صفقة تهريب الى خمائل الغرب
علي حسين عبيد
2017-09-13 05:30
لا أعرف بالضبط من أغلق أبواب الحياة في وجوهنا، كان علينا أن لا نستسلم ونبحث عن حلول ، لقد وافقنا على التهريب في قارب المرأة الأسبانية (ماروخا) وزوجها بصفتنا جزء من الطاقم، ولا نعرف إنْ كان القارب عجوزا متهرئا أم قويا عصريا، كل الاعتراضات التي بدرت من زيد وعائلة الطفل حسوني تبخرت تحت وطأة الانتظار والقلق وإلحاحي عليهم بخوض ذروة المغامرة لأنها النافذة الوحيدة المفتوحة أمامنا، نريد أن نتخلص من عذاب الترقب، نريد أن ننهي هذه المغامرة حتى لو كان الموت يتربص بنا، إنطلقنا جميعا بمطلع الليل في حافلة لنقل الركاب تدبّ بنا على مهل من الوسط باتجاه الشمال، الطريق طويل ممل مسكون بهواجس الخوف، وأكثرنا أذى من هذه الرحلة الطويلة هو الطفل الذي كان يعاني الاسهال منذ الصباح، قال لنا (مرهون بطة/ مساعد وأخو المهرِّب) سنصل مع تباشير الفجر الى مدينة الناظور والشتاء فيها أكثر بردا من المدن البحرية الوسطى، وسنقضي النهار في بيت آمن ثم نواصل رحلتنا الى شاطئ المحيط مطالع الليل ايضا وهناك سنجد القارب بانتظارنا، سنعتلي ظهره بملابس البحارة وقبعاتهم لأننا جزء من طاقمه حسب خطة التهريب، كنت أتلمس قلبي بين حين وآخر وأسأل نفسي إذا كنت خائفا أم لا، مشاعر غامضة تكتنف وجودي، الموت صار قريبا كأنفاسي والحياة تخفت وتتوهج مثل نجمة بعيدة، وجه المرأة الوحيدة التي ترافقنا في هذه المغامرة ينبئ بخطر وشيك سيدهم طفلها الذي ما زال ينزف أحشاءه بسبب الاسهال، حفيف الهواء أيضا ينذر بشيء ما، ترى هل سنؤول الى الموت في نهاية المطاف، هكذا أسأل نفسي ولكن ليس ثمة جواب، رأيت الطفل خاملا في حضن امه كوردة تذبل مع مرور الوقت، لأول مرة أرى فيه هذا السكون الوديع، كأنه مصاب بشلل لا يسمح له بالحركة أو النطق او حتى الابتسام، كلها علامات مخيفة وفأل سيّء ولكن ليس لدينا خيار آخر، كأنك مطوّق بحبائل الموت أينما ولَّيت وجهك، أمضينا النهار في البيت الآمن بصمت وترقب، فقط موجات بكاء الطفل بسبب المغص تغيّر من رتابة السكون، ننتظر حلول الظلام والتسلل الى القارب الذي وصل الشاطئ قبل ساعتين كما أخبرنا (حسون بطة/ مسؤول صفقة التهريب) عبر الموبايل، كنت اردد بعض مفردات البحارة باللغة الاسبانية مع الشاعر وبين برهة وأخرى يُشهر سبابته فوق فمه دلالة السكوت، لأن الحيطان لها أذان كما كان يردد دائما، قبض منا (مرهون بطة) ما تبقى من دولارات الصفقة وخبَّأها في مكان لن يهتدي إليه حتى الشيطان.
مغامرة في قوارب الموت
في لحظة تسليم المبلغ شعرت أنني مهدد بخطر آخر غير الغرق أو العواصف أو هجوم القرش وحتما خامر هذا الشعور عدد من افراد الوفد الهارب، فلقد رأيت دمعة تخرّ سريعة على خد المرأة الوحيدة بيننا وهي ترى أصابع كف مرهون بطة تحصد منا آلاف الدولارات بلا مقابل يُذكَر وترى طفلها الذي يقيء ويرفض أي دواء يحد من حالة الاسهال التي أكلت جسده الغض، إستلم مرهون بطة كامل الدولارات بلا نقص، وعندها سألته بقلق واضح: متى نترك هذا البيت ونبدأ بالتسلل الى القارب ؟؟...
قضم شفته العليا وأخذ يتلذذ بدمه وأهمل سؤالي بصلف وجبن، وقفتُ أمامه وجها لوجه، حصرت كتفيه الضامرين بذراعيّ، صرخت به: متى سنخرج من هذا البيت اللعين ؟... هززتُ جسده بشدة والزبد يتدفق من فمي، ظل صامتا ينظر لي بعين متشفية، بعد ساعة ساد الظلام، وقفت سيارة تكفي لعشرة أنفار في باب البيت، صعدناها تباعا بصمت، العائلة (المرأة وزوجها وطفلهما) جلسوا في صدر السيارة قرب السائق الملثَّم، لم يُسمح لأحدنا بالتكلم، صمت عميق يطفو فوق رؤوسنا ويكتم حتى أنفاسنا، صمت يتسيَّد الكون كله، وسيارة تدبّ بنا بحذر نحو شاطئ المحيط، عجيب أمر هؤلاء الناس هنا، لا أحد يصيح أو يتكلم أو يغني أو يتأوه، عجيب أمر الحيوانات او الطيور او الديكة هنا، كلها صامتة، عجيب أمر الريح والأشجار الساكنة بلا حراك، عجيب أمر السماء بلا نجوم أو قمر، كأنها جميعا تشارك في تشييعنا الى مثوانا الأخير، بعد نصف ساعة من المسير الحذر في درب متعرج بدأ هدير في الأمواج يطرق أسماعنا ومن خلل الظلمة رأيت أو تخيَّلت ما يشبه الشراع يشرئب بعنقه فوق شاطئ المحيط قريبا من الجرف، غمامة ظلماء تلف المرئيات كلها، لا أحد يمكنه رؤية شيء محدد او واضح، تداخل الاشكال مع بعضها سمة لهذا المكان المخيف، تموجت سيارتنا في طريق متعرّج، دهمتنا رائحة بحرية قريبة، أطفأ السائق أضواء السيارة، ثم أسكت صوت محركها وتركها تتهادى ببطء في منحدر بسيط نحو جرف المحيط، لماذا فعل ذلك، لماذا الصوت يشكل خطرا علينا، طيلة الطريق الى هنا، الى نقطة الشروع نحو الموت او الحياة، لم أحس بجسد يلتصق بي إلاّ في هذه اللحظات التي تقودنا الى القارب، كان جمال الرسام يدفع بجسده الراجف نحو جسدي، ها أنا أستشعر قلقه وخوفه الآن ونحن نترك هذه السيارة تباعا الى مكان منزو قرب الجرف، أصبح القارب مرئيا لكنه لا يزال غامضا، تكدَّسنا في المكان المنزوي وأمرونا بعدم الحركة أو الكلام او حتى العطاس، الطفل كان نائما فوق صدر أبيه بين الحياة والموت كما يبدو، أمه تبكي بصمت، الشاعر يتحسس نبضات قلبه بخوف وجمال الرسام يلصق جسده بجسدي كأنني أبوه، فيما ظل مرهون بطة يمارس حالة التشفي بنا وهو يأكل شفته العليا بنهم عجيب.
سماء حيادية صامتة
الشيء الوحيد الذي لا ينسجم مع ما يحدث هنا هو الطقس الهادئ وبرده المنعش في هذه اللحظات المخيفة، تحرك مرهون بطة باتجاه القارب، تابعته العيون بلهفة وترقب شديد، إنحدر جسده الغائم نحو القارب، بدا كأنه شبح هزيل يتطفل على سرّية حياة الماء، مشى ببطء كأنه يدبّ على أربع فوق لسان من ألواح الخشب يمتد فوق المياه الداكنة تسنده أعمدة قوية وصخور هنا وهناك، وحين وصل نهاية اللسان صعد الى القارب، غاب فيه وتبعه صمت ثقيل حتى خُلنا انه غاب الى الأبد، مضت اللحظات والدقائق ثقال، لا صوت ولا حركة، ظلام متذبذب يتبعه هدير موج يتصاعد ويتخافت تباعا، سماء حيادية صامتة، نظرتُ الى أعماق المحيط، غموض وسواد يطبق على وجه الماء، لاشيء يلوح في الأفق المجهول، من هنا سنبحر الى جنائن الضوء على ظهر هذا القارب، من هنا سنبدأ حياتنا الجديدة الخالية من الخوف والقهر والحرمان، من هنا سنقفز الى مرتبة الإنسان الأولى من العاشرة، يُقال إن البدايات الصحيحة تقود الى نهايات صحيحة، فهل بدايتنا هذه ستنتهي بنا الى ما نأمل ؟!، بدا لي هذا القارب شبيها بذاك الذي كنت أراه في أحلامي، تايتنك عصرية حالمة، تذهب بك الى حيث الحياة التي تليق بالبشر، وهزأتُ من زوجتي التي كانت تهددني بالقرش المفترس، وسخرت من تهديداتها المستمرة بالغرق، سوف يفترسك القرش حتما، هكذا تقول لي، فأردُّ عليها، إخرسي أيتها المرأة العبوس المترددة، لقد أضحت الحياة المضيئة قاب قوسين مني، مضى وقت ثقيل حين هبط مرهون بطة من القارب عائدا إلينا عبر اللسان الخشب، وصل إلينا وحدثنا هامسا، بعد قليل سنمضي بهدوء نحو القارب (إثنين إثنين) ونصعده بأناة وهناك ستخبرنا (ماروخا) عمّا يجب علينا القيام به وخطا هو أمامنا في المسير تبعته العائلة والطفل المريض، وبعد عشر دقائق نهض إثنان وبعدهما بفاصل زمني مقارب إثنان آخران وهكذا حتى وصلنا جميعا وارتقينا تباعا ظهر القارب كأننا أشباح تعبث بسكينة المحيط ونقائه، لم نبق على الظهر المكشوف تحت سماء صافية وهواء منعش بل أدخلونا في بطن القارب بعد أن هبطنا عبر سلّم قصير وجلسنا بصمت في جوف رطب تنبعث منه رائحة زنخة ربما هي من بقايا روائح السمك والحوت البحري، مصباح ذو ضوء شحيح معلّق فوق رؤوسنا، الأجواء تنضح بالموت، رائحة كريهة وضوء خافت وصرير خشب مخيف ينبعث مع اهتزاز القارب، لم نلتق (ماروخا) الأسبانية ولا زوجها، لعلها اسم بلا وجود حقيقي، هكذا فكرت مع نفسي، كنا فقط عشرة أنفار نعرف بعضنا منذ انطلقنا من أول محطة، ومعنا الآن ثلاثة أشخاص أحدهم صبيّاً لا نعرف عنهم شيئا، رأيناهم موزعون على ظهر المركب، هل هم مهرَّبون مثلنا أم من عمال القارب؟!، ونحن في جوف القارب حين بدأ محرك القارب بالهدير وصلتنا تعليمات جديدة غير قابلة للمناقشة او التعديل، أولها عدم ترك هذا الجوف المغلق حتى نصل البر الاسباني وسنخرج من هذا المكان بأمر من مرهون بطة حال وصولنا بأمان.
التيه بين حيتان البحر
قد تستغرق رحلتنا ليلة ونهارها او ليلتين ونهارهما أو أكثر، لا يجوز السؤال او الضجر او الاحتجاج، لا يجوز إعلان الجوع، لا يجوز إطلاق الصوت بتاتا، المسألة برمتها تتعلق بقوات السواحل الاسبانية كما تقول التعليمات، تلك الفرق البحرية الجوالة التي لها الحق بإيقاف القارب الذي تشك به او الذي ترغب بتفتيشه، وفي حال المداهمة سنبقى في الجوف بعضنا يتشاغل بالشباك الكثيرة وتنظيفها وتخليصها من الأشنات والشوائب البحرية التي تعلق بها من دون ان ننبس بكلمة، وآخرون يختبئون في حاويات خشب كالتوابيت، هذه نصيحة مرهون بطة لنا وتعليماته التي يجب أن ننفذها كي تنجح المغامرة، ولم يخبرنا احد بدوار البحر، حين بدأ الطفل يتقيّأ أحشاءه وكأن الاسهال وحده لا يكفي لقتل هذا الطفل، الاصفرار غزا وجه امه التي ترافقنا رحلة الموت، أعراض القيء تنتابها وتصل إلينا تباعا، لم يخبرنا أحد بكيفية تجنب دوار البحر، هدير محرك القارب شرع يتصاعد رويدا وطفق الجوف الرطب ذو الرائحة الكريهة يهتز بنا كأنه مهد طفل ما يلبث ان يتحول الى إرجوحة خطرة، يغدو الاهتزاز مزعجا ثم تبدأ حالات القيء تحيل الأفواه الى نافورات دافقة، وحين طلبتْ المرأة أن تخرج بطفلها الى الهواء النقي منعها مرهون بطة بصوت قاطع فامتثلت تحت تهديد القبض علينا من قبل قوات السواحل الاسبانية، صرير خشب القارب يتصاعد ويطقطق والساعات الثقال تتوالى وحالة التيه تكتنف وجودنا تماما، لا احد يعرف أين أصبحنا، هل نحن في عمق المحيط، هل نحن نقترب من السواحل المنشودة، هل ثمة خطر ما يتهدد حياتنا، الشخص الوحيد الذي له الحق في مغادرة الجوف ودخوله هو مرهون بطة، أما الآخرون فيُمنع عليهم الخروج بل حتى التساؤل، إنك في لجة الموت، إنك بين فكيّ الأسد، لا تملك فرصة السؤال عن وجودك الآني او القادم، ولا تعرف هل انجلى الليل وحلَّت بشائر الفجر، هل أشرقت الشمس، هل وصلتَ الى ضالتك، هل بدأتْ تلوح جنائن الضوء للرائي ؟!!، وحين سألت مرهون بطة عن مكاننا في المحيط بقي على صمته قاضما شفته العليا حتى سال دمه بين أسنانه الصفر، وحين طلبتُ منه الصعود الى ظهر القارب عبس وقطّب حاجبيه وخرج من الجوف مغلقا علينا باب السجن في أعماق المحيط، غفا المهرَّبون واحدا بعد الآخر في حضن القارب الذي راح يهتز بحنان، ناموا كأنهم في حضن الأم الرؤوم وأول النائمين الطفل الذي تقيأ أحشاءه مرارا، ثم أمه التي أغلقت عينيها وهي متيقظة حتما، نام جمال الرسام كالطفل أيضا فيما أخذ شخير الشاعر يدندن بخفوت، إن أكثر من عشر ساعات من التأرجح والاهتزاز فوق ماء المحيط في جوف القارب المغلق كافية لتخدير الكائن المتيقظ الحذر، وهكذا بدأتُ أشعر بموجات النعاس تغزو بصيرتي، غفوت في القارب أو المهد الذي راح يترجرج بهدوء تحت جسدي، ورأيت زوجتي من جديد تحذرني من القرش، أهملتها وأنا أعيش لذة الاهتزاز المنعش، كلنا جرَّب الأرجوحة في طفولته او صباه وشبابه، إنه شعور بالبهجة عميق وغريب في آن واحد.
الذئب القديم وسمك القرش
خطفت أمام عيني العجوز المتسولة التي كشفت لي عن مآل رحلتنا الخائبة، وشعَّ وجه ابنتي وتذكرتُ استخارتها، سمعت كلمات ولدي الأصغر وهو يخبر أقرانه بأنه أصبح يتيما بعد سفر أبيه، ورأيت ثكلى المطار تمسح دموعها بعد أن قطَّعوا جسد ابنها، الذئب نهض من جديد في ذاكرتي، ونعيمة السمراء النقية تنطوي على أسرارها قبالتي، لكن الحياة في هذه اللحظات أصبحت عبارة عن أرجوحة تتحرك فوق قطعان من سمك القرش، إذا انقطع حبلها سنسقط بين عشرات القروش المفترسة، أي مهد هذا الذي يتأرجح بنا ويهدهدنا فوق مصائد الموت الوشيك، وأي جنائن مضيئة ثمن الوصول إليها أشباح الموت المتقافزة تحتنا وحولنا ؟؟، فتحت عيني على المصباح المطفأ، أصبحنا في منتصف النهار، عرفنا ذلك حين استيقظنا بوجه مرهون بطة وهو يقضم شفته العليا بتلذذ، قال بعد أن قدم لنا أقراص من الخبز ومثلثات الجبنة البائتة: هدوؤكم كان ممتازا، لقد قطعنا أكثر من نصف الطريق، إبقوا كما أنتم، سنصل بسلام الى السواحل الأسبانية، أطلبوا كل شيء إلاّ الصعود الى ظهر القارب .... توسَّلتْ المرأة وقالت بصوت يائس (إبني سيموت بين يديّ) .... صاح الشاعر من مكانه غاضبا: لم نعد نحتمل هذا الجو الرطب وهذه الرائحة الحريفة، دعنا نشم قليلا من الهواء النقي، إفتحوا لنا الباب، غيّروا الهواء الزنخ، أبعِدوا عنا هذه الشباك اللعينة الرطبة...
بكت المرأة بنشيج مسموع، كان يتلوّى بين ذراعيها، إنه يكاد يختنق هنا، قالت له: دعني أخرجه دقائق فحسب الى الأعلى... رفض رفضا قاطعا... صرخ جمال الرسام من مكانه طالبا الخروج، فولّى مرهون بطة هاربا الى الأعلى بعد أن أحكم إغلاق الباب، وساد الزعيق والصراخ جوف القارب وبدأ جمال الرسام يضرب الجدار الخشبي بقطعة حديد مدوَّرة ويصرخ بحدة: أخرِجونا من هذا السجن ... أما الشاعر فقد راح يركل الخشب بحذائه معلنا سخطه وقرفه ويأسه من هذه الرحلة المخادعة، رفعتُ كفي وأشرتُ عليهم بالهدوء، فنحن الآن في أعماق المحيط أي بين كماشات الموت وليس لنا من منفذ الى اليابسة سوى الصبر، إحتجَّ الجميع على نصيحتي وأولهم المرأة التي تكاد تفقد طفلها، لذتُ بالصمت أفكر بما ستؤول إليه رحلة الخداع والموت هذه، وحلّ الليل من جديد وبدأ الضوء الشحيح يتقاطر من المصباح الخافت المعلق فوق رؤوسنا، كان الاهتزاز يعلو ويخفت تباعا، وصوت الأمواج يكاد يطغي على هدير المحرك، لم ينزل إلينا مرهون بطة منذ ساعات على هروبه آخر مرة، كذلك غاب عنا صبحي الصادق مساعد مرهون بطة وبدأنا نشم رائحة المكر والخديعة، ورحنا نتساءل لو أنهما بيننا الآن، يعيشون ما نعيشه هنا، لو أن حالهما مثل حالنا فعلا لما ساد الشك بيننا، ورحنا نقضم أقراص الخبز بقلق، بطوننا فارغة تسحق نفسها، نبتلع لقيمات الخبز مع الخوف الذي شرع يتسرب الى نفوسنا، الطفل ضاعف من قلقنا، أبوه لا يعرف ماذا يفعل وهو يرى طفله يذوي أمام عينيه، أمه لا تملك سوى البكاء، كلنا عاجزون عن عمل أي شيء والطفل في طريقه الى لفظ أنفاسه.
خديعة المهربين تتربص بنا
ها هو الليل من جديد يسحق أجسادنا وأحلامنا معا، نعم هي ذي ليلة جديدة تمر علينا ونحن نمخر عباب المحيط، ترى متى سنحط الرحال وعلى أية أرض، لقد توقف الزمن هنا في هذا الجوف المغلق وتوقفت الحياة أيضا، لا نعرف ليلنا من نهارنا ولا مكاننا الحالي، أين نحن من هذا الكون، في أية بقعة من هذا الكوكب، الضوء الشحيح يزيد من الوحشة، يضاعفها الى أقصاها، ومجهولية الهدف تقتل الإيمان في دواخلنا، ولا أعرف لماذا ربطتُ حياتنا بحياة الطفل الذي قد يموت في اية لحظة، معجزة فقط تعيده الى الحياة وتصل بنا الى حدائق الضوء، ولكن من أين تأتي المعجزة، فلقد مضى زمن المعجزات مع الأنبياء قبل آلاف السنين، ولم يبق سوى زمن المخادعين والقتلة، غير أنني رأيت أمه ترفع كفيها مرارا الى السماء وتهمس بكلمات باكية، مضى الليل بطوله على أجسادنا، وسكن الجوف مثل قبر، صمت لا يوصف كتم أنفاس المكان والإنسان معا، حتى هدير محرك القارب تلاشى، بل توقف تماما، لا نعرف في أي مكان من المحيط نعوم الآن، اللغط الذي كان عاليا آل الى السكينة واليأس، والآمال العريضة بالوصول الى حدائق الضوء تقلصت بل ماتت، حياة الطفل هي حياتنا وموته موتنا، على ظهر القارب حياة تشبه حياتنا في هذا الجوف القبر، صمت، ضمور، يأس، لا حركة قط، ساعات طوال والقارب يسكن على الماء بصمت، أين ولّى فريق العمل، البحارة، مرهون بطة، صبحي الصادق، المحرك وهديره، موج البحر، صرير الريح، يا إلهي هل أصيب الكون كله بالخرس، دخلنا النهار الجديد، طرقتُ على الباب المغلق بقطعة الحديد المدوَّرة الملقاة قرب جمال الرسام، طرقت الباب بجنون، بكى الطفل بصوت معافى، صوت طفل يغادر رحم إمه الآن، استيقظ الحشد البشري المتكدس في جوف القارب، واشرأبت الأعناق، إنفتحت العيون المنهكة، الأجساد كلها عادت من النوم الى الحياة على صوت بكاء الطفل الذي صار ينتمي الى الحياة أكثر من الموت، رأيته يقضم شيئا ما ويقطع البكاء، أمه يتوهج وجهها فرحا، يبدو ان القيء توقف وكذا الإسهال، طفلنا جائع يرغب بالأكل، إنها عودة عصيبة الى الحياة، حياتنا التي كدنا نفقدها، فُتح الباب المغلق، ودخلت أنسام الفجر الى الجوف الزنخ فطردتْ رائحته الكريهة، وجه مرهون بطة يطل علينا ضاحكا، قال وهو يرسم على وجهه ابتسامة خبيثة: إسمعوني ... بلا ضجة .. بلا صوت .. بلا زعيق .. إخرجوا بهدوء لقد وصلنا ضالتنا....!!!
دوَّت صرخة فرح عالية ضاق بها الجوف الرطب، طلبتُ من الجميع أن أخرج أنا أولا حتى قبل الطفل، وبقفزة واحدة اختصرت درجات السلم وبزغ رأسي فوق سطح القارب كقرص الشمس حين يبزغ فوق سطح الأرض، ثم انتصب جسدي بالكامل فوق ظهر القارب، أطلقتُ بصري في هذا المدى المائي العظيم، كأنني أستعيد حياتي وأنثرها فوق هذه الآماد المائية الصافية، أي عذوبة وأي هواء طلق وأي وجه زلالي أزرق لماء المحيط، وأي قارب مطلي بلون الفجر البني، رأيت الطفل يخطو فوق ظهر القارب بجسده الهزيل المتمرد تسنده كف امه، خرج الجميع من الجوف الى الحياة، وتسللنا تباعا الى الجرف القريب، خضنا في ماء المحيط قريبا من أرض الشاطئ، أمرنا مرهون بطة أن نفعل ذلك في عجالة قبل أن تدهمنا شرطة السواحل كما قال، الشاطئ مهجور تماما، لا دلائل تشير لوجود حياة هنا، أرض رملية تكسوها شجيرات متفرقة هنا وهناك، لا أثر لإنسان او حيوان او حتى طائر، حدث هبوطنا عند الفجر، البرد مات في فورة الفرح التي اجتاحت نفوسنا، أمرنا مرهون بطة بالابتعاد عن الشاطئ، وأخذ القارب يبتعد ويغور في الأعماق المائية السحيقة، صبحي الصادق يطالعنا بوجه كسير يائس، لماذا ؟!!، ألم نصل السواحل الاسبانية، أليس مكاننا هذا ضمان لنا وبداية لدخول حدائق الضوء؟!!، دخلنا في أرض لا نعرف عنها شيئا، خطونا فوقها بذهول وابتعدنا كثيرا عن الشاطئ، مضينا في متعرجات كثيرة ولم نعد نرى المحيط بل لم نعد نسمع هدير الموج، مرهون بطة تبخَّر فجأة، غاب عن أنظارنا، كأن الأرض بلعته، وفي مكان منعزل تحت شمس صباحية باردة وقعت على رؤوسنا الصاعقة الأشد فتكا من سابقاتها، وكي نتلقى هذه الصاعقة بأقل ما يمكن من أذى، تجمعت أجسادنا والتصقت ببعضها بذهول وفزع، لقد أخبرنا صبحي الصادق بصوت ضعيف متخاذل بأننا عدنا الآن الى الأرض نفسها التي انطلقنا منها قبل يومين ليلا.