الحقوق المدنية والسياسية في عهد الإمام علي (ع)
جميل عودة ابراهيم
2023-04-10 07:03
الحقوق المدنية والسياسية هي فئة من الحقوق التي تحمي حرية الأفراد من التعدي من قبل الحكومات والمنظمات الاجتماعية والأفراد، والتي تضمن قدرة الفرد على المشاركة في الحياة المدنية والسياسية للمجتمع والدولة دون تمييز أو اضطهاد.
ومن أبرز الحقوق المدنية والسياسية التي تضمنتها الاتفاقيات الدولية، كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية هي: المساواة وعدم التمييز في التمتع بالحقوق والحريات الأساسية، الحق في الحياة، حظر الاعتقال أو الحجز أو النفي التعسفي، الحق في المحاكمة العادلة، الحق في حرية الحركة والتنقل، الحق في الجنسية وعدم الحرمان منها، الحق في الزواج، حق التملك، الحق في حرية الفكر والوجدان والدين، الحق في حرية الرأي والتعبير، الحق في حرية الاشتراك في الاجتماعات والجمعيات السلمية، الحق في الانتخابات الدورية، وفي إدارة الشؤون العامة للبلد، والحق في تقلد الوظائف العامة بالتساوي مع الآخرين...
وتتميز الحقوق المدنية والسياسية بميزتين أساسيتين، وهما: (أولاً: أنها حقوق سلبية والمقصود بذلك أنها لا تتطلب من الدولة مواردا كبيرة من أجل تحقيقها إذ انه لا يتطلب من الدولة سوى عدم انتهاكها. ثانياً: أنها حقوق قابلة للتنفيذ المباشر الفوري، ومعنى ذلك أن تلك الحقوق يجب أن تطبق وتحترم فورا، ولا تحتمل أي تأجيل نظرا إلى الخطورة الكبيرة التي قد تحصل في حال الامتناع عن تطبيقها وإعمالها الكامل على الأفراد) وقد أولى المجتمع الدولي اهتماما كبيرا فيما يتعلق بالحقوق المدنية والسياسية وإحقاقها وضمان تعزيز الأفراد بالتمتع بها سواء كان في مجال وضع المعايير اللازمة لنفاذها أو في الرقابة على تطبيقها.
لقد ضرب الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام -منذ ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة- مثلا رائعا على التأكيد على الحقوق المدنية والسياسية للناس جميعا دون استثناء أو تمايز بين مواطن وآخر أو بين مسلم وغير مسلم، واستطاع رغم فترة حكمه القصيرة أن يجسد هذه الحقوق، وأن يمنحها لمواطني الدولة الإسلامية حتى كان المسلمون يتمتعون بحقوقهم في الحياة والحرية والفكر والحكم والمعارضة من دون أن يتعرض لهم أحد لا من رجال السلطة، ولا من أفراد المجتمع الآخرين.
وهنا نذكر ثلاثة حقوق مدنية وسياسية كان الإمام علي عليه السلام قد أولاها اهتماما، وهي:
1. حق المساواة وعدم التمييز بين الناس:
من القواعد الأساسية للقانون الدولي لحقوق الإنسان، أن كل الناس سواسية أمام القانون، ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة دون أية تفرقة. وقد نصت المادة (٧) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن (الناس جميعا سواء أمام القانون، وهم يتساوون في حق التمتع بحماية القانون دونما تمييز، كما يتساوون في حق التمتع بالحماية من أي تمييز ينتهك هذا الإعلان ومن أي تحـريض على مثل هذا التمييز).
ولا شك أن الشريعة الإسلامية وضعت مبادئ المساواة والعدالة والحرية في خط واحد، يكمل أحدهما الآخر، لأن هذه المبادئ هي التي تعبر عن كرامة الإنسان، التي تنشدها حقوق الإنسان في الدساتير والصكوك الدولية، فالمجتمع الذي لا مساواة فيه لا حرية فيه؛ ولا عدل؛ ولا سلام، ويكون مجتمعًا عنوانه الظلم والطغيان، وسيطرة القوي على الضعيف، والغني على الفقير.
من هذا المنطق فان منظور الإمام علي (ع) لتطبيق العدالة ينطلق من كون المساواة لا تتحدد بالمساواة في العيش والرزق فحسب، إنما يتعداه إلى إنصاف الناس في كل شيء. ولذلك شدد الإمام على تطبيق المساواة في كل شيء، كي يشعر الناس بالعدل، ويسود المجتمع مظاهر الحق والعدل والمساواة. وقد أوجب ذلك على الحكام أنفسهم، إذ تتحقق العدالة الاجتماعية حينما يكون الحكام عدولا.
ولهذا كتب الإمام عهدا إلى محمد بن أبي بكر حين قلده مصر هو بمثابة برنامج عمل لتطبيق مبدأ العدالة الإنسانية (فاخفض لهم جناحك، وألن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم...) وقد تجسد ذلك بقوله لما عوتب على التسوية في العطاء (أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه!... لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما المال مال لله)
ولم يُفرق الإمام (ع) بين رعيته على أساس الانتماء والعقيدة، فقد شكلت المواطنة غايته في سياسة الناس، فلم يكن الاختلاف يؤذي الإمام ما دامت المواطنة جامعا كليا للأمة، فكل ما عداها يدخل دائرة الجزئية والفرعية المحددة التي لا يمكن لها أن تكون مقياسا لوجودية الإنسان على الأرض. فالناس في منظوره متساوون على أساس العطاء والتفاعل الإنساني، فمقدار ما يقدمه الإنسان للأمة يكون مقدار لاحترامه، وحفظ وجوده على أساس التعايش السلمي. وهذا المعنى يجسده في عهده لمالك الأشتر عندما ولاه مصر قائلا (وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم؛ فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق).
2. حق حرية الفكر والوجدان:
إن الحرية هي التعبير الطبيعي عن نزوع الذات البشرية إلى الانعتاق من كل المقيدات والمكبّلات التي تحول دون تحقيق ذاته، وتنمية طاقاته العقلية والنفسية والوجدانية. والحرية حق أساسي طبيعي يتقرر منذ اللحظات الأولى لولادة الإنسان. وقد نصت المادة (18) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على حرية الفكر والوجدان والدين (لكل شخص حق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته فـي تغييـر دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامـة الشـعائر والممارسـة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حده).
وقد جاء الإسلام ليرفع من مكانة الإنسان -من حيث هو إنسان– فكرّمه وأنعم عليه بنعمة العقل ورزقه من الطيبات وفضّله على سائر المخلوقات، يقول (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَم وَحَمَلْنَاهُمْ ِفي الْبَرِّ وَالْبَحْر وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّن خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) والحرية هي روح الدين الإسلاميّ، وهي أعزّ شيء على الإنسان بعد حياته، بفقدانها تفقد الآمال، وتبطل الأعمال، وتموت النفوس، وتتعطل الشرائع، وتختل القوانين، فيصير الفتور والانحطاط والتقاعس، لمن ألفو الاستبداد والذّل والهوان.
لذلك كان حق الحرية الدعامة الأساسية في منظومة حقوق الإنسان عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فالإمام يؤمن أن الحرية تنبع أولاً من داخل الإنسان: من عقله وروحه فيوجه (عليه السلام) أمراً أو نصيحة أو درساً أخلاقياً للإنسان في أي مكان أو زمان قائلاً (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرًّا) وهنا يُحمِّل الإمامُ الإنسانَ مسؤولية نيل الحرية والمحافظة عليها، وكذلك نشر الوعي ضمن الأمة.
فحرية الإنسان لا توجد بقانون أو دستور ينظمان الحرية نظرياً، وإنما هي هبة إلهية لا يمتلك سلطان في الأرض أن ينتزعها من الإنسان إلا خاطئاً يجب مواجهته ومقاومته، فكان الإمام يحفز على الجهاد قائلاً: (سيروا إلى قوم يقاتلونكم كما يكونوا في الأرض جبارين ملوكاً ويتخذهم المؤمنون أرباباً، ويتخذون عباد الله خولاً) فمن الأفراد الأحرار، في ظل الشرع الإسلامي، سُيخلق المجتمع الحر الذي ستكون أبعاد الحرية فيه وفق رؤية الإمام، سياسية واقتصادية، وشخصية، وفكرية، ودينية، فضلاً عما يتعلق بموضوع الحرية من رؤية للإمام إلى مسألة العبودية، والإطار المحدد للحرية.
وقد دلّ الإمام (عليه السلام) على أصالة الحرية وعلى تساوي الناس فـي الحكم والقسم كتساويهم فـي الانتساب إلى آدم فقال) أيها الناس! إن آدم لم يلد عبداً ولا أمة، وإن الناس كلهم أحرار، ولكن الله خول بعضكم بعضًا).
3. حقوق المشاركة السياسية:
تعد حقوق المشاركة السياسية من الحقوق السياسية، وهي الحقوق التي تنظم علاقة الإنسان بالدولة، أو بالمجتمع باعتبار أن الإنسان مدني واجتماعي بطبعه، لذلك فان ظاهرة الحكم هي حالة إنسانية. ويعد الإمام علي بن أبي طالب (ع) من السباقين في منح الأمة حقها في المشاركة السياسية؛ التي يمكن تعريفها بأنها (أي عمل تطوعي من جانب المواطن، بهدف التأثير في اختيار السياسات العامة، وإدارة الشؤون العامة، أو اختيار القادة السياسيين على أي مستوى حكومي أو محلي أو قومي).
يقر الإمام (ع) بان السلطة هي من حق الشعب، حيث روي عنه قوله عليه السلام (إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم) فهذا النص المتعلق بـ(الأمر) يفهم منه أن الأداء السياسي يجب أن ينبع من الأمة، وليس حكرا على فرد أو طبقة خاصة حيث يقول عليه السلام (أعظم ما افترضه سبحانه… حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل، فجعلها نظاما لألفتهم، وعزاً لدينهم، فلا تصلح الرعية لا بصلاح الوالي، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية).
ومن نتائج هذا الحق الإسهام بإصلاح المجتمع وإعلاء لقيمه وذلك بالانسجام بين الحكام والمحكومين ويؤدي ذلك إلى الاستقرار السياسي الداخلي والخارجي. وللوصول إلى هذه النتيجة المرجوة يجب أن تنهض الأمة بأعبائها بحسن التناصح والتعاون، ويستطرد الإمام بتثبيت حقوق الأمة في المشاركة السياسية بان السلطة الحاكمة مهما علا شأنها وحرصها في تحقيق العدل والسعي في مراضاة الله ليس من حقها أن تنفرد بالسلطة وتحتكرها. وان حق المشاركة مكفول لكل أفراد الأمة -مهما قل شأن بعضهم على وفق معيار ما أو من ناحية تأثيرهم- فهم أصحاب حق في السلطة ويجب أن يشتركوا فيها إذا ما أرادوا ذلك مساهمين بإيجابية في تحقيق الأهداف بتطوير المجتمع وتقدمه.
ومن أشكال المشاركة السياسية حق الأمة في اختيار حكامها وولاتها، ومن يمكن أن نعرفهم الآن بكبار الموظفين في الدولة والمجتمع. وبعبارة أخرى، ويثبت الإمام شرعية الحاكم من خلال الاعتماد على رضا الناس الذي انعكس آنذاك في نظام البيعة كأسلوب للتعبير عن الإرادة الشعبية، خصوصا مع ضمان الحرية لتلك البيعة، فيقول الإمام عليه السلام (إن الواجب على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل.. أن يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء والسنة) وقدم الإمام نموذجا تاريخيا صادقا لحرية التعبير عن الإرادة الشعبية في بيعته التي يقول عنها عليه السلام (بايعني الناس غير مستكرهين ولا مجبرين، بل طائعين مخيرين).