رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ
أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ السَّنةُ التَّاسِعةُ (٢٥)
نـــــزار حيدر
2022-04-27 03:43
{رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ}.
المُجتمعاتُ [والجماعاتُ] على نَوعَينِ؛ مُتكامِلٌ ومُتربِّصٌ.
فأَمَّا المُتكامل فهو الذي ينهضُ ببعضهِ، والمُتربِّصُ هوَ الذي يتسافلُ ويتساقطُ ببعضهِ.
والحالةُ تبدأُ من الإِنسانِ الفَرد على اعتبارِهِ لبِنَةُ المُجتمعِ الأُولى.
فالفردُ الذي يبحثُ عن صنوٍ لهُ يشُدُّ بهِ أَزرهُ ويتكاملُ معهُ ويسدُّ بهِ الفراغات والحاجاتِ المعنويَّة التي يُعاني منها فهوَ فردٌ يسعى للتَّكامُلِ والعكسُ هوَ الصَّحيح.
وفي قصَّة نبيَّ الله مُوسى (ع) وسُؤَالهِ من الله تعالى أَن يجعلَ لهُ أَخاهُ هارونَ وزيراً نموذجٌ رائعٌ لهذهِ الصُّورة التَّكامليَّة.
يقولُ تعالى {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى- قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي- وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي- وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي- يَفْقَهُواْ قَوْلِي- وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي- هَارُونَ أَخِي- اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي- وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي- كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً- وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً- إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً- قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسَى} وقولهُ عزَّ مَن قائِل {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ}.
وإِنَّ البحث عن التَّكامليَّةِ مع الآخر هو لأَداءِ الرِّسالةِ وليسَ للتَّآمُرِ مثلاً، أَو لعدِّ الأَصواتِ، فتأَمَّل!.
ولذلكَ يُمكنُ اعتبار كلامَ أَميرِ المُؤمنينَ (ع) في وصفِ علاقةِ جُنديَّينِ في ساحةِ المعركةِ معيارٌ لكُلِّ علاقةٍ بينَ اثنَينِ أَو أَكثر في المُجتمعِ تُنتِجُ النَّوع الأَوَّل، وأَقصد بهِ المُجتمع المُتكامل، والعكسُ هو الصَّحيح، فعكسُ هذهِ العلاقةِ تُنتجُ مُجتمعاً مُتربِّصاً وبالتَّالي مُتسافِلاً ومُتساقِطاً.
يقولُ (ع) {وَأَيُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ أَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ رَبَاطَةَ جَأْشٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَرَأَى مِنْ أَحَدٍ مِنْ إِخْوَانِهِ فَشَلًا فَلْيَذُبَّ عَنْ أَخِيهِ بِفَضْلِ نَجْدَتِهِ الَّتِي فُضِّلَ بِهَا عَلَيْهِ كَمَا يَذُبُّ عَنْ نَفْسِهِ فَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُ مِثْلَهُ}.
فالذَّبُّ عن بعضهِم أَو موقفُ المُتفرِّج على بعضهِم ليشهدَ بعضهُم سقوطَ الآخر هو الحدُّ الفاصِل بين نَوعَينِ من العلاقةِ؛ التَّكامُل والتَّربُّص.
يقولُ رسولُ الله (ص) {مَثَلُ المُؤمِنينَ في توَادِّهِم وتراحُمِهِم وتعاطُفِهِم كمثلِ الجَسَدِ، إِذا اشتَكى مِنهُ عُضوٌ تَداعَي لهُ سائِر الجَسَد بالسَّهرِ والحُمَّى}.
يعني لا معنى لمَوقفِ المُتفرِّجِ إِذا ضعُفَ أَحدٌ، وأَنَّ المُبادرة للنَّجدةِ هوَ الأَصلُ في العلاقةِ الإِجتماعيَّةِ.
وعنهُ (ص) {مَثَلُ مُؤمِنٌ لا يرعَى حقُوقَ إِخوانهِ المُؤمنِينَ كَمثلِ مَن حواسَّهُ كُلَّها صحِيحةٌ، فهُو لا يتأَمَّلُ بعقلهِ، ولا يُبصِرُ بعَينهِ، ولا يسمَعُ بأُذُنهِ، ولا يُعبِّرُ بلسانهِ عن حاجَتهِ، ولا يدفَعُ المَكارِهَ عن نفسِهِ بالإِدلاءِ بحجَجهِ، ولا يبطُشَ لشئٍ بيدَيهِ، ولا ينهَضُ إِلى شئٍ برجلَيهِ، فذلِكَ قِطعَةُ لحمٍ قد فاتَتهُ المنافِعَ، وصارَ غرضاً لكُلِّ المَكارهِ، فكَذلكَ المُؤمِنُ إِذا جهلَ حقُوقَ إِخوانِهِ فاتَهُ ثوابَ حقُوقهِم، فكانَ كالعَطشانِ بحضْرةِ الماءِ البارِدِ فلَم يشرَبَ حتَّى طفى، فإِذا هوَ سليبُ كُلِّ نعمةٍ، مُبتلى بكُلِّ آفةٍ}.
ومِنَ التربُّص يَنتُج التَّلاوُم {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ} والتَّجبين كما في الرِّوايةِ المعرُوفةِ التي تذكرَها كُلَّ كُتب الحَديث والتَّاريخ والسِّيَر المُعتبَرة [بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) إِلَى خَيْبَرَ، أَحْسَبُهُ أَبَا بَكْرٍ، فَرَجَعَ مُنْهَزِمًا وَمَنْ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، بَعَثَ عُمَر، فَرَجَعَ مُنْهَزِمًا، يُجَبِّنُ أصحابَهُ، ويُجَبِّنُهُ أصحابُهُ، فَقَالَ رسولُ اللَّهِ (ص) {لأُعطين الرَّايَةَ غَدًا رَجُلا، يُحب اللَّهَ ورسولَهُ، ويُحبه اللَّهُ ورسولُهُ، لا يَرْجِعُ حَتَّى يفتحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَثَارَ الناسُ. فَقَالَ: أَيْنَ عَلِيٌّ؟ فَإِذَا هُوَ يَشْتَكِي عينَهُ، فتَفَلَ رسولُ اللَّهِ (ص) فِي عَيْنِهِ، ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْهِ الرايةَ، فَهَزَّهَا، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ}].
ويتجلَّى التَّكامل في صُورٍ إِجتماعيَّةٍ منها على سبيلِ الفرضِ لا الحصرِ؛
- الإِيثارُ وعكسهُ الإِستئثار {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
- الثِّقة المُتبادَلة وعدَم فسح المَجال للشَّكِ والرِّيبةِ وسوءِ الظَّنِّ لتتسلَّل إِلى داخلِ الجماعةِ لأَنَّها بدايةُ التربُّص والتَّدمير.
يقولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) {أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِينٍ وَسَدَادَ طَرِيقٍ فَلَا يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ الرِّجَالِ أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي الرَّامِي وَتُخْطِئُ السِّهَامُ وَيُحِيلُ الْكَلَامُ وَبَاطِلُ ذَلِكَ يَبُورُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ وَشَهِيدٌ أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ إِلَّا أَرْبَعُ أَصَابِعَ}.
- التَّكافُل والتَّعاوُن والتَّكامُل، كما يصفُ ذلكَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) {أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي الرَّجُلُ وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ عَنْ عِتْرَتِهِ وَدِفَاعِهِمْ عَنْهُ بِأَيْدِيهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ وَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَيْطَةً مِنْ وَرَائِهِ وَأَلَمُّهُمْ لِشَعَثِهِ وَأَعْطَفُهُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ نَازِلَةٍ إِذَا نَزَلَتْ بِهِ وَلِسَانُ الصِّدْقِ يَجْعَلُهُ اللَّهُ لِلْمَرْءِ فِي النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْمَالِ يَرِثُهُ غَيْرُهُ}.
وقولهُ (ع) يصفُ خُلَّص أَصحابهِ {أَنْتُمُ الْأَنْصَارُ عَلَى الْحَقِّ وَالْإِخْوَانُ فِي الدِّينِ وَالْجُنَنُ يَوْمَ الْبَأْسِ وَالْبِطَانَةُ دُونَ النَّاسِ بِكُمْ أَضْرِبُ الْمُدْبِرَ وَأَرْجُو طَاعَةَ الْمُقْبِلِ فَأَعِينُونِي بِمُنَاصَحَةٍ خَلِيَّةٍ مِنَ الْغِشِّ سَلِيمَةٍ مِنَ الرَّيْبِ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَوْلَى النَّاسِ بِالنَّاسِ}.
هُنا يرِدُ سؤَالٌ مُهمٌّ جدَّاً مفادُهُ؛ وإِذا تربَّصَ المُجتمعُ بالمرءِ، حسَداً وغيرةً وأَحياناً كُرهاً وحِقداً، فهل يستسلِم؟! هل ينزَوي ويترك وينطَوي على نفسهِ ولَم يُكمِّل مسيرتهِ في الحياةِ ورسالتهِ في المُجتمعِ؟!.
أَجابَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) على هذا السُّؤالِ جوابَ مُجرِّبٍ خبيرٍ عانى منهُ بقولهِ {فَقُمْتُ بِالْأَمْرِ حِينَ فَشِلُوا وَتَطَلَّعْتُ حِينَ تَقَبَّعُوا وَنَطَقْتُ حِينَ تَعْتَعُوا وَمَضَيْتُ بِنُورِ اللَّهِ حِينَ وَقَفُوا وَكُنْتُ أَخْفَضَهُمْ صَوْتاً وَأَعْلَاهُمْ فَوْتاً فَطِرْتُ بِعِنَانِهَا وَاسْتَبْدَدْتُ بِرِهَانِهَا كَالْجَبَلِ لَا تُحَرِّكُهُ الْقَوَاصِفُ وَلَا تُزِيلُهُ الْعَوَاصِفُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِيَّ مَهْمَزٌ وَلَا لِقَائِلٍ فِيَّ مَغْمَزٌ}.