حظر التجويع كأسلوب من أساليب الحرب

جميل عودة ابراهيم

2024-03-21 03:50

 لا تكاد تنتهي حرب حتى تبدأ حرب أخرى، والحروب الكونية مازالت مفتوحة على مصراعيها، نتيجة الأزمات التاريخية المستعصية. وكثيرا ما تلجأ الأطراف المتحاربة إلى استخدام كل الوسائل والأدوات المتاحة التي تمكنها من تحقيق أهدافها العسكرية ضد خصومها. ونادرا ما تتقيد بالقوانين الوطنية أو الدولية التي تحظر تعمد إلحاق الضرر بالسكان المدنيين. ومن بين الوسائل التي يستخدمها المتحاربون هي سياسة الحصار والتجويع بحق المقاتلين الأعداء أو المدنيين لحين إخضاع الخصم، وتحقيق النصر.

والسؤال هنا كيف تناول القانون الدولي الإنساني مسألة الحصار والتجويع المتعمد للسكان؟ وماهي الإجراءات التي ينبغي أن تأخذها الأطراف المتحاربة لتجنب التجويع المتعمد؟ وماهي العقوبات الدولية التي يفرضها القانون الدولي الإنساني على الطرف الذي يرتكب جريمة التجويع؟ وكيف نفهم سلوك إسرائيل إزاء المدنيين الفلسطينيين في غزة؟ وماذا ينبغي أن يقوم به المجتمع الدولي والمنظمات الدولية لمساءلة الإسرائيليين ومحاسبتهم دوليا؟ 

مع تزايد النزاعات المسلحة في العصر الحديث تلجأ الأطراف المتنازعة -دولا كانت أو جماعات- إلى سياسة حصار الدول والمدن المأهولة بالسكان المدنيين كنوع من العقاب الجماعي، أو وسيلة للضغط على الخصم لتحقيق الأهداف والحصول على تنازلات، مما يترتب على ذلك تجويع للمدنيين.

إذ يشدد القانون الدولي الإنساني على حظر استعمال التجويع كوسيلة حرب ضد الأشخاص المدنيين، وحظر مهاجمة الأعيان التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين أو تدميرها، أو الاستيلاء عليها، أو تعطيلها لهذا الغرض، وحظر تهجير السكان المدنيين بالقوة حظرا عاما، نظرا إلى أن هذا التهجير غالبا ما يؤدي إلى انتشار المجاعة.

ويؤكد القانون الدولي الإنساني على ضرورة الالتزام بقبول أعمال الإغاثة ذات الطابع الإنساني وغير المتحيز المخصصة للسكان المدنيين وفقا للشروط المنصوص عليها في القانون الدولي الإنساني، ويحث القانون أطراف النزاع الحفاظ على شروط تسمح للسكان المدنيين بتأمين معاشهم، لاسيما بالامتناع عن اتخاذ أي تدبير يستهدف حرمانهم من موارد تموينهم أو الوصول إلى زراعتهم أو أراضيهم الصالحة للزراعة، أو حرمانهم بصفة عامة من المواد التي لا غني عنها لبقائهم.

يحظر القانون الدولي الإنساني الحديث، تجويع المدنيين –أي حرمانهم من الطعام عمدًا– بوصفه أحد أساليب الحرب. ترد هذه القاعدة، المستمدة من مبدأ التمييز المنصوص عليه في القانون الدولي الإنساني، للمرة الأولى في البروتوكولين الإضافيين لعام 1977، في المادة 54(1) من البروتوكول الإضافي الأول، وفي المادة 14 من البروتوكول الإضافي الثاني) واليوم تعتبر قانونًا عرفيًّا في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية.

وينص نظام روما الأساسي في المادة 8 (2) (ب) في الفقرة (25) على أن «الاستخدام المتعمد لتجويع المدنيين باعتباره أسلوبًا من أساليب الحرب» يعد جريمة حرب في النزاعات المسلحة الدولية، وأن أركان جريمة الحرب المتمثلة في التجويع كأسلوب من أساليب الحرب هي (1 – أن يحرم مرتكب الجريمة المدنيين من مواد لا غنى عنها لبقائهم على قيد الحياة.2 – أن يتعمد مرتكب الجريمة تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب.3 – أن يصدر السلوك في سياق نزاع مسلح دولي ويكون مقترنا به.4 – أن يكون مرتكب الجريمة على علم بالظروف الواقعية التي تثبت وجود نزاع مسلح).

تأتي جريمة التجويع في الغالب من خلال فرض الحصار العسكري على السكان. فهل الحصار العسكري بحد ذاته محظور في القانون الدولي الإنساني أم لا؟ يبدو أن رأي غالبية المختصين يميل إلى عدم حظر الحصار العسكري حتى لو تسبب في مجاعة سكانية، طالما أن الغرض منه تحقيق هدف عسكري، وليس تجويع السكان المدنيين.

فالحصار العسكري غير محظور إذا كان يحقق غرضا عسكريا مشروعا، حتى ولو كان يؤدي إلى هدف أخر، وهو إلى تجويع المدنيين. إلا إذا ثبت بالدليل أن هدف الحصار العسكري هو تجويع السكان فقط، أو أن تجويع السكان هو المقصود الأساسي من الحصار. ويصعب جدًّا من الناحية العملية، إن لم يكن مستحيلًا، إثبات أن الغرض -وعلى وجه التحديد- الغرض الوحيد أو الأساسي للحصار العسكري هو تجويع المدنيين. غير أنه يمكن القول إن إخفاق مساعي إجلاء المدنيين أو على الأقل الفئات الأضعف منهم إلى جانب حرمانهم من دخول المساعدة الإنسانية ينبغي أن يكون كافيًا للدلالة على أن الغرض من الحصار هو تجويع المدنيين. 

لكن استنادًا إلى مفهوم الغرض في (المادة 54/1 من البروتوكول الأول الإضافي)، أن حظر الأعمال التي تؤثر على تجويع السكان المدنيين، والواردة في البروتوكولات الإضافية تعد أوسع نطاقًا. ونتيجة لحظر تجويع المدنيين، فإن القانون الدولي الإنساني يحظر كذلك مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل الأعيان والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين (مثل المواد الغذائية والمناطق الزراعية التي تنتجها والمحاصيل والماشية وشبكـات مياه الشرب والري) وذلك لغرض محدد هو تجريدها من قيمتها باعتبارها من مقومات حياة السكان المدنيين أو الطرف الخصم، مهما كان الباعث، سواء كان بقصد تجويع المدنيين أم لحملهم على النزوح أم لأي باعث آخر. 

وهذا ينطبق على قطاع غزة المحاصر، منذ سنة 2006، فقد حصد الحصار جميع مقومات الحياة الإنسانية، وأصبحت حياة السكان لا تطاق، تدفع الشباب للهجرة في عرض البحر للبحث عن مستقبلهم، الذي زاد قساوة في أكتوبر 2023، فقد فرضت إسرائيل سياسة تجويع غير مسبوقة، وهذا ما عبر عنه وزير الحرب الإسرائيلي (يوآفغالانت) حيث فرض حصارًا كاملًا وشاملًا على غزة، من خلال تطبيق قرار بالحصار التام -لا كهرباء، لا طعام، لا وقود، كل شيء مغلق- وتواصل في قراراته لمنع وصول المساعدات. 

استنادًا إلى ما سبق، خلقت سياسة التجويع في القطاع وضعًا صحيًا متدهورًا، أدى إلى ظهور أمراض عديدة قاتلة ساعدت في الإبادة، مثل سوء التغذية ونقص الفيتامينات التي تسبب انهيار البنية الجسدية للإنسان الغزاوي وإصابته بالنحافة والهزال، والتهاب الأمعاء، والإسهال، وفقر الدم والتهاب الرئة، كل ذلك وأكثر يعرفه العالم بجميع منظماته ومؤسساته الدولية دون تحريك ساكن، حتى عندما كان الناس ينتظرون في نهاية شباط/ فبراير2024، الحصول على كيس طحين، قامت إسرائيل بقصفهم مما تسبب بقتل أكثر من مئة مواطن وإصابة أكثر من ألف في منطقة دوار النابلسي، وقبلها بساعات تم استهداف المدنيين الذين ينتظرون المساعدات وتم قتل العشرات من طوابير الجوعى.

نددت منظمة العفو الدولية في الأول من آذار/مارس 2024، بالمجزرة التي ارتكبتها إسرائيل بحق الفلسطينيين أثناء محاولتهم الحصول على المساعدات الغذائية شمالي غزة، وأكدت المنظمة أن إسرائيل باعتبارها القوة المحتلة ملزمة بضمانَ حصول الفلسطينيين على الاحتياجات الأساسية والمساعدات، مشددة على أن إسرائيل تنتهك القانون الدولي، وقرارات محكمة العدل الدولية لمنع الإبادة. كما أطلقت الأمم المتحدة تحذيرات من المجاعة، حيث بينت في تصريح لها أن "القصف الوحشي الذي جاء بعد الحصار الإسرائيلي غير القانوني المستمر منذ 17سنة، هو المسؤول عن الأزمة الإنسانية الكارثية في غزة".

لذلك كله فان الإجراءات الإسرائيلية تتعارض مع القانون الدولي، حيث تنص المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية على أن إخضاع الجماعة عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً، ينطبق عليه مفهوم الإبادة الجماعية، كما تنص المادتان 55 و59، على ضرورة تزويد السكان في المواد الغذائية، وألا تمنع الدول وصول الإمدادات الغذائية، والسماح بإغاثة السكان. وعلى نفس المنوال، نص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والقاعدة 156 من القانون الدولي الإنساني العرفي إلى أن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني تشكل جرائم حرب، ومن ضمنها سياسة التجويع للمدنيين، وإعاقة تزويدهم بمؤن الإغاثة.

بناء على ما تقدم فأننا نرى ما يأتي:

1- تحظر القوانين الدولية التجويع المتعمد للمدنيين، سواء من خلال فرض الحصار، أو تدمير المحاصيل، أو منع وصول المساعدات الإنسانية، وأن المادة (الثامنة) من نظام المحكمة الجنائية الدولية تنص على أن تجويع المدنيين عمدا بحرمانهم من المواد الضرورية التي لا غنى عنها لبقائهم بما في ذلك تعمد عرقلة الإمدادات الإغاثية الإنسانية يعد جريمة حرب.

2- رغم وجود نصوص قانونية دولية تحظر سياسية التجويع، إلا أن الأطراف المتحاربة كثيرا ما تلجأ إلى تبرير ذلك السلوك المحرم إلى كونه جزء من حقوق الأطراف المتحاربة في القانون الدولي في ردع العدو، وإجباره على الاستسلام والخضوع. لذاك فإن جريمة التجويع بسبب الحصار العسكري لابد أن تجد لها نصوص دولية واضحة وملزمة تضمن عدم تجويع المدنيين، وإيقاع أقصى درجات العقاب بحق من يلجأ إلى ارتكاب مثل هذه الممارسات غير الإنسانية بحق جمهور المدنيين.

3- في حرب إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة، استخدمت إسرائيل أسلوب الحصار العسكري من البر والجو والبحر، ومنعت عن الفلسطينيين دخول الغذاء والماء والدواء بشكل نهائي، ولجأت إلى تدمير الأعيان والممتلكات كالمزارع وشبكات الماء تدميرا كليا، وألجأت السكان المدنيين إلى ترك منازلهم وسكناهم إلى مناطق أخرى، وعرضت حياتهم إلى الخطر المحدق. وطبقت سياسية الأرض المحروقة بالكمال على الأراضي الفلسطينية في غزة. وأضحى الحصار الإسرائيلي خير وسيلة للقضاء على الفلسطينيين من السكان المدنيين بقصد الخلاص منهم، أو بقصد دفعهم إلى النزوح والتشرد، ومازال الحصار الإسرائيلي مستمرا. 

4- على إسرائيل أن تتوقف فورا عن استخدام تجويع المدنيين أسلوبا للحرب، والالتزام بحظر الهجمات على الأهداف الضرورية لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة وترفع حصارها عن قطاع غزة. وعلى إسرائيل أن تعيد توفير المياه والكهرباء، وتسمح بدخول الغذاء والمساعدات الطبية والوقود التي تمس الحاجة إليها إلى غزة عبر المعابر، بما فيها كرم أبو سالم.

5- للأسف رغم سياسة القتل والتجويع التي تتبعها إسرائيل بحق المدنيين الفلسطينيين إلا أن المنظمات الدولية وقفت عاجزة عن القيام بواجبها في تقديم الإمدادات الإغاثية الغذائية للفلسطينيين إلا القليل منها. وصمت بعضها لاعتبارات سياسية ومالية كان جريمة أيضا لا يمكن غض النظر عنها، ولو بعد حين، فدعاة حقوق الإنسان من منظمات وشخصيات دولية كلهم أو جلهم سقطوا في اختبار غزة، فالتصديق بالدفاع عن حقوق الإنسان قبل جرائم إسرائيل في غزة غير التصديق بها بعد جرائم إسرائيل في غزة.

..........................................

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2024

هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

http://ademrights.org

ademrights@gmail.com

https://twitter.com/ademrights

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا