رؤية في مفهوم المجتمع المدني
محمد محفوظ
2022-03-03 04:24
تتداخل عدة معطيات وقضايا عند تناول مسألة المجتمع الأهلي في الفضاء المعرفي العربي والإسلامي. منها ما هو مرتبط بالظرفية التاريخية التي تأسس فيها هذا المفهوم ودلالاته السياسية والمعرفية والاجتماعية، ومنها ما يرتبط بالحمولة الفلسفية لهذا المفهوم الذي تبلور في بيئة معرفية مغايرة لبيئتنا الثقافية والحضارية. ومنها ما يرتبط بجدوى هذا المدخل في تطور المجتمعات العربية والإسلامية.
ولا ريب أن المدخل الفعال لدراسة المجتمع المدني وموقف الإسلام ودوره في هذا الإطار، هو أن المجتمع المدني أو الأهلي، هو جزء من الأمة التي يوليها الإسلام العناية الكاملة، ويجعلها قطب الرحى في عملية البناء والتنمية وفي إطار البناء العلمي والثقافي الذي يؤسس ركائز الحركية الأهلية المدنية، ينبغي العناية بالمفاهيم والقيم التي تشكل مداخل ضرورية ومفاتيح فعالة لدفع قوى الأمة نحو البناء المؤسسي.
وكذلك قراءة الأحداث والتطورات واستيعاب منطلقها وتجاه حركتها والمفاهيم المتحكمة في مسارها و"أن ما ينبغي الحديث عنه، وما يشكل أداة مفهومية أوضح وأسهل للبحث هما مجموعتان من العوامل الداخلية، لا تتماهى مع التراث، وإنما تغطي البنى المحلية الفكرية والاجتماعية والاقتصادية، كما نشأت في إطار التحرر من الماضي من جهة، وفي إطار التأثر بالخارج في العقود الماضية من جهة ثانية، أي من حيث هي ثمرة للتفاعل السابق بين التراث المجروح والمهتز، وأحياناً المدمر، وبين الحداثة بما هي مجموعة الأنماط الجديدة التي فرضت نفسها على وسائل وطرق انتاج المجتمعات، لوجودها من الناحية الفكرية والخيالية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والاستراتيجية معاً.
أما المجموعة الثانية فهي العوامل التاريخية التي تربط بين النظام العالمي، من حيث هو ترتيب لعلاقات القوة على الصعيد الدولي، وبسياسات الدول المختلفة الكبيرة والصغيرة الوطنية، وما ينجم عنها من تعارض في المصالح، ومن نزاعات متعددة للهيمنة والسيطرة والتحكم بمصير المجتمعات الضعيفة، للاستفادة من مواردها، واحتواء ثمار عملها وجهودها "راجع: حول الخيار الديمقراطي - دراسات نقدية - ص114).
ومن خلال هذه القراءة الواعية والدقيقة، تتضح الظروف الموضوعية والمؤشرات العامة التي تؤسس لشبكة التضامن الاجتماعي والتآلف الداخلي بصورة حيوية وفعالة.
وهذا لاشك هو شرط تحويل الظروف الموضوعية والمؤشرات العامة التي تدفع باتجاه الخيار المدني إلى واقع ملموس وحركة اجتماعية متواصلة.
وبالتالي تتصاعد قدرة المجتمع على إجهاض كل مشروع ارتدادي، وترتفع وتيرة الحركية الاجتماعية باتجاه البناء المدني والمؤسسي.
فالوعي الذاتي بالظروف الموضوعية وقوانين حركتها هو شرط الاستفادة منها، وتوظيفها بما يخدم أهداف الوطن والأمة.
وستبقى الأمة العربية والإسلامية بعيدة عن دورها التاريخي، مادامت العلاقة متوترة بين الأمة ومشروع دولتها، ودفع الأمة إلى ممارسة خيارات ليست سلمية وحضارية في إنجاز مطامحها، يكلف الجميع الكثير من الطاقات والامكانات والثروات والأرواح. وتجارب الحروب الأهلية المؤلمة التي جرت ومازال بعضها مستمراً في بعض البلدان العربية والإسلامية، ليست ببعيدة عنا، بل ان تداعياتها وآثارها طالت جميع مناطق المجال الحضاري للعرب والمسلمين.
وفعالية الأمة الثقافية والحضارية، من الأمور الهامة على مستوى الغايات التي تتوخاها المنطقة العربية والإسلامية، وعلى مستوى العمران الحضاري. إذ ان الأهداف الكبرى التي تحتضنها الأمة وتتطلع إلى إنجازها وتنفيذها. لا تتحقق على مستوى الواقع إلا بفعالية الأمة وحركتها التاريخية وتجسيدها لقيم الشهادة. والمجتمع المدني هو أحد جسور الأمة لإنجاز تطلعاتها وتنفيذ طموحاتها.
ويعرف المجتمع المدني بأنه "المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة لتحقيق أغراض حضارية وثقافية واجتماعية" (راجع ندوة المجتمع المدني في الوطن العربي - ص854).
ومن خلال هذا التعريف المختصر نستطيع القول ان المجتمع المدني يعني:
نمط من العلاقات الاجتماعية والثقافية والحضارية. قائم على العمل المؤسسي، متجاوزاً بذلك كل الأنماط والسياقات الاجتماعية والثقافية التي لا تخرج عن واقع الأنا الضيق، وتسعى نحو تحجيم نشاطها في إطار الإمكانات الشخصية وحدها فكل نمط مؤسسي، يمارس فعلاً اجتماعياً عاماً أو ثقافياً فهو جزء من مفهوم المجتمع المدني.
قدرة القوى الاجتماعية المتعددة في المنطلقات والغايات، على إدارة تنافسها وعملها في محيط اجتماعي محدد بوسائل سلمية - حضارية، فالشأن العام في الأمة، يدار عن طريق قوى اجتماعية تتكامل مع بعضها البعض بشكل مباشر أو غير مباشر وتتنافس مع بعضها البعض بوسائل تثري الواقع المجتمعي وتنضجه وتزيد من خبرته في إدارة تنافس أبنائه أو صراعهم وأساس هذه القدرة، والتنافس السلمي في ادارة الشأن العام، هو تفعيل القاسم المشترك بين هذه القوى، والتسالم والتراضي على جملة من المنطلقات والغايات التي تكون تطلع الجميع، حتى وإن اختلفت أساليب الوصول، وتعددت وسائل التعبير عن هذه المنطلقات والغايات.
فالمجتمع المدني هو عبارة عن الإطار المؤسسي لممارسة المسئولية الدينية والوطنية.
وإن التجربة التاريخية الإسلامية، تشكل حافزاً حقيقياً وتجربة ثرية تساهم في بلورة خياراتنا تجاه صوغ مجتمع أهلي عربي إسلامي جديد يأخذ على عاتقه تجديد الحركية الاجتماعية الإسلامية، ورفدها بروافد جديدة وإغنائها بخبرات وإمكانات جديدة أيضاً.
وهذا المجتمع الأهلي، سيشارك في إعطاء عالم الإسلام اليوم شخوصه العالمية في كل مجال وفي المنابر كافة، ويتيح لعالمنا العربي والإسلامي المساهمة الجادة في تكريس نظام عالمي جديد أكثر تسامحاً وإيماناً ومسئولية وحرية. فالحركية الأهلية لا تتواصل وتتراكم بمعزل عن قوى الأمة الحية، بل هي التي ترفد الحركية الأهلية بإمكانات التواصل وأسباب الاستدامة.
فالقوى المجتمعية هي صانعة المجتمع الأهلي وهي هدفها في ذات الوقت.
حيث الغاية هي تطوير هذه القوى على المستويين النوعي والكمي، حتى تشارك في العمران الحضاري، والقدرة على الاستدامة والتطوير أمام تحديات الراهن المتعددة لا تتأتى إلا بحيوية المجتمع الأهلي الإسلامي وفاعليته وتحمله لمسئولياته الدينية والوطنية.
وإن هذه الحركية الأهلية لا تولد صدفة أو جاهزة، وإنما هي بحاجة إلى بناء نظري وعملي وممارسة مجتمعية مستديمة تبلور الوسائل الملائمة والاستراتيجيات الفعالة التي توصلنا إلى فعالية أهلية مؤسسية تتجاوز الأشخاص وتستمر في العمل والعطاء وفق نسق مؤسسي متطور.
وفي المجال العربي والإسلامي المعاصر، مازال هناك الكثير مما ينبغي عمله، حتى يترسخ العمل المؤسسي المدني وتسير مجتمعات هذا المجال الحضاري في اتجاهها.