الطبيعة مفيدة للعقل والجسم

شبكة النبأ

2024-06-20 04:29

يعمل أكثر من ٤٠ ألف موظَّف في المقر الرئيسي لشركة أمازون وسط مدينة سياتل. لكن حتى في هذه البيئة الحضرية، يستطيع الموظَّفون السير بين الأشجار، ومشاهدة تدفُّق المياه في جدول داخلي، وعقد اجتماعات في غرف ذات جدران تُغطِّيها الكروم. يحتوي هذا المبنى على نباتات من ٤٠٠ نوع مختلف، ما بين نباتات صغيرة مثل النباتات الحزازية والسرخسيات وأشجار يبلغ طولها ٥٠ قدمًا.

أمازون واحدة من الشركات العديدة التي تحرص على إدخال الطبيعة في مكان العمل. ولدى أير بي إن بي جدارٌ من النباتات في مقرها في سان فرانسيسكو؛ وتضمُّ أبل غابةً بها ما يزيد عن ثمانية آلاف شجرة في مقرِّها في كوبرتينو، كاليفورنيا؛ وسوف يحوي مقر جوجل الجديد في مدينة ماونتن فيو، في كاليفورنيا أشجارًا، ومناظرَ طبيعية شاسعة، ومسارات للدراجات.

لماذا تنفِق الشركات أموالًا طائلة على إنشاء تلك البيئات؟ من الجلي أن هذه الاختيارات قائمة على أبحاثٍ علمية هائلة أثبتت دور الطبيعة في إثارة الإبداع، والحد من الضغط النفسي، بل وزيادة إنتاجية العمل.

ما الشعور الذي تثيره فيك الطبيعة؟

تأمَّل مرةً من المرات وأنت تسير على الشاطئ، أو تتمشَّى في حديقة مزهرة، أو تستمع إلى صوت طيور مغرِّدة، أو حتى تطالع الحشائش والنباتات من النافذة. كيف كان شعورك؟ مشاهدة الطبيعة أو سماعها أو حتى التفكير فيها يجعل العديد من الناس يشعرون بطاقةٍ أكبر وسلام وحيوية. لهذا السبب ندفع مالًا أكثر مُقابل حجرة فندقية تطلُّ على المحيط أو منزل بحديقة واسعة.

لتحديد فوائد الطبيعة طلب الباحثون من المشاركين في إحدى الدراسات أن يتخيَّلوا فحسب كيف يكون إحساسهم في مواقفَ مختلفة.1 وإليك اثنين من تلك المواقف:

«تخيَّل أنك وصديقك تُهرولان معًا في بهوٍ مُمتدٍّ داخل مبنًى حديث.»

«تخيَّل أنك وبعضًا من أصدقائك في متنزَّه عام، تتمرَّنان معًا على الحشائش.»

هذان الموقفان كلاهما متشابهان جدًّا؛ فهما ينطويان على قضاء وقت مع صديق وممارسة نشاط بدني. إلا أنَّ الناس تُفيد بمشاعر مختلفة حسب الموقف الذي تخيَّلوا أنفسهم فيه. تحديدًا، يُفصح مَن يتخيلون أنفسهم يقضون وقتهم في الخارج عن شعورهم بمستوياتٍ أعلى من الحيوية، تضمَّنت الشعور بنشاط ويقظة وانتعاش أكبر.

في دراسة ثانية، طلب الباحثون من الناس أن يُطالعوا صورًا لمناظر طبيعية أو غير طبيعية. تضمَّنت صور الطبيعة، على سبيل المثال، صحراءَ تُحيط بها منحدرات صخرية ومنظرًا لبحيرة في الليل. أما صور المناظر غير الطبيعية فاحتوت على مناظرَ لشارع في مدينة ذات مُبانٍ على الجهتين وطريق في الليل. ومرة أخرى أدلى الذين رأوا المناظر الطبيعية بمستويات أعلى من الحيوية عن الذين رأوا المناظر غير الطبيعية.

وتكون فوائد الطبيعة في الشعور بالرفاه أقوى حين يقضي الناس الوقت في الخارج فعليًّا بدلًا من تخيُّل أنهم يقضون وقتهم بالخارج أو يطالعون الصور فحسب. فمجرَّد السير مدة ١٥ دقيقة في ممشًى محفوف بالأشجار بجانب نهر يُسفِر عن مستويات أعلى من الطاقة واليقظة مقارنةً بالسير في مكان داخلي من دون أيِّ إطلالات على الخارج.

فوائد العيش قريبًا من الطبيعة

كيف تبعث الطبيعة على الشعور بالسعادة في الحياة الواقعية؟ في إحدى الدراسات، تقصَّى الباحثون بيانات عينة ضخمة جدًّا - شملت أكثر من ١٠ آلاف شخص يعيشون في بريطانيا. أعطى كل هؤلاء الناس تقييمات لحالاتهم المزاجية العامة، وكذلك رضاهم عن الحياة. كذلك ضمَّت هذه البيانات معلومات عن الأماكن التي يُقيم فيها الناس، بحيث يمكن تحديد «حجم» الطبيعة التي يتعرَّضون لها يوميًّا، من حدائق ومتنزهات وماء. لكن لعل الأهم أن هذه البيانات ظلت تُجمع سنويًّا على مدار ١٨ عامًا، حتى يتسنَّى للباحثين أن يروا أيضًا كيف اقترن الانتقال إلى موقع جديد (ربما احتوى على قدر مختلف من المساحات الخضراء) بالحالة المزاجية والرضا عن الحياة.

كشفت هذه النتائج عن فوائد جمَّة للعيش في بيئات قريبة من الطبيعة. بعبارة محدَّدة، أظهر الناس الذين يعيشون قربَ الطبيعة معدلاتٍ أدنى كثيرًا من القلق والاكتئاب، ومعدلات أعلى كثيرًا من الرضا عن الحياة بوجهٍ عام. لم تكن هذه الآثار ضئيلة أو طفيفة. فقد كان العيش قرب الطبيعة، في واقع الأمر، أفيَدَ لصحَّة الناس العقلية من الزواج بنسبة ٣٣ في المائة.

وقد كشفت دراسة أُجريت في أحياء مختلفة في ويسكونسن عن نتائجَ مشابِهة بخصوص الآثار المفيدة للطبيعة. فقد كان احتمال إقرار الأشخاص الذين يقيمون في حيٍّ يقلُّ فيه الغطاء الشجري عن نسبة ١٠ في المائة إصابتهم بالاكتئاب والقلق أعلى، في جميع مستويات الدخل. بعبارة أخرى، كان الشخص الفقير الذي يعيش في منطقةِ غاباتٍ أرجح أن يكون سعيدًا عن الثري الذي يعيش في منطقةٍ خالية من الأشجار في حيٍّ فاخر.

ويوجد المزيد من الأخبار السَّعيدة. فمجرد التعرُّض لفترة قصيرة للطبيعة -حتى إن لم تكن تعيش قريبًا منها- يؤدِّي إلى سعادة وجيزة. فالناس الذين يمرُّون فحسب بمساحات خضراء في المدينة يُبدون ارتفاعًا في مستوى السعادة، مما يفيد بأنه حتى أحواض الزهور والأشجار والمساحات الصغيرة من الخضرة في البيئة الحضرية يجعلنا في مزاجٍ جيد. على نحو مماثل، يشعر الناس الذين يعيشون في نيويورك بالقرب من متنزهٍ عام بسعادة أكبر، على الأقل عند تقييمهم حسب النبرة الإيجابية في تغريداتهم على «تويتر» (من كلماتهم ورموزهم التعبيرية).

على النقيض، هل يمكنك أن تخمِّن من أين تصدر أقل التغريدات سعادة؟ قرب مراكز المواصلات، مثل محطة بنسلفانيا، وهيئة الموانئ، ومدخل نفق ميدتاون، مما يُشير على ما يبدو إلى استياء من حركة المرور وتأخُّر حركة النقل.

حسنًا، قد لا يكون أيٌّ من هذه الأشياء مُدهِشًا للغاية. فكما قال الباحثون أنفسهم: «مَن عساه لا يَبتهِج وسط خضرة متنزَّه عام، أو يوشك على الانتحار حين تتوقَّف به حركة المرور أو ينتظر قطارًا متأخرًا؟» لكنَّني سأصف لاحقًا في هذا الفصل فوائد الطبيعة لرفاهنا الجسدي.

حتى النباتات المنزلية مفيدة هي الأخرى!

إنه لمِن الواضح إذن أن الطبيعة مهمَّة من أجل رفاهنا النفسي. لكننا لا يسعدنا جميعًا الحظ بالعيش أو العمل في بيئاتٍ تحيط بها الطبيعة، خاصةً مَن يعيشون في المدن ويعملون بها. (المفارقة أنني بينما أكتب هذا الفصل، يُجرى بناء مسكن جديد للطلبة من خمسة طوابق خارج نافذة مكتبي بالضبط، ليحجب عني تمامًا منظرًا بديعًا لسلسلة جبال). لكن مما يَبعث على التفاؤل أن ثمَّة أدلةً تُفيد بأنه حتى النباتات الداخلية من الممكن أن تُحسب باعتبارها «طبيعة» وتؤدِّي إلى آثار إيجابية.

في واحدة من أوائل الدراسات التي بحثت تأثير النباتات الداخلية على الصحة، طلب الباحثون من موظَّفين مكتبيين في ولاياتٍ عدة أن يُحدِّدوا درجة رضاهم عن وظائفهم في المجمل وأن يُدلوا بمعلوماتٍ عن بيئة عملهم. سُئل الموظَّفون تحديدًا ما إن كانت نوافذ مكاتبهم تطل على مساحاتٍ خضراء وما إذا كانت لديهم نباتات داخلية حية في مكاتبهم.

بوجه عام، أفاد العاملون الذين لديهم نباتات داخلية حية في مكاتبهم بدرجةٍ أكبر من السعادة والرضا عمَّن ليس لديهم نباتات. يوجد أدناه نسبة الذين أدلَوا بشعورهم «بالرضا» أو «السعادة البالغة» في كل مجموعة:

٨٢ في المائة من المجموعة التي «لديها نباتات ونوافذ».

٦٩ في المائة من المجموعة التي «لديها نباتات لكن من دون نوافذ».

٦٠ في المائة من المجموعة التي «لديها نوافذ لكن من دون نباتات».

٥٨ في المائة من المجموعة التي «ليس لديها نباتات ولا نوافذ».

المثير للاهتمام أنه رغم أن العاملين ممَّن لديهم كلٌّ من نباتات داخلية وإطلالة على الطبيعة قد أدلوا بتمتُّعهم بأفضل ظروف معيشية، فإنَّ امتلاك نباتات داخلية كان أكثر منفعة حتى من الإطلال على الطبيعة. كذلك أفاد العاملون في مكاتب تضمُّ كلًّا من النباتات وإطلالة على الطبيعة بسعادةٍ أكبر بوظائفهم والعمل الذي يُؤدُّونه.

حسنًا، من الأسئلة الجوهرية بشأن هذه البيانات هو ما إن كان ثمَّة عوامل أخرى تفسِّر هذه العلاقة بين مكان العمل والرضا عن الحياة. فالأرجح على كل حال، أن يعمل الموظفون الأكبر سنًّا، ويشغلون مناصبَ أرفع، ويجنون مالًا أكثرَ في مكاتب بنوافذ تطلُّ على مناظر طبيعية. لكن هذه العوامل الأخرى لم تُفسِّر العلاقة: فلم يكن هناك اختلافات في درجات السعادة التي أدلَوا بها حتى عند تحييد البيانات الخاصة بالسنِّ والراتب ومستوى التعليم والمنصب.

وثمَّة مسألة أخرى بشأنِ بيانات الدراسة التي وصفتُها للتو. فقد جمعَت هذه الدراسة بياناتٍ من أشخاص يعملون في بيئات معينة، ومن ثَم فربما تكون هناك عوامل أخرى أسفرت عن الفروق في درجة الرضا والسعادة. فمن الوارد مثلًا أن الناس الأكثر سعادة عامةً والأكثر رضًا في حياتهم يختارون شراء نباتات داخلية - أي إنها ليست مسألة أن النباتات تُعطي روحًا إيجابية وإنما أن وجود النباتات هو اختيار مقصود من جانب الأشخاص الذين يَنعمون بالرفاه.

للتحقُّق من هذا الاحتمال، اختبر الباحثون كيف يمكن للتغيرات في بيئة العمل أن تؤدي لتغيرات في الرضا عن مكان العمل. في البداية، أتمَّ كل العاملين اختباراتٍ لقياس الرضا عن مكان العمل والتركيز والإنتاجية. ثم بعد مرور ثمانية أسابيع، تعرَّض نصف العاملين لتعديل في البيئة؛ إذ أحضر مهندس ديكور عددًا من النباتات الخضراء ذات الأوراق الكبيرة، وُزعت في أنحاء موقع العمل. فوُضِع، في المتوسط، ثلاثة نباتات لكل خمسة مكاتب، بحيث يكون على مرأى مِن كل مكتب نبتتان على الأقل. لم يُجرَ للموظفين الآخرين أيُّ اختلاف في بيئة عملهم.

بعد ثلاثة أسابيع من وضع النباتات، أتمَّ العاملون مرة أخرى اختبارات لقياس مستوى الرضا عن بيئة العمل والتركيز والإنتاجية. رغم أنه لم يكن ثمَّة اختلاف في درجة الرضا عن بيئة العمل بين الأشخاص في المجموعتين، فإن العاملين الذين صاروا يرون نباتات في بيئة مكاتبهم أعربوا عن ارتفاع في قدراتهم على التركيز وفي إنتاجياتهم. كما أن شهادات العاملين أنفسهم عن شعورهم بارتفاع إنتاجياتهم دعمتها بيانات موضوعية أثبتت أن الذين كانوا في مكاتب بها نباتات كانوا يُنجزون المهام أسرع (وبنفس الدقة بالضبط) عمَّن كانوا في مكاتب من دون نباتات.

ما الذي توحي به هذه النتائج لمن لم يُحالفه الحظ منَّا ليتمتَّع بإطلالة جميلة على الطبيعة من نافذة مكتبه (أو منزله)؟ فلتبتَعْ بعضَ النباتات!

* مقتبس بتصرف من كتاب التحول الإيجابي: تحكم في طريقة تفكيرك وانعم بالسعادة والصحة والعمر المديد، للمؤلفة: كاثرين إيه ساندرسون، أستاذة علم النفس في أمهرست كوليدج بولاية ماساتشوستس الأمريكية

ذات صلة

ما حجم خسارتنا للغدير؟الغَديرُ.. اختيار الرَّجُلِ المُناسبِ في المكانِ المُناسبِالحرية مسؤولية والمسؤولية حريةالاستثمارُ في الحُبّ صعبالدكتوراة الفخرية.. ما لها وما عليها