دكتاتوريات الفيس وأخواته

سالم مشكور

2022-12-28 07:36

نعم هي دكتاتوريات وليست دكتاتورية واحدة. ليس المقصود الدكتاتورية التي تمارسها إدارة "الفيسبوك" على المشتركين به فقط، وأيضا لا يقتصر الحديث على "الفيس" وحده، بل بوصفه النموذج الأكثر تداولا في العراق بين وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.

إدارات هذه المواقع تمارس الدكتاتورية، مرة عندما تتحكم بخطاب زبائنها تحت يافطة معايير الخطاب وبذريعة وقف التجاوزات، وأخرى عبر التحكم بأوقات وسلوك هؤلاء عبر خوارزميات تستخدم الإغراق والجذب للسيطرة على السلوك وتوجيهه. معايير الخطاب والنشر موجودة لكنها لا تطبّق إلا وفق مصالح معينة، قد ترتبط بمصالح الشركات المالكة لهذه المواقع، أو لمصالح أنظمة دكتاتورية تتحكم بالمحتوى الخاص بلغاتها مقابل السماح بنفوذ هذه المواقع إلى شبكات هذه الدول، أو مصالح سياسية لدول كبرى وجهات ضغط دولية. النتيجة هي دكتاتورية تمارس القمع باسم الدفاع عن الحريات.

الشكل الآخر للدكتاتوريات، هي التي تتيح هذه المواقع، وفي مقدمتها "الفيسبوك" ممارستها من قبل المشتركين فيها. فالخطاب لا رقيب عليه سوى الضمير الذي إن غاب، غابت معه كل القيم الإنسانية والأخلاقية.

الدكتاتوريات التي تحكم الدول، تمارس في الغالب القمع والبطش وهدر الكرامة وإلغاء قيمة الانسان عبر مصادرة حرياته. وعندما يطول حكم الدكتاتورية، ينشأ جيل أو أكثر على أخلاقها وسلوكها، حتى لو كان الناس معترضين رافضين للدكتاتورية، بل قد يكونون ناشطين ضدها سياسيا وحتى عسكرياً. الدكتاتورية تصبح سلوكا للأفراد أينما استطاعوا. رب الأسرة مقموع من قبل السلطة لكنه دكتاتور في بيته، وقيادات الحزب المعارض تئن من الدكتاتورية لكنها تمارسها داخل الحزب. الضابط رفيع الرتبة يعاني من دكتاتورية القيادة السياسية ضده، فيعكسها سلوكا دكتاتوريا يمارسه ضد من هم أدنى مرتبة منه. النتيجة هي أن كل فرد من أفراد المجتمع يصبح مشروع دكتاتور ينكشف سلوكه كلما توفرت فرصة لذلك.

لا يتخلص الأفراد من هذا المرض المكتسب بمجرد زوال الدكتاتورية، بل يحتاج المجتمع إلى تدريب طويل على سلوك جديد يتناسب وقيم النظام الحر، وهذا ما يتم عبر جيل أو جيلين شرط قيام المؤسسات التشريعية والتنفيذية والدينية والثقافية بدورها في عملية إعادة بناء الانسان من جديد. وفي غياب ذلك سيستمر السلوك الدكتاتوري الاقصائي لدى الأفراد وينتقل إلى جيل الأبناء، فتحل الفوضى وتضيع الحقوق وهذا ما هو حاصل في العراق اليوم.

وسائل التواصل وفي مقدمتها "الفيسبوك" أتاحت ميداناً لممارسة نزعة الدكتاتورية الاقصائية من قبل الأفراد، في دول عانت من دكتاتوريات طويلة أو أنظمة فوضوية. في العراق، حيث الحريات تصل إلى مستوى الفوضى، وخطاب التواصل لا يخضع إلى ضوابط من سلطة منظّمة له، تجد الدكتاتورية الفردية فرضتها للظهور بشكل واضح، خصوصا أن المثقف والجاهل يملكان فرصة متساوية في استخدام هذه التقنيات، فترى الجاهل أو المنزعج من منشور معين يصدر أوامره لصاحب المنشور: "احذف منشورك" دون أن يكون بالضرورة يمثل جهة مسلحة تترجم هذا الامر إلى جريمة على الأرض. أو أن يصدر حكمه على رأيك بكل بساطة: "فكرتك مرفوضة ومن الأفضل حذفها". هكذا يمارس دكتاتورية مترسبة في نفسه محدداً لك ما يجب أن تكتبه، أو ما يجب أن تفكر به أصلاً، تماما كمال تفعل الأنظمة الدكتاتورية المتوحشة التي تريد أن يفكّر المواطن ويعمل كما تريد هي دون أية حرية له حتى في التفكير.

"الفيس" وأخواته ميدانٌ منفلت لترسيخ الدكتاتورية الفردية ومنهج الاقصاء ورفض الاخر بعنف كلامي، قد يتحول إلى عنف جسدي خارج العالم الافتراضي.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

ذات صلة

الإمام علي عليه السلام وتحجيم الجبروت والطغيانعلى حكومة السيد السوداني ان تكون أكثر حذراالمطلوب فهم القرآن بشكل جديد!مَعرَكَةُ بَدر هِيَ يَومُ الفُرقَانِ العَظِيمِ حَقَاًتعلم ثقافة السؤال بداية التعليم