عن أي رؤية حقوقية نهضوية نتحدث؟
د. عبد الحسين شعبان
2019-11-25 04:45
في اجتماع المكتب الدائم لاتحاد الحقوقيين العرب انطلق حوار فكري جاد ومسؤول لبلورة رؤية حقوقية عربية نهضوية جديدة لمواجهة ما سمّي ب «صفقة القرن» وحماية «الأمن القومي العربي».
والحديث عن رؤية جديدة هو موضوع قلق أكثر منه طمأنينة، وهو سؤال شك وليس سؤال يقين، وفي الوقت نفسه تعبير عن رغبة وليس عن إرادة بالضرورة، وبهذا المعنى تبقى المسألة تدور في إطار أزمة وتحدٍّ أكثر مما هي تعبير عن ثقة وأمان، وإلّا فما معنى رؤية جديدة؟ وما علاقتها بالهوية والمواطنة؟
وهنا يمكن استعراض مقاربتين متداخلتين:
الأولى: تتعلّق بمعنى الرؤية ودلالتها، والثانية: بمدى التحقق والإنجاز، أهي مبدّدة وضائعة ولا بدّ من استعادتها، أم هي موجودة وغائرة ولا بد من الكشف عنها بإرادة لاستكمالها؟ ودائماً ما نقول هناك علاقة عضوية بين العلّة والمعلول، مثلما هي بين السبب والنتيجة، ويتعلق الأمر بالخصوصية بقدر ارتباطه بالكونية، فهل هناك مفهوم دقيق لتلك الرؤية النهضوية العربية الحقوقية والإنسانية في آن؟ وما النظرة المتسقة بالوعي الحقوقي في إطار التحرك الجامع. والموضوع محمول بدلالاته المختلفة من حيث علاقته بالكينونة الثقافية الحقوقية والحداثية ودوائرها المختلفة.
وقد واجه الحقوقيون العرب، كشريحة حيوية من المجتمعات العربية، صدمات داخلية وخارجية عديدة أهمها: صدمة الاستعمار، وكانت تلك فترة الإرهاص والتأسيس، من سايكس - بيكو إلى وعد بلفور إلى محطة الانتدابات، ولا تزال تأثيراتها قائمة إلى اليوم. وصدمة قرار التقسيم عام (1947)، وصولاً إلى قيام دولة «إسرائيل» (1948)، ثم صدمة هزيمة 5 يونيو / حزيران 1967، وهذه جميعها بقدر ما هي صدمات خارجية كان لها أسباب داخلية عميقة.
أما صدمات الداخل، فهي تتعلّق بتشكيلات ما بعد الاستقلالات، وقيام الدول الوطنية، والأمر له علاقة بشحّ الحريات والتسلط، فضلاً عن قيام نمط جديد من الحكومات، ولا سيما بعد قيام الانقلابات العسكرية، ومع ذلك ظلّت الشعوب موحّدة والموقف الحقوقي موحداً إلى حد ما.
وفي الكثير من الأحيان اتجهت الحركة الحقوقية العربية إلى تغليب السياسة على المهنية، ونشأت صراعات بين أطرافها امتداداً للصراعات السياسية والحزبية، بما فيها ضعف الدفاع عن فكرة المواطنة الموحدة والجامعة وقصور فكرة التضامن، تارة بحجة الصراع العربي - «الإسرائيلي» وأخرى لأن العدو يدق على الأبواب
وقدّر لي أن أستجمع بعض ما تبقى من شجاعتي لأقول لرئيس عربي: إن المواجهة الواقعية هي بالمواطنة، فالمواطنة هي القوة الحقيقية، فما بالك حين تكون مقترنة بالمعرفة، وحسب الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون «المعرفة قوة»، وهي «سلطة» في الآن ذاته.
والمعيار الحقيقي هو حكم القانون، وحسب مونتسكيو «القانون مثل الموت ينبغي أن ينطبق على الجميع»، أي لا استثناء فيه، ولا فرق بين الحاكم والمحكوم بالخضوع له.
وشهدت الحركة الحقوقية صراعات داخلية وأحياناً على مستوى نظرة هذا الفريق السياسي أو ذاك في هذه الدولة العربية أو تلك، كما شهدت صراعات عربية - عربية انعكاساً للأوضاع العربية، وهذه أضعفت من مهنيتها.
وبتقديري أن الخلل يعود إلى النقص في الثقافة الحقوقية والوعي القانوني، وإلى عدم الإقرار بالتنوع والتعددية وعدم المساواة في الحقوق والواجبات، فضلاً عن شح الحريات، ولا سيما حرية التعبير. وفي فترة لاحقة غلّبت بعض المنظمات الحقوقية المهني على السياسي، وإن كان السياسي أكثر تأثيراً.
آن الأوان لرد الاعتبار والتوازن والتفاعل بين ما هو مهني وما هو سياسي، وبين ما هو تكتيكي وما هو استراتيجي، مثلما بين ما هو ظرفي وما هو بعيد المدى، وبين ما هو وطني وسياسي كجزء من المشاركة في العمل العام، وأي اختلال في أي جانب منه سيقود إلى اختلال المعادلة، ويضعف بالتالي من دور الحركة الحقوقية ذات البعد الإنساني، سواء بوظيفة التضامن من جهة، وهي وظيفة أساسية، أو الدفاع عن مصالح الأمة العربية من خلال مشروعها النهضوي التجديدي لمواجهة التحديات الخارجية.
والخطوة الأولى بتعزيز المواطنة الفاعلة من خلال الربط بينها وبين النضال لتحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي والتوجه صوب التنمية المستدامة في إطار منهج يقوم على رضا الناس وخياراتهم الديمقراطية، وبالحد الأدنى من العدالة الاجتماعية، وذلك بالتقارب والتنسيق والتعاون وصولاً للاتحاد بين البلدان العربية ككتلة تجمعها مصالح مشتركة، بما يعزز الانبعاث الحضاري لتاريخ عريق يربط بين الحداثة والقدامة، ومثل هذا التوجه كان مطروحاً للنقاش في عمان لبلورة الرؤية الحقوقية العربية النهضوية لمواجهة صفقة القرن، وفي إطار تجديد هيكليات «اتحاد الحقوقيين العرب».