المينيماليزم وتقاطعاته الجماليَّة في الأدب

أحمد الشطري

2025-09-20 04:48

ظهر تيار المينيماليزم (Minimalism) – التقليلية أو التبسيطية – كحركة فنية في مطلع ستينيات القرن العشرين في أمريكا، كردّ على الفن التعبيري التجريدي، ويهدف هذا التيار إلى البساطة والاستغناء عن الزوائد التي لا تشكل أثراً معتدّاً به في الحياة أو في العمل الإبداعي.

سعى هذا التيار إلى تعزيز مفهوم التبسيط في الأشكال والأشكال الهندسية سواء في الفن أم في التصاميم المعمارية، كما ركّز على التقليلية في الألوان أو أحاديتها. وهذا بحد ذاته يمثل اختزالاً كبيراً في الشكل التكويني للوحة أو البناء المعماري، كما دعا إلى تغييب الذاتية، من خلال جعل العمل الفني يتمتع بالموضوعية دون أن يُفصح عن مشاعر الفنان، واتفاقًا مع هذا المسار، فإن المساحات الفارغة تشكل جزءاً أساسيّاً وفاعلاً في العمل الفني في جانبيه الدلالي والجمالي.

لقد كان لهذه الفلسفة أثرها الفاعل في تقديم المعلومة السريعة والمركّزة للجمهور من خلال المقاطع الفيديوية القصيرة بمجالاتها المتعددة، سواء كانت ترفيهية أم تثقيفية أم إعلامية، حتى باتت (ثقافة الريلز) واحدة من أكثر مصادر الثقافة في العصر الحديث، ليس لفئة الشباب فحسب، بل لمعظم فئات المجتمع.

وفي مقدمة كتابه نظرية الحد الأدنى (A Theory of Minimalism) يقترح مارك بوثا “أن يُنظر إلى المينيمالية بوصفها نمطاً وجوديّاً، أي طريقةً مخصوصة للوجود في العالم. وما يجمع بين أشكال المينيمالية المتعددة – سواء أكانت جمالية، لغوية، قانونية، حاسوبية، أم نمطاً معيشيّاً – هو أنها جميعاً تتأسس على علاقة بنيوية مع مفهوم الحدّ الأدنى، وتتجه في كينونتها نحوه.

ويتمظهر الحدّ الأدنى في تعبيرين رئيسين: الأول هو اللامتناهي في الصغر، أيّ أدنى ما يمكن تحققه؛ والثاني هو الاقتصاد الصارم أو الزهد، أيّ أدنى ما هو ضروري.

وفي هذا السياق، يمكن تعريف المينيمالية الجمالية – وبلغة تنسجم مع روحها الاختزالية – بأنها استقصاء لأدنى الممكن وأدنى الضروري عبر مجموعة من الوسائط والأعمال الفنية. لكن ما إن تُفهم المينيمالية ضمن هذا الأفق الوجودي الواسع، حتى يتضح أنها ظاهرة متجاوزة للتاريخ، إذ يبدو أنها تتجلّى – بأشكال متفاوتة – في كل حقبة زمنية من الحقب التاريخية.”

المينيماليزم في الأدب: من هيمنغواي إلى النوفيلا

ولم يكن الأدب بمختلف فروعه بعيدا عن تأثيرات هذا التيار أو هذه الفلسفة، بشكل عام، بل شهد حضورا ملموسا وفاعلا، سواء كان هذا الحضور قبل أو بعد الإعلان عن ولادة هذا التيار. ولعلنا نلمس ذلك بشكل جلي في “نظرية جبل الجليد” لإرنست هيمنغوايلا (Ernest Hemingway) ، والتي عُرفت بـ”نظرية الإسقاط”. وتعتمد هذه النظرية على الظهور المبسط للوقائع من منظور المتلقي، مثلما يظهر جبل الجليد فوق الماء، بينما تختفي رمزياته مثلما تختفي دعائم الجبل عن الأنظار.

لقد عمل هيمنغواي على تمثل نظريته هذه في قصصه القصيرة التي تميزت بتركيزها على ما هو ضروري في تقديم الحدث، دون الإغراق في الوصف الذي يُعدّ، وفقاً لهذه النظرية، زوائد لا تُحدث تأثيراً كبيراً. وهذا ما يتقاطع بوضوح مع فلسفة تيار المينيماليزم، والتي تتمثل سماتها البارزة، في المجال السردي خاصةً، باستخدام اللغة المكثفة والواضحة، الخالية من الزخرفة أو الوصف المفرط، وجعل الحوار هو السمة الغالبة في السرد أكثر من السرد نفسه، واستخدام الإيحاء بدلاً من التصريح، فما لا يُقال غالباً أهم مما يُقال، وجعل الراوي حياديّاً في سرده للأحداث، مكتفيا بمراقبة السلوك دون تفسيره.

ويمكن أن نعد روايات النوفيلا، التي تتميز سماتها الأسلوبية بالاقتصاد اللغوي، وعدم الإسراف في الوصف، وكذلك بانحيازها إلى التركيز، أحد النماذج السردية التي تنتمي لهذا التيار، فهي تتجنب التفرعات والتشعبات السردية، وتعتمد على كثافة المعنى من خلال ضغط الدلالة في مساحات قصيرة، بالإضافة إلى ميلها للحيادية العاطفية، إذ يتسم الراوي غالباً بنبرة هادئة أو باردة.

تقاطعات المينيماليزم مع قصيدة النثر: ولعلنا لا نبتعد عن الواقع إذا ما قلنا إن تقاطعات الفلسفة الجمالية لهذا التيار في الأدب يمكن أن نجد لها حضوراً واضحاً في اشتراطات سوزان برنار لقصيدة النثر، فالإيجاز أو التكثيف يمثل صلب فلسفة المينيماليزم، حيث تُختزل اللغة لتقول أكثر بأقل قدر ممكن، وكذلك المجانية، التي توازي “الفن لذاته”، فالنص لا يُكتب لغرض خارجي، بل يُنتج وجوده الجمالي فحسب. 

أما “الوحدة العضوية” فهي العنصر المقابل لمبدأ “التوازن الداخلي” في العمل المينيمالي، حيث كل جزء يخدم البنية دون زوائد.

المينيماليزم كظاهرة عبر تاريخية وتمثلها الصوفي: كما يمكننا القول إن تمثلات هذه الفلسفة ليست وليدة مرحلة تاريخية محددة، بل هي تتخذ سمة “العبر تاريخية”، رغم الإعلان الولادي لها في التاريخ الذي ذُكر. فهي موجودة سابقاً لظهورها كمصطلح محدد، وهذا لا يُعدّ خلطاً مفاهيميّاً، بل تأكيداً على أن النظريات تظهر في بعض الأحيان لاحقاً لاكتشاف جذورها المبكرة في الممارسة الإبداعية. 

ومن هذا المنظور، يمكن النظر إلى الصوفية – في صورتها الاجتماعية والزهدية – كتمثّل مبكر للتقليلية، من خلال تركيز المتصوفة على ما هو ضروري في العيش، والتخلي عن الزائد عن الحاجة.

الشعر الفارسي والهايكو الياباني كنماذج شعرية للمينيماليزم: ولعل من بين الأمثلة الواضحة لهذا التيار في الشعر هو ما نجده في الأدب الفارسي بشكل خاص، والمتمثل في الرباعيات التي كتبها الخيام وفريد الدين العطار، وكذلك مثنويات جلال الدين الرومي. وفي بدايات القرن التاسع عشر عمد كثير من الشعراء العرب إلى الكتابة على غرار هذه الرباعيات، كما نجد ذلك في شعر إيليا أبي ماضي وإبراهيم ناجي على سبيل المثال لا الحصر.

كما أن شعر الهايكو الياباني يُعدّ مثالاً آخر على تمظهرات مبدأ التقليلة، وإيراد المعنى في أقل ما يمكن من الكلمات، ويظهر ذلك أيضاً في الفن التشكيلي الياباني، باعتماده البساطة والأناقة، واستخدام الألوان المسطحة، والتركيز على جماليات الطبيعة والاهتمام بالتفاصيل الدقيقة، وربما يعود هذا إلى تأثيرات الديانة البوذية، في تركيزها على التأمل وضعف الارتباط بالماديات، وهو ما يتجلى في السمة التقشفية للمينيماليزم.

المينيماليزم رؤية فلسفية لا مجرد أسلوب: وتأسيسًا على ما تقدم، يتضح أن المينيماليزم ليس مجرد أسلوب فني، بل هو رؤية فلسفية متكاملة تعبر عن موقف من العالم ومن اللغة، وتتقاطع بعمق مع تحولات الأدب المعاصر، خصوصاً في سرد النوفيلا وقصيدة النثر. فبين اختزال الصورة وحياد الراوي، وبين المساحة البيضاء وإيحاء الصمت، تتبدى فلسفة التقليلية كتجربة جمالية عميقة، تكتفي بالأقل لتقول الأكثر.

ومع أهمية هذه الفلسفة وضرورتها في ظل المزاجية القلقة لدى المتلقي العاصر يبرز السؤال المهم والملحُّ: هل يمكن أن تكون إيجابيات هذه الفلسفة مبررا كافيا للتغاضي عما ينتج عنها من سلبيات خطيرة خاصة في ما تقدمه الميديا من معلومات ربما تسهم في ما يمكن تسميته بالجهل المقنع؟

ذات صلة

هل نصدّق الكرامات المتداولة.. وهل نصدّق الوعود الانتخابية؟أخلاقيات الذكاء الاصطناعي وأثرها في صيانة وتعزيز الحقوق والحرياتالعدالة الاقتصادية والرحمة الاجتماعية في فكر الإمام الصادق (ع)التجربة العراقية الأخيرةفي الحياة الزوجية: ماذا يجب على الزوجة تجنبه؟