جريمة هدم قبور البقيع والانتهاكات الشرعية والقانونية
جميل عودة ابراهيم
2015-07-27 08:01
اتفق كل من الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي على فرض الحماية للجسم البشري بعد الوفاة، كما اتفقا على حمايته قبل الوفاة وإثناء حياته، وفرضتا العقوبات على المساس بهذه الحماية.
يشمل القانون الدولي الإنساني على قواعد تخص توقير الموتى، مثل ضرورة البحث عن جثث الموتى ونقلها دون تمييز ضار مع منع نهب الموتى أو المثول بهم وضرورة دفنهم بتوقير. فقد جاء في اتفاقية جنيف الأولى لتحسين حال الجرحى والمرضى بالقوات المسلحة في الميدان، المؤرخة في 12 آب/أغسطس 1949، في المادة 17 (... وعلى أطراف النزاع التحقق من أن الموتى قد دفنوا باحترام وطبقا لشعائر دينهم إذا أمكن، وأن مقابرهم تحترم، وتجمع تبعا لجنسياتهم إذا أمكن، وتصان بشكل ملائم، وتميز بكيفية تمكن من الاستدلال عليها دائما.
وطلبا لهذه الغاية، وعند نشوب الأعمال العدائية، تنشئ أطراف النزاع إدارة رسمية لتسجيل المقابر، لتيسير الاستدلال عليها فيما بعد، والتحقق من هوية الجثث أيا كان موقع المقابر، ونقل الجثث إلى بلد المنشأ. وتنطبق هذه الأحكام بالمثل فيما يتعلق بالرماد الذي تحفظه إدارة تسجيل المقابر إلى أن يتم التصرف فيه طبقا لرغبات بلد المنشأ. وحالما تسمح الظروف، وبأقصى حد عند انتهاء الأعمال العدائية، تتبادل هذه الإدارات عن طريق مكتب الاستعلامات المذكور في الفقرة الثانية من المادة 16 قوائم تبين بها بدقة مواقع المقابر وعلاماتها المميزة، وكذلك بيانات عن الموتى المدفونين فيها).
مع وجود تلك النصوص القانونية الدولية التي تضمن حقوق المتوفىين والمحافظة على قبورهم إلا أن الشريعة الإسلامية كانت هي الأسبق في تقرير ذلك كله مع شمولها وتغطيتها لجميع الجوانب المتعلقة بالموتى، حيث أحاطت أجسام الموتى بسياج من الحماية، وكرمت الإنسان وهو ميت كما كرمته وهو حي، سواء كان مسلما أو غير مسلم، وسواء كان في حالة الحرب أو في حالة السلم، بل أعطت الشريعة الحق لأولياء الميت في الدفاع عن جسد ميتهم منعا من انتهاك حرمته والاعتداء عليه والتمثيل به.
وإذا كانت الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية الداخلية والدولية قد نصت على احترام كرامة الإنسان الميت وحرمت الاعتداء عليه لأي سبب؛ فمال بال المسلمون في العصور المتأخرة الذين لم يكتفوا بمحاربة قادتهم وعلماءهم وهم أحياء، بل أعلنوا الحرب عليهم والتنكيل بهم وهم أموات!!
فلماذا أقدم النظام السعودي على هدم مقبرة البقيع في أرض المدينة المنورة بعد أن أصبحت مدفناً لعدد من عظماء المسلمين، وأئمتهم، وأعلام الأنصار والمهاجرين’ لاسيما أهل بيت النبوة؟
لماذا أقدم السعوديون على هدم البقيع، وهي المقبرة التي روي أن النبي "ص" كان يقصدها كلما مات أحد من الصحابة ليصلي عليه ويحضر دفنه.. وقد يزور البقيع في أوقات أخرى ليناجي الأموات من أصحابه بقوله: "اللهم أغفر لأهل بقيع الغرقد " ومنذ ذلك الوقت ظلت هذه المقبرة عامرة بأضرحتها وأبنيتها الضخمة والقبب القائمة على مدافن المشاهير والأعلام، حتى تمكن آل سعود من حكم بلاد الحجاز؟.
يعتقد الوهابيون على خلاف جمهور المسلمين أن زيارة وتعظيم قبور الأنبياء وأئمة أهل البيت عبادة لأصحاب هذه القبور وشرك بالله يستحق معظمها القتل وإهدار الدم!. ولم يتحفظ الوهابيون في تبيان آرائهم، بل شرعوا بتطبيقها على الجمهور الأعظم من المسلمين بقوة الحديد والنار.. وكانت المدينتان المقدستان (مكة والمدينة) ولكثرة ما بهما من آثار دينية، من أكثر المدن تعرضا لهذه المحنة العصيبة، التي أدمت قلوب المسلمين وقطعتهم عن تراثهم وماضيهم التليد. وكان من ذلك هدم البقيع الغرقد بما فيه من قباب طاهرة لذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته وخيرة أصحابه وزوجاته وكبار شخصيات المسلمين.!! فأصبح البقيع وذلك المزار المهيب قاعا صفصفا لا تكاد تعرف بوجود قبر فضلا عن أن تعرف صاحبه.
ألم يكن القرآن الكريم يعظّم المؤمنين ويكرّمهم بالبناء على قبورهم، وكان الأمر شائعاً بين الأمم التي سبقت ظهور الإسلام؟ ألم تكن قبور الشهداء والصحابة مبنيّ عليها؟ ألم تكن هذه الأماكن مزارات تاريخية موثّقة لأصحابها، مثل مكان مولد النبي (صلى الله عليه وآله)، ومولد فاطمة (عليها السلام)، وقبر حوّاء أُم البشر والقبّة التي عليه، أين قبر حوّاء اليوم؟ ألم يكن وجوده تحفة نادرة؟ يدل على موضع موت أوّل امرأة في البشرية؟ أين مسجد حمزة في المدينة ومزاره؟
لو كان البناء على قبول المؤمنين محرما كما يقول الوهابيون؟ ولو كانت زيارة قبور المؤمنين محرمة؟ فلماذا لم يمنع علماء المدينة المنوّرة البناء على القبور من ذي قبل، ولماذا لم يفتوا بوجوب هدمه طيلة هذه القرون من صدر الإسلام، وما قبل الإسلام، وإلى اليوم الأسود الذي اقترف فيه آل سعود تلك الجريمة البشعة؟.
هناك الكثير من الحقائق التي لم يعرفها هؤلاء الذين هدموا قبر الأولياء والصالحين من عباد الله تتعلق بالموتى ومزاراتهم، ومنها:
1- أن زيارة الموتى سبب من أسباب تعميق الإيمان بالله ووحدته؛ حث أن زيارة قبور الصالحين لم تكن يوما من الأيام شركا بالله، ولم تكن تسلية للنفس، أو قضاء للوقت، وإنما هي عملية تربوية يعمّق الإنسان إيمانه بيوم الدين، ويركز الخوف من الله في نفسه، ويلقنّها دروساً تربوية رائعة، ويوحي لها بالفناء والرحيل عن هذه الدنيا، فيا له من درس عميق الدلالة! وهذا ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعله، فتراه يخرج آخر الليل إلى البقيع ويقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وآتاكم ما توعدون غداً، مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون». (النووي، شرح صحيح مسلم: 7/44).
2- أن زيارة قبور الموتى عملية تربوية إيجابية للنفس، لتحد من طموحها الدنيوي وطول أملها ولم تكن زيارة القبور عملية عبثية، ولا المقصود منها عبادة الموتى كما صورتها الوهابية الضالة، وإنما هي عملية وعظ للنفس، وتطهير لها من الطمع والجشع وطول الأمل، وحب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة.
3- أن زيارة قبور الموتى في حقيقتها هي عملية للتواصل الإنساني مع الميت، وفاء لبعض حقوقه حيث انقطعت علاقته بالدنيا فينبغي لمحبيه وعارفيه الدعاء والترحم، والاستغفار له كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في زيارته لأهل البقيع قال السبكي: «وهذا مستحب في حق كل ميت».
4- ومن حكمة الزيارة للقبور لاسيما الأنبياء والمرسلين وأوصيائهم استلهام الدروس والعبر من حياتهم الشريفة، يقول تعالى: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (سورة هود120) فالإنسان المؤمن الواعي الكادح إلى الله عندما يقف أمام قبور العظماء يستعيد في ذهنه سيرة هذا العظيم، ويستلهم من حياته الصبر على مواصلة السير والسلوك إلى الله.
ولما تقدم فان على المسلمين التأكيد على الآتي:
1- العمل المستمر على إدانة وشجب أعمال هدم قبور الصالحين التي قام بها آل سعود في بلاد الحجاز والتي أدت إلى طمس معالم حضارية من معالم المسلمين لاسيما مقابر البقيع.
2- التأكيد أنّ مسألة زيارة القبور ليست بحاجة إلى إقامة الدليل والبرهان على صحتها وضرورتها، فقد قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «كُنْتُ نَهَيْتُكُم عَنْ زيارَة الْقُبُور، فَزُورُوها فَإنَّها تُزَهِّدُ في الدُّنْيا وَتُذَكِّرُ الآخِرة».
3- التأكيد على أن علماء الإسلام وفقهاء الشريعة قد أفتوا بجواز زيارة القبور، وخاصّة قبور الأنبياء والصالحين، استناداً إلى مجموعة من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، وبالإضافة إلى الجواز فإنّهم أفتوا باستحبابها وفضيلتها. وبالتالي لابد من ايقاف الفتاوى التكفيرية التي يطلقها علماء المذهب الوهابي على المسلمين.
4- الحث والتأكيد المجتمعي على أن الزيارات شعاراً من شعائر التقرب إلى الله، وليست عملاً دنيوياً، ولا مجرد تكريم لإنسان ميت، وإنما هي عمل عبادي خالص لله تبارك وتعالى ذات أبعاد تربوية، وعقائدية، وفكرية تبني شخصية الزائر، وتشده إلى مسيرة المزور وعقيدته.
...................................................