قواعد خفية تحكم سلوكيات الحشود البشرية

بي بي سي عربي

2018-04-01 05:46

كريستين روو-صحفية

 

قد تسفر التجمعات البشرية عن وقوع قتلى بسبب التزاحم والتدافع، ولكن في الوقت نفسه قد يتصرف الأفراد داخل الحشود الغفيرة بعقلانية مذهلة. ويعكف بعض العلماء، في ضوء المعلومات التي توصلوا إليها حول سلوكيات الأفراد وسط التجمعات البشرية، على تحديد آليات لمنع وقوع حوادث التدافع والدهس بالأقدام مستقبلا.

في بعض الأحيان، لا يتوقف الوجود وسط الحشود على الشعور بالضيق والخوف، إنما قد تنقلب هذه الحشود إلى موجات من التدافع والتزاحم القاتلة.

وقد وقعت حوادث تدافع ودهس بالأقدام في عام 2017، وأسفرت عن وقوع قتلى وجرحى في ملعب لكرة القدم في أنغولا، وفي إحدى الساحات الإيطالية أثناء مشاهدة مباراة لكرة القدم، وفي المغرب أثناء توزيع إعانات غذائية للمحتاجين.

وربما كان من الممكن تفادي وقوع أغلب هذه الحوادث المأساوية. ولهذا الغرض، يبحث عدد من العلماء في المملكة المتحدة عن طرق جديدة للحد من تكرارها مستقبلا.

يقول شريكانت شارما، مدير فريق المساحات الذكية بشركة "بيورو هابولد" للتصميمات الهندسية بالمملكة المتحدة: "البشر بشكل عام يحتكمون إلى العقل والمنطق، ولهذا فمن السهل التنبؤ بأغلب سلوكياتهم".

ومن خلال توقع تصرفات وردود فعل البشر، استطاع محللو البيانات وضع تصورات لحركات الناس في مختلف البيئات، وكيف تتأثر سلوكياتهم بالتغيرات التي قد تطرأ على البيئة المحيطة بهم.

ومنذ القرن التاسع عشر، ظهر فرع جديد من علم النفس الاجتماعي يُعنى بدراسة سيكولوجية الحشود، إلا أن علماء النفس لم ينظروا للحشود على أنها تجمعات من البشر تتصرف بهمجية إلا في السنوات الأخيرة.

ويقول جون دوروي، خبير علم النفس الاجتماعي في مجال إدارة الحشود: "الحشود، شأنها كشأن الأفراد، لها خصائصها السيكلوجية التي توجه سلوكياتها".

واستخدمت نتائج أبحاث علم نفس الحشود في السيطرة على أعمال الشغب التي وقعت في ثمانينيات القرن العشرين، وفي حالات الطوارئ والإصابات الجماعية في مطلع الألفية الثانية، والمهرجانات الموسيقية والأحداث الكبرى منذ عام 2010 وما بعدها.

وفي الوقت الحالي، يستعان بمبادئ علم نفس الحشود في التعامل مع حالات الطوارئ الأكثر خصوصية، مثل الهجمات الكيميائية أو البيولوجية أو الإشعاعية أو النووية.

الوعي الجمعي

أوضحت دراسات علماء النفس والمتخصصين في إدارة الكوارث أن حالات الطوارئ كثيرا ما تؤدي إلى ظهور هوية جمعية. وهذه الهوية هي التي تحدد مدى قدرة الأفراد وسط الحشود على مؤازرة بعضهم بعضا، والصمود في وجه الكارثة.

واكتشف دروري وزملاؤه، من خلال مقابلات أجروها مع الناجين من تفجيرات لندن التي وقعت في السابع من يوليو/ تموز 2005، على سبيل المثال، أن الكثير من الأفراد داخل الحشود كانوا يتعاونون معا، سواء بتهدئة بعضهم بعضا أو تقاسم المياه، أو تقديم الإسعافات الأولية.

ويقول دروري محذرا: "ولهذا يجب الامتناع عن كل الأفعال التي من شأنها أن تحول دون ظهور هذا النوع من الهوية الجمعية التعاونية بين الناس"، لأن هوية الحشود ستطغى على أي انتماءات أخرى. فإن تقسيم الحشود على سبيل المثال إلى جماعات دينية أو عرقية لن يفيد في السيطرة عليها.

وأضيفت هذه النتائج إلى الأدلة الإرشادية للاستجابة لحالات الطوارئ التي وضعتها بعض المنظمات مثل الهيئة الوطنية للخدمات الصحية بالمملكة المتحدة.

ومن الأهمية بمكان فهم القواعد التي تحكم كل تجمع بشري خاص. فلو نظرنا مثلا إلى الحفلات الغنائية الصاخبة أو حفلات موسيقى الروك، ستجد أن حشود الشباب الذين يتقافزون ويرقصون رقصات عنيفة أمام المسرح يلتزمون بقواعد غير مكتوبة لا يعرفها الآخرون من خارج مجتمعهم، وهذه القواعد هي التي تحميهم من الاختناق أو السقوط تحت الأقدام.

إذ تلاحظ أن الشباب الراقصين يتحركون في دائرة تنتهي في الغالب في النقطة التي بدأت منها. ويقول دروري: "يدرك المسؤولون عن إدارة الحشود وتنظيمها أن المشاركين في هذه الرقصات العنيفة أمام المسرح يلتزمون بقواعدهم الخاصة".

ولكن إذا تعامل ضباط أمن مع هذه السلوكيات على أنها مصدر خطورة، بحكم قلة خبرتهم في إدارة الحشود في الحفلات من هذا النوع، ولجأوا إلى استخدام القوة والعنف، عندها يصبح الوضع خطيرا بالفعل.

وهذا ما حدث في كارثة هلزبره، التي وقعت عام 1989، وأسفرت عن مقتل 96 شخصا بسبب التدافع في ملعب كرة القدم في مدينة شيفلد، بالمملكة المتحدة، إذ انصب اهتمام بعض ضباط الشرطة وعمال الأمن بالملعب على منع وقوع الشغب، إلى درجة أن تعاملهم مع الجمهور، مثل إرغام عدد كبير المشجعين على الوقوف في مساحات ضيقة من المدرجات، زاد من احتمالات التدافع والتزاحم.

ومن الناحية النفسية، من المهم أيضا عدم تضخيم مخاطر التجمعات البشرية. ويقول دروري إن وسائل الإعلام والروايات التي يتناقلها الناس بوجه عام تبالغ في تقدير حجم مخاطر الحشود، رغم ندرة وقوع الكوارث الناتجة عن التجمعات البشرية، ولهذا كثيرا ما يُستخدم مصطلح "هلع" الجمهور، بدلا من عبارة "الإجلاء المفاجئ"، على سبيل المثال، بقصد تشويق المستمع، رغم أنه نادرا ما يحدث هلع جماعي.

والمشكلة أنه إذا صدق الناس أن الآخرين سيصابون بالهلع بسبب وجودهم وسط الحشود، فأغلب الظن أنهم سيصابون أيضا بالهلع، حتى لو لم يكن هناك مصدر خطر حقيقي.

خطة مسبقة

وتسهم الأبحاث أيضا في تطوير سبل حماية الناس وسط الحشود والتجمعات البشرية، سواء في المناسبات أو داخل المباني. ولكن أفضل التدابير لحماية الناس هي في الغالب أغربها.

ويجمع شارما وفريقه من مكتبهم المطل على نهر أيفون بمدينة باث، الكثير من البيانات عن العوامل التي تؤثر في سلوكيات الناس وسط الحشود، من الرياح إلى العوامل الثقافية التي تؤثر على اختيارهم للحيز الشخصي.

وبناء على هذه المعلومات، وضعوا تصورات مختلفة لتجمعات بشرية محتملة بالاستعانة ببرامج محاكاة الحشود التي طورتها الشركة، لإثبات أنه من الممكن تلافي التدافع والتزاحم بخطوات بسيطة، مثل تغيير مكان المخرج في مبنى سكني.

ويقول شارما: "إن البيانات العملية غالبا ما تدحض الافتراضات"، فقد يذكر العاملون بأحد المستشفيات على سبيل المثال أن النشاط في المستشفى يتركز في مساحة بعينها، ولكن عند تتبع حركة العاملين قد نكشف أن مركز النشاط في مكان آخر من المستشفى، وهذا يتطلب وضع تصميم مختلف لتنظيم المكان.

ومن الممكن منع التكدس بحلول بسيطة. فقد واجهت مدرسة في مدينة نيوكاسل مشكلة تكدس الممر بالطلبة في كل مرة يُقرع فيها الجرس. وبعد أن راقب شارما وفريقه حركة الطلاب ولاحظوا أنهم يجدون صعوبة في السير عبر الممر في اتجاهات مختلفة، وجدوا أن فكرة توسيع الممر التي اقترحتها المدرسة ستكون مكلفة وغير ضرورية.

واقترح شارما وفريقه في المقابل التخلص من جرس المدرسة. وهذا يعني أن الطلاب لن يغادروا غرف الصف في نفس الوقت. ومنذ ذلك الحين، أصبح الطلاب يسيرون في الممر بسلاسة.

ولهذا يرى شارما أن طرح الأسئلة الصحيحة، حتى في الأماكن ذات الموارد المحدودة، قد يساعد في تفادي الازدحام والتدافع.

وقد اشتهرت محطات قطارات مومباي، على سبيل المثال، بأنها مكتظة دائما بالركاب، ولكن ضمان توفير المعلومات الصحيحة والحرص على تنظيم صعود الركاب إلى القطار والنزول منه قد يحولان دون وقوع مآسٍ جديدة، مثل، حادثة التدافع التي وقعت على سلم محطة إلفنستون في الهند عام 2017، وأسفرت عن مقتل 22 شخص على الأقل.

وبالرغم من التقدم الذي شهده علم إدارة الحشود، إلا أن البعض يرى أنه في حاجة إلى المزيد من التطوير.

وقد أثبتت أبحاث أجرتها آن تيمبلتون من جامعة كنت البريطانية، على سبيل المثال، أن الكثير من أدوات محاكاة الحشود لا تكشف عن الدوافع التي تجعل الأفراد يتفاعلون معا بطريقة بعينها داخل الحشود.

وفي ظل تطور عملية إنشاء نماذج البيانات، أصبح من الممكن الاستفادة من جميع هذه العوامل التي يصعب ملاحظتها عند إعداد التصورات.

وتقول تيمبلتون: "من الممكن أن تنشأ هوية جماعية بين الأفراد الموجودين ضمن أي تجمعات بشرية في حالات الطوارئ، ولهذا يجب تهيئة نماذج الكمبيوتر لاستيعاب التغيرات التي قد تطرأ على سلوكيات الحشود".

وربما يسهم الاستماع إلى أقوال الناس ومراقبة أفعالهم في تكوين صورة واضحة المعالم عن سلوكيات البشر واحتياجاتهم.

إن سلوكيات الحشود تخضع لعوامل عديدة ومتشابكة للغاية، لكن الباحثين أيضا لا يتوقفون عن تطوير تقنيات وأساليب جديدة لتساعدهم في فهمها.

http://www.bbc.com/arabic

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي