أَبُو طَالِب طَوْدٌ شَامِخٌ وَشَرَفٌ بَاذِخٌ
الشيخ الحسين أحمد كريمو
2020-05-03 03:41
تقديم مثمر
في سبيل التعرُّض لتلك الأصول الطيبة، والشجار المثمرة التي أنجبت سادة الخلق، وقادة الأمم، وكما نعرف عن الأشجار كثيراً فمنها الطيِّب المثمر، ومنها الخبيث التي تنفر منها المخلوقات الحيَّة، لا سيما أهل الإدراك والعقل، ولدينا في موروث السماء آيات وكلمات نستنير بها في بحثنا هذا.. قال الله العظيم في محكم كتابه الحكيم: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) (إبراهيم: 26)
فالله سبحانه ضرب لنا مثلاً: (كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ)، فمن حقنا أن نعرف ما هي الكلمة الطيبة التي ضربها الله لنا مثلاً، وما هي الكلمة الخبيثة أيضاً؟
وما هي الشجرة الطيِّبة لنعرف مراد الله تعالى من هذا المثل الذي يُريده للبيان والإيضاح – لأن المثل يُضرب للإيضاح والبيان لا للغموض والإبهام – فما هو المراد من هذا المثل؟
ويقول السيد المسيح(ع) على ما في إنجيل متى: (اِجْعَلُوا الشَّجَرَةَ جَيِّدَةً وَثَمَرَهَا جَيِّدًا، أَوِ اجْعَلُوا الشَّجَرَةَ رَدِيَّةً وَثَمَرَهَا رَدِيًّا، لأَنْ مِنَ الثَّمَرِ تُعْرَفُ الشَّجَرَةُ). (إنجيل متى 12: 33)
هذا وعلينا أن نتنبَّه إلى أن الإنسان لا علاقة له بالشجرة إلا الاختيار لها وغرسها والعناية بها وأما الجَّعل، والإيجاد، والخلقة فهي من الخالق تعالى، وليس من البشر، كما أنه يجب ألا ننسى شجرة التين في الإنجيل التي قصدها السيد المسيح في غير أوانها فلم يجد فيها التين فصبَّ عليها لعنته من ساعته فيبست من ليلتها ولا ذنب لها في ذلك، ولكن ندع الأمر للسيد المسيح(ع) فهو أعلم بها.
تاريخ العرب مُغدِق
في التاريخ العربي له أثر كبير، وفضل في بيان الحقائق في المجال الإنساني، وذلك لأنه من العلوم والأبحاث المظلومة والمجهولة، وأكاد أجزم أن ذلك كله متعمَّداً وليس سهواً أو غفلة، وذلك لأن الطغاة عبر التاريخ يجمعون حولهم مَنْ يكتب لهم ما يرغبون، ويُهملون كل ما يدينهم، أو يفضحهم على رؤوس الأشهاد، وهذا ديدنهم عبر العصور والدُّهور، منذ أن اخترع الإنسان الكتابة، وأنزل الله الكتاب بالحقِّ، ولكنهم أرادوا الباطل فكتبوا ما يرغبون من سيرتهم، وباطلهم..
فالتاريخ منبع الفضائل لأهل الفضل وأكابر الناس، فكلٌ يعمل على شاكلته، فالأمة حفظت لهم سيرتهم العطرة، والناس تناقلوا تلك السيرة بالقبول وكانوا يقصُّونها في المجالس، ويُعلموها لأبنائهم وأجيالهم كموروث ثقافي وحضاري للأمة العربية أولاً والإسلامية آخراً، وذلك لأن هؤلاء الكرام كانوا مبعث فخر لهم، وسيرتهم تحمل من الفضل والشرف والسؤدد ما يجعلهم أمثالاً للأجيال تقتدي بهم وتهدي بسيرتهم المباركة في كل زمان ومكان..
فالبحث والتدقيق والتمحيص والتحقيق في التاريخ يرسم لنا صورة حقيقية ومنطقية لتسلسل الأحداث ويُعطينا رؤية أكثر واقعية لرسم المستقبل الذي نريده، إذ أن اليوم ابن الأمس، وهذا العصر امتداد للعصور الخالية، فالتاريخُ نهرٌ متدفقٌ بالأحداث يجري مجرى الزَّمن فينا، فكلما كان لدينا الوعي التاريخي، والبصيرة النافذة فإننا نكون أكثر قوة وشجاعة وحضوراً في الحاضر مهما كان مريراً، أو في المستقبل مهما كان صعباً وعسيراً، فالحياة عقيدة وجهاد في سبيلها..
أنسابٌ راقيةٌ باقيةٌ
ومن بديهيات البحث في الأنساب والأجيال أن نعرف أنه لا يمكن ولا بأي شكل من الأشكال، لا في العلم ولا في المنطق ولا حتى في الحياة أن يأتي نبياً أو رسولاً كمحمد بن عبد الله(ص) من جاهلية منقطعة عن إرث السَّماء المنتقل في الأنبياء والأوصياء حصراً، فالتسلسل التاريخي والمنطقي يقول بأن أول إنسان وجد(آدم) النبي، فإن آخر إنسان سيكون من نسله وصي، إذ أن الأرض لله وليس للشيطان الرجيم، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (المؤمنون: 105)
فأشرف الخلق طراً وخاتم الأنبياء والمرسلين ظهوراً يأتي بعد حوالي ستة قرون دون ذاك التسلسل النَسَبِي ما بينه وبين أبيه إبراهيم الخليل(ع) إنه أمر مخالف للمنطق والواقع وما يُشيعه بعضهم من أن آباءه الكرام مشركون هذا من أعظم التجنِّي عليه وعليهم لأنهم أنبياء وأوصياء جميعاً..
شجرة النبوة الخالدة؟
قالوا: أن (شجرة النبوة هي تسمية اعتبارية مميزة يراد بها المجموعة الإيمانية المتميزة والنموذجية وهم النبي محمد (صلى الله عليه و آله) وعترته الطاهرة (عليهم السلام) الذين هم علي و فاطمة والأئمة من ولدهما (عليهم السلام) وكذلك شيعتهم المتمسكين بولايتهم).
وهذا ما أشارت إليه بعض الروايات النبوية كما ورد في المستدرك على الصحيحين بسنده عن مولى عبد الرحمن بن عوف، قال: خذوا عني قبل أن تُشاب الأحاديث بالأباطيل، سمعت رسول الله (صلى الله عليه و آله) يقول: (أنا الشجرة، وفاطمة فرعها، وعلي لقاحها، والحسن والحسين ثمرتها، وشيعتنا ورقها، وأصل الشجرة في جنة عدن، وسائر ذلك في سائر الجنة). (مستدرك الصحيحين: 3 ص 160، فضائل الخمسة من الصحاح الستة: 1 / 207، السيد مرتضى الفيروز آبادي، طبعة مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، وشواهد التنزيل لقواعد التفضيل: 1 / 408، للحسكاني، طبعة طهران الأولى: 1411ه)
وكم تكرر ذكر شجرة النبوة في روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأدعيتهم، كقول الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): (نَحْنُ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ، وَمَحَطُّ الرِّسَالَةِ، وَمُخْتَلَفُ الْمَلَائِكَةِ، وَمَعَادِنُ الْعِلْمِ، وَيَنَابِيعُ الْحُكْمِ، نَاصِرُنَا وَمُحِبُّنَا يَنْتَظِرُ الرَّحْمَةَ، وَعَدُوُّنَا وَمُبْغِضُنَا يَنْتَظِرُ السَّطْوَة). (نهج لبلاغة: 162،صبحي الصالح)
هذه هي شجرة النبوة في الفرع الإسماعيلي العربي التي خرج منها سيد الخلق وأشرفهم، وفخر العرب وشرفهم، وسؤددهم محمد بن عبد الله (ص) وعترته الطاهرة (ع) الذين اصطفاهم الله، (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (الدخان: 32)
وقال الله سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران: 34)
فهم خيرة الخيرة، وصفوة الصفوة اختارهم الله على علم بهم على العالمين جميعاً، فكيف ياتون بأولئك المجهولين في الجاهلية ليجعلوهم سادة وقادة في الإسلام؟ فمَنْ كان يجهل عبد المطلب وولده ووصيه عبد مناف (أبو طالب)، من العرب، وبيضة البلد، وشيخ البطحاء، وسيد قريش، والشَّيخ بالمطلق في قريش، ومَنْ كان يعرفهم، حتى تطاولوا على ذاك العظيم؟
أبو طالب (ع) طود شامخ
فهو وصي ووريث أباه شيبةُ الحمد عبد المطلب، في كل فضل وشرف وسؤدد في هذه الحياة، فإذا كان عبد المطلب يُعرف بإبراهيم الثاني في قريش، فلا بُد أن يكون ولده أبو طالب هو إسماعيل الثاني أيضاً، وهذا ليس بِدعاً من القول بل هو قانون الوراثة الطبيعي في النسب، والإرث النبوي الإلهي في السبب أيضاً، لأن لكل نبي وصي، ولا بُد لله من حُجة في أرضه..
والمتتبع لسيرة سيّدنا أبي طالب (عليه السَّلام) يجده المدافع عن رسالة الإسلام، ويكفي ما فعله مؤمن قريش وسيد البطحاء، وبيضة البلد(مكة)، بل سيد العرب والعجم آنذاك من النُّصرة والتأييد لرسول اللَّه(ص) عندما حاصر المشركون ابن أخيه حصاراً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وظل في تلك الفترة فيها المحامي والناصر والمعين، فترك كلّ أعماله وأخذ بني هاشم إلى ذلك الشِّعب الذي يُعرف بشعب أبي طالب حيث وضع الحُراس من بنيه على كل منفذٍ للشعب للوقوف بوجه أيّ هجوم قد تشنُّه قريش عليهم، وكان في كل ليلة يوقظ رسول اللَّه من نومه ويأخذه إلى مضجع آخر، ويجعل أحد أبنائه في مكانه، خوفاً عليه من عادية قريش الجاهلية، ألا يدل هذا على أنه كان مؤمناً بالنبيّ ورسالته؟!
وليس ذلك فقط فالتاريخ يُحدثنا أن كل حياة هذا الرجل العظيم كرَّسها لكفالة، وحفظ، وحماية ابن أخيه رسول الله(ص) ولم يتحدث التاريخ عن سقطة سقطها، أو ذنب ارتكبه، أو ذلَّة بدرت منه في طول التاريخ الذي هم ورجالهم كتبوه لهم، وهذا هو التاريخ ابحثوه فلن تجدوا له خطلة أو ذلة، أو موقف يكون فيه معصية لله تعالى، فما معنى ذلك من رجل يعيش في الجاهلية؟
أبو طالب(ع) شرفٌ باذخ
لأن المستفاد من التتبع التاريخي والإرث الروائي لأهل بيت العصمة والطهارة؛ وهم أعلم خلق الله بالله وخلقه، فكيف لا يكونوا علماء بأبيهم وجدهم؟ أنه كان أبو طالب (عليه السَّلام) وصيّاً من أوصياء الأنبياء، ومعنى كونه وصياً أي أنه كان مختاراً من قبل اللَّه عزّ وجلّ حسبما نستظهره من الأخبار، وكذا كان أبوه عبد المطلب حيث كان مصطفاً في أهله من قريش والعرب، ولما روي من أن عبد المطلب كان حُجَّة، وأبو طالب كان وصيّه (عليهما السَّلام) وهو حجة في زمانه أيضاً.
ولدينا شهادة عظيمة وردت عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام) كيف نهملها ولا نأخذ بها وهي قوله: (واللَّه ما عبد أبي، ولا جدي عبد المطلب، ولا هاشم، ولا عبد مناف، صنماً قط، قيل: فما كانوا يعبدون؟ قال: كانوا يصلّون إلى البيت على دين إبراهيم متمسكين به). (كمال الدين: 174/ 32، بحار الأنوار: 35/81/22)
ويشهد لما ذكرنا من ملازمة الوصاية للنبوة بحكم الواقع والإرث والالتحام بين الأنبياء والأوصياء من ناحية الخصائص الروحية والكمالية، والامتداد الرسالي بينهم وهذا ثابت بحكم العقل والنقل، فقد ورد عن بن أبي منصور أنه سأل أبا الحسن الأول (عليه السَّلام): أ كان رسول اللَّه محجوجاً بأبي طالب؟
فقال (عليه السَّلام): لا، ولكن كان مستودعاً للوصايا فدفعها إليه (صلّى الله عليه وآله).
قال: قلت: فدفع إليه الوصايا على أنه محجوج به؟
فقال: لو كان محجوجاً به ما دفع إليه الوصية، قال: فقلت: فما كان حال أبي طالب؟
قال: أقرّ بالنبيّ وبما جاء به ودفع إليه الوصايا ومات من يومه).
ومنه ما وراه الصدوق أيضاً: (من أن عبد المطلب كان حجةً، وأبو طالب كان وصيّه). (بحار الأنوار: ج 15 ص 117، عن الاعتقادات: 116)
وفي البحار عن الاحتجاج عن مولانا الإمام الصادق (عليه السَّلام) عن آبائه (عليهم السَّلام): "إن أمير المؤمنين (عليه السَّلام) كان ذات يوم جالساً في الرحبة والناس حوله مجتمعون، فقام إليه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، أنتَ بالمكان الذي أنزلك اللَّه به، وأبوك مُعذَّب في النار؟!!
فقال له أمير المؤمنين عليّ (عليه السَّلام): (مَهْ، فضَّ اللهُ فاك.. والذي بعثَ مُحمّداً (صلّى اللهُ عليه وآله) بالحقّ نبيّاً، لو شَفَعَ أبي في كلّ مُذنب على وجْه الأرض لشفَّعهُ اللهُ تعالى فيهم.. أبي يُعذّب بالنار، وأنا قسيم الجنّة والنار؟!
ثمَّ قال: والذي بعَثَ مُحمَّداً (صلَّى اللهُ عليهِ وآله) بالحقّ إنَّ نُور أبي طالب يوم القيامة ليُطفِئُ أنوار الخَلْق إلّا خمْسةَ أنوار: نُور مُحمّدٍ (صلّى اللهُ عليه وآله)، ونُوري، ونُور فاطمة، ونُور الحسن والحسين، ونُور ولدهِ مِن الأئمة، ألا إنَّ نُورهُ مِن نُورنا، خَلَقَهُ الله مِن قبْل خَلْق آدم بألفي عام). (بحار الأنوار: ج 35 ص110)
وهذا هو الأمر الطبيعي في التسلسل النَّسبي، والواقعي بشهادة نصوص أصحاب الرسالة من رسول الله (ص) وأئمة المسلمين(ع) ولكن ذنبه أنه والد علي بن أبي طالب (ع) مما جعل بني أمية ولجنة الكذب والدَّجل التي شكَّلها معاوية تصبُّ جام غضبها على أبي طالب (ع) نكاية ووقيعة ونصباً لأهل البيت الأطهار (ع) من ذريته النورانية المباركة.