مسؤولية الدولة في حماية الحقوق والحريات
جميل عودة ابراهيم
2021-09-13 07:14
في كل يوم، وفي العديد من البلدان، تُسجل عمليات اعتداء وتجاوز على حقوق عدد من المواطنين. وهذا الاعتداء قد يصدر عن أجهزة الدولة أو أحد أفرادها بحق مواطن أو مجموعة من المواطنين. وقد يصدر عن مواطن أخر أو مجموعة مواطنين تجمعهم روابط دينية أو مذهبية أو قومية بحق مواطن أو مجموعة من المواطنين.
وهذا الاعتداء قد يصب المواطن نفسه مباشرة، مثل الاعتداء على شخصه أو الاعتداء على ماله، أو مشروعه. وقد يصب أحد أفراد عائلته أو جماعته، فيلحق به ضررا معنويا بالغا. وفي العادة فان مثل هذه الاعتداءات لا تمر مر الكرام، بل تتفاعل في الأواسط الاجتماعية. ويُرد على الاعتداء بالاعتداء، وتتحول بالتدريج هذه الاعتداءات المتبادلة إلى أعمال انتقامية متبادلة، ينتج عنها أعمال ترهيب، واعتداء جسدي أو معنوي، وتتطور إلى أعمال سطو ونهب وجرح وقتل، ناهيك عن أعمال التشهير المتبادل بين المتنازعين.
والسؤال هنا من هي الجهة المسؤولة عن حماية حقوق المواطنين وحريتهم؟ وكيف يمكن أن يطمئن المواطنون إلى هذه الجهة بحيث لا تتحول مثل هذه الأعمال اليومية إلى ظواهر مجتمعية مستحكمة، ينتصر فيها القوي على الضعيف، ويستعين الضعيف على القوي بقوة العائلة والجماعة والعشيرة والمنطقة والمذهب والدين، فتتحول تلك النزاعات إلى نزاعات دينية أو مذهبية أو مناطقية من دون ملاحظة مبدأ الحقوق والحريات، وهي من المبادئ التي ينبغي أن تستند إليها أي دولة، وأي مجتمع متحضر؟
لما كان أكثرية المجتمعات البشرية، في العصر الراهن، تعيش في ظل دولة، لها نظام وقانون خاص، ولها حكومة تتولى إدارة شؤونها على وفق الأطر الدستورية والقانونية، فان من الطبيعي القول إن الدولة بمعناها الأعم (السلطات الثلاثة) هي الجهة التي ينبغي أن تكون مسؤولة مباشرة عن تأمين حقوق مواطنيها والمقيمين فيها، وهي التي تتحمل دون غيرها توفير الأمن والحماية اللازمين للاستقرار الفردي والمجتمعي. وهنا فان السلطة التنفيذية (الحكومة) تتحمل القسط الأوفر من توفير هذه الحماية، لأنها المسؤول المباشر عن توفير الأمن والاستقرار للمواطنين.
وبناء عليه؛ فان الدولة أكانت دولة ديمقراطية أو شبه ديمقراطية، أو ملكية أو أميرية، أو دكتاتورية فإنها هي المسؤولة عن توفير هذه الحماية للمواطنين، فاذ احصل المواطن على الأمن والحماية المقررة قانونا فان الفضل لها، وإن حُرم المواطن منها فإنها هي المسؤولة عن فقدان هذه الحماية، وهي التي ينبغي أن تتحمل المسؤولية القانونية والشرعية والأخلاقية.
ولكن من الناحية الواقعية؛ لابد أن نفرق بين نوعين من تلك الاعتداءات والتجاوزات التي يتعرض لها المواطنون. النوع الأول من الاعتداء هو ذلك الاعتداء الذي يتعرض له المواطن عن طريق مواطن آخر أو جماعة من المواطنين مثل أن يعتدي شخص على شخص آخر بسبب ومن دون سبب، أو يعتدي أنصار دين معين أو مذهب معين أو حزب معين أو فئة اجتماعية معينة على مواطن آخر، أو على مواطنين آخرين يختلفون معهم.
وسواء كان هذا الاعتداء مبررا أو غير مبرر، فان الحكومة مسؤولة عن حماية هذا الحق ابتداء واستمرارا، بمعنى أنها لا تسمح ابدأ ولا تعطي الضوء لأي مواطن أو جماعة من المواطنين بالاعتداء على بعضهم البعض تحت أي مبرر كان. وإذا ما حصل هذا الاعتداء فإنها تتصدى له، وتعد نفسها كأنها هي من أعتدي عليه لا المواطن، لأن المواطن داخل في حمايتها هي، وحقوقه وحرياته مسؤولة عن توفيرها هي.
وفي الغالب؛ فان السلطة القضائية التي تفصل في مثل هذه النزاعات والاعتداءات والتجاوزات تأخذ قوتها وهيبتها وإجراءاتها من قوة وهيبة وإجراءات الحكومة وجهة إنفاذ القانون (وزارة الداخلية مثلا) فان كانت الحكومة قوية ومهيبة وحاسمة في رد الاعتداء وأخذ الحقوق فان القضاء والمحاكم تكون هي الأخرى قادرة على الفصل بين المتخاصمين وإحقاق الحقوق. والعكس صحيح أيضا، فان ضعف أجهزة نفاذ القانون تؤثر سلبا على إجراءات المحاكم بل تتحكم فيها بصورة مباشرة أو غير مباشرة من خلال التلاعب بمحاضر الشكاوى والدعاوى المرفوعة للقضاء، لأن السلطة والقضاء يتقاسمان النظر في مظالم الناس.
وكلما ضعفت أجهزة نفاذ القانون فان القوى المجتمعية الأخرى تجد نفسها راغبة أو مضطرة إلى أن تحل محل تلك الأجهزة، وتأخذ حق أتباعها وأنصارها بطريقة التي تراها ملائمة، فمثلا كلما ضعفت أجهزة الدولة في العراق وفقدت قدرها على حماية حقوق مواطنيها برزت العشيرة كخيار ضروري للدفاع عن أفرادها، أو برزت الجماعة المسلحة أو العصابات، وفرضت سطوتها على المجتمع، فتأخذ من هذا وتعطي لهذا من دون مراعاة النظام والقانون. وقد تصل -كما هو الحال- أن تأخذ العشيرة أو الجماعة المسلحة قرارها في قتل أو اغتيال مواطن، لأنه قام بفعل ترفضه العشيرة أو قام بعمل ترفضه تلك الجماعة المسلحة.
وفي مثل هذا النوع من الاعتداءات فان الحل الوحيد أمام الدولة أن تدفع باتجاه تقوية أجهزتها المكلفة بحفظ النظام، من خلال تأليف قوة نظامية مدربة على إنفاذ القانون، بغض النظر عن انتماء المعتدي، وقادرة على تمضية القانون، ومن خلال محاسبة كل من يتهاون في نفاذ القانون مسؤولا كان أو موظفا عاديا. وإتاحة المجال للقضاء للنظر بموضوع تلك النزاعات بصورة مجردة عن أي اعتبار غير اعتبار إحقاق الحق وإنصاف المظلوم، وإلا فان المواطن طالما يشعر أن أجهزة الدولة غير قادرة على أخذ حقه، أو يشعر المواطن المعتدي أن أجهزة الدولة لا تستطيع أن تحاسبه فان جميع المواطنين يلجئون إلى القوى المجتمعية التي على أهمية وجودها ولكن لا تحق الحقوق ولا تحفظ الحريات، ولن تكون بديلا عن الدولة.
وأما النوع الثاني من الاعتداءات والتجاوزات على حقوق المواطنين هي الاعتداءات التي تصدر عن أجهزة الدول ذاتها، ومن أجهزة حفظ النظام المعلنة والسرية، أو تلك الاعتداءات التي تصدر عن مسؤولين كبار في الدولة، وهؤلاء في الغالب مصانين غير مسؤولين.
ومثل هذه الاعتداءات تأخذ الطابع السياسي (الحقوق السياسية) مثل احتكار العمل السياسي على الحزب الحاكم أو الأحزاب المؤيدة له دون الأحزاب الأخرى المعارضة، أو الطابع الإداري (الحقوق الإدارية) مثل حرمان فرد أو جماعة معينة من التوظيف في الدولة، أو في أجهزة معينة من الدولة، أو عدم السماح لهم في تبوء مناصب قيادية مؤثرة في الدولة، أو الطابع الاقتصادي (الحقوق الاقتصادية) مثل حرمان عدد من المواطنين من الدخول في مشروعات اقتصادية معينة أو منعهم من الحصول على امتيازات مالية معينة، أو الطابع المجتمعي (حقوق الأقليات أو حقوق المرأة ) مثل عدم الاعتراف بحقوق مجموعة من المواطنين كونهم يمثلون أقلية سكانية، أو حرمان المرأة من حقوقها كونها امرأة.
ومثل هذه الاعتداءات والتجاوزات يصعب إيجاد حلول داخلية لها كونها تصدر عن السلطة نفسها أو أحد المسؤولين المتنفذين فيها، وهي في الواقع قد تعبر عن فلسلفة النظام والسلطة القابضة على مقدرات الدولة. وهي تكاد أن تكون مبررة دستوريا وقانونيا. لهذا فان الأمم المتحدة وجدت أن مثل هذه الاعتداءات يصعب حلها من دون مساعدة المجتمع الدولي.
ففي عام 2005، أعلنت الجمعية مبدأ (المسؤولية عن الحماية)، والمعروف أيضا بالمختصر(RtoP) ووفقاً لهذا المبدأ، تتحمل كل دولة مسؤولية (حماية سكانها من الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية) وهذا لم يكن بالضرورة أمراً جديداً، لأن هذه المسؤولية تنبع مباشرة من الاعتراف الفعلي بحقوق الإنسان الأساسية بوصفها مبادئ أساسية للنظام القانوني الدولي. إلا أن العنصر الجديد في مبدأ المسؤولية عن الحماية هو التأكيد على أنه إذا لم تمتثل دولة ما لتلك المسؤولية، يجوز لمجلس الأمن أن يستخدم سلطاته بموجب الفصل السابع من الميثاق لحماية السكان المتضررين.
وفي حالة ليبيا في عام 2011، استفاد مجلس الأمن للمرة الأولى من هذه المهمة باعتماد القرار 1973 (2011)، الذي أدى إلى توسيع هام لمفهوم السلام والأمن الدوليين، وتفسير معيار (الدولية) على أنها تشمل انتهاكات فظيعة للنظام القانوني الدولي في مجال حقوق الإنسان.
من هنا فإن الحفاظ على حقوق الإنسان جزء من النسق العقدي والحضاري للدين الإسلامي، وما مهمة الدولة والمجتمع الإسلاميين إلا الحفاظ على هذا النسق وتطويره بما يُسعد الإنسان، ويطور إجراءات الحفاظ على حقوقه ومكتسباته. وأهم الحقوق المكفولة من قبل الدولة والمجتمع الإسلاميين في نظر الإمام السيد محمد الشيرازي، هي:
1 ـ حق الحياة، مع توفير كل شروط الحياة الكريمة، ولا يجوز لأحد أن يعتدي عليها. وقال سبحانه وتعالى في عدم جواز الاعتداء على أحد (من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً).
2 ـ حق الحرية، وهو حق مقدس، ليس لأحد أن يعتدي عليه، ويلزم على الدولة والمجتمع توفير الضمانات الكافية لحماية حرية الأفراد.
3 ـ الناس جميعاً سواسية أمام الشريعة الإسلامية (إذ لا فضل لعربي على أعجمي ولا لاعجمي على عربي ولا أحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى).
4 ـ حق العدالة لكل فرد: إذ من حق كل فرد أن يلجأ إلى سلطة شرعية تحميه، وتنصفه وتدافع عنه إذا ما لحقه ضرر أو ظلم، ولا يجوز مصادرة حق الفرد في الدفاع عن نفسه، وعن عرضه، وعن ماله، وعن شرفه، وليس لأحد أن يلزم المسلمين أو غير المسلمين بأن يطيعوا أمراً يخالف الشريعة.
5 ـ حق الفرد في المحاكمة العادلة، فإن كل إنسان بريء حتى تثبت إدانته، ولا تغريم إلا بنص شرعي.
6 ـ حق الحماية من التعذيب، حيث أن التعذيب محرم في الشريعة الإسلامية، فقد جاء في الحديث الشريف (إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا).
8 ـ حق الفرد في حماية عرضه وسمعته. فقد قال تعالى (لا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب)
9 ـ حق الأقليات، فإنه لا يحق لمسلم أن يضطهد غير المسلم من اليهود أو النصارى أو المجوس أو غيرهم.
10 ـ حق المشاركة العامة.