عِطْرُ الأُمُوْمَةِ الْصَّادِقَةِ
تَأَمُلَاتٌ فِي عَطَاءَاتِ أُمِّ الْمُؤْمِنِين الأُوْلَى
الشيخ الحسين أحمد كريمو
2020-05-05 05:08
تقديم وتقدير
كم من عظماء في تاريخ البشر، ولكن العظيمات جداً قليلات، فهنَّ كنوز مخفية في الأبناء تظهر عطورهن في الحياة من خلال الآخرين كالزهور والرياحين، تُعطي العطر الفوَّاح ولا تنتظر من أحد أن يشكرها، بل هي كالنبع الفيَّاض بالماء العذب تُعطي الحياة أسبابها..
هكذا كانت حياة أمنا، أم المؤمنين الأولى السيدة خديجة بنت خويلد (سلام الله عليها) التي تزوجت بصمت، ولكن فازت بأعظم مخلوق في هذه الحياة، فأعطته كلها، لأنها رأت فيه الحياة الدنيا الفانية، والأخرى الباقية، دون أن تنبث ببنت شفة، أو تنطق بحرف خشية أن يفهم الآخرون خطأً منها، فآثرت الصمت، وأعطت بسخاء منقطع النظير.
والعجيب الغريب أن بعض الأخريات لم يُعطين شيئا وملأن الدنيا ضجيجاً وعجيجاً، وما زلت اقرأ واستغرب من كل ذاك الادِّعاء، والتطاول حتى سيدتها الأولى، حتى أغضبت رسول الله (ص) منها كما تتحدَّث عنها كتب القوم بالتفصيل الممل.
خديجة الشرف العظيم
السيدة خديجة كانت معروفة في قريش ب (الطاهرة) وسيدة قريش بلا منازع لها من نسائها، لأنها كانت من بيت أصيل في العرب فهي؛ خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العُزَّى بن قصي بن كلاب، القرشية الأسدية، تجتمع مع الرسول (صلى الله عليه وآله) في جده قُصَي.
وأمُّها: فاطمة بنت زائدة بن الأصم، يمتد نسبها إلى لؤي بن غالب الذي تنتسب إليه قريش.
فهي أصيلة الأبوين عظيمة في العالمين، نشأت السيدة "في بيت كريم مترف؛ فكان والدها زعيم بني أسد بن عبد العزى، شقيق عبد مناف وخليفته، وإليه ينتهي الفضل والكرم والسيادة بين قومه وعشيرته، يطيعونه ويهابونه ويحترمون رأيه ويقدرونه".
فورثت عن أبيها سيادته، وأمواله لأنها كانت وحيدته، فجمعت كل أوصاف الكمال الأنثوي، من أصل أصيل، وشرف رفيع، ومال جزيل، وأضافت إلى ذلك كله عقل، وحلم، وتدبير، فكانت تنظر غليها الأخريات من بيوت قريش كأميرة مدللة، يهابونها، ويُجلونها ويحترمونها كثيراً.
افتراءات عليها روحي فداها
هذه السيدة الطاهرة لم تنجُ من افتراءات القوم عليها فقالوا: أنها تزوجت من اثنين قبل رسول الله (ص) وأنها كانت تكبر رسول الله (ص) بعقد ونصف من الزمن ليٌظهروها أنها عجوز كما وصفتها أمهم ظلماً وزوراً، ويُصححون ما ادعته باطلاً من أنه (ص) لم يتزوج بكراً غيرها..
الفُرية الأولى: هي محض خيال وباطلة من أصلها وأساسها لأن السيدة خديجة لم تتزوج قبل رسول الله (ص) بأحد من قريش عدا أن تتزوج من حثالات العرب ومجهوليهم، ولكن أرادوا خفضها لترتفع الأخرى كما ظنَّت وظنُّوا ظنَّ السَّوء، فكيف تُسميها قريش بالطاهرة وقد تزوجت رجلين من عوام الناس، فالطاهرة هي التي لم تتزوج كما هو معروف بعاداتنا العربية.
فأول وآخر زوج؛ هو الرسول محمد بن عبد الله (ص) في الدنيا والآخرة أيضاً، فهي كان الذخر والذخير له منذ أن خلقهما الله في هذه الحياة، ولذا عندما اقترن بها لم يلتفت إلى غيرها من النساء حتى انتقلت إلى بيتها في الجنة في جوار ربها حيث (أُمرتُ أن أُبشر خديجة ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب).
وقيل أن القصب: هو لؤلؤ مجوَّف واسع كالقصر المنيف. والقصب من الجوهر: ما استطال منه في تجويف.. وأما الصخب: فهي الضجَّة واضطراب الأصوات للخصام، كما قال الشيخ المجلسي في البحار، ولكن لماذا هذا الخصوص لهذه السيدة الطاهرة (القصب، والهدوء) أليست تعويضاً لها عمَّا بذلته في دار الدنيا من أموالها الطائلة نُصرة لدين الله، والهدوء فهو تعويضاً لها عمَّا عانته من صخب قريش وضجيجها وعجيجها عناداً لدين الله وخصاماً لرسول الله (ص).
وفي حديث أبو سعيد الخدري أن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: (إن جبرئيل (عليه السلام) قال لي ليلة أُسري بي حين رجعتُ، وقلتُ: يا جبرئيل هل لك من حاجة؟
قال: حاجتي أن تقرأ على خديجة من الله ومني السلام.
فقال لها(ص): الذي قال جبرئيل، فقالت: إن الله هو السلام، ومنه السلام، وإليه السلام، وعلى جبرئيل السلام). (بحار الأنوار: ج 16ص 7)
وسبحان الله إنك لتعجب من هذه الم الطاهرة التي حباها الله بكل الخير في الدنيا تراها متواضعة في غاية الرقة واللطافة وكثيراً ما كان يمدحها ويثني عليها سيدنا جبرائيل عن الله تعالى فكانت لا تزيد عن هذا الثناء والسلام، وكأنها تخجل تواضعا لله تعالى، وأما الأخريات لم يذكرهن الله ورسوله إلا كأمثلة يضربها، قال تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (التحريم: 10)، وملأن الدنيا صياحاً لا أدري لماذا.. وبماذا؟
أما الفُرية الثانية؛ وهي أنها كانت كبيرة في السن بحيث تكبر رسول الله (ص) بخمسة عشر عاماً، إلا أن ذلك لا يصمد أيضاً للتحقيق التاريخي، لأنه لدينا روايات تقول بأنها كانت لِدَةُ النبي محمد (ص) ومن أترابه في السن أي أنها كانت في الخامسة والعشرين من عمرها حين اقترنت برسول الله (ص) فعاشت معه كأسعد زوجة، وأنجبت له بنين وبنات، ورُزئت بهم ولكن العناية الإلهية شاءت أن تنجب في السنة الخامسة من البعثة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (ع) التي زهَّرت الحياةَ بها، فكانت برزخاً بين النبوة والإمامة فيما بعد وبها حُفظ رسول الله (ص) رسالة وذرية مباركة طيبة..
فهل سمعتُم عن امرأة تزوجت وهي في الربعين فأنجبت خمس أو ست بطون ما بين أبناء وبنات؟ بحيث كانت آخر بناتها فاطمة الزهراء (ع) أنجبتها وهي في سن الستين من عمرها؟
نعم؛ حاولوا هضمها في مسائل كثيرة حتى في حياة رسول الله (ص) وشتمتها تلك الغيورة بمحضره الشريف فغضب ودافع عنها دفاعاً لو فقهته لقضت عمرها تبكي وتستغفر لعل الله يغفر لها ما اقترفته من ذنب بحق تلك السيدة الطاهرة، وهي تروي فتقول: (كان النبي (صلّى اللَّه عليه وآله) لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيُحسن الثناء عليها، فذكرها يوماً فأدركتني الغيرة، فقلتُ: هل كانت إلاّ عجوزاً فقد أبدلك اللَّه خيراً منها.
فغضب حتى اهتزّ مقدّم شعره من الغضب، ثم قال: لا واللَّه ما أبدلني اللَّه خيراً منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدّقتني إذ كذّبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني اللَّه منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء) (أُسد الغابة لابن الأثير 5 : 438)
وجميل ما كتبه سلطان المؤلفين في كتابه عن (أمهات المعصومين (ع) في خصوص السيدة خديجة (ع) بقوله: (لقد كانت السيّدة خديجة (ع) عظيمة الشأن، عارفة بقداسة النبي (ص) مطّلعة على جلالة قدره وارتفاع مقامه الشامخ، ولذا فإنّها(ع) كانت تبذل الغالي والنفيس حتّى تحظى بزواجها منه(ص).. فقد دفعت مبلغ المهر للرسول (ص) مع أنّها (ع) رفضت الزواج من أسياد العرب وزعمائهم.. وهذا إنما يدل على غور معرفتها ومدى رغبتها في النبي(ص). (أمهات المعصومين: ص64)
ثم ينقل جنابه تفاصيل ما جرى، إلى أن يقول: (وفي نفس الوقت قام أحد الحاضرين وقال: يا قوم رأينا الرِّجال يَمهرون النساء، ولم نر النساء يَمهرن الرجال؟
فنهض أبو طالب (ع) وأجابه قائلاً: مثل محمد (ص) يُحمل إليه ويٌعطى، ومثلك مَنْ يَهدي ولا يُقبلُ منه.. ثم إنّه سمع الناس منادياً ينادي من السماء: (إنّ الله تعالى قد زوّج بالطاهر الطاهرة وبالصادق الصادقة)، وأمر الله عزّ وجلّ جبرئيل أن يرسل على الناس الطيّب على البرّ والفاجر.
ثمّ إنّ رسول الله (ص) ذهب إلى منزل عمّه أبي طالب (ع) وقد أحدق به أعمامه من كل حدب وصوب فاجتمعوا في دار خديجة (ع).. وقد بعثت السيّدة خديجة (ع) أربعة آلاف دينار إلى رسول الله (ص)، وقالت: ابعثها إلى عمّك العباس ليرسلها إلى أبي، وأرسلت مع المال خلعةً سنيّة، فسار بها كل من العباس وأبو طالب إلى منزل خويلد وألبساه الخلعة.
فقام خويلد من ساعته إلى دار ابنته السيّدة خديجة، وقال: يا بُنيَّة ما الانتظار بالدخول؟ جهّزي نفسك فهذا مهرك أرسلوه إليَّ وأعطوني هذه الخلعة.
آنذاك التفتت السيّدة خديجة (ع) إلى عمّها ورقة، وقالت: خذ هذه الأموال إلى محمد (ص)، وقل لـه: هذه هدية لك تصرّف فيها كيف تشاء، وقل لـه: إنّ مالي، وعبيدي، وجميع ما أملك، وما هو تحت يدي، فقد وهبته لـه (ص) إجلالاً وإعظاماً.
فوقف ورقة بين زمزم والمقام ونادى بأعلى صوته: يا معاشر العرب إنّ خديجة تُشهدكم على أنّها قد وهبت نفسها، ومالها، وعبيدها، وخدمها، وجميع ما ملكت يمينها، والصَّداق والهدايا لمحمد (ص) وجميع ما بذل لها مقبول منه، وهو هديَّة منها إليه، إجلالاً لـه، وإعظاماً ورغبة فيه، فكونوا عليها من الشاهدين). (أمهات المعصومين: ص65)
هكذا كان الزواج بأمر من الله، ولم يكن بالحيلة والخديعة إسكار أبيها والحاضرين كما تروي كتب القوم والعياذ بالله من الخطل والزلل، ولكن هكذا سولت لهم أنفسهم ليرفعوا غيرها ولكن الله رفعها، في الدنيا والآخرة فهي الطاهرة ادخرها الباري تعالى لتكون زوجةً للطاهر وأبي الأطهار.
عطرُ الأمومةِ الفوَّاح
فالذي يدرس حياة سيرة ومسيرة تلك السيدة الطاهرة المطهرة، يشمُّ عطر المومة الفوَّاح بكل صدق وإخلاص، لأنها كانت مثلاً في الخير والتقى والفضيلة، ومثالاً في البذل والعطاء بلا حساب، فهي التي وهبت نفسها وكل ما لديها –وهو ليس بالقليل– لمَنْ أحبته، وهو أهل الحب والوفاء فأغدقت عليه من عطفها وحنانها بحيث أنه تزوج بأكثر من خمسة عشر امرأة غيرها إلا أنهن جميعاً لم يستطعن أن ينسونه حبها، ووفاءها، فكان لا يخرج من البيت غلا ويذكرها ويستغفر لها كما مرَّ حديث المرأة وغيرتها.
فالسيدة خديجة لها فضل الأم على المسلمين جميعاً، (ونساؤه أمهاتكم)، كما لها فضل بناء الإسلام العظيم لأن رسول الله (ص) يقول: (ما قام ولا استقام ديني إلا بشيئين: مالُ خديجة وسيف علي بن أبي طالب (عليهما السلام) (شجرة طوبى: 2 / 233؛ تنقيح المقال: 3 / 77)
وقال (ص): (ما نفعني مالٌ قط مثل ما نفعني مال خديجة (عليها السلام) (أمالي الطوسي: 463؛ حلية الأبرار: 1 / 147؛ الصحيح من السيرة: 4 / 13)
والعجيب ما جاء في وصيتها الأخير لرسول الله (ص): (ولمّا حضرتها الوفاة قالت لرسول الله (صلى الله عليه وآله): "يا رسول الله، اعفُ عنّي إن قصرتُ في حقك".
فقال (صلى الله عليه وآله): "حاشا، ما رأيتُ منكِ إلا خيراً، وقد سعيتِ كلَّ سعيَكِ وتحمّلتِ الأذى وبذلتِ مالكِ في سبيل الله".
فقالت: "يا رسول الله، أوصيكَ بهذه ـ وأشارت إلى الزهراء (عليها السلام) ـ، ستكون هذه البنت غريبة ويتيمة بعدي، لا تؤذها امرأةٌ من قريش، ولا يضربها أحدٌ على وجهها، ولا يرفعنّ أحد صوته في وجهها، ولا ترى مكروهاً) (شجرة طوبى: 2/234)
هذه هي أمنا الحقيقية، وهي فخرنا حقيقة وواقعاً لننا عند ذكرها نشمُّ منها عطر الأمومة الصادقة، فالسلام عليها ما سمر سمير وما أمَّ نجم في السماء نجماً..