اليوم الدولي لمساندة ضحايا التعذيب: ماذا بعد الاعتقال والسجن؟

أوس ستار الغانمي

2024-06-26 03:57

في كل عام، يوجه المجتمع الدولي اهتمامه نحو قضية حساسة وغالبا ما تكون مخفية في الظل، وهي قضية التعذيب وضحاياه، يتم الاحتفال باليوم الدولي لمساندة ضحايا التعذيب في 26 حزيران، وهو يوم تم تخصيصه من قبل الأمم المتحدة في عام 1997 ليكون ذكرى تمر بمثابة تذكير صارخ بضحايا التعذيب حول العالم ولدعم الجهود المبذولة لمكافحة هذا الجرم الفظيع. التعذيب، الذي يعد جريمة بموجب القانون الدولي، يمثل أحد أسوأ أشكال الانتهاك لحقوق الإنسان، ويهدف إلى قمع، إخافة، وإجبار الأفراد على الإدلاء باعترافات أو معلومات تحت طائلة العنف الشديد والقسوة النفسية.

إن الاحتفاء باليوم الدولي لمساندة ضحايا التعذيب هو إعلان عن معركة مشتركة ضد هذه الممارسات البشعة، ونضال مستمر من أجل تحقيق العدالة والرحمة وإعادة التأهيل لأولئك الذين عانوا من هذه التجاوزات. تغطي هذه الجلسات والأحداث المكرسة لهذا اليوم جهود منظمات المجتمع المدني، والحكومات، والهيئات الدولية لتسليط الضوء على الحالات الفردية والعامة للعنف والتعذيب، وتوفير المساعدة للناجين والتأكيد على أهمية محاسبة المسؤولين.

في العراق، هذا اليوم يحمل دلالة خاصة على خلفية عقود من الصراعات والحروب التي عصفت بهذا البلد، وخلفت وراءها أجيالًا من الضحايا الذين تعرضوا لأبشع أنواع التعذيب والانتهاكات. تاريخ العراق الحديث مليء بالأحداث الدموية والنزاعات المسلحة التي نشرت الظلم والجور وارتكبت خلالها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. من السجون السرية وسوء معاملة المعتقلين إلى أساليب التعذيب الممنهج خلال الأنظمة القمعية، تعيد هذه الذكريات المؤلمة إلى الأذهان أهمية الأهداف المرسومة لهذا اليوم الدولي.

بعد سقوط النظام السابق في عام 2003، شهد العراق مرحلة جديدة مع ظهور تحديات معقدة في الشأن الأمني والسياسي والاجتماعي. في هذه المرحلة الحاسمة، تكافح البلاد للتخلص من مظاهر وتجليات الماضي الكئيب، وتسعى الحكومة ومنظمات المجتمع المدني للوصول إلى تحقيق العدالة والشفافية فيما يتعلق بجرائم التعذيب. تبرز الجهود المبذولة في العراق لإعادة تأهيل ضحايا التعذيب وتقديم دعم نفسي واجتماعي لهم، بالإضافة إلى وضع خطط قانونية لمحاكمة المسؤولين عن التعذيب ومطالبات بتعويض الضحايا كخطوات إيجابية نحو مستقبل أكثر إنسانية وعدالة.

تعد مراحل التعافي ومرحلة بناء الثقة والمصالحة المجتمعية في العراق ضرورية لجبر الضرر الذي لحق بالضحايا ولكل الأمة. من المهم التأكيد أن الجروح الناجمة عن التعذيب لا تلتئم بسهولة، بل تتطلب جهودًا متضافرة ومتواصلة على صعيدي الفرد والمجتمع.

إن الاحتفاء باليوم الدولي لمساندة ضحايا التعذيب هو فرصة للتذكير بأن التعذيب لا يزال واقعًا مؤلمًا يجب محاربته بكل السبل. في العراق، كما هو الحال في بقية أرجاء العالم، يسعى هذا اليوم إلى حشد الجهود للتكاتف مع الضحايا، لتقديم الدعم لهم واستعادة كرامتهم، والعمل بلا كلل لخلق عالم يخلو من أهوال التعذيب وقسوته. يشكل هذا اليوم جسرًا يربط بين أصوات الضحايا

وصناع القرار، محفزًا على اتخاذ تدابير حازمة لمنع وقوع هذه الانتهاكات مستقبلاً والالتزام بالمبادئ العالمية لحقوق الإنسان.

استشهاد العشرات تحت التعذيب

كشفت وزارة الأسرى والمحررين في قطاع غزة عن استشهاد العشرات وعن أشكال التعذيب الممنهج في سجون الاحتلال، في حين نقل أول محام زار معتقل سديه تيمان الإسرائيلي شهادات عن الانتهاكات الإسرائيلية.

وأوضحت الوزارة أن 36 أسيرا من غزة الذين اعتقلوا خلال الحرب استشهدوا تحت التعذيب، ونتيجة ظروف الاعتقال القاسية.

وأشارت إلى استشهاد 54 أسيرا من كل المحافظات الفلسطينية نتيجة التعذيب والاعتداء الممنهج.

كما نقلت الوزارة شهادات معتقلين أُفرج عنهم، كشفوا خلالها عن أشكال التعذيب التي يتعرض لها الأسرى الفلسطينيون، ومنها الصعق بالكهرباء والتجويع وتقييد الأيدي والأرجل وإطلاق الكلاب الشرسة، وممارسات أخرى.

ومن بين صنوف التعذيب أيضا تعرية المعتقلين بالقوة وبشكل متكرر، وتعصيب الأعين لفترات طويلة، والتجويع الممنهج، والشبح (تعليق بالسلاسل)، والحفر على الجسم بآلة حادة، فضلا عن الحرمان من النوم والاستحمام والرعاية الطبية، والتعرض لدرجات حرارة منخفضة، ودعوة مسؤولين ومدنيين لمشاهدة عمليات التعذيب، والكثير من الانتهاكات الجسيمة.

وفي مقابلة مع الجزيرة، قال المحامي خالد محاجنة -الذي يعد أول محام يدخل معتقل سديه تيمان الإسرائيلي في صحراء النقب- إن المعتقلين الفلسطينيين يتعرضون لصنوف من التعذيب، بينها الاغتصاب والضرب والإهمال الطبي.

وكشف محاجنة أن بعض الأسرى بترت أطرافهم، وخضعوا لعمليات جراحية دون تخدير، وذلك وفق ما أبلغه به الصحفي المعتقل محمد عرب.

وفي بيانها، لفتت وزارة الأسرى والمحررين في قطاع غزة، إلى أن سجون الاحتلال أصبحت عبارة عن مقابر جماعية لآلاف الأسرى الفلسطينيين، وسط تجاهل من مؤسسات دولية.

وأضافت أن الاحتلال يواصل تنفيذ جرائمه ضد الإنسانية بحقهم، وأبرزها جريمة الإخفاء القسري. وحمّلت الوزارة إسرائيل المسؤولية الكاملة عن هذه الجرائم المستمرة بحق الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال.

وطالبت المؤسسات الدولية والحقوقية والأممية بزيارة سجون الاحتلال ومراكز التحقيق كافة، للوقوف والكشف عن ملابسات ما يتعرض له الأسرى من انتهاكات جسيمة وجرائم وحشية.

والخميس، أعلن نادي الأسير الفلسطيني أن عدد المعتقلين في السجون الإسرائيلية وصل لنحو 9300 منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

ومنذ بدء المعارك البرية في القطاع الفلسطيني في 27 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، اعتقلت إسرائيل آلاف الفلسطينيين، بينهم نساء وأطفال وعاملون في الطواقم الصحية والدفاع المدني، جرى الإفراج لاحقا عن عدد ضئيل منهم، في حين لا يزال مصير الآخرين مجهولا، دون وجود إحصائية رسمية.

ويشن الجيش الإسرائيلي منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حربا مدمرة على غزة خلفت عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، معظمهم أطفال ونساء، مما استدعى محاكمة تل أبيب أمام محكمة العدل الدولية بدعوى إبادة جماعية. نقلًا عن موقع “الجزيرة نت”.

تعذيب وترهيب وتمييز

أكدت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان تعرض أسرى الحرب الروس في أوكرانيا للتعذيب خلال الفترة من ديسمبر 2023 إلى فبراير 2024.

وزار موظفو المفوضية 44 سجينا روسيا في مقاطعات دنيبروبيتروفسك وخاركوف ولفوف ونيكولايف وسومي وفينيتسا وزابوروجيه.

وقالت المفوضية في تقرير منشور على موقعها الإلكتروني: "على الرغم من أن أسرى الحرب الروس هؤلاء لم يقدموا أي ادعاءات بحدوث تعذيب خلال زيارة موظفينا لهم، إلا أنهم قدموا تقارير موثوقة عن التعذيب أو سوء المعاملة بعد إجلائهم من ساحة المعركة".

وأشارت إلى أن "8 جنود قالوا إنهم احتجزوا في أقبية مبان خاصة، على الأرجح في مقاطعة خاركوف. وقضى بعضهم هناك عدة أيام، والبعض الآخر لمدة تصل إلى شهر ونصف الشهر. وأفاد 13 أسير حرب بأنهم تعرضوا للضرب بعصي خشبية أثناء الاستجواب، كما تعرضوا للصعق الكهربائي. كما نفذ الأوكرانيون عمليات إعدام".

وأكدت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان أن الأقلية الناطقة باللغة الروسية في أوكرانيا تعاني من التمييز مقارنة بالأقليات التي تتحدث لغات إحدى دول الاتحاد الأوروبي.

وأضافت: "على الرغم من أن القانون يعد خطوة مهمة إلى الأمام في تحسين حقوق الأقليات القومية، إلا أنه يحافظ على معاملة تفضيلية تمييزية بين الأقلية القومية التي تتحدث لغة رسمية والأقلية القومية التي تتحدث لغة من لغات الاتحاد الأوروبي".

وقالت المفوضية إن رجال الدين وأبناء رعية الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية لا يزالون يتعرضون للترهيب خلال الفترة المشمولة بالتقرير (من ديسمبر 2023-فبراير 2024).

وأشارت إلى أنها سجلت 6 حالات في 5 مناطق عندما اقتحمت مجموعات من الأشخاص بالقوة الكنائس الأرثوذكسية الأوكرانية. 

وأضافت أن سلطات كييف لا تحاكم بشكل كاف المسؤولين عن العنف ضد المدنيين وأسرى الحرب.

وقد وثق موظفو المفوضية عمليات الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري والتعذيب وسوء المعاملة، بما في ذلك العنف الجنسي، ضد المدنيين المرتبطين بالنزاع، وكذلك الجنود الروس الذين تم أسرهم.

كما وثقوا إعدام ما لا يقل عن 25 عسكريا روسيا في عامي 2022 و2023.

وختمت بالقول إنه على الرغم من أن سلطات كييف فتحت ما لا يقل عن خمس قضايا جنائية بتهمة ارتكاب انتهاكات ضد 22 شخصا، إلا أنه لم يتم إحراز تقدم في التحقيق أو مقاضاة مثل هذه الحالات. نقلًا عن موقع “RT”.

التعذيب الأبيض

" طلبت من أحد الحراس إن كان بإمكانه إغلاق الباب بدون رجة، أجابني بهدوء إنها أوامر المدير للتأكد من انغلاقها فعلا، وكثيرا ما رجوناهم من بعد، لكن بعض الساديين منهم كانوا يتلذذون بكل ما يثير غضبنا ويغلقون الأبواب بضجيج أكبر، وقد كنا نعي بأننا نخضع لحرب أعصاب".

هذا مقطع من مذكرات "تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم" للراحل محمد الرايس، أحد أشهر الناجين من سجن تازمامارت السابق بالمغرب، وهو يروي جانبا من التعذيب "الأبيض" الذي كان يتعرض له إبان الاعتقال، إلى جانب عدد من زملائه العسكريين الذين اتهموا بالمشاركة في محاولتي الانقلاب على الملك الراحل الحسن الثاني عامي 1972 و 1973.

ما ذكره الرايس في مذكراته يجسد جانبا من معاناة سجناء ومعتقلين في عدد من السجون، أشهرها سجن إيفين بإيران، الذي عرف بممارسته للتعذيب "الأبيض"، وسجن أبو غريب بالعراق، ومعتقل غوانتانامو الذي أنشأته الولايات المتحدة في خليج غوانتانامو في كوبا.

التعذيب الأبيض أحد أكثر أساليب التعذيب تأثيرا وضغطا على المعتقلين السياسيين والمنتقدين والمحتجين على السلطة الحاكمة لأنه يعرض نفسية المعتقل لضربات تبقى آثارها لفترة طويلة وربما للأبد، بحسب تقرير أمريكي معنون بـ "No touche torture " والذي اعتمد على مذكرات تعذيب لمعتقلين، وعلى تقرير للجنة المخابرات بمجلس الشيوخ رفعت عنه السرية سنة 2014.

ارتبط هذا النوع من التعذيب بسجن "إيفين" في إيران، أحد أشهر السجون الإيرانية بعد الثورة عام 1979، اشتهر باحتجازه للمعتقلين السياسيين وسجناء الرأي حتى لقب بـ "جامعة إيفين" من قبل عدد من المعارضين الإيرانيين نظرا لقيمة ضيوفه المعتقلين.

وتطرقت لهذا النوع من التعذيب عدد من المنظمات الحقوقية الدولية من ضمنها منظمة العفو الدولية التي أشارت عام 2004 إلى التعذيب الذي مورس على أحد المعتقلين في سجن إيفين والذي وضع في غرفة بدون نوافذ وكل شيء باللون الأبيض من بينها وجبة الأرز التي تقدم لهم.

وقد ذكر أحد الصحافيين المعتقلين الذين مروا بتجربة التعذيب الأبيض أن أسوأ ما في هذا النوع من التعذيب "أنك لا تستطيع أن تشفى منه حتى بعد إطلاق سراحك"، كما ورد في تقرير العفو الدولية.

ويجري الاعتماد على هذا النوع من التعذيب بغرض صرف نظر مجموعات ودعاة حقوق الإنسان، ومحو ذاكرة المستجوب معه عن طريق عدة تقنيات منها الحرمان من النوم كما ورد في التقرير الأمريكي.

الحرمان من النوم

من بين الأساليب التي استخدمها المحققون في وكالة الاستخبارات الأمريكية مع السجناء في معتقل غوانتنامو هو الحرمان من النوم بحسب ما ورد في تقرير مجلس الشيوخ الأمريكي، إذ يجبر المعتقلون على البقاء مستيقظين لمدد تصل إلى 180 ساعة وهو ما يعرضهم لاضطرابات نفسية وعقلية.

كما كان المعتقلون يتركون في ظلام تام في غرف معزولة بحسب نفس المصدر، بالإضافة إلى التهديد بالاعتداء الجنسي والإذلال، إذ ذكر التقرير أن أحد مسؤولي وكالة المخابرات الأمريكية وجه تهديدات لمعتقلين بإيذاء ذويهم، بما في ذلك تهديد أحد المعتقلين بالاعتداء جنسيا على والدته، وتهديد آخر بنحر والدته.

من أساليب التعذيب التي ذكرت في التقرير، تصوير المعتقل عاريا وإجبار السجناء على لبس الحفاظات ومنعهم من الذهاب لدورات المياه.

تقول المحامية والحقوقية العراقية شيرين زنكنة لبي بي سي، من خلال تعاملها المباشر مع عدد من السجناء والمعتقلين، وزياراتها لعدد من السجون، تحفظت عن ذكر أسمائها لأسباب مهنية، إن هنالك أساليب يتم اعتمادها لإلحاق أذى نفسي بالسجناء، يشمل "الإيحاء بأن الشخص على وشك أن يتم قتله، والحبس الانفرادي والابتزاز وإجبار الشخص بأن يقوم بتعذيب شخص آخر، أو إجباره على مشاهدة اعتداء جنسي أو حرمان الشخص من النوم وحلاقة الشعر وتغطية الرأس"

والغرض من هذه الأساليب انتزاع الاعتراف بقوة من المعتقل أو السجين، تقول شيرين.

وتضيف "من أكثر الأساليب التي يتم اعتمادها أيضا، الاحتفاظ بالضحية في التوقيف لفترات طويلة دون محاكمته وبدون مسوغ مشروع مما يجعله في حالة خوف و قلق دائمين".

وتردف قائلة "رغم أن العراق انضم لاتفاقية مناهضة التعذيب أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة رقم "30" لسنة 2008، إلا أن القانون لم يُفعّل، ولم يجد طريقه للتنفيذ ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات بحق السجناء"

بالإضافة إلى ذلك "نجد الاكتظاظ والأمراض التي تنتشر في عدد من السجون منها السل والجرب" تقول المحامية العراقية.

الظلام

في مذكراته المعنونة بـ"الزنزانة رقم 10" التي يسرد فيها تجربته في تزمامارت، يقول أحمد المرزوقي غداة وصولهم إلى أحد أشهر المعتقلات السرية في المغرب، وهو يصف الزنزانة التي شكلت مستقرهم لمدار عقدين من الزمن"..كل زنزانة كانت عبارة عن علبة ضيقة من الإسمنت المسلح، طولها ثلاثة أمتار وعرضها مترين ونصف، تسبح ليل نهار في ظلام مطبق، اللهم إلا من خيط نور رمادي باهت كان يتسلل في عز النهار من ثقب في السقف فيعكس على أرضية الزنزانة على شكل دائرة صغيرة شاحبة لا تكاد ترى فيها أصابع اليدين إلا بصعوبة شديدة".

تعصيب العينين والتلاعب بالأعصاب

من أشد اللحظات التي تمر عصيبة على المعتقل، هي اللحظة التي يساق فيها إلى وجهة مجهولة وهو يطرح تساؤلات دون إجابات.

يروي كلا من محمد الرايس ورفيقه في محنة تزمامارت أحمد المرزوقي في مذكراتهما، الطريقة التي جرى بها نقلهم من سجن القنيطرة إلى سجن تازمامارت.

ونطالع فيما كتبه محمد الرايس "..بعد أن فحص كل ملفاتنا بإمعان أعطى الكومندان أوامره بالتنفيذ، عصبوا عيوننا ثم وضعوا الأصفاد في أيدينا ثم ركبونا في شاحنات عسكرية غطيت بعناية...كانت الرحلة الليلية الطويلة مثار حيرتي، طوال المدة قمت بعدة حركات بالحاجبين ونجحت في إزاحة خفيفة للعصابة وتمكنت بهذا من رؤية حراسنا من الدركيين ورجال الأمن".

وفي سياق متصل، يقول أحمد المرزوقي في تصريح لبي بي سي، إن أبرز موقف ظل عالقا في ذهنه هو لحظة إخبارهم- بعد عصب أعينهم وتصفيد أيديهم- أنه سيلقى بهم من على الطائرة في البحر، "فليتخيل الإنسان موقفا كهذا، فأصعب ما في العذاب هو انتظار العذاب وليس العذاب نفسه".

وفي حديث لبي بي سي يروي لنا زين، أحد المعتقلين السابقين في ليبيا، تحفظ عن ذكر اسمه بالكامل خوفا على عائلته التي لا تزال حاليا مقيمة بليبيا، فيما لجأ هو سياسيا إلى فرنسا.

تعرض زين للاختطاف عام 2016 بسبب نشاطه الحقوقي المدني وتدويناته عن مواضيع حقوق الإنسان وحقوق المرأة في ليبيا، حسب قوله.

يقول زين" كنت أحضر مؤتمرا يتعلق بحقوق المرأة، فإذا بملثمين محملين بالكلاشنكوف اقتادوني إلى سيارة وأخذوني إلى وجهة مجهولة"

بقي زين ينتقل من مكان لمكان قيد الاعتقال أو الاختطاف، كما يقول، لمدة سنتين وشهر وتسعة أيام قبل أن يتم ترحيله من ليبيا إلى السودان، بلده الأصل.

" لم أكن أعرف أين أنا ولا من هم هؤلاء، وسيناريو القتل كان حاضرا دائما في ذهني، هددوني بالاعتداء الجنسي وبالقتل وهددوني أيضا بإخوتي وعائلتي" يقول زين.

ويضيف "خلال وجودي داخل الزنزانة كنت أسمعهم يتحدثون فيما بينهم، كنت أعرف من خلالهم أين أنا، لأنهم كانوا ينقلونني من مكان لمكان، وكانت آخر محطة لي، سجن التوقيف التابع للمخابرات، أخرجوني منه في سيارة مباشرة إلى المطار لترحيلي إلى السودان"

يستحضر زين كيفية التحقيق معه ويقول: "التحقيق كان يتم بعيون معصبة، في زنزانة مظلمة، مع التجويع الممنهج، إذ يصل الأمر في بعض الأحيان إلى وجبة واحدة ليومين أو أكثر، خصوصا في منطقة تاجوراء التي كانت الأسوأ من حيث المعاملة".

معاناة زين لم تتوقف بمجرد ترحيله، فبعد وصوله السودان بدأت مرحلة أخرى من التحقيق والضغط النفسي الذي تعرض له، إذ تم التحقيق معه مرة أخرى حول ما جرى معه في ليبيا.

العزل الانفرادي

في حديثه معنا يقول عبد الله أعكاو المعتقل السابق في تزامامرت: " كنا نعيش في زنازين معزولة تفتح ثلاث مرات في اليوم، الشمس كانت منعدمة، ويتم منحنا ما يشبه الأكل حتى نموت رويدا رويدا".

ويردف قائلا: "مقومات الحياة البسيطة والأساسية كانت منعدمة جدا، ومن كان يمرض منا يتم التخلي عنه حتى يموت في زنزانته ليخرجوه في لحافه ويرموه في الحفرة".

وفي هذا الصدد يقول زميله الرايس "بمجرد أن يقضي عقوبته يلقى به في الخارج وقد جفت ذاكرته ووضعت عليها بطاقة كتب عليها: شخص مروض تائب مدجن .. لكنه نصف أحمق".

ويقول المرزوقي "نعم كانت معنوياتنا قد نزلت إلى الحضيض وكانت أغلى أمنياتنا أن نموت موتة فجائية تقينا أهوال الاحتضار الطويل البطيء الذي كان فيه السجين ينقلب إلى جيفة مهترئة يتكالب على نهشها البعوض والذباب وأنواع لا حصر لها من الحشرات الطائرة والزاحفة".

تشويه السمعة

حول هذا النوع من التعذيب، يقول زين لبي بي سي، إنه من بين التهم التي وجهت له وتم الترويج لها هو "محاولة إفساد المجتمع الليبي بأفكار علمانية، وتلقي مساعدات ودعم من منظمات أجنبية، بالإضافة إلى اتهامي بالإلحاد وبالتجسس".

يذكر أن قضية اختطاف زين وتعذيبه كانت مثار جدل ونقاش عام في ليبيا، تدخلت فيها منظمات حقوقية دولية قبل أن تتم عملية ترحيله إلى السودان.

وذكر التقرير الأمريكي حول التعذيب غير الملموس أنه من بين الأساليب التي تستخدم في التعذيب النفسي والتي تلجأ إليها الاستخبارات الأمريكية أيضا، هي تشويه سمعة المعارضين عبر البروبغاندا أو الدعاية الإعلامية، واللجوء إلى توظيف حرب المعلومات وعالم الاتصالات الإلكترونية أيضا، من خلال نشر معلومات سلبية بشكل يضر بالهدف وهو المعتقل أو السجين، على غرار المدونين والناشطين والصحفيين والمؤثرين في الحياة الاجتماعية عموما أو أي شخص آخر له صوت ومكانة داخل الرأي العام في المجتمع.

ما بعد التعذيب

ماذا بعد الاعتقال والسجن والتعذيب النفسي؟ سؤال وجهناه لبعض ممن تحدثنا معهم في هذا التقرير.

وفي معرض إجابته يقول عبد الله أعكاو، "عذابنا سيستمر، المعاناة النفسية نتعايش معها و ليس لها علاج ولا دواء، هناك من مات من زملائنا بمرض عضال ناتج عن الأزمات النفسية بعد الخروج من تازمامارت".

ويضيف قائلا " لم تكن هنالك رغبة حقيقية لإعادة إدماجنا ومعالجتنا نفسيا بعد حوالي عشرين سنة قضيناها في جحيم تزمامارت، لكن ماذا عسانا أن نفعل سوى أن نحاول العيش"

أما زميله المرزوقي فيقول "لم نعد في تزمامرت اليوم، بل حتى تازمامارت لم يعد قائما كمعتقل، لكنه لازال قائما في داخلنا، تزامامارت يعيش فينا وسيبقى، لا شيء باستطاعته أن يخلصنا من كوابيسه التي مازالت تراودنا". نقلًا عن موقع “BBC News”.

ذات صلة

كل ما في الكون هو حقحنون وتجربة السقوط الحرالمرأة وأقصر الطرق لتحقيق أهدافهاثوابت الديمقراطية والتنمية في أزمنة العولمةالسياسة الخارجية الأميركية في عام 2025