اغتراب اللغة اغتراب الإنسان عنها
أ. د. عبد الجبار الرفاعي
2025-08-28 04:43
الوجود الإنساني يتشكل في أفق اللغة، اللغة مرآة تتكشف فيها رؤية الإنسان للعالم، ولا تنفصل هذه الرؤية عن القواعد والأدوات والكلمات التي تتجلى بها وتعبّر عنها. اغتراب اللغة عن الواقع الذي يعيشه الإنسان يعني اغتراب الإنسان عنها. حين تتيسر قواعد اللغة، ويجري تحديث أدواتها، وتواكب مفرداتها صيرورة الواقع والتحولات المتنوعة فيه، يتسع أفق الإنسان الناطق بها لرؤية العالم وإعادة تشكيله في وعيه. يواجه دارسو العربية اليوم صعوبة بالغة في اتقان النحو وضبط حركات الكلمات عند التعبير بالفصحى.
وهذه الصعوبة لا تنشأ من قصور في الفهم، أو ضعف في الذكاء، أو نفور من اللغة التي تمثل مكونًا عميقًا للهوية، أو افتقار إلى الجدية والمثابرة، وإنما تعود إلى قصور قواعد النطق عن الوفاء بمتطلبات التحدث بالعربية في العصر الراهن.
هذه القواعد ما زالت أسيرة رؤية التراث للعالم، بينما يفرض وعي دارس اللغة أن ينتمي إلى الواقع الذي يعيش فيه، بكل ما يعج به من متغيرات هائلة في المجالات المختلفة. النحو لم يعد قادرًا على مواكبة التحولات الكبرى في السياسة والاقتصاد والثقافة والمعرفة، ولا على استيعاب التطور الهائل في العلوم والتقنيات. الفلسفة والعلوم الإنسانية واللسانيات والتأويل وعلوم اللغة تطورت في العصر الحديث تطورًا واسعًا، وتفاعلت علوم اللغة مع منجزات العلوم والمعارف المتنوعة، فشكّل هذا التطور منعطفًا كبيرًا في مسار المعرفة، وترك أثرًا بيّنًا على اللغات الحية والثقافات وطرائق رؤية العالم، كما توضحه فلسفة العلم الحديثة. مع ذلك، ما زال النحو وعلوم اللغة العربية أسيرين لرؤية تراثية للعالم، بينما يحتاج الإنسان العربي اليوم إلى رؤية حيّة للعالم، تواكب إيقاع العصر، وتتناغم مع شروط الواقع الذي يحياه.
حين تغترب اللغة عن الواقع يغترب الإنسان عنها، الإنسان العربي اليوم يعيش اغترابًا عن لغته لأن لغته غريبة عن واقعه، بعد أن انسلخت تدريجيًا عن إيقاع حياته وأسئلته واحتياجاته المعرفية انسلخ هو عنها. تتجلى هذه الغربة في ابتعاد قواعد العربية وأساليب تعبيرها عن واقعه، إذ ما زالت أسيرة قوالب تشكلت في سياق رؤية تراثية للعالم، بينما يحتاج واقعه اليوم إلى لغة تتنفس من نبض الحاضر، وتستجيب لتحولات وعيه، وتحتضن حاجاته المعرفية والثقافية والعاطفية والروحية. في زمن يتغير بإيقاع متسارع، يستحث الإنسانُ اللغةَ على أن تواكبه، كي تظل قادرة على ايصال المعنى الذي تنشده حياته، وتتناغم مع الواقع الذي يعيشه، وتسهم في صياغة رؤيته للعالم، بما يمكّنه من التعرف على ذاته في سياق صلاته المتنوعة بما حوله، وإعادة تعريفها في أفق الحاضر والمستقبل.
حضرت قبل سنوات مناقشة دكتوراه في تخصص اللغة العربية، وكان المناقشون خمسة يحملون لقب أستاذ دكتور في هذا التخصص. جلست نصف ساعة، فضجرت من كثرة الأخطاء النحوية في نطق بعضهم، حتى كاد الانتباه إلى مضمون الكلام يتلاشى تحت وطأة زلات اللسان. عندما غادرت القاعة، رأيت أحد المؤلفين المعروفين يخرج قبلي، وقد ارتسم على ملامحه تبرم شديد، لانزعاجه البالغ من أحد المناقشين الذي بدت على لسانه حروف الجر وكأنها تعطلت وظيفتها في كلامه.
إذا كان هذا حال بعض المتخصصين بالعربية، فماذا ننتظر من غيرهم، كالإعلاميين وعموم الناطقين بها، أن يضبطوا قواعدها وأساليب بيانها، وهي ما زالت مثقلة بقيود تراثية تجعل النطق بها عبئًا، بدل أن تكون أداة حيّة للتواصل والتعبير عن المعنى. يقول علي الطنطاوى: "أصبح النحو علمًا عقيمًا، يدرسه الرجل ويشتغل به سنين طويلة ثم لا يخرج منه إلى شيء من إقامة اللسان والفهم عن العرب. وإنني لأعرف جماعة من الشيوخ، قرؤوا النحو بضعة عشر عامًا، ووقفوا على مذاهبه وأقواله، وعرفوا غوامضه وخفاياه، وأوّلوا فيه وعللوا، وأثبتوا فيه ودللوا، وناقشوا فيه وجادلوا، وذهبوا في التأويل والتعليل كل مذهب، ثم لا يفهم أحدهم كلمة من كلام العرب، ولا يقيم لسانه في صفحة يقرؤها، أو خطبة يلقيها، أو قصة يرويها. ولم يقتصر هذا العجز على طائفة من الشيوخ المعاصرين ومن قبلهم من العلماء المتأخرين، بل لقد وقع فيه جلة النحويين وأئمتهم منذ العهد الأول".
وهذا يفرض تيسير قواعد النطق بالعربية، وتحديث أساليب التعبير فيها، واستثمار ما أبدعته الحداثة الشعرية العربية من طاقة لغوية خلاقة، وما راكمه السرد العربي الحديث من ثراء في المعجم، وابتكار في أساليب البيان، أتاح للعربية أن تنفتح على نبض الحياة اليومية، وتقترب من اللغة المحكية في أحاديث وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ونصوص الصحافة، فتغدو أكثر مرونة في التواصل، وأقدر على التعبير عن التحولات الجارية في الواقع والوعي والفكر والثقافة.
أدرك جماعة من علماء العربية في العصر الحديث هذا المأزق، فألّفوا كتبًا، وكتبوا بحوثًا متعددة، تدعو إلى تيسير النحو وتطوير أساليب التعبير بالعربية، وشكلت دعوتهم موجة لافتة في القرن العشرين، لكنها لبثت عند السطح، ولم تنفذ إلى الجذور العميقة للمشكلة، أو تستكشف العوامل المتشابكة التي صنعتها، ولم تبحث عن حلول جدية في ضوء المكاسب الحديثة لعلوم اللغة.
لم تتحول هذه الدعوة إلى مشروع عملي تتبناه المجامع اللغوية ومراكز البحوث والكليات المختصة، بل أُوصدت أمامها الأبواب، فتوقف تطورها، وانحسر مداها قبل أن يبلغ آفاقًا أرحب وأعمق. مع صعود تيار العودة إلى التراث واستئنافه على صورته الموروثة كما كان، الذي قاده التيار السلفي، ورسّخه صعود الإسلام السياسي، جرى التصدي للحداثة الفلسفية والمعرفية والعلمية والأدبية، ورفض ما أبدعته العقلانية النقدية الحديثة، وحُجب صوت دعاة التجديد، وتعرضوا للملاحقة والتضييق، حتى خفتت موجة الداعين إلى تيسير النحو وتحديث أساليب التعبير بالعربية، وزُرع الخوف في نفوس تلامذتهم من مواصلة هذا الطريق.
كان من دعاة التيسير: إبراهيم مصطفى في كتابه: "إحياء النحو"، وأمين الخولي في بحثه: "هذا النحو"، ومهدي المخزومي في كتابه: "في النحو العربي نقد وتوجيه"، وأحمد عبد الستار الجواري في كتابه: "نحو التيسير". ذكرنا هؤلاء الأعلام الأربعة بوصفهم نماذج لدعوة التيسير، مع العلم أن هناك عشرات الكتابات لغيرهم في هذا المجال. وبغض النظر عن اختلافهم في نوع التيسير وكيفيته وحدوده، لاحظتُ أن كتاباتهم تفتقر إلى الحفر في البنية العميقة للتراث التي أنتجت سلطة الفصاحة والنحو، وكرست ممانعة اللغة عن قبول أية محاولة للتحديث وتيسير النحو.
البحث العلمي يتطلب اكتشاف كيفية تشكّل هذه السلطة وتغلغلها ورسوخها، بفعل تأثير لغة القرآن الكريم وتجذرها في الشعور واللاشعور الفردي والجمعي، وبفعل السلطة المعرفية والروحية التي امتدت عبر تاريخ العربية للمؤسسات الدينية ومعاهد التعليم الديني التقليدية واستحواذها على اللغة، وتأثير الرؤية التراثية للعالم على إجهاض كل محاولة للتيسير والتحديث، وتغييب معطيات الفلسفة والعلوم الإنسانية وعلوم اللغة الحديثة والألسنيات عن الدرس اللغوي في كثير من كليات اللغة العربية والآداب في الجامعات العربية، فضلًا عن عوامل أخرى عمّقت الهوة بين الدرس اللغوي التراثي وحاجات الواقع الحي.
العربية اليوم أحوج ما تكون إلى إعادة بناء الرؤية التي تصوغ حضورها، في أفق تتحرر فيه من القوالب التراثية المغلقة، وتنفتح على إيقاع الحياة المتجدد، بنهضة لغوية علمية، تعتمد على المكاسب الجديدة للعلوم والمعارف، وتقودها مؤسسات علمية متبصّرة بما أنجزته الفلسفة والعلوم الإنسانية والألسنيات وعلوم اللغة والشعر والأدب الحديث، وما راكمته هذه الحقول من منجزات كبرى. من دون مؤسسات تمتلك وعيًا عميقًا بالمكانة الفائقة للعربية، ودورها الحاسم في صياغة رؤية العربي للعالم، وفي بناء هويته المواكبة لمستجدات حياته، وتستجيب لتحولات واقعه، ستبقى العربية عاجزة عن التعبير عن تعقيدات الحياة التي يحياها أبناؤها في زمن الذكاء الاصطناعي. ينبغي أن تتأسس هذه النهضة اللغوية على استراتيجيات علمية شاملة، تضع نصب أعينها تطوير اللغة، وتجديد أساليب التعبير بها، وتيسير قواعدها، بما يهيئها لاحتضان المتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية والتقنية والنفسية والعاطفية والروحية المتسارعة، ومواكبة ما يفرضه العصر الرقمي من تحولات عميقة في الوعي والمعرفة.
من دون هذا الجهد ستظل العربية عاجزة عن مواكبة التحولات الكبرى التي يفرضها الذكاء الاصطناعي على الإنسان العربي لغويًا ومعرفيًا وثقافيًا، كما يفرضها على كل لغة في العالم. وحين تفقد اللغة قدرتها على التفاعل مع أسئلة الحاضر وتحدياته، يبدأ مسار تهميشها تدريجيًا، ويتراجع حضورها في تشكيل الوعي الجمعي، وبناء الهوية وترسيخها. لذلك ينبغي أن تنهض المؤسسات الأكاديمية الرصينة، والمجامع اللغوية، والأدبية، بمسؤولية دعم البحث اللغوي الجاد، وتعزيز حركة الترجمة، وتطوير المعجمات، وتشجيع الإبداع ومراكز الدراسات الأدبية والفكرية للغة العربية، وتعمل في ضوء معطيات الفلسفة والعلوم والمعارف الحديثة على حضور العربية بفاعلية في الفضاء الرقمي، من خلال إنتاج محتوى ثري يعكس متطلبات العصر وتحدياته، ويجعلها حاضرة في ميادين المعرفة والتواصل الحديثة.
إذا لم تتحقق هذه النهضة، ستواجه العربية خطر الانغلاق والسكون، مما سيقيد قدرتها على الإسهام في تشكيل الوعي العربي والإنساني، ويختزل دورها كأداة للتفكير الإبداعي والنقدي في التعامل مع قضايا العصر والإجابة عن أسئلته المتنوعة، ويحرمها من أن تكون لغة حيّة قادرة على مواكبة التحولات، وصياغة المعنى في عالم يتغير بإيقاع متسارع.
اللغة التي تنكفئ عن مواكبة تحولات الحياة، وتغفل الاستجابة لتغيرات الواقع ومستجداته، تفقد حيويتها، وتضعف قدرتها على توصيل المعنى، فتغدو عاجزة عن ملامسة نبض العصر، واستيعاب تحولات الواقع والفكر والشعور. في اللغة الحية تولد مفردات جديدة، ويتوارى حضور أخرى عجزت عن التعبير عن المعنى الذي يطلبه الواقع، وفقدت قدرتها على الاستجابة للاحتياجات المعرفية والثقافية والعاطفية والروحية والرمزية للمجتمع الناطق بها.
كلما اتسعت خبرات الإنسان وتعمق وعيه، تجددت أدوات التعبير، وتطورت أساليب البيان، واتسعت اللغة لاحتضان مفردات تعكس تحولات المعنى في الفكر والعاطفة والسلوك. انغلاق اللغة لا يمثل اكتمالها، وإنما يعكس انفصالها عن الواقع ومنابع الحياة، وانقطاعها عن إيقاع العصر. مرونة اللغة وقدرتها على التكيّف مع تحولات الواقع، وإثراء مفرداتها وصقل أساليبها، هو البرهان الأصدق على بقائها كائنًا حيًا يواكب تطلعات الإنسان، ويغني وعيه، ويفتح له آفاقًا أرحب لرؤية العالم، والتفاعل مع معناه، وإعادة ابتكار صورته في ضوء ما يتكشف له من تجارب ومعارف متجددة.