق والحريات – بوصفها منظومةَ قيمٍ إنسانيةٍ – ليست منتجاً آنيّاً ولا أيدلوجيّاً خاصاً بفئة أو شعبٍ محددٍ أو حضارةٍ معينةٍ فالواجب ألا تسمح مختلف الظروف الحالية بالخلط بين المبدأ وتطبيقه، أو بين القيم المجردة وتوظيفها سياسياً؛ إذ إن الحقوق والحريات تمثل حياة أي فرد، ومن دونها يصبح سجيناً غير قادر على أداء دوره ورسالته في الحياة.
وبناء على ما تقدم نخلص إلى ما يأتي:
1. إن حقوق الإنسان وحريته قيمة إنسانية وأخلاقية ودينية لا ينبغي أن نتنازل عنها لأن التنازل عنها يعني ضياع الإنسان ومبادئه وقيمه، وحينذاك يفقد الإنسان إنسانيته.
2. إن التعامل الدولي الانتقائي مع انتهاكات حقوق الإنسان يخالف ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، اللذين يؤكدان على كونها حقوقًا عالمية متساوية بين جميع الشعوب.
3. إن الهيمنة الغربية على مفاصل القرار الدولي أدت إلى إفلات الدول وقادتها من المساءلة والمحاسبة مثل إفلات إسرائيل من العقاب على انتهاكاتها المتكررة لحقوق الإنسان، رغم توافر جميع الأدلة الدامغة على ارتكابها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق الشعب الفلسطيني.
4. أهمية معالجة قضايا حقوق الإنسان على المستوى العالمي من خلال نهج بناء وشامل وغير مسيس وغير انتقائي أو متحيز، وأن تعالج كذلك قضايا حقوق الإنسان بطريقة عادلة ومتساوية وموضوعية وذات مصداقية بخصوص حالة حقوق الإنسان في جميع بقاع العالم.