الاعتراف الإسرائيلي بـ أرض الصومال.. إعادة رسم الخرائط وتشكيل الشرق الأوسط الجديد
شبكة النبأ
2025-12-31 04:03
في خطوة غير مسبوقة أعادت خلط الأوراق الجيوسياسية في المنطقة، أعلنت إسرائيل في 26 ديسمبر 2025 اعترافها الرسمي بـ "جمهورية أرض الصومال"، كاسرةً بذلك إجماعاً دولياً دام ثلاثة عقود. يفكك هذا التقرير أبعاد هذا الحدث الذي يتجاوز الدبلوماسية التقليدية؛ ليُظهر أنه تدشين لاستراتيجية أمنية إسرائيلية جديدة تهدف إلى إحكام السيطرة على "باب المندب" ومحاصرة التهديدات القادمة من اليمن عبر "كمّاشة" جغرافية (أرض الصومال غرباً، وجنوب اليمن شرقاً).
يستعرض التقرير عبر ستة محاور: السياق التاريخي، الدوافع الخفية، ردود الفعل الغاضبة (الصومالية والمصرية)، وسيناريوهات المستقبل القاتمة التي تنذر بـ "بلقنة" المنطقة وعسكرتها. ويخلص إلى أن هذه الخطوة تؤسس لسابقة خطيرة تهدد وحدة الدول الوطنية، وتعيد رسم خريطة التحالفات في البحر الأحمر من بوابة "تحالفات الأمر الواقع".
المقدمة
في السادس والعشرين من ديسمبر/كانون الأول 2025، أحدثت إسرائيل زلزالاً دبلوماسياً في منطقة القرن الإفريقي، حينما أعلنت رسمياً، وعبر بيان صادر عن مكتب رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، اعترافها بجمهورية "أرض الصومال" (صوماليلاند) دولةً مستقلة ذات سيادة. لم يكن هذا الحدث مجرد إجراء بروتوكولي أو مناورة سياسية عابرة، بل جاء بمثابة سابقة تاريخية كسرت جدار صمت دولي دام لأكثر من ثلاثة عقود، لتصبح إسرائيل بذلك أول دولة عضو في الأمم المتحدة تضفي الشرعية القانونية الكاملة على هذا الكيان الانفصالي. هذه الخطوة، التي وُصفت في تل أبيب بأنها تأتي "بروح الاتفاقات الإبراهيمية"، وفي مقديشو بأنها "عدوان سافر"، تمثل لحظة مفصلية تتجاوز في دلالاتها حدود العلاقات الثنائية، لتعيد طرح أسئلة وجودية حول استقرار الدولة الوطنية في أفريقيا، ومستقبل أمن البحر الأحمر، وتوازنات القوى في واحد من أكثر الممرات المائية حيوية في العالم.
إن قراءة هذا الحدث تستدعي النظر إليه عبر عدسة واسعة الزاوية، تتجاوز اللحظة الراهنة لتشتبك مع السياقات الجيوسياسية المعقدة التي تعيشها المنطقة. فإسرائيل، التي تجد نفسها منذ السابع من أكتوبر 2023 منخرطة في حروب متعددة الجبهات، وتواجه عزلة دبلوماسية متزايدة وضغوطاً قانونية في المحافل الدولية، لجأت إلى تفعيل استراتيجية "القفز فوق الجغرافيا" والبحث عن حلفاء في الأطراف. يأتي الاعتراف بـ "أرض الصومال" في توقيت بالغ الدقة، حيث تعاني التجارة العالمية من اختناق في مضيق باب المندب بفعل هجمات حركة "أنصار الله" (الحوثيين) في اليمن، وتعيش منطقة القرن الإفريقي حالة من السيولة السياسية والنزاعات البينية، لا سيما الخلاف الإثيوبي-المصري-الصومالي. في هذا المناخ المضطرب، يبدو أن تل أبيب قررت أن أمنها القومي يتطلب تواجداً مباشراً ومشرعناً على الضفة الغربية لخليج عدن، وليس مجرد تواجد أمني سري كما كان الحال في العقود الماضية.
من الناحية الجيوسياسية، يُعد هذا الاعتراف تطبيقاً حديثاً ومحدثاً لـ "عقيدة المحيط" (Periphery Doctrine) التي تبناها ديفيد بن غوريون في خمسينيات القرن الماضي، والتي قامت على فكرة التحالف مع الدول غير العربية (مثل تركيا، إيران الشاه، وإثيوبيا) لتطويق العالم العربي المعادي. اليوم، تعيد إسرائيل إنتاج هذه العقيدة ولكن بأدوات مختلفة؛ فهي لا تتحالف فقط مع دول قائمة، بل تساهم في "خلق" دول جديدة تفتقر إلى الشرعية الدولية وتتوق للاعتراف، مما يجعلها حليفاً طيعاً وموثوقاً يعتمد في بقائه على الدعم الخارجي. إن "أرض الصومال"، بموقعها الاستراتيجي الحاكم على مدخل البحر الأحمر، وبنيتها التحتية المتمثلة في ميناء بربرة ومطار بربرة (الذي رممه السوفييت ثم استخدمته أمريكا في الحرب الباردة)، تمثل لإسرائيل "حاملة طائرات ثابتة" تمكنها من مراقبة جنوب البحر الأحمر، وتهديد العمق اليمني، وتأمين خطوط الملاحة التجارية والعسكرية بعيداً عن رحمة المضائق التي تتحكم فيها دول قد تكون معادية أو غير مستقرة.
على الصعيد الأفريقي والقانوني، يحمل القرار الإسرائيلي خطورة استثنائية تتمثل في فتح "صندوق باندورا" الانفصال في القارة السمراء. فمنذ تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية (الاتحاد الإفريقي حالياً)، كان هناك إجماع مقدس على مبدأ "احترام الحدود الموروثة عن الاستعمار"، خوفاً من أن يؤدي أي تعديل للحدود إلى حروب أهلية لا تنتهي في قارة تتداخل فيها الإثنيات والقبائل. باعترافها الأحادي بكيان انفصالي عن دولة الصومال الفيدرالية، تضرب إسرائيل عرض الحائط بهذا الإجماع القاري، وتخلق سابقة قانونية قد تشجع حركات انفصالية أخرى —مثل المجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن، أو حركات في مالي والكاميرون— على السير في نفس الطريق، مراهنةً على الدعم الإسرائيلي والغربي. هذا البعد يضع إسرائيل في مواجهة مباشرة ليس فقط مع مقديشو، بل مع عواصم إفريقية وعربية مركزية، وعلى رأسها القاهرة، التي ترى في تفتيت الصومال تهديداً مباشراً لأمنها القومي، ولأمن الملاحة في قناة السويس، ولسياسة "وحدة دول حوض النيل".
علاوة على ذلك، لا يمكن فصل هذا التحرك عن الديناميكيات الدولية، وتحديداً الصراع الأمريكي-الصيني. فبينما تحافظ الإدارة الأمريكية الديمقراطية (في عهد بايدن) ظاهرياً على سياسة "الصومال الواحد"، فإن تيارات وازنة داخل الحزب الجمهوري، ومستشارين مقربين من الرئيس دونالد ترامب، يرون في "أرض الصومال" حليفاً ضرورياً لموازنة النفوذ الصيني المتعاظم في جيبوتي والقرن الإفريقي. وتطمح إسرائيل، من خلال استباق واشنطن بهذا الاعتراف، إلى تقديم نفسها كرأس حربة للمصالح الغربية في المنطقة، وربما تمهيد الطريق لاعتراف أمريكي لاحق قد يغير وجه المنطقة تماماً. وفي زاوية أكثر قتامة من المشهد، تلوح في الأفق تقارير وشكوك —رغم النفي الرسمي— حول نوايا خفية تتعلق بإيجاد حلول ديموغرافية للصراع الفلسطيني خارج الجغرافيا التاريخية، عبر استغلال المساحات الشاسعة والهشاشة الاقتصادية لأرض الصومال، وهو ما أثار قلقاً عربياً وفلسطينياً بالغاً عبرت عنه كلمات المندوبين في مجلس الأمن.
إن إعلان "هرجيسا" عاصمة لدولة مستقلة بعيون إسرائيلية ليس حدثاً معزولاً، بل هو حلقة في سلسلة من التحولات التي تعيد هندسة النظام الإقليمي في الشرق الأوسط وأفريقيا. نحن أمام مشهد تتداخل فيه المصالح الأمنية الوجودية لإسرائيل (مواجهة الحوثيين وإيران)، مع طموحات "أرض الصومال" للخروج من العزلة، مع المخاوف العربية من التفتيت والتقسيم. يطرح هذا الاعتراف تحدياً مباشراً لمفهوم السيادة الوطنية في العالم العربي، وينقل الصراع مع إسرائيل من مركزه التقليدي في فلسطين والشام إلى عمق استراتيجي جديد في البحر الأحمر.
تهدف هذه الورقة التحليلية إلى تفكيك أبعاد هذا القرار المركب؛ بدءاً من قراءة السياق التاريخي والسياسي لنشوء "أرض الصومال" كدولة أمر واقع، مروراً بتحليل الدوافع الاستراتيجية الإسرائيلية الخفية والمعلنة، ورصد خارطة المواقف الدولية والإقليمية المتناقضة، وصولاً إلى استشراف السيناريوهات المستقبلية ومآلات هذه الخطوة على أمن المنطقة. هل نحن أمام ميلاد محور جديد يغير قواعد اللعبة في البحر الأحمر؟ أم أنها مقامرة إسرائيلية غير محسوبة ستؤدي إلى إشعال المزيد من الحرائق في منطقة تعيش أصلاً على فوهة بركان؟ الإجابة تكمن في تفاصيل ما وراء الخبر، وفي تشابك المصالح الذي سيتم استعراضه في الفصول القادمة.
المحور الأول: السياق والتعريف.. من "الدولة المستحيلة" إلى الاعتراف الإسرائيلي
لفهم زلزال الاعتراف الإسرائيلي بـ "أرض الصومال" (Somaliland)، لا بد أولاً من تفكيك ماهية هذا الكيان الذي ظل لثلاثة عقود يوصف بـ "أفضل سر محفوظ في أفريقيا" أو "الدولة التي لا توجد على الخريطة". إن الحدث الذي وقع في السادس والعشرين من ديسمبر 2025 لم يأتِ من فراغ، بل هو تتويج لمسار طويل من التباين الجذري بين جمهورية صومالية ممزقة في الجنوب، وجمهورية "أمر واقع" مستقرة في الشمال، تبحث عن ثقب في جدار الشرعية الدولية لتعلن ولادتها الرسمية. يتناول هذا المحور التعريف الجيوسياسي للإقليم، وجذوره التاريخية التي تمنحه خصوصية قانونية، وصولاً إلى تفاصيل الخطوة الإسرائيلية الحاسمة.
1. الجغرافيا السياسية: عقدة "باب المندب"
تقع جمهورية "أرض الصومال" في القرن الإفريقي، ممتدة على مساحة تبلغ حوالي 176 ألف كيلومتر مربع (أي ما يعادل مساحة سوريا تقريباً أو ولاية فلوريدا الأمريكية). تحدها من الغرب جيبوتي، ومن الجنوب والشرق إثيوبيا والصومال (بونتلاند)، بينما يحدها من الشمال خليج عدن بساحل طويل يمتد لنحو 850 كيلومتراً.
تكمن القيمة الاستراتيجية لهذا الكيان ليس في مساحته أو موارده فحسب، بل في موقعه الحاكم. فهي تسيطر على الضفة الجنوبية لخليج عدن المؤدي مباشرة إلى مضيق باب المندب، الممر الحيوي الذي تعبر منه قرابة 12% من التجارة العالمية وكميات ضخمة من نفط الخليج نحو أوروبا. في قلب هذه الجغرافيا يقع "ميناء بربرة"، وهو ميناء عميق المياه كان تاريخياً محل تنافس القوى العظمى؛ استخدمه السوفييت كقاعدة بحرية وصاروخية خلال الحرب الباردة، ثم استخدمته الولايات المتحدة كمهبط طوارئ لمكوك الفضاء وكقاعدة لوجستية. اليوم، يُنظر إلى بربرة كبديل محتمل وأقل تكلفة من القواعد المزدحمة في جيبوتي، وكبوابة بحرية حيوية لإثيوبيا الحبيسة (التي لا تملك منفذاً بحرياً).
2. الجذور التاريخية: حجة "فك الارتباط" لا "الانفصال"
تستند "أرض الصومال" في مطالبتها بالاستقلال إلى سردية تاريخية وقانونية معقدة تميزها عن حركات التمرد الانفصالية التقليدية في أفريقيا. فبينما كان الجنوب الصومالي يخضع للاستعمار الإيطالي (Italian Somaliland)، كان الشمال محمية بريطانية (British Somaliland) منذ عام 1884.
في 26 يونيو 1960، نالت أرض الصومال استقلالها عن بريطانيا وأصبحت دولة ذات سيادة معترف بها من قبل 35 دولة (بما في ذلك الولايات المتحدة ومصر وإسرائيل آنذاك) لمدة خمسة أيام فقط. في الأول من يوليو 1960، اختارت الدولة الوليدة طواعية الاندماج مع الجنوب (الذي استقل عن إيطاليا) لتشكيل "الجمهورية الصومالية" تحقيقاً لحلم "الصومال الكبير".
إلا أن هذا الاتحاد لم يكن سعيداً؛ فقد شعر الشماليون بالتهميش السياسي والاقتصادي لصالح نخب مقديشو. تفاقم الوضع بعد انقلاب اللواء محمد سياد بري عام 1969، الذي أسس نظاماً عسكرياً مركزياً قمعياً. وفي الثمانينيات، شن النظام حملة عسكرية وحشية ضد "الحركة الوطنية الصومالية" في الشمال، بلغت ذروتها في قصف الطيران الحكومي لمدينة "هرجيسا" (عاصمة الشمال) وتسويتها بالأرض فيما عُرف بـ "هولوكوست هرجيسا"، مما أسفر عن مقتل عشرات الآلاف وتعميق الشرخ النفسي والسياسي.
عقب انهيار نظام سياد بري وسقوط الدولة المركزية في مقديشو عام 1991، أعلن شيوخ القبائل والقادة السياسيون في الشمال في "مؤتمر برعو" إلغاء الاتحاد الطوعي لعام 1960، واستعادة سيادة "جمهورية أرض الصومال". ومنذ ذلك الحين، تصر حكومة هرجيسا على أنها لا "تنفصل" عن دولة قائمة، بل "تفك ارتباطاً" فاشلاً بين دولتين كانتا مستقلتين.
3. مفارقة "الدولة الأمر الواقع" والعزلة القانونية
على مدار أكثر من ثلاثة عقود (1991-2025)، قدمت أرض الصومال نموذجاً نادراً في منطقة مضطربة. فبينما غرقت مقديشو والجنوب في حروب أهلية طاحنة، ومجاعات، وسيطرة أمراء الحرب ثم حركة "الشباب" المتطرفة، نجحت أرض الصومال في بناء مؤسسات دولة تعمل بكفاءة نسبية.
لديها دستور تم إقراره باستفتاء شعبي (2001)، وتجري انتخابات رئاسية وبرلمانية دورية شهدت انتقالاً سلمياً للسلطة، وتملك جيشاً نظامياً، وشرطة، وعملة خاصة (شلن صوماليلاند)، وجواز سفر (تقبله بعض الدول كوثيقة سفر)، ونظاماً قضائياً هجيناً يجمع بين القانون المدني والشريعة والأعراف القبلية.
ورغم امتلاكها كافة "مقومات الدولة" بموجب اتفاقية مونتيفيديو (سكان دائمون، إقليم محدد، حكومة، وقدرة على الدخول في علاقات مع دول أخرى)، ظلت تفتقر إلى العنصر الأهم: "الاعتراف الدولي".
يرجع الرفض الدولي، وخاصة الإفريقي، إلى تمسك الاتحاد الإفريقي بمبدأ "عدم المساس بالحدود الموروثة عن الاستعمار" (Uti Possidetis). تخشى العواصم الإفريقية من أن الاعتراف بأرض الصومال سيفتح "صندوق باندورا"، مما يشجع حركات انفصالية في نيجيريا (بيافرا)، الكاميرون (أمبازونيا)، والمغرب (الصحراء)، وإثيوبيا، على المطالبة بالمثل، مما يهدد بتفتيت القارة. لذلك، ظلت أرض الصومال في منطقة رمادية: دولة وظيفية بالكامل من الداخل، وشبح غير مرئي في الدبلوماسية الدولية.. حتى جاء التحرك الإسرائيلي.
4. الحدث: الاختراق الإسرائيلي وتفاصيل الاعتراف
في هذا السياق التاريخي والسياسي الجامد، جاء الإعلان الإسرائيلي في 26 ديسمبر 2025 ليكسر الجمود بضربة واحدة. وفقاً للبيانات الرسمية وتفاصيل الاتصال، يمكن رصد ملامح هذا الحدث في النقاط التالية:
صيغة الاعتراف: لم يكن الاعتراف مجرد تلميح أو مكتب اتصال تجاري، بل جاء بوضوح تام عبر بيان من مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يعلن الاعتراف بـ "سيادة واستقلال جمهورية أرض الصومال". تضمن الإعلان الإشارة إلى تبادل السفراء وفتح سفارات، مما يعني اعترافاً دبلوماسياً كاملاً وليس مجرد تعامل واقعي.
الاتصال المباشر: أجرى نتنياهو اتصالاً مرئياً مع رئيس أرض الصومال، عبد الرحمن محمد عبد الله "عرو"، حيث تم توقيع "إعلان مشترك". تضمن الإعلان لغة دافئة تشير إلى "تحالف القيم والمصالح" ورغبة مشتركة في مكافحة الإرهاب وتأمين الممرات المائية.
غطاء "الاتفاقات الإبراهيمية": اللافت في الخطاب الإسرائيلي هو إصرار نتنياهو على وضع هذا الاعتراف تحت مظلة "روح الاتفاقات الإبراهيمية". هذا التوظيف السياسي يهدف إلى أمرين: الأول، مغازلة الإدارة الأمريكية (خاصة الجمهوريين وأنصار ترامب) باعتبار الخطوة توسيعاً لدائرة السلام والتطبيع. والثاني، محاولة إضفاء طابع "طبيعي" على العلاقة، وكأن أرض الصومال هي دولة عربية أخرى تنضم لركب التطبيع، رغم أنها ليست عضواً في الجامعة العربية بصفة مستقلة، والطرف الآخر (الصومال الفيدرالي) يرفض الخطوة جملة وتفصيلاً.
الوعود الاقتصادية والأمنية: فور الإعلان، صرح وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر بأن وزارته بدأت العمل على خطط للتعاون في مجالات الزراعة الجافة، تحلية المياه، والتكنولوجيا، وهي مجالات تحتاجها أرض الصومال بشدة. لكن المراقبين يقرأون ما بين السطور: التعاون الأهم سيكون استخباراتياً وعسكرياً في ميناء بربرة ومطارها.
بهذا الحدث، نقلت إسرائيل "أرض الصومال" من خانة "الكيان الانفصالي" إلى خانة "الدولة الحليفة"، فارضة واقعاً جيوسياسياً جديداً يتحدى الشرعية الدولية التقليدية، ويؤسس لمرحلة جديدة من الصراع على النفوذ في البحر الأحمر، وهو ما سنناقشه في المحور التالي المتعلق بالأهداف والدوافع.
المحور الثاني: تفاصيل "الحدث" والتحرك الإسرائيلي.. بين "التطبيع" وكسر المحرمات الدبلوماسية
إذا كان السياق التاريخي لأرض الصومال يمثل "الأرضية" التي مهدت للحدث، فإن التحرك الإسرائيلي في السادس والعشرين من ديسمبر 2025 يمثل "البناء" الذي شيدته تل أبيب فوق تلك الأرضية، معلنة بذلك خروج علاقاتها السرية مع هذا الكيان من الظل إلى العلن. لم يكن هذا الاعتراف مجرد برقية دبلوماسية روتينية، بل جاء هندسة سياسية متكاملة الأركان، صُممت بعناية لتحدث صدمة إيجابية في هرجيسا، وترسل رسائل ردع إقليمية. يستعرض هذا المحور التشريح الدقيق لآلية الاعتراف، الغطاء السياسي المتمثل في "السردية الإبراهيمية"، والأدوات الدبلوماسية والاقتصادية التي استُخدمت لتسويق هذه الخطوة.
1. هندسة الإعلان: من الغرف المغلقة إلى البث المباشر
تميز الإعلان الإسرائيلي بطابع احتفالي مقصود يهدف إلى إضفاء أقصى درجات الشرعية على الخطوة. لم تكتفِ إسرائيل ببيان من وزارة الخارجية، بل رفعت مستوى الحدث إلى أعلى هرم السلطة التنفيذية.
الآلية الرسمية: جاء الإعلان عبر بيان صادر عن مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، مما يمنحه ثقلاً سياسياً يتجاوز البيروقراطية الدبلوماسية. تضمن الحدث اتصالاً مرئياً بين نتنياهو ورئيس أرض الصومال "عبد الرحمن محمد عبد الله" (المعروف بـ "عرو"). كانت لغة الجسد والبروتوكول المعتمد في الاتصال توحي بالندية، حيث ظهر العلمان (الإسرائيلي والصوماليلاندي) جنباً إلى جنب، في مشهد بصري يكسر عزلة العقود الثلاثة.
الإعلان المشترك: توج الاتصال بتوقيع "إعلان مشترك ومتبادل"، وهي صيغة قانونية تعني في العرف الدبلوماسي الاعتراف الكامل بالسيادة. نص البيان بوضوح على أن أرض الصومال "دولة مستقلة ذات سيادة"، قاطعاً الطريق أمام أي تفسيرات قد تصف العلاقة بأنها مجرد مكتب تجاري أو تمثيل منخفض المستوى كما تفعل بعض الدول (مثل إثيوبيا أو الإمارات) التي تتعامل مع هرجيسا دون اعتراف رسمي كامل.
المأسسة الفورية: بالتزامن مع إعلان نتنياهو، أصدر وزير الخارجية الإسرائيلي "جدعون ساعر" تعليمات فورية لطواقم وزارته ببدء إجراءات إقامة علاقات دبلوماسية كاملة، تشمل تبادل السفراء وافتتاح سفارات رسمية. هذه السرعة في التنفيذ تشير إلى أن "الطبخة" الدبلوماسية كانت معدة سلفاً، وأن القرار كان ينتظر التوقيت السياسي المناسب فقط.
2. الغطاء السياسي: استعارة "العلامة التجارية" الإبراهيمية
واحدة من أخطر المناورات في هذا الحدث كانت محاولة إسرائيل تأطير اعترافها بأرض الصومال ضمن سياق "الاتفاقات الإبراهيمية"، رغم غياب الطرف العربي "الأصيل" في هذه المعادلة، ورغم الرفض العربي الواسع.
لماذا "الروح الإبراهيمية"؟: استخدم مكتب نتنياهو عبارة "هذا الإعلان يأتي بروح الاتفاقات الإبراهيمية" بشكل مقصود لعدة أسباب:
1. الشرعية الأخلاقية: تصوير الخطوة وكأنها جزء من مسار "السلام" و"التسامح الديني" في المنطقة، وليست مؤامرة لتقسيم دولة عربية ومسلمة.
2. مخاطبة واشنطن: استخدام مصطلح "الاتفاقات الإبراهيمية" هو رسالة مباشرة للرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب (مهندس هذه الاتفاقيات في ولايته الأولى)، في محاولة لجر الإدارة الأمريكية القادمة لمباركة الخطوة باعتبارها امتداداً لإرث ترامب في السياسة الخارجية.
3. تسويق أرض الصومال: تقديم أرض الصومال للعالم الغربي كنموذج لـ "الإسلام المعتدل" المستعد للتعايش مع إسرائيل، في مقابل "الإسلام الراديكالي" المتمثل في حركة الشباب (في الجنوب الصومالي) أو الحوثيين (في اليمن).
المفارقة الأمريكية (عقدة ترامب): المفارقة اللافتة التي برزت في هذا السياق هي التباين بين الرغبة الإسرائيلية والموقف المعلن لترامب. فبينما سوّق نتنياهو الخطوة كهدية لترامب، نُقل عن ترامب في مقابلة مع "نيويورك بوست" تساؤله الساخر: "هل يعرف أحد ما هي أرض الصومال حقاً؟" ورفضه المبدئي للاعتراف. هذا التناقض يكشف أن إسرائيل ربما تحاول "فرض أمر واقع" على الإدارة الأمريكية القادمة، أو أنها تراهن على تغيير قناعات ترامب لاحقاً عبر لوبيات الضغط، مستغلة حاجة واشنطن لمواجهة الصين في القرن الإفريقي.
3. الدوافع المعلنة: "القوة الناعمة" كواجهة للنفوذ
كما هي العادة في الاختراقات الدبلوماسية الإسرائيلية في أفريقيا (كما حدث في تشاد ورواندا)، تقدمت تل أبيب نحو هرجيسا حاملة حقيبة "التكنولوجيا والاقتصاد" في اليد اليمنى، بينما تخفي الأجندة الأمنية في اليد اليسرى. ركز البيان الإسرائيلي وتصريحات المسؤولين على مجالات تعاون تبدو مدنية وإنسانية بحتة:
الزراعة والأمن الغذائي: تعاني أرض الصومال من مناخ شبه صحراوي وجفاف متكرر يهدد ثروتها الحيوانية (عماد اقتصادها). عرضت إسرائيل، الرائدة في تقنيات "الري بالتنقيط" والزراعة في المناطق الجافة، تقديم حلول فورية. هذا المدخل يلمس وتراً حساساً لدى المواطن الصوماليلاندي العادي الذي يبحث عن التنمية، ويساعد حكومة هرجيسا على تسويق التطبيع لشعبها كضرورة اقتصادية.
إدارة المياه والطاقة: الحديث عن مشاريع لتحلية المياه والطاقة المتجددة يمثل إغراءً كبيراً لإقليم يعاني من نقص حاد في البنية التحتية.
التعاون الصحي والتكنولوجي: وعود بتطوير النظام الصحي المتهالك ورقمنة الإدارة.
هذه المجالات، التي تندرج تحت بند "القوة الناعمة"، تمنح التواجد الإسرائيلي "وجهاً مقبولاً" وتخفف من حدة الانتقادات الداخلية في أرض الصومال، حيث لا تزال المشاعر الشعبية (نظرياً) متعاطفة مع القضية الفلسطينية. إنها استراتيجية "السلام الاقتصادي" التي طالما روج لها نتنياهو: السلام مقابل الرخاء، والاعتراف مقابل التكنولوجيا.
4. ما وراء الدبلوماسية: المغزى من التوقيت (ديسمبر 2025)
لم يكن اختيار نهاية عام 2025 عبثياً. يشير التحليل الزمني للحدث إلى تقاطع عدة عوامل جعلت من هذا التوقيت "لحظة الصفر" المثالية:
1. الفراغ الأمريكي: جاء الإعلان في فترة "البطة العرجاء" (بين الانتخابات الأمريكية وتنصيب الرئيس الجديد)، وهي فترة عادة ما تستغلها الدول لتمرير قرارات جريئة قبل أن تتضح معالم السياسة الجديدة للبيت الأبيض.
2. استنزاف حرب غزة: بعد أكثر من عامين على حرب غزة، تحتاج إسرائيل إلى "نصر دبلوماسي" يكسر صورة العزلة الدولية، ويثبت أنها لا تزال قادرة على توسيع دائرة نفوذها رغم الحرب.
3. تصاعد تهديد الحوثيين: مع تحول تهديد الحوثيين للملاحة في البحر الأحمر إلى واقع مزمن، وفشل التحالفات الدولية التقليدية (مثل "حارس الازدهار") في إنهائه، قررت إسرائيل الانتقال من "الدفاع السلبي" إلى "الهجوم الاستراتيجي" عبر التمركز في الضفة المقابلة لليمن.
ان ما جرى لم يكن مجرد توقيع على ورقة اعتراف، بل هو تدشين لتحالف جديد تم "تسليعه" بغلاف اقتصادي وتكنولوجي، و"شرعنته" بغطاء إبراهيمي، و"توقيته" لاستباق تحولات النظام الدولي. لقد استخدمت إسرائيل "الجوع للشرعية" لدى أرض الصومال، لتقدم لها الاعتراف كطوق نجاة، مقابل أن تتحول هرجيسا إلى منصة متقدمة للنفوذ الإسرائيلي في منطقة ملتهبة. هذا التحرك الدبلوماسي، بكل تفاصيله البرّاقة، يمهد الطريق للأهداف الاستراتيجية الأعمق والأخطر.
المحور الثالث: الدوافع الاستراتيجية "غير المعلنة".. صراع الأشباح على بوابات البحر الأحمر
خلف الابتسامات الدبلوماسية والحديث عن "تطوير الزراعة" و"الري بالتنقيط"، تكمن طبقة سميكة من الحسابات الأمنية والعسكرية المعقدة. إن قراءة الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال بمعزل عن خريطة القواعد العسكرية في القرن الإفريقي، وعن صواريخ الحوثيين في اليمن، وعن التنافس الصيني-الأمريكي، هي قراءة قاصرة. يفكك هذا المحور الدوافع الاستراتيجية الصلبة التي جعلت من "هرجيسا" الرقم الصعب في معادلة الأمن القومي الإسرائيلي الجديد.
1. المنظور الإسرائيلي: "عقيدة الأطراف" وتطويق التهديد اليمني
بالنسبة لتل أبيب، يمثل البحر الأحمر "الرئة الجنوبية" التي تتنفس منها تجارتها مع آسيا، وشريان الحياة لميناء إيلات. لكن حرب غزة (منذ أكتوبر 2023) كشفت هشاشة هذا الشريان أمام تهديدات "جماعة أنصار الله" (الحوثيين) في اليمن، الذين نجحوا في فرض حصار شبه كامل على الملاحة الإسرائيلية. هنا تبرز القيمة الجيوستراتيجية لأرض الصومال:
منصة متقدمة لمواجهة الحوثيين: تبعد سواحل أرض الصومال (ميناء بربرة) مسافة لا تتجاوز 300 كيلومتر عن السواحل اليمنية. هذا القرب الجغرافي يمنح إسرائيل ميزة عملياتية هائلة كانت تفتقدها. بدلاً من تسيير طائرات أو مسيرات من قواعدها البعيدة في فلسطين المحتلة (مسافة تزيد عن 2000 كم)، يمكن لإسرائيل – نظرياً – استخدام أراضي أو أجواء أو مياه أرض الصومال كقاعدة انطلاق لعمليات استخباراتية (جمع المعلومات، التنصت)، أو حتى عمليات خاصة وعسكرية مباشرة لضرب منصات الصواريخ والرادارات في اليمن، أو اعتراض الشحنات العسكرية الإيرانية قبل وصولها.
عيون على باب المندب: السيطرة الاستخباراتية على الضفة الغربية لمضيق باب المندب تعني لإسرائيل القدرة على مراقبة حركة السفن بدقة عالية، وضمان عدم تحول البحر الأحمر إلى "بحيرة إيرانية" أو معادية.
إحياء "عقيدة الأطراف" (Periphery Doctrine 2.0): تعود إسرائيل إلى استراتيجيتها الكلاسيكية في الخمسينيات: عندما يعاديك "المركز" العربي (أو يصبح غير موثوق)، ابحث عن حلفاء في "الأطراف". أرض الصومال، ككيان غير عربي (إثنياً) وغير معترف به، ويمتلك عداءً تاريخياً مع الصومال (عضو الجامعة العربية)، تمثل النموذج المثالي لهذه العقيدة. إنها حليف "معزول" يحتاج إلى إسرائيل بقدر حاجة إسرائيل إليه، مما يضمن ولاءً طويل الأمد.
2. منظور أرض الصومال: الطريق إلى واشنطن يمر عبر تل أبيب
في العقل السياسي لقادة "هرجيسا"، لا تُعد إسرائيل غاية في حد ذاتها، بل هي "وسيلة" و"جسر". تدرك النخبة السياسية في أرض الصومال أن مفاتيح الاعتراف الدولي الحقيقي (والدعم المالي من صندوق النقد والبنك الدولي) موجودة في واشنطن والعواصم الغربية، وأن الطريق الأقصر لفتح أبواب الكونغرس والبيت الأبيض هو "اللوبي الإسرائيلي".
تذكرة العبور للشرعية: تراهن أرض الصومال على أن الاعتراف الإسرائيلي سيشجع دولاً غربية مترددة (وربما دولاً أفريقية لها علاقات وثيقة بتل أبيب) على أن تحذو حذوها. المعادلة بسيطة: "إذا قبلتنا إسرائيل، فلا حجة للغرب لرفضنا بدعوى التطرف أو عدم الاستقرار".
التأمين ضد "مقديشو": التحالف مع قوة عسكرية وتكنولوجية مثل إسرائيل يمنح أرض الصومال "بوليصة تأمين" ضد أي محاولة عسكرية مستقبلية من الحكومة الفيدرالية في مقديشو لفرض الوحدة بالقوة. التدريب العسكري، والتسليح النوعي، والغطاء الاستخباراتي المتوقع من إسرائيل سيعزز الفجوة العسكرية بين "جيش أرض الصومال" والقوات الصومالية.
3. البعد الدولي: لعبة "الموانئ" والمنافسة مع الصين
لا يمكن عزل هذا التحرك عن الصراع الأكبر بين الولايات المتحدة والصين في القارة السمراء.
عقدة "جيبوتي": تُعد جيبوتي (الجارة الشمالية لأرض الصومال) دولة مزدحمة بالقواعد العسكرية (الأمريكية، الصينية، الفرنسية، اليابانية..). الوجود العسكري الصيني المباشر هناك، وقربه الشديد من القاعدة الأمريكية "ليمونييه"، يسبب قلقاً مزمناً للبنتاغون بخصوص التجسس والمراقبة.
بربرة كبديل استراتيجي: يمثل ميناء "بربرة" في أرض الصومال بديلاً استراتيجياً مثالياً للولايات المتحدة وحلفائها (بما فيهم إسرائيل). فهو ميناء عميق، يقع على نفس الممر المائي، لكنه "خالٍ" من النفوذ الصيني (حتى الآن). إسرائيل، بتمهيدها الطريق في بربرة، قد تكون بمثابة "كاسحة ألغام" سياسية للولايات المتحدة، لتجهيز الميناء والمطار كقواعد احتياطية للأسطول الأمريكي بعيداً عن الأعين الصينية.
مغازلة "اليمين الأمريكي": يدرك نتنياهو أن تيار المحافظين والجمهوريين في أمريكا ينظر بقلق إلى التمدد الصيني في أفريقيا. بتقديم "أرض الصومال" كحليف موالٍ للغرب ومناهض للصين (أرض الصومال تقيم علاقات مع تايوان نكاية بالصين التي تدعم الصومال الموحد)، تقدم إسرائيل خدمة استراتيجية لواشنطن قد تُكافأ عليها بدعم سياسي لاحق.
4. الاقتصاد السياسي: ثروات بكر
أخيراً، هناك دافع اقتصادي لا يقل أهمية. تشير التقارير الجيولوجية إلى احتمالات واعدة بوجود احتياطيات من النفط والغاز والمعادن النادرة في أرض الصومال. الشركات الغربية والإسرائيلية تتطلع إلى هذه الموارد في بيئة استثمارية قد تكون أكثر مرونة وأقل بيروقراطية من الدول المستقرة ذات السيادة الصارمة. الاعتراف السياسي هو المفتاح القانوني الذي يسمح لهذه الشركات بتوقيع عقود استخراج وتنقيب طويلة الأمد "بشكل شرعي".
ان الاعتراف هو في جوهره "صفقة تبادلية أمنية": إسرائيل تشتري "جغرافيا" لردع إيران والحوثيين، وأرض الصومال تشتري "نفوذاً" لكسر عزلتها الدولية. إنه تحالف الضرورة الذي يُعيد رسم خريطة التحالفات في البحر الأحمر، محولاً إياه من ممر تجاري إلى خط تماس عسكري ساخن.
المحور الرابع: خارطة المواقف وردود الفعل.. انقسام إقليمي وتصدع في الإجماع الدولي
لم يكن الاعتراف الإسرائيلي بـ "أرض الصومال" مجرد خبر عابر في نشرات الأخبار، بل كان بمثابة حجر ضخم أُلقي في مياه القرن الإفريقي الراكدة، مُحدثاً موجات ارتدادية وصلت إلى عواصم بعيدة. كشف هذا الحدث عن خريطة تحالفات جديدة ومعقدة، حيث تداخلت المصالح القومية مع المخاوف الأمنية، وانقسم المشهد بوضوح بين "جبهة رفض" ترى في الخطوة تهديداً وجودياً، و"جبهة ترحيب" ترى فيها طوق نجاة، و"موقف دولي مرتبك" يحاول استيعاب الصدمة.
1. جبهة الرفض: "المركز" يدافع عن بقائه
تصدرت الحكومة الفيدرالية الصومالية ومصر المشهد الرافض، ليس فقط من منطلق الدفاع عن الشرعية الدولية، بل لشعورهما بأن هذا التحرك يستهدف أمنهما القومي في الصميم.
الصومال (مقديشو): معركة الوجود
بالنسبة للرئيس الصومالي حسن شيخ محمود وحكومته في مقديشو، يمثل الاعتراف الإسرائيلي "طعنة في الظهر" وتهديداً وجودياً لكيان الدولة الصومالية الهشة أصلاً.
التوصيف الرسمي: وصفت مقديشو الخطوة بأنها "عدوان سافر" و"انتهاك للقانون الدولي"، واستدعت سردية "المؤامرة لتفتيت الصومال".
التحرك المضاد: لم تكتفِ الصومال بالبيانات، بل بدأت حراكاً دبلوماسياً مكثفاً تجاه حلفائها الاستراتيجيين (تركيا ومصر) لطلب الدعم. تدرك مقديشو أن الاعتراف الإسرائيلي قد يمنح أرض الصومال "قوة عسكرية" تجعل حلم استعادة الوحدة مستحيلاً.
الورقة الإسلامية: لعبت الحكومة الصومالية على الوتر الديني، مصورة التحالف بين هرجيسا وتل أبيب كخيانة للقضية الفلسطينية وللأمة الإسلامية، في محاولة لعزل أرض الصومال شعبياً في محيطها الإسلامي.
مصر: خط أحمر في "الحديقة الخلفية"
كان الرد المصري سريعاً وحازماً، حيث أجرى وزير الخارجية المصري اتصالات فورية مع نظرائه. تنظر القاهرة إلى هذا التطور بقلق بالغ لسببين رئيسيين:
1. أمن البحر الأحمر وقناة السويس: تواجد إسرائيل عسكرياً أو استخباراتياً في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر (باب المندب) يعني امتلاكها ورقة ضغط إضافية على شريان الاقتصاد المصري (قناة السويس).
2. الخوف من "الكمّاشة": يأتي هذا بعد اتفاقية (أرض الصومال - إثيوبيا) المثيرة للجدل، مما يجعل مصر تشعر بأن هناك محاولات لمحاصرتها من الجنوب عبر تحالف (إثيوبي-إسرائيلي-صوماليلاندي) يهدد مصالحها في مياه النيل وأمنها البحري.
تركيا:
انضمت أنقرة بقوة لجبهة الرفض، واصفة الخطوة بأنها جزء من "السياسة التوسعية الإسرائيلية". تركيا، التي تمتلك أكبر قاعدة عسكرية لها خارج الحدود في الصومال (مقديشو)، ترى في دخول إسرائيل على خط القرن الإفريقي منافسة مباشرة لنفوذها ومصالحها الاقتصادية والعسكرية هناك.
2. جبهة الترحيب: "الأطراف" تحتفل بالخروج من العتمة
على النقيض تماماً من أجواء الغضب في مقديشو والقاهرة، عاشت "أرض الصومال" لحظات من النشوة السياسية.
الاحتفالات الشعبية والرسمية:
شهدت العاصمة "هرجيسا" ومدن "برعو" و"بربرة" خروج الآلاف في مسيرات عفوية ومنظمة. رُفعت الأعلام الإسرائيلية جنباً إلى جنب مع أعلام أرض الصومال، في مشهد نادر الحدوث في العالم الإسلامي. بالنسبة للمواطن العادي في أرض الصومال، لا يتعلق الأمر بحب إسرائيل بقدر ما يتعلق بـ "الاعتراف بالوجود". إنه شعور بانتصار الهوية بعد 34 عاماً من التجاهل الدولي.
الخطاب الحكومي:
حاولت حكومة أرض الصومال "عقلنة" الخطوة وتسويقها داخلياً. ركز المسؤولون في تصريحاتهم على "المصالح المشتركة" و"التنمية"، ونفوا بشدة (عبر وزير القصر الرئاسي) أي نية للإضرار بدول الجوار أو قبول تهجير الفلسطينيين، مؤكدين أن سيادتهم قرار وطني لا يستهدف أحداً.
3. جبهة التهديد: "محور المقاومة" يدخل المعادلة
لم يغب "محور المقاومة" عن المشهد، حيث اعتبرت إيران وحلفاؤها في اليمن أن الخطوة موجهة ضدهم مباشرة.
الحوثيون (أنصار الله):
أصدرت الجماعة تحذيرات واضحة، معتبرة أن أي تواجد إسرائيلي في أرض الصومال سيُعامل كـ "هدف عسكري مشروع". هذا يرفع من منسوب الخطر، إذ يهدد بتحويل أراضي أرض الصومال الآمنة نسبياً إلى ساحة لتلقي الصواريخ والمسيّرات اليمنية، مما قد يضرب الاستقرار الذي تتغنى به هرجيسا.
4. الموقف الدولي: ارتباك بين "الواقعية" و"القانون"
وقف المجتمع الدولي، وخاصة الغرب، في موقف رمادي ومتردد، يعكس صراعاً بين الرغبة في الاستقرار والواقع الجديد الذي فرضته إسرائيل.
الولايات المتحدة (الوجهان المتناقضان):
الإدارة الحالية (بايدن): تمسكت بالموقف الكلاسيكي الداعم لـ "صومال واحد" ووحدة أراضيه، خوفاً من الفوضى.
الإدارة القادمة/الجمهوريون: ظهر تباين لافت؛ فبينما أبدى ترامب (في تصريحات سابقة) شكوكاً حول جدوى الاعتراف، يدفع صقور الحزب الجمهوري ومراكز الأبحاث المحافظة (مثل Heritage Foundation) باتجاه دعم الخطوة الإسرائيلية لمواجهة الصين. هذا الانقسام يجعل الموقف الأمريكي "قنبلة موقوتة" قد تنفجر في أي اتجاه بعد تنصيب الرئيس الجديد.
الاتحاد الإفريقي:
كان الأكثر قلقاً، إذ حذر من "سابقة خطيرة". يخشى الاتحاد من "تأثير الدومينو"؛ فإذا نالت أرض الصومال الاعتراف، سيتساءل الانفصاليون في نيجيريا والكاميرون ومالي: "لماذا ليس نحن؟". لذلك، يتمسك الاتحاد برفض الخطوة دفاعاً عن بقاء الخريطة الإفريقية كما هي.
الاتحاد الأوروبي:
اكتفى بدعوات خجولة للحوار واحترام السيادة، متجنباً الصدام المباشر مع إسرائيل، ولكنه قلق من أن يؤدي التوتر الجديد إلى موجات هجرة ومزيد من عدم الاستقرار في ممر التجارة الذي يربطه بآسيا.
ان الاعتراف الإسرائيلي قد قسم المنطقة عمودياً. فبينما تحتفل هرجيسا بانتصارها الرمزي، تستعد مقديشو والقاهرة لمعركة دبلوماسية وربما أمنية طويلة الأمد. وفي الخلفية، يراقب الحوثيون المشهد عبر مناظير صواريخهم، بينما ينتظر الجميع الكلمة الفصل التي ستصدر من واشنطن في يناير المقبل. المشهد الآن ليس مجرد "اعتراف"، بل هو إعادة تموضع شاملة لبيادق الشطرنج في القرن الإفريقي.
المحور الخامس: المخاطر والسيناريوهات.. بين "شبح التهجير" و"تأثير الدومينو"
إذا كانت المحاور السابقة قد ركزت على "ماذا حدث ولماذا؟"، فإن هذا المحور يُعنى بالإجابة على السؤال الأخطر: "إلى أين نتجه؟". إن الاعتراف الإسرائيلي بـ "أرض الصومال" ليس نهاية المطاف، بل هو شرارة أولى في حقل ألغام جيوسياسي. يفتح هذا القرار الباب أمام احتمالات مفتوحة، تتراوح بين إعادة هندسة الديموغرافيا في المنطقة، وتفجير الدول الوطنية من الداخل، وعسكرة البحر الأحمر بشكل غير مسبوق. فيما يلي تحليل لأبرز المخاطر والسيناريوهات المتوقعة.
1. الخطر الديموغرافي: شبح "الوطن البديل" وقضية غزة
لعل أكثر الزوايا إثارة للرعب في العقل الجمعي العربي والفلسطيني هي الربط بين هذا الاعتراف وبين مشاريع "التهجير".
أصل المخاوف: استندت مخاوف دول عربية (عبر عنها مندوبو المجموعة العربية في الأمم المتحدة) إلى تقارير وتسريبات – رغم النفي الرسمي – تشير إلى أن إسرائيل، التي تضم حكومتها وزراء من اليمين المتطرف يدعون علناً لـ "التهجير الطوعي" لسكان غزة، قد تجد في أرض الصومال "مساحة جغرافية" لاستيعاب أعداد من الفلسطينيين مقابل حزم مساعدات اقتصادية ضخمة لهرجيسا.
الجاذبية للنظرية: أرض الصومال مساحتها شاسعة، كثافتها السكانية منخفضة جداً، وتعاني من فقر مدقع وحاجة ماسة للاعتراف والمال. بالنسبة للمخطط الاستراتيجي الإسرائيلي، قد تبدو فكرة "نقل المشكلة الديموغرافية" إلى القرن الإفريقي حلاً سحرياً.
الواقع السياسي: رغم أن حكومة أرض الصومال نفت هذه الأنباء بشدة، إلا أن مجرد وجود "علاقة تبعية" كاملة لإسرائيل يجعل القرار السيادي في هرجيسا مرهوناً برغبات الممول والحامي الجديد. يظل هذا السيناريو "فزاعة" سياسية قد تتحول إلى واقع إذا اشتدت الضغوط الاقتصادية على الإقليم.
2. خطر "بلقنة" المنطقة: "تأثير الدومينو" الانفصالي
الخطر الاستراتيجي الثاني هو تحويل جنوب البحر الأحمر إلى مجموعة من "الكانتونات" أو الدول الصغيرة المتحالفة مع إسرائيل، مما يقضي على مفهوم الدولة الوطنية الكبرى.
نموذج "جنوب اليمن": العين الآن تتجه فوراً إلى الضفة المقابلة، حيث يسيطر "المجلس الانتقالي الجنوبي" على عدن وجزء كبير من جنوب اليمن. يطمح الانتقالي لاستعادة "دولة الجنوب"، وقد ألمحت قيادته سابقاً لاستعدادها للتطبيع. نجاح تجربة "أرض الصومال" سيشكل حافزاً هائلاً لانفصاليي اليمن لتسريع خطواتهم وطلب الدعم الإسرائيلي المماثل، مما يعني تقسيم اليمن نهائياً ومحاصرة شماله (الواقع تحت سيطرة الحوثيين) في جيب جبلي معزول عن البحر.
تفتيت إفريقيا: كما حذر الاتحاد الإفريقي، فإن نجاح الانفصال في الصومال قد يشعل فتيل النزاعات في إثيوبيا (التي تعاني من نزاعات عرقية) وغيرها، مما يحول القارة إلى ساحة حروب أهلية لا تنتهي، وتصبح إسرائيل (والغرب) هي الحكم والضامن لهذه الدويلات الجديدة.
3. خطر العسكرة: تحويل "واحة السلام" إلى ساحة حرب
ظلت أرض الصومال تفاخر لسنوات بأنها "واحة استقرار" وسط منطقة مشتعلة. التحالف مع إسرائيل قد ينهي هذه الميزة.
استهداف الحوثيين: بمجرد أن تضع إسرائيل راداراتها أو جنودها في بربرة، ستصبح أراضي الصومال هدفاً مشروعاً لصواريخ ومسيّرات الحوثيين. قد تجد هرجيسا نفسها جزءاً من "بنك الأهداف" لمحور المقاومة، مما يضرب قطاع التجارة والميناء الذي تعتمد عليه.
حرب الوكالة (إثيوبيا vs مصر): قد تستغل إثيوبيا الغطاء الإسرائيلي لتنفيذ مذكرة التفاهم مع أرض الصومال لإنشاء قاعدة بحرية، مما يستفز مصر والصومال، وقد يدفع القاهرة ومقديشو لدعم ميليشيات قبلية داخل أرض الصومال لزعزعة استقرار النظام هناك، وتتحول الأرض إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية.
4. السيناريوهات المستقبلية (إلى أين؟)
بناءً على المعطيات الحالية، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات لمستقبل هذا الاعتراف:
السيناريو الأول: "كرة الثلج" (الاعتراف الأمريكي والدولي)
أن تقوم إدارة ترامب (بعد يناير 2026) باتخاذ خطوة مماثلة والاعتراف بأرض الصومال، مدفوعة بضغط اللوبي الإسرائيلي والحاجة لمواجهة الصين. تتبعها دول أوروبية وإفريقية حليفة للغرب.
ومن ثم تكريس انفصال أرض الصومال نهائياً، تحولها إلى مركز نفوذ غربي/إسرائيلي قوي، وضياع حلم الوحدة الصومالية للأبد. هذا هو "سيناريو الحلم" لهرجيسا وتل أبيب.
السيناريو الثاني: "الكأس المسموم" (العزلة والاقتتال الداخلي)
أن تكتفي إسرائيل بالاعتراف، بينما تحجم واشنطن وبقية العالم عنه خوفاً من الفوضى. في المقابل، تنجح الدول العربية والإفريقية في فرض حصار اقتصادي وسياسي خانق على أرض الصومال عقاباً لها.
ثم يؤدي الحصار والضغط الداخلي (من القوى الإسلامية والقبائل الرافضة للتطبيع) إلى اضطرابات داخلية في هرجيسا، وربما حرب أهلية تعيد الإقليم إلى المربع صفر، وتخرج إسرائيل بخسارة استراتيجية.
السيناريو الثالث: "الستاتيكو الجديد" (الأمر الواقع المسلح)
بقاء الوضع على ما هو عليه؛ اعتراف إسرائيلي منفرد، وتواجد عسكري محدود، دون اعتراف دولي واسع. تتحول أرض الصومال إلى "قاعدة عسكرية" كبيرة لإسرائيل وإثيوبيا، مع استمرار المناوشات السياسية مع مقديشو دون حرب شاملة.
والنتيجة حالة من "اللاحرب واللاسلم"، واستنزاف مستمر لدول المنطقة، وزيادة حدة الاستقطاب في البحر الأحمر.
لقد لعبت إسرائيل "ورقة الجوكر" في القرن الإفريقي. إنها مقامرة كبرى؛ فإما أن تنجح في خلق "شرق أوسط جديد" يبدأ من باب المندب، أو أنها فتحت أبواب الجحيم على منطقة لا تحتمل المزيد من الحرائق. الثابت الوحيد هو أن خريطة التحالفات التي عرفناها لسنوات قد انتهت، وبدأت مرحلة "كسر العظم" في صراع الممرات الدولية.
المحور السادس: البعد الآسيوي.. "جنوب اليمن" وصدى الاعتراف في الضفة المقابلة
لا يمكن قراءة زلزال الاعتراف الإسرائيلي بـ "أرض الصومال" بمعزل عن الجغرافيا السياسية للضفة الشرقية للبحر الأحمر، وتحديداً "جنوب اليمن". فالعلاقة بين "هرجيسا" و"عدن" ليست مجرد جوار بحري، بل هي علاقة "توأمة سياسية" ومصير مشترك في نظر الحركات المطالبة بفك الارتباط. يفكك هذا المحور كيف تحول التحرك الإسرائيلي في أفريقيا إلى "محفز" و"نموذج" للصراع في اليمن، وكيف تسعى تل أبيب لربط الضفتين في استراتيجية أمنية واحدة.
1. سابقة "فك الارتباط": الحافز السياسي للمجلس الانتقالي
يمثل المجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن (الذي يسيطر على عدن ويسعى لاستعادة دولة الجنوب) الطرف الأكثر مراقبة واهتماماً بما يجري في أرض الصومال.
التشابه البنيوي: كلا الكيانين يستند إلى سردية متشابهة: دولتان مستقلتان سابقاً (جمهورية اليمن الديمقراطية ومحمية الصومال البريطاني) دخلتا في وحدة اندماجية "فاشلة" (عامي 1990 و1960) وتسعيان لاستعادة السيادة.
كسر "التابو" الدولي: كان العائق الأكبر أمام المجلس الانتقالي هو الإجماع الدولي على "وحدة اليمن" ورفض تقسيم الدول. الآن، وباعتراف إسرائيل (دولة ذات نفوذ عالمي) بأرض الصومال، سقطت هذه الحجة القانونية.
الأثر المباشر: يمنح هذا الحدث قيادة المجلس الانتقالي في عدن "ذخيرة دبلوماسية" للضغط على المجتمع الدولي، مفادها: "ما طُبق في القرن الإفريقي يجب أن يُطبق في جنوب الجزيرة العربية"، مما قد يدفعهم لتسريع خطوات فرض الأمر الواقع وإعلان إجراءات أحادية تنهي التزامهم الشكلي بالشرعية اليمنية.
2. استراتيجية "الكمّاشة": حصار الحوثيين من الضفتين
من المنظور العسكري الإسرائيلي، السيطرة على ضفة واحدة من "باب المندب" لا تكفي لتأمين الملاحة وخنق التهديدات القادمة من الشمال اليمني (الحوثيين).
تطويق المضيق: تهدف الاستراتيجية الإسرائيلية إلى خلق حركة "كمّاشة" عبر التواجد في "بربرة" (أرض الصومال) وبناء جسور تفاهم مع القوى المسيطرة على "عدن" و"سقطرى" و"باب المندب" (جنوب اليمن).
العدو المشترك: تلتقي مصالح إسرائيل مع مصالح "الجنوبيين" في اليمن عند نقطة عداء الحوثيين. هذا التقاطع يسهل بناء تعاون استخباراتي (وربما عسكري) لمراقبة السواحل ومنع تهريب الأسلحة الإيرانية من القرن الإفريقي إلى الحوثيين، مما يحول البحر الأحمر إلى بحيرة أمنية مغلقة أمام النفوذ الإيراني.
3. معادلة "الدولة مقابل التطبيع"
سبق لقيادات بارزة في المجلس الانتقالي الجنوبي (مثل عيدروس الزبيدي) أن ألمحت في تصريحات صحفية سابقة إلى عدم ممانعتها التطبيع مع إسرائيل إذا كان ذلك يخدم مصلحة استعادة الدولة الجنوبية.
إسرائيل كبوابة للغرب: رسخ الاعتراف بأرض الصومال قناعة لدى النخب السياسية في جنوب اليمن بأن "الطريق إلى واشنطن يمر عبر تل أبيب".
المقايضة المحتملة: قد نشهد في المرحلة المقبلة سباقاً غير معلن من قبل فصائل يمنية لتقديم "أوراق اعتماد" لإسرائيل، عارضين التطبيع الكامل والتعاون الأمني مقابل الاعتراف بدولة الجنوب المستقلة. هذا يحول إسرائيل من "عدو" في الأدبيات اليمنية التقليدية إلى "صانع ملوك" ومانح للشرعية.
4. الدور الإماراتي: "الخيط الناظم" بين الضفتين
لا يمكن إغفال الدور المحوري لدولة الإمارات العربية المتحدة، التي تعتبر الحليف الأوثق لكل من إسرائيل، وأرض الصومال (حيث تدير موانئ دبي ميناء بربرة)، والمجلس الانتقالي الجنوبي (الداعم الرئيسي له عسكرياً وسياسياً).
المحور الثلاثي: يرى مراقبون أن ما يجري هو هندسة لمحور جديد يمتد من أبوظبي إلى تل أبيب، مروراً بعدن وهرجيسا. وجود "عراب مشترك" يسهل التنسيق الأمني والسياسي بين هذه الأطراف، ويجعل احتمالية انتقال السيناريو من الصومال إلى اليمن مسألة وقت وترتيبات فقط.
5. المخاطر: توحيد الجبهة المضادة
في المقابل، يحمل هذا الربط مخاطر عكسية:
ذريعة للحوثيين: سيستغل الحوثيون (أنصار الله) هذا التقارب لتعزيز سرديتهم بـ "العدوان الأمريكي الصهيوني"، وتخوين خصومهم في الجنوب علناً، مما قد يمنحهم غطاءً شعبياً لتصعيد العمليات العسكرية باتجاه الجنوب بدعوى "حماية اليمن من الصهينة".
القلق السعودي: قد يؤدي التمدد الإسرائيلي إلى جنوب اليمن (الحديقة الخلفية للسعودية) إلى إثارة حفيظة الرياض، التي تخشى من فقدان نفوذها التاريخي في اليمن لصالح محور جديد، مما قد يدفعها لإعادة ترتيب تحالفاتها داخل اليمن لفرملة طموحات الانفصال السريع.
لقد تحول البحر الأحمر إلى "مسرح عمليات واحد". وألغت الخطوة الإسرائيلية الفواصل السياسية بين أفريقيا وآسيا في هذا الممر، وجعلت مصير "أرض الصومال" و"جنوب اليمن" مرتبطاً ببعضه البعض، ضمن لعبة كبرى تهدف لإعادة رسم خريطة الدول والممرات المائية في المنطقة.
الخاتمة: تدشين "الشرق الأوسط الجديد
في الختام يتضح جلياً أن اعتراف إسرائيل بـ "أرض الصومال" في السادس والعشرين من ديسمبر 2025 لم يكن مجرد حدث دبلوماسي معزول يخص القرن الإفريقي فحسب، بل هو "حجر الزاوية" في مشروع أوسع لإعادة هندسة الأمن والنفوذ في حوض البحر الأحمر بشقيه الإفريقي والآسيوي. إننا أمام لحظة تاريخية تعلن وفاة "الوضع الراهن" الذي حكم المنطقة لعقود، وتدشن مرحلة جديدة تقوم على "تحالفات الأمر الواقع" وتجاوز الشرعية الدولية التقليدية.
لقد نجحت تل أبيب، عبر هذه الخطوة، في تحويل البحر الأحمر من ممر تجاري إلى "بحيرة أمنية" تسعى لإحكام قبضتها عليها عبر استراتيجية "الكمّاشة". فمن خلال التواجد الرسمي في "هرجيسا" على الضفة الغربية، ومد جسور التفاهم الضمني مع "عدن" في الضفة الشرقية، تطمح إسرائيل إلى خنق النفوذ الإيراني والحوثي في مضيق باب المندب، ناقلة خطوط دفاعها من "إيلات" إلى خط الاستواء.
إن الخطورة الاستراتيجية لهذا الحدث لا تكمن فقط في عسكرة القرن الإفريقي، بل في "السابقة السياسية" التي أرساها. فقد قدمت إسرائيل نموذجاً جديداً للحركات الانفصالية في المنطقة – وتحديداً المجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن – مفاده أن "الشرعية الدولية" و"الدولة المستقلة" باتت سلعاً يمكن شراؤها عبر بوابة التحالف الأمني مع تل أبيب. هذا الربط العضوي بين مصير "أرض الصومال" و"جنوب اليمن" يجعل من انفصال الأول مقدمةً وسنداً قانونياً لانفصال الثاني، مما يهدد بنسف خرائط الدول الوطنية في المنطقة وتفتيتها إلى كانتونات صغيرة تعتمد في بقائها على الحماية الخارجية.
بناءً على ذلك، لم تعد المنطقة تواجه تهديداً كلاسيكياً يتمثل في "التطبيع"، بل تواجه واقعاً جديداً يتم فيه مقايضة "الجغرافيا" بـ "الاعتراف". هذا التحول يضع القوى الإقليمية الكبرى، وعلى رأسها مصر والسعودية والصومال، أمام تحديات وجودية تمس أمنها المائي والحدودي، وتفرض عليها إعادة النظر في استراتيجياتها الدفاعية لمنع تحول البحر الأحمر إلى ساحة صراع دولي مفتوح أو منطقة نفوذ إسرائيلي خالص.
في المحصلة، لقد ألقت إسرائيل بحجرها في المياه الراكدة، والآن تتسع الدوائر لتشمل الصومال واليمن وما وراءهما. ويبقى المتغير الحاسم في الأشهر المقبلة هو الموقف الأمريكي في عهد الإدارة الجديدة؛ فإذا قررت واشنطن مباركة هذا "المحور الجديد" الممتد من بربرة إلى عدن، فإننا سنشهد رسمياً ولادة خريطة جديدة للمنطقة، تتبدل فيها التحالفات، وتتغير فيها الحدود، وتصبح فيها "دولة الأمر الواقع" هي القاعدة، و"الدولة الوطنية الموحدة" هي الاستثناء.