رغم انقضاء شهور على انفجار بيروت: الضحايا ما زالوا في انتظار إجابات
وكالات
2020-12-31 07:45
تعتقد تريسي وبول نجار أنه كان بالإمكان أن تنجو ابنتهما ألكسندرا من انفجار الرابع من أغسطس آب الذي وقع في مرفأ بيروت لو أن السلطات أدت ما عليها في ذلك اليوم المشؤوم، وفي غمار حزنهما على ابنتهما التي اختطفها الموت وهي في الثالثة يؤرقهما سؤال واحد: لماذا لم يُطلق أحد جرس إنذار أو يجلي السكان بينما كان الحريق يستعر لأكثر من نصف ساعة قرب كمية هائلة من مادة شديدة الانفجار؟
قالت تريسي (34 عاما) التي كانت في بيتها مع أسرتها في حي الجميزة عندما دمر الانفجار مرفأ بيروت القريب من المنطقة "كان عندهم 40 دقيقة ليقولوا لنا ’اخرجوا من بيروت. اختبئوا. ابتعدوا عن النوافذ!’. لم يفعلوا ذلك". بحسب رويترز.
وأضافت "كان عندهم 40 دقيقة للاستعداد لانفجار بيروت، لإعداد المستشفيات، لفتح الطرق وإرسال الأطباء والجيش ولم يفعلوا ذلك"، وامتنع مسؤولون أمنيون تواصلت معهم رويترز عن التعليق على مظالم أسر الضحايا وتساؤلاتهم عن أسباب عدم الاستعداد وعدم إطلاق أجراس الإنذار.
كانت مأساة الرابع من أغسطس آب واحدة من أكبر الانفجارات غير النووية التي تم تسجيلها على الإطلاق. راح ضحيته حوالي 200 قتيل وآلاف الجرحى ودمر مساحات واسعة من العاصمة اللبنانية.
وبعد انقضاء أربعة أشهر لا يزال الضحايا ينتظرون نتيجة التحقيق في أسباب ترك 2750 طنا من نترات الأمونيوم التي يمكن أن تحدث انفجارا شديدا مخزنة دون مراعاة إجراءات السلامة في المرفأ الذي تحيط به أحياء سكنية لأكثر من ست سنوات.
وكانت القيادات اللبنانية قد وعدت بالكشف عنها في غضون أيام، قالت تريسي "بدلا من الحزن ومحاولة الاستمرار في حياتنا، نكافح اليوم من أجل شيء هو فعلا حق من حقوقنا. وهو معرفة الحقيقة. إحقاق الحق"، وأضافت "لم نيأس ولن نيأس"، وقد توفيت الطفلة ألكسندرا ابنتهما الوحيدة متأثرة بالجروح التي أصيبت بها وذلك بعد خمسة أيام من الانفجار، استغرق وصولها إلى المستشفى ساعة بسبب الزحام في الشوارع، وقالت تريسي "لو أنهم فتحوا الطرق لنجا كثيرون، ولربما نجت ألكسندرا".
وروت كيف أن الأجهزة الأمنية لم يكن لها وجود في أعقاب الانفجار وكيف ساعد الناس العاديون بعضهم بعضا. فقد وصل زوجها بول إلى المستشفى ومعه ألكسندرا على دراجة نارية لشخص غريب.
وانقضت أسابيع قبل أن تسمع الأسرة شيئا من أحد المسؤولين، كان أول من اتصل بالأسرة ضابط من الجيش طلب منها المشاركة في اجتماع لتأبين الضحايا يحضره قائد الجيش. وقوبل الطلب بالرفض، قال بول نجار (36 عاما) وقد بدت على وجهه ندوب من آثار الانفجار "بالنسبة لنا الرئيس والحكومة والجيش كلهم جزء من هذا وهذه طريقة لغسل أيديهم"، وأضاف أنه كان من الممكن تفادي سقوط الكثير من الضحايا لو أن الأجهزة المعنية أطلقت أجراس الإنذار.
غدر
يرى البعض في لبنان أن الانفجار وأسلوب أجهزة الدولة في التعامل مع تداعياته يمثلان إدانة للنخبة السياسية الحاكمة التي قادت البلاد من أزمة إلى أخرى، واحتجزت السلطات عددا من كبار المسؤولين من بينهم المدير العام للمرفأ ومدير الجمارك. كما وجه القاضي الذي يتولى التحقيق تهمة الإهمال لرئيس وزراء لبنان حسان دياب وثلاثة وزراء سابقين.
وقال دياب الذي قدمت حكومته استقالتها بسبب الانفجار بعد أن تولت الحكم في أوائل 2020 إن ضميره مرتاح واتهم القاضي بمخالفة الدستور، تبين وثائق اطلعت عليها رويترز وتصريحات لمصادر أمنية رفيعة أن مسؤولين أمنيين حذروا رئيس الوزراء ورئيس الدولة في يوليو تموز من أن نترات الأمونيوم المخزنة في المرفأ تمثل خطرا أمنيا وربما تدمر العاصمة إذا انفجرت، وقال مسؤول أمني في منصب رفيع لرويترز في أغسطس آب إن الحريق اندلع بسبب شرر من عملية لحام، وفي أكتوبر تشرين الأول قال مكتب التحقيقات الاتحادي الأمريكي الذي أرسل محققين إلى بيروت للمساعدة في تحري حقيقة ما حدث إنه لم يتوصل إلى استنتاج مؤكد لسبب الانفجار، وتعتقد وكالات أمريكية أخرى ووكالات حكومية أوروبية تتابع التحقيقات عن كثب اعتقادا راسخا أن الانفجار غير متعمد.
وفي ذكرى مرور أربعة أشهر على الانفجار تجمعت أسر بعض الضحايا في وقفة احتجاجية عند مدخل المرفأ. وطالبت لافتة بمعرفة نتائج التحقيق وبالشفافية محذرة من نفاد الصبر، ومنذ الانفجار واستقالة الحكومة في أعقابه، فشل الساسة من أصحاب النفوذ في تشكيل حكومة جديدة وسط مماحكات على شغل المناصب.
وعرقلت هذه الخلافات المعهودة مساعي لبنان لإعادة البناء بعد الانفجار في ظل المشاكل الأوسع مثل الأزمة الاقتصادية المتصاعدة التي دفعت بالملايين إلى صفوف الفقراء، قالت ريتا حتي التي قتل ابنها نجيب أحد رجال الإطفاء مع اثنين آخرين من أفراد الأسرة أثناء مكافحة الحريق الذي تسبب في انفجار المرفأ "أي زعماء؟ نحنا عنا زعما؟ ... لو منن (لو لم يكونوا) مافيا ما وصلنا لهون"، وأضافت "هني لو فين (فيهم) ذرة كرامة طلع واحد فين اعتذر من الشعب اللبناني. احتراما للضحايا اللي راحت مفروض أكبر واحد يقدم استقالته ويفل ع بيته. بعدن عم يتقاسموا الجبنة، بعد ما شبعوا".
اعتاد ثلاثي رجال الإطفاء نجيب حتي (27 عاما) وصهره شربل كرم (37 عاما) وابن عمه شربل حتي (21 عاما) العمل في نوبة عمل واحدة على الدوام. وفي آخر مكالمة قال شربل كرم لزوجته كارلين إنهم ذاهبون للمرفأ لإخماد حريق.
وقالت كارلين، التي أصبحت تحمل وحدها عبء تربية بنتيها آنجلينا وكاترينا، إن أفراد الأسرة تنقلوا بعد الانفجار من مستشفى لآخر بحثا عن الرجال الثلاثة، وأضافت متحدثة عن ابنتها آنجلينا "سألوها شو بدك هدية من بابا نويل (سانتا كلوز) قالتلن (قالت لهم) بدي ينزل يجيب بابا من بيروت".
الانفجار الذي نسف إيمان اللبنانيين ببلدهم
في ظل أبنية حاق بها الدمار يقفون في مجموعات متشحين بالسواد أمام الركام المتخلف من الانفجار الهائل الذي محا المرفأ ودمر وسط بيروت في الرابع من أغسطس آب، يحتضن المتجمعون رجالا ونساء وأطفالا من كل طوائف لبنان مسيحيون ومسلمون صور الأحبة الذين رحلوا في الكارثة. بحسب رويترز.
هاهي بيروت تعود إلى وقفات الاحتجاج التي كانت تشهدها في الحرب الأهلية من 1975 إلى 1990. وقتها كانت الأسر تطالب بمعلومات عن الأقارب الذين اختفوا ولم يُعثر لهم على أثر قط حتى عندما حان أوان إعادة البناء.
أما المكلومون اليوم فيعلمون ما حدث لكنهم لا يعرفون الأسباب، فبعد مرور أربعة أشهر لم توجه السلطات اتهاما لأحد بأنه المسؤول عن الانفجار الذي راح ضحيته نحو 200 قتيل وستة آلاف مصاب وشرد حوالي 300 ألف من سكان بيروت.
ولا تزال أسئلة كثيرة بلا أجوبة وعلى رأسها لماذا تم تخزين مادة سريعة الاشتعال عن علم بالمرفأ في قلب المدينة لنحو سبعة أعوام؟
بالنسبة لي شخصيا أيقظت المأساة ذكريات قضيت 30 عاما وأنا أحاول نسيانها، فقد قمت بتغطية الحرب الأهلية اللبنانية واجتياح لبنان واحتلاله من جانب إسرائيل وسوريا واغتيال زعماء وأمراء حرب وغارات جوية وحوادث خطف أشخاص وخطف طائرات وهجمات انتحارية كانت سمة في كل هذه الصراعات.
غير أن الانفجار أثار في ذهني وفي أذهان لبنانيين كثيرين غيري تساؤلات عما حل ببلد يبدو أنه تخلى عن شعبه. وهذه المرة يصعب على شعب يواجه عراقيل شديدة أن ينهض من الرماد مرة أخرى بسبب غياب الإجابات على تساؤلاته، قالت شوشان بيزجيان التي توفيت ابنتها جيسيكا الممرضة ذات الواحد والعشرين ربيعا في عملها عندما دمر الانفجار المستشفى الذي تعمل به إنها تشعر بالخجل من كونها لبنانية.
أمل زائف
استغرق تدمير بيروت في الحرب الأهلية الطائفية بما شهدته من إراقة الدماء 15 عاما واستغرقت إعادة بنائها 15 عاما أخرى بمساعدات ضخمة من الخارج، ففي عام 1990 انهالت مليارات الدولارات من دول غربية وعربية في الخليج ومن اللبنانيين في المهجر في مختلف أركان الأرض والذين يقدر عددهم بما لا يقل عن ثلاثة أمثال سكان لبنان البالغ عددهم ستة ملايين نسمة، وكانت النتيجة مبهرة وعاد لبيروت بهاؤها وأصبحت من جديد إحدى المدن التي تتردد أسماؤها في مجلات السياحة باعتبارها وجهة للسفر من أجل الثقافة والمتعة.
وأقبل السياح على السهر في النوادي الليلية بالمدينة وحضور المهرجانات الدولية في معابدها الاغريقية والرومانية وآثارها العثمانية وزيارة متاحفها ومواقعها الأثرية من عهد الفينيقيين، وعاد عدد كبير من أبناء لبنان المغتربين المتعلمين من أساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين والفنانين للمشاركة في إعادة بناء وطنهم.
كان من بينهم يوسف قمير جراح الأعصاب الذي رحل عن لبنان في 1982 لمواصلة العمل في تخصصه في الولايات المتحدة، عمل قمير في ذلك الوقت أستاذا مساعدا لجراحة الأعصاب في جامعة كاليفورنيا لوس أنجليس ورئيسا لقسم الصرع بمستشفى كليفلاند حيث كان رائدا في استخدام الجراحة في علاج الصرع.
وعندما وصل قمير إلى بيروت للعمل رئيسا لقسم الجراحة بالجامعة الأمريكية في بيروت كان يعتقد أن البلاد اجتازت المرحلة الصعبة. وكان رئيس الوزراء رفيق الحريري، رجل الأعمال الذي اشتغل بالسياسة وأعاد بناء بيروت بعد الحرب، يتولى السلطة في البلاد ويعد بعهد جديد من الرخاء.
ويقول قمير إنه كان يتحرق شوقا لحياة ومكان منفتح على كل الحضارات مثلما كان الحال في لبنان قبل الحرب، إلا أن بهاء بيروت ورونقها كان يخفي وراءه أسسا سياسية هشة قامت عليها عملية إعادة بناء لبنان بعد الحرب الأهلية.
ففي نهاية الحرب الأهلية خلع قادة الميليشيات ملابسهم العسكرية وارتدوا البذلات وتصافحوا بعد اتفاق الطائف الذي توسطت فيه السعودية عام 1989 وتخلى أغلبهم عن السلاح، لكنهم استمروا، فيما يبدو لكثيرين هنا، في الاهتمام بالقوى الخارجية التي ترعاهم أكثر من اهتمامهم ببناء دولة مستقرة.
اتجه الشيعة في لبنان إلى إيران وحليفتها سوريا التي كانت قواتها قد دخلت لبنان في 1976 وبقيت فيها ثلاثة عقود. أما السنة فاتجهوا إلى دول الخليج الغنية بالنفط. وكافح المسيحيون الذين ضعف نفوذهم السياسي بشدة في اتفاق ما بعد الحرب لإيجاد شريك يعتمدون عليه وتغيرت ولاءاتهم على مدار السنين. وأصبحت القوى الخارجية التي تملك القدرة على التمويل تملي السياسة الداخلية في أوقات مختلفة.
كانت عودة الدكتور قمير إلى بيروت مواتية بالنسبة لي أيضا. فأثناء تغطية الاجتياح الأمريكي لبغداد عام 2003 أصبت إصابة بالغة في الرأس بشظية من قذيفة أطلقتها دبابة أمريكية على مكتب رويترز في فندق فلسطين.
وبعد جراحة سريعة في بغداد نقلني مشاة البحرية الأمريكية إلى الكويت ثم إلى لبنان لمواصلة العلاج، كانت بيروت قد أصبحت مركزا طبيا مرموقا في المنطقة وكان الدكتور قمير طبيبي. وعلى مر السنين كنت أعود بانتظام خلال فترات عملي في دبي ولندن إلى بيروت والدكتور قمير للاطمئنان على حالتي.
غير أن بلدي كان يتعرض للضغوط من جديد. فبعد أن أخرجت جماعة حزب الله المدعومة من إيران القوات الإسرائيلية في جنوب لبنان عام 2000 عمدت الجماعة إلى تعزيز نفوذها العسكري والسياسي باطراد.
وفي 2005 اغتيل الحريري في تفجير وجه ضربة جديدة لمن اعتقدوا أن لبنان له مستقبل مشرق. ومرة أخرى هاجر كبار المهنيين اللبنانيين للخارج وقبل الدكتور قمير شغل منصب في مستشفى سانت لوك في هيوستن عام 2006. واستقر بي الحال في لندن.
لكن كان إصرار على العودة يعتمل داخلنا نحن الاثنين. بالنسبة لي كانت العودة للوطن وسيلة يمكن خلالها لابني وابنتي وهما في المدرسة الابتدائية التعرف على عائلتي وعلى الثقافة التي نشأت فيها.
وفي 2010 أتاح لي الربيع العربي هذه الفرصة. ففي حين تفجرت احتجاجات سقط في بعضها حكام مستبدون في تونس ومصر وسوريا وليبيا والبحرين واليمن بدا أن لبنان واحة مستقرة وسط منطقة مضطربة. وعادت بيروت تعج بالحركة من جديد، وبحلول عام 2012 كنا قد عدنا إلى بيروت أنا والدكتور قمير.
عاد إلينا الإحساس بالأمن وعادت اللقاءات العائلية التقليدية على الغداء أيام الأحد وتناول المشروبات ساعة الغروب على شواطيء بيروت وعادت مهرجانات الموسيقى والسينما وتذوق النبيذ في بساتين الكروم على سفوح جبل لبنان والتزلج على منحدراته.
وبدأ الأصدقاء وأفراد الأسرة يتزاورون من جديد بأعداد أكبر وبدأ النسيان يلف السمعة التي التصقت بلبنان من أيام الحرب. وبلغت حركة السياحة في لبنان ذروتها في 2010 عندما بلغ عدد الزائرين حوالي 2.2 مليون سائح بزيادة 17 في المئة عن عام 2009 وفقا للاحصاءات الرسمية.
وقفت الأيام
غير أن الأسس التي يقوم عليها لبنان كانت ضعيفة. فقد كان لبنان يعيش بما يفوق إمكانياته وأقبلت الحكومات المتعاقبة على الاستدانة فتراكمت الديون على البلاد لتصل إلى ما يعادل 170 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في مارس آذار 2020 وفقا لبيانات وزارة المالية اللبنانية.
وهذه المرة تحملت البنوك اللبنانية العبء الأكبر من إنفاق الدولة. وبحلول أوائل العام الماضي كانت خسائر البنوك من قروضها للدولة قد بلغت 83 مليار دولار وهو ما يفوق الناتج المحلي الإجمالي السنوي بكثير.
وردت البنوك بإغلاق أبوابها فجمدت كل الحسابات الأمر الذي تسبب فعليا في توقف الاقتصاد اللبناني، ولأكثر من عام الآن يعجز الناس عن تحويل أو سحب أي مبالغ تزيد على 500 دولار أسبوعيا. وعطل إغلاق البنوك مصدرا رئيسيا آخر من مصادر الدخل للاقتصاد اللبناني متمثلا في تحويلات اللبنانيين في المهجر.
وحتى قبل تفشي فيروس كورونا انكمش الناتج الاقتصادي اللبناني 6.7 في المئة في 2019. وفي 2020 من المتوقع أن ينكمش الاقتصاد 20 في المئة أخرى، وتبين أرقام حكومية أن أكثر من 50 ألف تلميذ تركوا المدارس الخاصة وانتقلوا إلى مدارس الدولة خلال العام الأخير فيما يؤكد على تآكل الطبقة المتوسطة في لبنان.
وقال شرف أبو شرف رئيس نقابة الأطباء إن ما يقرب من 700 طبيب غادروا لبنان خلال العام الأخير، وما لم يكن كثيرون من سكان بيروت يعرفونه قبل أغسطس آب أن خطرا أكبر يكمن في وسطهم، ففي 2013 رست سفينة في مرفأ بيروت بحمولة من مادة نترات الأمونيوم سريعة الاشتعال. ولم يتضح سبب اتجاه السفينة إلى لبنان ولا يزال الغموض يلف هذا الأمر حتى يومنا هذا، غير أن وصول هذه المادة الكيماوية وتخزينها كان معروفا لمسؤولي المرفأ والأمن الذين عينتهم في مناصبهم تكتلات مختلفة ولم يستطيعوا قط الاتفاق على كيفية التخلص من الشحنة، وظلت الشحنة قابعة دون أن تمسها يد لأكثر من ست سنوات في مخزن بمرفأ بيروت الذي يبعد مسافة قصيرة عن وسط المدينة المزدحم.
أثناء مشاركتي في تغطية الحرب الأهلية كتبت عن عشرات الضحايا الذين طغت على مصرعهم أحداث أكبر فكان منهم شقيقتان غرقتا في البحر في محاولة يائسة للفرار من القصف وثلاثة أشقاء ماتوا حرقا في متجر سوبرماركت وإصابة تلاميذ صغار في قصف استهدف حافلتهم، وذات صباح في 1989 وجدت نفسي أدخل مشرحة وأنا أضع كمامة لم تستطع أن تكبح رائحة الموت الخانقة حيث كان 20 جنديا من جنود الجيش قد قتلوا بإطلاق النار على رؤوسهم وكانت أيديهم مربوطة خلف ظهورهم.
لكني لن أنسى أبدا الرعب في عيون ابني وابنتي التوأمين عصر ذلك اليوم في أغسطس آب عندما دفعت قوة الانفجار سيارتنا فجأة إلى جانب الطريق بينما ارتفعت فوق رؤوسنا سحابة من الغبار والركام على هيئة ثمرة الفطر باللونين البرتقالي والأبيض.
انطلقت مني صرخة طالبة منهما الاحتماء وعادت بي الذاكرة على الفور إلى التفجيرات التي عاصرت تغطيتها في الحروب. وسقط قرب السيارة زجاج وركام من المباني المنهارة وسدت أشجار اقتلعها الانفجار من جذورها الطرق. وكان الناس يجرون في كل مكان وكافحت سيارات الإسعاف وهي تطلق أبواقها للوصول إلى الجرحى.
قالت ريتا حتي التي قتل ابنها نجيب (27 عاما) أحد رجال الإطفاء الثلاثة "وقفت الأيام ب 4 آب (أغسطس). من بعد 4 آب ما بقى يعنيلي لا بلد ولا بيت ولا عيد ولا شي. صارت كل الايام متل بعضها"، وبعد الانفجار استقالت الحكومة في مواجهة الغضب الشعبي. غير أن التكتلات المختلفة الحاكمة في لبنان لا تزال منقسمة بما يحول دون تشكيل حكومة جديدة يمكن أن تساعد في إعادة بناء المدينة والاقتصاد اللبناني.
وتنقسم ولاءات هذه التكتلات بين الولايات المتحدة وأوروبا ودول الخليج في جانب وإيران وسوريا في الجانب الآخر. ولم تفلح محاولات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في دفع الكتل السياسية لتشكيل حكومة جديدة.
مجتمع منقسم
أصبح الفارق الفاصل بين الشعب وحكامه صارخا اليوم. فأثرياء لبنان يظهرون بانتظام في قائمة فوربس لأثرياء العالم. ومن الستة الذين وردت أسماؤهم في قائمة 2020 أعضاء في أسرة الحريري رئيس الوزراء المغدور ورئيس وزراء سابق آخر هو نجيب ميقاتي وشقيقه طه، ويعيش زعماء آخرون كثيرون منهم أمراء الحرب وقادة الميليشيا السابقين في فيلات وقصور محاطة بتدابير أمنية في الضواحي التي يسكنها أثرياء بيروت أو على تلال منعزلة.
وفي 2019 كان أغنى 10 في المئة يملكون حوالي 70 في المئة من الثروات الخاصة في البلاد وفقا لتقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا. ويقول التقرير إن أكثر من نصف السكان يعيشون في فقر.
شاركت سامية دوغان (48 عاما) مؤخرا في وقفة احتجاجية بمرفأ بيروت احتجاجا على قيادات البلاد وقفت خلالها تحمل صورة لزوجها الذي لقي مصرعه في الانفجار، أجهشت سامية وهي أم لبنتين توأمتين بالبكاء وقالت "كل يوم نصحو على البكاء وننام على البكاء. هؤلاء الزعماء كان يجب عزلهم منذ فترة طويلة. حكمونا 30 سنة. كفى"، وعلى النقيض من الفترة التي أعقبت الحرب الأهلية وتدفقت فيها المساعدات من الخارج، يقول المانحون الأجانب إنهم لن يمولوا لبنان إلى أن يشكل حكومة جديدة يمكنها أن تثبت أن أموال المساعدات لن تضيع هباء، وخلال الحرب الأهلية هاجر لبنانيون كثيرون إلى الخارج. وهذه المرة بدأ الناس يتطلعون من جديد للسفر إلى الخارج. فقد قالت شركة إنفورميشن انترناشونال للأبحاث في بيروت والتي أجرت بحوثا مستفيضة في الهجرة إن ما يقدر بنحو 33 ألف شخص سافروا في 2018 ولحق بهم 66 ألفا في 2019.
وعقب انفجار أغسطس آب مباشرة بلغ البحث عن كلمة "هجرة" على جوجل أعلى مستوياته في عشر سنوات وكشف مؤشر الرأي العربي أن أربعة من كل خمسة لبنانيين بين الثامنة عشرة والرابعة والعشرين يفكرون في الهجرة.
ويقول شرف رئيس نقابة الأطباء إنه يتلقى ما بين خمسة وعشرة طلبات كل يوم لتوصيات من أطباء يبحثون عن وظائف في مستشفيات أجنبية، وأصبح قلب العاصمة اللبنانية الذي كان يزدحم في العادة بالمحتفلين بعيد الميلاد مهجورا. فالمتاجر والمطاعم مغلقة. ولم تعد الأنوار تضيء ساحة الشهداء التي كانت تقع خلال الحرب الأهلية قبل إعادة بناء بيروت على الخط الأمامي الفاصل بين بيروت الغربية المسلمة وبيروت الشرقية المسيحية.
ومرة أخرى نفكر أنا والدكتور قمير في الرحيل عن لبنان. وأصبح طبيبي يقضي أيامه محاولا إعادة بناء مستشفاه الذي دمره الانفجار. لكن لم يعد لديه إيمان يذكر بقدرة البلاد على النهوض من جديد في الأجل البعيد، قال لي "نحن نشهد إبادة لبنان. ليس لدي أمل في نهوض هذا البلد من جديد".
تسلسل زمني-محنة لبنان.. من الحرب الأهلية إلى انفجار مرفأ بيروت
توشك إحدى أسوأ السنوات في تاريخ لبنان المضطرب على نهايتها فيما يعاني البلد من تداعيات انفجار كيماوي هائل وانهيار اقتصادي يبدو أنه سيسبب المزيد من المتاعب في عام 2021.
فيما يلي تسلسل زمني لبعض الاضطرابات التي عايشها لبنان منذ عام 1975:
* 1975
الحرب الأهلية تندلع بعد أن نصب مسلحون مسيحيون كمينا لحافلة تقل فلسطينيين في جنوب بيروت. ويقسّم "خط أخضر" بيروت إلى شرق مسيحي وغرب مسلم.
* 1978
إسرائيل تغزو جنوب لبنان وتقيم منطقة احتلال في عملية تستهدف المسلحين الفلسطينيين.
* 1982
إسرائيل تشق طريقها إلى بيروت. إخراج الجيش السوري من بيروت وإجلاء آلاف المقاتلين الفلسطينيين بقيادة ياسر عرفات بحرا بعد حصار دموي استمر عشرة أسابيع.
انتخاب بشير الجميل، حليف إسرائيل وقائد (القوات اللبنانية) وهي ميليشيات مسيحية شاركت في الحرب الأهلية، رئيسا للبلاد لكنه اغتيل قبل توليه المنصب. ذبح مئات المدنيين في مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين على أيدي مسلحين مسيحيين سمحت القوات الإسرائيلية بدخولهم، أمين الجميل شقيق بشير يتولى الرئاسة، الحرس الثوري الإيراني يؤسس حزب الله في لبنان.
* 1983
إسرائيل ولبنان يوقعان اتفاق سلام برعاية أمريكية. سوريا تعارض الاتفاق الذي لم يتم التصديق عليها أبدا، مفجرون انتحاريون شيعة يقتلون 241 من مشاة البحرية الأمريكية و58 مظليا فرنسيا في بيروت كانوا جزءا من قوة متعددة الجنسيات.
* 1984
فصائل مسلحة مسلمة تسيطر على بيروت الغربية. الجيش اللبناني ينقسم على أسس دينية. إلغاء اتفاق السلام مع إسرائيل والجميل يقطع صلاته بإسرائيل تحت ضغط سوري.
* 1988
البرلمان يفشل في انتخاب خليفة للجميل الذي يعين قائد الجيش العماد ميشال عون رئيسا لحكومة عسكرية. استقالة ضباط مسلمين.
* 1989
البرلمان ينتخب رينيه معوض رئيسا للبلاد. لكن معوض يلقى حتفه في تفجير في بيروت الغربية بعد أيام. البرلمان ينتخب إلياس الهراوي رئيسا لكن عون يرفض الخضوع لسلطته، عون يعلن حرب التحرير على القوات السورية ويرفض اتفاق الطائف الذي جرى التفاوض عليه في السعودية.
* 1990
يقاتل عون والقوات اللبنانية المسيحية بقيادة سمير جعجع لشهور للسيطرة على جيب مسيحي. يرتب الفاتيكان وقفا لإطلاق النار، في أكتوبر تشرين الأول، تطرد القوات السورية عون من القصر الرئاسي. ويذهب إلى المنفى في فرنسا.
* 1991
البرلمان يقر قانونا للعفو عن جميع الجرائم السياسية مع انتهاء الحرب الأهلية.
* 1992
رفيق الحريري، الملياردير المدعوم من السعودية، يتولى رئاسة الحكومة في أول انتخابات بعد الحرب.
* 1996
إسرائيل تشن "عملية عناقيد الغضب" التي استمرت 17 يوما وأودت بحياة أكثر من 200 لبناني ردا على قصف حزب الله لشمال إسرائيل.
* 2005
اغتيال الحريري في 14 فبراير شباط في انفجار ضخم أثناء مرور موكبه في بيروت أسفر أيضا عن مصرع 21 آخرين، المظاهرات الحاشدة والضغط الدولي يدفع سوريا لسحب قواتها من لبنان. الحلفاء الشيعة لدمشق ينظمون مسيرات كبيرة في لبنان دعما لسوريا.
* 2006
في يوليو تموز عبر حزب الله الحدود إلى إسرائيل وخطف جنديين وقتل آخرين مما فجّر حربا استمرت خمسة أسابيع. وقُتل ما لا يقل عن 1200 شخص في لبنان و158 إسرائيليا، وبعد الحرب تصاعد التوتر في لبنان بسبب أسلحة حزب الله. وفي نوفمبر تشرين الثاني استقال حزب الله وحلفاؤه من الحكومة التي يقودها رئيس الوزراء المدعوم من الغرب فؤاد السنيورة ونظموا احتجاجات بالشوارع، اغتيال بيار الجميل السياسي المعارض لسوريا وأكبر أبناء أمين الجميل في نوفمبر تشرين الثاني.
* 2007
واصل حزب الله وحلفاؤه اعتصاما ضد حكومة السنيورة. كان مطلبهم المعلن الحصول على الحق في نقض قرارات الحكومة.
* 2008
مقتل وسام عيد ضابط الاستخبارات في قوى الأمن اللبناني الذي كان يحقق في اغتيال الحريري، في انفجار سيارة ملغومة في يناير كانون الثاني، في مايو أيار اتهمت حكومة السنيورة حزب الله بإدارة شبكة اتصالات خاصة وتركيب كاميرات تجسس في مطار بيروت. وتعهدت الحكومة باتخاذ إجراء قانوني ضد الشبكة، قال حزب الله إن التحرك ضد شبكة الاتصالات التابعة له إعلان حرب من جانب الحكومة. وبعد صراع قصير سيطر حزب الله على غرب بيروت الذي تسكنه أغلبية مسلمة، وبعد وساطة وقّع الزعماء المتنافسون اتفاقا في قطر لإنهاء 18 شهرا من الخلاف السياسي.
* 2011
الإطاحة بأول حكومة يرأسها سعد الحريري، ابن الحريري ووريثه السياسي، عندما انسحب حزب الله وحلفاؤه منها بسبب التوترات بشأن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان التي تحقق في اغتيال الحريري الأب.
* 2012
مقاتلو حزب الله ينتشرون في سوريا لمساعدة القوات الحكومية في إخماد تمرد سني ضد الرئيس بشار الأسد، في أكتوبر تشرين الأول، أودى انفجار سيارة ملغومة بحياة المسؤول الأمني الكبير وسام الحسن. وكانت وحدة المخابرات التي يقودها قد اعتقلت في أغسطس آب ميشال سماحة الوزير السابق الموالي لسوريا والذي اتُهم بنقل متفجرات من سوريا لشن هجمات في لبنان.
* 2017
في نوفمبر تشرين الثاني تدهورت علاقات سعد الحريري مع السعودية، التي يغضبها تمدد دور حزب الله في لبنان، عندما أصبح معروفا على نطاق واسع أن الرياض أجبرته على الاستقالة واحتجزته في المملكة. وتنفي السعودية والحريري علنا هذه الرواية على الرغم من تأكيد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لاحقا أن الحريري احتجز في السعودية.
* 2019
في ظل ركود الاقتصاد وتباطؤ تدفقات رؤوس الأموال، تواجه الحكومة ضغوطا للحد من العجز الضخم في الميزانية، قوبلت مقترحات بخفض الأجور ومشروع بشأن معاشات التقاعد بمعارضة شديدة. وتعهدت الحكومة بسن إصلاحات طال انتظارها لكنها فشلت في إحراز تقدم من شأنه أن يفتح الباب أمام وصول الدعم الأجنبي.
في أكتوبر تشرين الأول أشعل تحرك حكومي لفرض ضريبة على مكالمات الإنترنت فتيل احتجاجات كبيرة ضد الطبقة الحاكمة شارك فيها لبنانيون من جميع الطوائف متهمين الزعماء السياسيين بالفساد وسوء الإدارة.
الحريري يستقيل في 29 أكتوبر تشرين الأول. والأزمة المالية تزداد سوءا. وأزمة نقص العملة الأجنبية في البنوك تؤدي لفرض قيود مشددة على السحب النقدي والليرة تبدأ في الانهيار.
* 2020
حسان دياب الأكاديمي غير المعروف، يصبح رئيسا للوزراء بدعم من حزب الله وحلفائه، لبنان يتخلف عن سداد ديونه السيادية في مارس آذار، المحادثات مع صندوق النقد الدولي تفشل في تحقيق أي تقدم مع رفض الأحزاب الرئيسية والبنوك الكبرى لخطة التعافي المالي.
الانهيار المالي يتسارع وتفقد الليرة نحو 80 بالمئة من قيمتها ومعدلات الفقر تقفز، في الرابع من أغسطس آب، كمية هائلة من نترات الأمونيوم تنفجر في مرفأ بيروت مما أسفر عن مقتل 200 شخص وإصابة 6000 وتدمير مساحات واسعة من المدينة مما يدفع حكومة دياب لتقديم استقالتها، المحكمة التي تدعمها الأمم المتحدة تدين عضوا في حزب الله بالتآمر لقتل رفيق الحريري، وذلك بعد 15 عاما من اغتياله.
تكليف سعد الحريري بتشكيل حكومة جديدة، لكن الخلافات مستمرة بين الأحزاب بشأن توزيع الحقائب في وقت يحذر فيه البنك الدولي من أن أكثر من نصف السكان قد يسقطون في براثن الفقر في عام 2021، وتنضب فيه احتياطيات مصرف لبنان المركزي.