لماذا فعلتُ ما فعلتُه؟
شبكة النبأ
2023-11-21 05:13
كثيرٌ منَّا توقَّف فجأة وسأل نفسه: «لماذا فعلتُ ما فعلتُه؟» ربما نكون قد توقَّفنا مؤقتًا، ونظَرنا حولنا، وأدركنا أننا قد وصلنا إلى منتصف الطريق إلى المنزل بينما كانت أفكارنا في مكانٍ آخر. أو ربما جلسنا بجوار شيءٍ اشتريناه ونحن نتساءل عما إذا كنَّا نُريده أو نحتاج إليه حقَّا، بعد أن وجَّهَتْنا التحفيزات والتطمينات نحو شرائه دون عناء.
تُسلِّط هذه الأمثلةُ الضوءَ على أن سلوكنا غالبًا ما يتأثر بعواملَ تقع خارج إطار إدراكنا الواعي. ولا يُمثِّل هذا مشكلةً بالضرورة؛ إذ كنا سنجد صعوبةً كبيرة في القيام بوظائفنا إذا كان علينا استيعابُ كل شيءٍ نقوم به بوعيٍ والموافقةُ عليه. لكننا -وكذا الحكومات أو المؤسَّسات الأخرى- غالبًا ما نَميل إلى التقليل من أهمية هذا الجانب «التلقائي» من سلوكنا. وقد تكون النتيجة سياساتٍ أو منتجاتٍ أو خططًا غير فعَّالة.
يُحاوِل نهج الرؤى السلوكية معالجة هذه المشكلة عن طريق أخذِ أحدثِ الأدلة حول ما يؤثِّر على السلوك، ثم تطبيق هذه الرؤى على قضايا عملية. وبما أن النهج يُعطي الأولوية أيضًا لتقييم تأثير تدخُّلاته، يُمكننا أن نعرف بالضبط كيف أحدث فارقًا في مشكلاتٍ ملموسة. ومن ثَم، انتشر استخدامُ نهج الرؤى السلوكية من قِبل الحكومات والشركات والأفراد بقوة على مدى السنوات العشر الماضية.
ولكن كان هناك أيضًا أسئلةٌ عديدة حول ما إذا كان منهج الرؤى السلوكية موثوقًا به، وما إذا كان يمكنه معالجة القضايا الكبيرة التي تُواجه المجتمع، وما إذا كان يطرح أسئلةً أخلاقيةً جادة. هناك أيضًا قَدْر كبير من الالتباس حول ما يَعنيه مصطلح «الرؤى السلوكية» في الواقع.
التعريف بنهج الرؤى السلوكية
يُطبِّق نهج الرؤى السلوكية أدلةً حول السلوك البشري على مشكلاتٍ عملية. يمكن أن تُقدِّم الرؤى السلوكية وصفًا واقعيًّا للكيفية التي نأتي بها بأفعالنا ودوافعنا للإتيان بها، مما يسمَح لنا بتصميم أو إعادة تصميم السياسات والمنتَجات والخِدمات وفقًا لذلك. وقد أدَّت النتائج التي حقَّقها هذا النهج إلى اعتماده من قِبل الحكومات والمؤسَّسات والشركات في جميع أنحاء العالم. يشرَح هذا الكتاب المبادئ الأساسية لمنهج الرؤى السلوكية، ولماذا أثبَت شعبيتَه، وما الذي يمكن أن يُحقِّقه.
لنبدأ بمناقشة الجديد في هذا النهج؛ الجديد أنه يُمثِّل تحديًا للآراء المتعارَف عليها بشأن كيفية اتخاذ القرارات. غالبًا ما يفترض الأفراد، وكذا الحكومات والشركات، أن سلوكنا يخضَع في الغالِب لردودِ فعلٍ مدروسةٍ ومُتروِّية تجاه المعلومات والمُحفِّزات التي نتلقَّاها. ومن هذا المنظور، يُلاحِظ الناس كل معرفةٍ ذات صِلة، ويوازنون بعنايةٍ بين تكلفة وفوائد كل خيارٍ متاح، ويتَّخذون الخيار الذي يعتقدون أنه يُعظِّم من الفوائد التي ستعود عليهم (أو على أولئك الذين يهتمُّون لأمرهم).
على النقيض من ذلك، تتمثل «الرؤية» الأساسية لنهج الرؤى السلوكية في أن جزءًا كبيرًا من سلوكنا غيرُ واعٍ، واعتيادي، ومدفوعٌ بإشاراتٍ في بيئتنا أو بالطريقة التي تُقدَّم بها الخيارات. نحن قادرون على اتخاذ القرارات بطريقةٍ مدروسةٍ ومتروِّية، ولكن هذا يحدُث بمعدلٍ أقلَّ مما نفترض. وعوضًا عن ذلك، تُوجِّه الاختصارات الذهنية أو «القواعد الأساسية» البسيطة أفعالنا؛ على سبيل المثال، «افعل ما يفعله الآخرون» أو «اتخذ الخيارَ الأوسط». وغالبًا ما تُحَفَّز هذه الاختصاراتُ تلقائيًّا - خارج نطاق إدراكنا الواعي - عن طريق سمات الخيارات أو المواقف التي نُواجِهُها.
ونتيجة لذلك، قد تتحكم جوانب السياق أو الطريقة التي يُقدَّم بها قرارٌ ما في تشكيل سلوكنا على نحوٍ أكبَر بكثيرٍ مما نُدرك. لنتأمل سلوكنا الغذائي مثلًا، وهو المثال المُمتَد الذي سنستخدِمه خلال هذا الفصل. نظرًا لأن الناس يستخدِمون وجود السَّلَطة باعتبارها اختصارًا ﻟ «الطعام الصحي» عند تقييم خيارات الطعام المتاحة، فإن إضافة السلَطة إلى وجبة الهامبرجر تجعلنا نعتقد فعليًّا أنها تحتوي على سعراتٍ حرارية أقل بنسبة ١٢٫٦ في المائة من الوجبة نفسها بدون السَّلَطة.1 وتتأثر الكمية التي نأكلها بطرقٍ مُماثلة. فمضاعفة حجم الحصة الغذائية يعني أن استهلاك الناس من الأكل سيزداد بمقدار الثلث، في المتوسط،2 والإشارات التي تُحيط بطعامنا مهمةٌ أيضًا؛ إذ تعني عبوات الطعام الأكبر حجمًا وأواني التقديم الأكبر تناوُلَ المزيد من الطعام.3
جزءٌ كبير من سلوكنا غير واعٍ، واعتيادي، ومدفوعٌ بإشاراتٍ في بيئتنا أو بالطريقة التي تُقدَّم بها الخيارات.
وبالرغم من أن ردود الفعل التلقائية هذه تحدُث خارج إطار إدراكنا الواعي، فإنها غالبًا ما تكون قد تطوَّرَت باعتبارها وسائلَ فعَّالة وقوية لتحقيق أهدافنا. تأمَّل كم كانت حياتنا ستُصبِح أصعب بكثيرٍ لو اضطُررنا إلى التركيز عمدًا على كلِّ عنصرٍ من عناصرِ عمليةِ ربطِ رباطِ حذائنا كل صباح، أو تقييم إيجابياتِ وسلبياتِ كلِّ طعامٍ نشتريه بدقةٍ وعناية. فهذا النوع من التفكير «السريع» هو ما يسمَح لنا باتخاذ الآلاف من الأحكام والقرارات الناجحة كل يوم، دون أن نُدرِك حتى أننا نقوم بذلك.
غير أن قلة وعيِنا لها ثمَن أيضًا؛ إذ تعني أننا عادةً ما لا نُدرك الطريقة التي تُشكِّل بها هذه العمليات سلوكنا. ففي إحدى الدراسات، أخفَق أكثر من نصف الأشخاص الذين تلقَّوا عمدًا ما بين ٥٠٠ جرام و١٠٠٠ جرام من وجبة المكرونة بالجبن على الغداء (على مدار شهر) في ملاحظة أن حصصَهم من الوجبة قد تغيَّرَت من الأساس.4 حتى لو كنا نلاحظ مثل هذه الأشياء، فغالبًا ما نتوصل إلى تفسيراتٍ بديلة لسلوكنا. قد ندَّعي، على سبيل المثال، أننا أكلنا أكثر من المعتاد لأننا كنا في غاية الجوع. ولكن تُظهِر الدراساتُ نفسُها أن هذا ليس صحيحًا؛ فأحجام الحصَص، وليس الجوع، هي ما تسبِّب زيادة الأكل.
سواء كنا نفحَص حجم استهلاكنا من الطعام أو أي نوعٍ آخر من القرارات، فبيتُ القصيد هو أننا إذا لم نفهم سلوكنا بدقَّة، فمِن غير المُرجَّح أن نعتمد الخطط الشخصية أو السياسات العامة المُثلى لتحقيق أهدافنا. وسنظل نُطوِّر أنظمةً واستراتيجياتٍ تعتمد على الاعتقاد بأن قراراتِنا تعتمد على التفكير المُتأني بينما تُظهِر الأدلة العكس. ويمكن للرؤى السلوكية أن تُوضِّح لنا العواملَ المُحرِّكة لأفعالنا بحقٍّ في هذه الحالات. وبذلك، يوفِّر النهجُ التفسيراتِ والتوقُّعاتِ التي تُوجِّهنا إلى خطَطِ عملٍ أكثرَ فاعلية.
بعد مناقشة الجزء الخاص باﻟ «رؤى» من موضوعنا، نريد الآن توضيحَ أهميةِ التركيز على «السلوك». نحن مُهتمُّون بما يفعله الناس فعلًا؛ فالتغيُّرات التي تطرأ على المواقف والمعتقدات والنوايا المعلَنة أمرٌ مُهِم، ولكنها قد لا تتوافق مع التغيُّرات في السلوك.5 ونؤكِّد على الملاحظة المباشرة بسبب المشاكل التي تخُص الأشخاص الذين يُبلغُون عن سلوكهم. غالبًا ما لا يتذكَّر الأشخاص بصورةٍ صحيحة ما فعلوه، ويتوقعون ما سيفعلونه بلا دقةٍ. قد يكون هذا مدفوعًا جزئيًّا بالرغبة في الحفاظ على صورةٍ ذاتيةٍ إيجابية. وحتى لو كانت لديهم مثل هذه المعلومة، فقد يُنمِّقون كلامهم بما يعكس ما يعتقدون أنه مرغوبٌ فيه اجتماعيًّا أو يعكس ما يريدُ الباحثُ سماعه.6
على سبيل المثال، طلبَت إحدى الدراسات الوطنية من البالِغين تذكُّر مقدار النشاط البدني الذي قاموا به على مدى الشهر الماضي. وارتدَت مجموعة أصغر ممن أجابوا على الاستبيانِ جهازَ قياس التسارُع الحركي على مدى الأسبوع التالي للمسح. يقيس جهازُ قياسِ التسارُع مباشرةً مقدارَ حركةِ الأشخاص. في حالة الإبلاغ الذاتي، قال ٣٩ في المائة من الرجال و٢٩ في المائة من النساء إنهم حقَّقوا الحد الأدنى المُوصَى به من النشاط البدني. ولكن أظهرَت بيانات الجهاز أن ٦ في المائة فقط من الرجال و٤ في المائة من النساء قد حقَّقوا ذلك في الواقع.7
باختصار، يجمع نهج الرؤى السلوكية الأدلة على كيفية تفاعُل التفكير الواعي مع العمليات غير الواعية لتشكيل السلوك. ولكنه يبني أيضًا على هذه الأدلة لاقتراحِ حلولٍ جديدة، كما سنُوضح فيما يلي.
ما الذي يقدِّمه نهج الرؤى السلوكية؟
لتوضيحِ كيف يمكن للرؤى السلوكية أن تقترح طُرقًا جديدة لفعل الأشياء، دعُونا نستمر مع موضوع الطعام. لنفترِض أن صُنَّاع السياسات قرَّروا أن الإفراط في تناوُل الطعام مشكلةٌ تتطلَّب اتخاذ إجراء. في هذه الحالة، يمكن للرؤى السلوكية أن تُعزِّز خيارات السياسة الرئيسة المتاحة للحكومات والمواطنين؛ ألا وهي المعلومات (إخبار الناس عن كيفية أداء أو تجنُّب سلوكٍ ما ولماذا يتعيَّن عليهم القيام بذلك)، والحوافز (تغيير التكاليف أو الفوائد الناتجة عن السلوك)، والتشريع (منع أو فرض سلوكياتٍ مُعيَّنة بموجب القانون). وسنتناول كلًّا من هذه المجالات بإيجازٍ فيما يلي.
المعلومات
كان النهج التقليدي لتقديم المعلومات عن الأكل عمومًا هو إخبار الناس بالأطعمة التي ينبغي أو لا ينبغي عليهم تناوُلها. ولكن نظرًا لأن العديد من خياراتنا الغذائية مدفوعةٌ بالعادات وتحدُث خارج إطار إدراكنا الواعي، فقد يكون لتحسين الوعي بمخاطرِ وفوائدِ أطعمةٍ بعَينها تأثيرٌ محدود على السلوك. في الواقع، يمكن أن يأتي تقديم المعلومات بنتائجَ عكسية. على سبيل المثال، وجدَت إحدى الدراسات أن الناس كانوا في الواقع أكثر ميلًا لتناوُل دواءٍ ما بعد عَرضِ الكثير من آثاره الجانبية المُحتمَلة عليهم - على عكس ما قد يحدث حال عَرضِ أثَرٍ واحد فقط - وهذا بسبب طريقة إدراكنا للمخاطر.8
مع وضع هذه المبادئ في الاعتبار، قد يُساعِد نهج الرؤى السلوكية الأشخاص بدلًا من ذلك على تبنِّي «قواعد أساسية»؛ عملية جديدة تركِّز على خلق عاداتٍ جديدة. على سبيل المثال، يُمكننا وضع خططٍ بسيطة لتقليل احتمالية تعرُّضنا للطعام المُغري - مثل «إذا سأل النادل عما إذا كنتُ أرغب في الاطلاع على قائمة الحلوى، فسأطلبُ فنجانَ قهوة».9 وقد أثبت هذا النوع من التخطيط، الذي يمكن أن يؤدي إلى خلق عاداتٍ جديدة، فاعليَّتَه عَبْر الكثير من الدراسات.10 بعبارةٍ أخرى، قد يقترح نهج الرؤى السلوكية أن المعلومات يجبُ أن تركِّز بصورةٍ أقلَّ على ما يجب أن يأكله الناس، والتركيز بصورة أكبر على كيف يأكلون بالفعل. لا داعي للتخلِّي عن التوجيه الغذائي؛ ولكن بدلًا من ذلك، يجب أن يكون هناك تحوُّل نحو كيفية تحويل هذا التوجيه إلى أفعال.
الحوافز
دعونا ننتقل إلى الأداة التالية في صندوق أدوات صنع السياسات، ألا وهي الحوافز. تركَّز الكثير من الاهتمام، فيما يتعلق باستهلاك الغذاء، على كيفية استخدام الضرائب لزيادةِ أسعارِ الأطعمة غير الصحية. والفكرة هي التحوُّل بمشتريات المستهلكين بعيدًا عن الأطعمة غير الصحية - مما قد يؤدي إلى تحوُّلها نحو الأطعمة الصحية - تمامًا كما أدت الزيادات الضريبية إلى تقليل استخدام التبغ. على سبيل المثال، فرضَت المكسيك وتشيلي ومدنٌ مختلفة في الولايات المتحدة ضرائبَ على المشروبات المُحلَّاة لهذا الهدف.
إن محاولة التأثير على مشتريات المُستهلكين بهذه الطريقة أمرٌ يستحق التفكير. لكن نهج الرؤى السلوكية يشير إلى إمكانية استخدام الضرائب بطريقةٍ مختلفة، وربما أقوى، وهي تحفيز إعادة الصياغة. تُشير الدراسات إلى أن تقديم وجباتٍ تحتوي على سُعراتٍ حرارية أقلَّ بمقدار الربع جعل الناس يُقلِّلون استهلاكهم للطاقة بالمقدار نفسه.11 بعبارةٍ أخرى، لم يحتَجِ الناس إلى التعويض بتناوُل المزيد من الطعام، ولم يقلَّ شعورهم بالشبع عن الأشخاص الذين استهلكوا الوجبةَ ذاتَ السعرات الحرارية الكاملة. لذلك، فإن إعادة تشكيل الأطعمة للتخلُّص من السعرات الحرارية طريقةٌ فعَّالة لمعالجة الإفراط في تناوُل الطعام. فلن يُضطَر المستهلكون إلى بذل جهدٍ لتغيير سلوكهم؛ إذ يُمكنهم شراء المنتجاتِ نفسِها، ولكن بآثارٍ صحيةٍ سلبية أقَل.
كان هذا الهدف المُتمثل في دفع المُنتِجين إلى إعادة صياغة المنتَجات هو أساس تطبيقِ ضريبةٍ على المشروبات المُحلَّاة في المملكة المتحدة («ضريبة صناعة المشروبات الغازية»)، التي أعلِنَ عنها في عام ٢٠١٦. كان لهذه السياسة سِمتان أظهرَتا أن الهدف الأساسي كان سلوك المُنتِجين، وليس المُستهلِكين. أولًا، كانت الضريبة تصاعُدية وفقًا لمستويات السكر في المشروب. فتُعفى أي مشروباتٍ تحتوي على أقلَّ من ٥ جرامات من السُّكر لكل ١٠٠ مللي من الضريبة؛ وأيُّ مشروبات تحتوي على أكثر من ٨ جرامات من السكر لكل ١٠٠ مللي تخضع لأعلى معدَّل من الضريبة؛ وأي مشروبات بين هذا وذاك خضعَت لمعدَّلِ ضريبةٍ أقَل. كانت الفئات الضريبية ابتكارًا مُهمًّا. فلم تكن هناك فئاتٌ في المحاولات السابقة لفرضِ ضرائبَ على المشروبات المحلَّاة؛ إذ كانت تُطَبَّق فقط وَفقًا للحجم؛ فكلَّما زاد حجم المشروب، زادت الضرائب المُطبَّقة.
على النقيض من ذلك، شكَّل إنشاء فئاتٍ للضريبة حافزًا للمُنتِجين لإعادة صياغة منتَجاتهم، في حين قلَّت تكلفة القيام بذلك لأن المستويات تحدَّدَت بحيث لا تكون معظم المنتَجات الحالية بعيدةً جدًّا عن أي عتبةٍ من العتبات الضريبية. ثانيًا، لا تدخُل الضريبة حيِّز التنفيذ لمدة عامَين، مما يمنح المُنتِجين الوقتَ اللازم لإعادة صياغة منتَجاتهم.
أثَّرَت الضريبة على سلوك المُنتِجين كما هو متوقَّع. فبسرعةٍ أعادوا صياغةَ محتوى كلٍّ من المشروبات ذات الأسماء الشهيرة والعلامات التجارية الخاصة بهم. وفي غضون ثلاث سنواتٍ فقط، انخفضَت كمية السكَّر المباع للفرد من المشروبات الغازية بنسبة ٣٠ في المائة؛ أي ما يعادل ٥ جرامات لكل شخصٍ يوميًّا. وكان السبب في حدوث ذلك هو تغيُّر السوق؛ إذ انخفض إجمالي حجم مبيعات المشروبات التي كانت خاضعةً للضرائب بنسبة ٥٠ في المائة، في حين ارتفعَت مبيعاتُ المشروبات المنخفضة السكَّر والخالية من السكَّر المُعفاة من الضرائب بنسبة ٤٠ في المائة. كان الجزء الأكبر من هذا التغيير ناتجًا عن إعادة الصياغة، وليس بسبب تبديل المُستهلِكين لاختياراتهم.12 فقد أدَّى اختلافُ التفكير بشأن السلوك إلى سياسةٍ ساهَم فيها ولاءُ المُستهلكين لشراء علامةٍ تجارية بعَينها بحكم العادة في النجاح، وليس الفشل، وحيث تمَّت هيكلة الضرائب بحيث تدفع الشركات لتحمُّل العبء الأكبر لتحقيق النتيجة المرجوَّة بدلًا من ذلك.
التشريعات
أخيرًا، يُمكننا أن نرى كيف يمكن للرؤى السلوكية أن تُغيِّر طريقة تفكيرنا في القوانين التي تضعها الحكومات وكيفية تطبيقها لهذه القوانين. فيما يتعلق بالأكل، يُوجَد اقتراحٌ شائع وهو مطالبة مُصنِّعي الأغذية وبائعيها قانونًا بعَرضِ المعلومات الغذائية على العبوات وقوائم الطعام. وكثيرٌ من هذه القوانين تُحدِّد الطريقة الدقيقة التي يجب أن تُعرَض بها المعلومات. ومن الخيارات الشائعة (التي تتبنَّاها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) في هذا الشأن الاعتماد في الغالب أو كليًّا على عرض الأرقام، مثل السعرات الحرارية. الفكرة من وراء ذلك هي أن يُتابعَ الناسُ استهلاكهم من السعرات الحرارية ويتخذوا الخيارات على هذا الأساس. ولكن هل هذا نهجٌ واقعي أو أمثل؟
مرةً أخرى، تُشير الأدلة المُستقاة من علم السلوك إلى عكس ذلك. لنضع جانبًا مشكلةَ أن أقليةً فقط من الناس (٣٩ في المائة من النساء و٢٤ في المائة من الرجال في المملكة المتحدة، على سبيل المثال) هم من يعرفون عدد السعرات الحرارية التي عليهم استهلاكها يوميًّا أساسًا.13 إن المشكلة الأساسية تكمن في أنَّ الناس يُنقِّحون المعلوماتِ الغذائية، ويعالجونها باستخدام اختصاراتٍ ذهنيةٍ سريعة. ولا تتوافق المعلومات العددية الخاصة بالسعرات الحرارية مع هذه الاختصارات، بل تعتمِد على تقييمِنا المُتأنِّي للسعرات الحرارية، وإضافتها إلى حصيلةٍ مُستمرة. ويبدو أن المُلصَقات التي تستفيد من عملية اتخاذ القرارات السريعة والحدْسية تعمل بشكلٍ أفضل.
على سبيل المثال، تَستخدِم الملصَقات القائمة على ألوان إشارات المرور نظامًا لونيًّا بسيطًا يمكن تفسيره بنظرةٍ سريعة، دون انخراطٍ واعٍ. وقد أظهر كثيرٌ من الدراسات أن ألوانَ إشارات المرور لها تأثيرٌ أكبر على خيارات الطعام من حسابات السعرات الحرارية العددية البسيطة، التي غالبًا ما لا يبدو أن لها أيَّ تأثير.14 وأعلنَت الحكومة الألمانية أنها ستُدخِل نظامًا واحدًا قائمًا على ألوان إشارات المرور لملصقات الحقائق الغذائية (نظام «نوتري سكور») يستعين بهذه المبادئ.
النقطة الأساسية الكامنة وراء هذه الأمثلة هي: التأكُّد من أن السياسات أو البرامج تسترشد بأفضل الأدلة حول ما يؤثِّر على السلوك. إذا كنتَ ستطرح قانونًا جديدًا، فعليك فهم الخيار الذي من المرجَّح أن يُغيِّر السلوك. وإذا كنتَ ستطرح حوافز، فعليك ضبط توقيتها وحجمها وهيكلها وشروطها لتعظيم تأثيرها. وعند إنشاء حملة معلومات، ضع في اعتبارك كيفية ملاحظتنا للمعلومات ومعالجتها. وبشكلٍ عام، تأكَّد من أن لديك فهمًا واقعيًّا لما يؤثِّر وسيؤثِّر على السلوك ولماذا.