رمضان وتنظيف الضمائر

دعوة للاغتسال بأمطار الرحمة الإلهية

حيدر الجراح

2015-06-20 09:31

كل حرمان هو خيبة امل شديدة. يصح هذا على كل الحرمانات التي يتعرض لها الانسان من كوابح خارجة عن ارادته، سواء عن طريق تقنينها او كونها كوابح اجتماعية او كونها كوابح دينية.

لا اتحدث هنا عن طبيعة الحرمانات وسبب كونها كذلك، وأيضا لا اتحدث عنها في مجال قبول المتدينين او رفض غير المتدينين لها، بل هو حديث في العموميات، عمومية الكبح عن الاشباع والخيبة المتولدة عن ذلك. وهو حديث في التعاطي الثقافي مع الصوم عن الطعام كما عرفه الانسان منذ وجوده، امتناعا عن الطعام أولا، ثم دخوله الى المجال الديني والعقائدي والروحي، وهي انتقالة ليست هينة.

انسان المجتمعات الأولى عانى رغما عنه من اختبار الجوع في النطاق الذي كان يجهل فيه كيفية استخدام موارده المتاحة في الحفاظ على حياته، تعلم بعد ذلك كيف يتمكن من تأمين ما يحفظ بقاءه بين فصلي صيد او محصول.

في رحلته الطويلة وهو يشاهد ما حوله من مخلوقات، انجز هذا الانسان مفهومه للصوم المتناسب مع مداركه، ووجد في الصوم خطة من تجديد علاجي ناجع، لقد بنى قوة ارادية لفعل الكبح.

وساهمت الثقافات الإنسانية كل منها بنصيب حاسم، عند تقنين الصوم، ليس كوسيلة بل غاية، ولم يبق أي شعب غير مبال بقوة الصائم اراديا، ويمكن ملاحظة ذلك في الكثير من حالات الصوم للسجناء كوسيلة ضغط للحصول على حقوقهم، ويمكن أيضا التذكير بحالات الصوم لغاندي كوسيلة من وسائل اللاعنف والعصيان المدني.

عند هذا التحول، اصبح تعلم الصوم في مايقوم عليه، او نزعته التقشفية او الخلاصية في الكثير من الثقافات هو ولاشك الثمرة الحلوة/المرة للتجربة، تجربة الكبح والامتناع الارادي..

وفي جميع الثقافات يقيس الصائم أثر تزهده في ان واحد على نفسه وعلى الجماعة التي يخرجه منها مؤقتا رفضه التغذية.

في المعنى الديني للصوم، والذي يتجاوز مسألة الامتناع عن الاكل او الجنس خلال ساعات معينة من اليوم، (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل)، تحول الصوم في الأديان التوحيدية الكبرى، الى (طقس انتقال يصل الصائم بوساطته الى صفة ضيف الله، بالمعنى الذي ينفصل فيه عما يعيقه في التشبه به، في نفس الوقت الذي يفتح في قلبه الحيّز لاستقبال خالقه). معجم الجسد/ميشيلا مارزانو.

في الإسلام، الصراع ضد الشهوات والرغبات التي يتعود عليها الانسان طيلة احد عشر شهرا في السنة، اصبح للصوم وضع متميز خلال زمن متميز قننه الفقه، فإضافة الى استمرار ما تعارفت عليه الأديان والثقافات من الصوم عن الطعام وحده، انتقلت الان الى الامتناع عن كل عمل ذميم، والتحرر من كل تعلق مبالغ فيه بخيرات هذا العالم خلال شهر رمضان، وهو تعلق لا يشترط توجهه الى المجالات المادية، بل يذهب الى المجالات النفسية والعاطفية كذلك، ليصبح الصوم في جوهره هو التخلي عن كل ما يبعدك عن الله لتولد من جديد في حضرته.

ما هو المبدأ الرئيسي الذي يحيل اليه الصوم في جوهره، حتى لو اخذنا الامتناع عن الطعام او غيره من حاجات فيزيولوجية؟

انه مبدأ (التحرر) من الخضوع للرغبات والشهوات وحتى الاحتياج المتجانس والمألوف لما يبقي الانسان على قيد الحياة، وهو تحرر ليس بالهين، لأنه يستدعي التوقف عن اشباع تلك الحاجات بإرادة الانسان وليس قسرا عن ارادته، فهو يمكن له ان لا يصوم او يمتنع عن كل ذلك، لكنه يختار بإرادته ان يتحرر من هذا الخضوع طيلة أحد عشر شهرا.

اذ يمتلك الانسان تلك الإرادة وفي هذا الشهر تحديدا، يمكن ان تكون تلك فرصة للخلاص والتطهير، واستحمام النفوس بأمطار الرحمة الإلهية، وجعل ضمائرنا التي ماتت في نفوس عدد منا، او ران عليها غبار الأيام، او فقدت بصرها في التمييز بين الصالح والطالح، يمكن لهذه الضمائر والنفوس ان تحيا من جديد لو وقفت طيلة هذا الشهر تحت تنلك الامطار الإلهية.

وهذه الامطار هي وحدها التي تستحق ان تبلل جسد الانسان وروحه، وهي وحدها التي تعيده الى حضن الله.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا